في بداية شهر شعبان، نلتقي بذكريات إسلامية عطرة، ربما كانت أسماء أصحابها توحي بالحزن، ولكنَّ هذه الذكريات التي تمثّل إطلالتهم على الحياة، مقارنة بالنور الذي أطلقوه، والخط الذي رسموه، والجهاد الذي حرّكوه، والأفق الذي فتحوه، توحي بالفرح الكبير، حتى وأنت تعيش في أعماق الحزن، لأنّ الحزن في معنى المأساة قد يتحوّل إلى فرح كبير عندما يكون خطّ الحزن في خطّ القضيّة، وفي حركة الأمّة، وفي امتداد الإسلام.
حياة رسالية منفتحة
وهذا ما لاحظناه في الإمام الحسين(ع) الذي نلتقي بذكرى مولده، عندما عاش مأساة ذبح ولده الرضيع على صدره، في حزن من أقسى ما يعيشه الإنسان من حزن، فإنني لا أتصوّر أبداً ما يمكن للإنسان أن يعانيه في نبضات قلبه وخفقات شعوره من إحساس بالألم من هذا المشهد الذي يدخل في كلّ مفاصل شخصيّته. ومع ذلك، رأيناه يعيش أعلى مشاعر الرّضا، لأن حزنه كان رسالياً، وفرحه كان فرح الرسالة، وكان يتحرّك بهذه الرّسالة، ليعطي كلّه من أجل أن تتجذّر وأن تتعمّق، وليس هناك ما يعمّق الرّسالات في الأمّة مثل الألم، فنحن نجد أن الأنبياء والأولياء والمجاهدين تألموا، ومن ثروة ذلك الألم كان الانتصار: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ}[1].
ولقد كانت هذه الذكريات منطلقاً للفرح، فالولادة في بداية هذه الحياة، عانقت الشهادة في نهايتها، وبين الولادة والنهاية، كانت الرسالة ترتفع، وتسمو، وتصفو، وتجاهد، وتتحرك، وتنفتح دعوةً وإحساساً وحركة ووعياً؛ انفتاحاً ولو على مستوى المستقبل، لأن أصحاب الرسالات عندما يتحركون، لا يفكّرون في النصر في البدايات، لأنهم يعرفون أن الرسالة تحتاج إلى زمن طويل لكي تدخل في العقل لتجعله عقلاً رسالياً، وفي القلب، فيتحول الفكر الذي ينتجه العقل إلى إيمان يتحرك به القلب، ثم إلى واقع تنطلق به الطاقات. وها نحن نمرّ على كلّ ذكرى بما يسمح به الوقت.
أوّلاً: مولد الإمام الحسين(ع)
فالمولد الأول هو مولد الإمام الحسين(ع)، في الثالث من شعبان، والحسين ليس مجرد شخص من لحم ودم، وإن كان اللّحم والدم يمثلان ذاته في معنى المادة، ولكنّه كونٌ في معنى العقل والروح والرسالة والحركة والروحانية والذوبان في الله وفي كلّ عباد الله من خلال الله.
إنه كون رحيب واسع ممتدّ، ينتج في كلّ جيل كوناً جديداً، لأن الحسين(ع) أطلق كلماته وسقاها بالدّم، وجعل الرسالة تجري في داخل عروقه، وواجه التحدّيات بأقوى تحدٍّ مضادّ.
والحسين(ع) تجسّد رسالةً في معنى الحرية ومعنى العزة: "لا والله، لا أعطيكم بيدي إعطاء الذّليل، ولا أقرّ لكم إقرار العبيد"[2]، فالحرّ لا يمكن أن يمنح الذين يريدون أن يستعبدوا موقفه أو دوره أو حركته، الفرصة في ذلك، لأن الحرية ليست حالة طارئة في الأحرار، ولكنها معنى إنسانيتهم.
وعندما يكون الحرّ إماماً، فإن الإمامة تمثّل كل امتدادات الحرية في العقل والقلب والحياة، وهكذا، كان الحسين(ع) يؤكد كلمة أبيه في الحرية: "لا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حراً"[3]، وكان يؤكّد قبل ذلك كلمة الله الّذي عاش جدّه وأبوه وأخوه وأمّه وأولاده معه، وذلك في قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ}[4]. وقال كلمته التي تعبّر عن مدى صلابته في الحقّ: "ألا إنّ الدّعيّ ابن الدّعيّ قد ركز بين اثنتين؛ بين السلّة والذلّة، وهيهات منّا الذلّة، يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون"[5].
وانطلق الحسين(ع) في الإمامة بحركيّة التضحية والعطاء والشّهادة، ليقول للعالم كلّه، إنني لا أطلب الحكم نتيجة طموح ذاتيّ، وكان عليّ(ع) من قبله في حواره مع ابن عباس، قد أشار إلى زهده بالإمارة، وقال عن خصف النّعل: "لهي أحبّ إليّ من إمرتكم، إلا أن أقيم حقّاً أو أدفع باطلاً"[6]، وهو الّذي عرف الإسلام كما لم يعرفه أحد بعد رسول الله(ص)، وعاش للإسلام كما لم يعشه أحد بعد رسول الله(ص)، وقد قال: "لولا حضور الحاضر، وقيام الحجّة بوجود النّاصر، وما أخذ الله على العلماء ألا يقارّوا على كظّة ظالم ولا سغب مظلوم، لألقيت حبلها على غاربها، ولسقيت آخرها بكأس أوّلها، ولألفيتم دنياكم هذه أهون عندي من عفطة عنـز"[7]. وكان عليّ(ع) في قلب الحسين(ع)، وكان رسول الله(ص) في قلب الحسين(ع)، وهو القائل: "حسين منّي وأنا من حسين"[8].
لذلك، فنحن نعيش الفرح بالحسين(ع)؛ الفرح الرّسالي والفرح الروحي، حتى إن دموعنا تبتسم لمواقفه، ومشاعرنا الحزينة تغرّد لفدائه الدين بروحه، لأن الحسين لم يعش حزناً في معنى الذات، ولكنه عاش حزناً في معنى الرسالة، ولذا، يتعيّن علينا أن لا نعيش الفرح في معنى الذات، ولكن الفرح في معنى الرّسالة؛ الفرح الذي يستبطن السرور بالألم، لأنّه في ذات الله، وفي عين الله، ومن أجل دين الله.
فإذا أردتم أن تحتفلوا بالحسين(ع) في ذكرى ولادته وشهادته، فاحتفلوا به في معنى فرح الرّسالة، وعندما تفرحون بالرسالة، سوف تشعرون بأنّ عليكم أن تحضنوها في عقولكم كما حضنها في كيانه كلّه، وأن تنبض بها قلوبكم كما نبض قلبه بها، وأن تتحرّك فيها طاقاتكم كما تحرّك بها.
إنّ الحسين(ع) لا يريد منكم فقط دموعاً في ذكرى شهادته، وبسمات في ذكرى ولادته، ولكنّه يقول لكم: "لقد خرجت لطلب الإصلاح في أمّة جدي"[9]، في كلّ واقع إسلامي فاسد، وفي كلّ انحراف في الواقع الإسلامي، وفي وجه كلّ قيادة ظالمة، فـ(يزيد) لم يمثّل رمزاً في التاريخ المظلم، ولكنه مثّل الظلم كلّه والظالمين كلّهم، هل تحبون الحسين(ع)؟ اطلبوا الإصلاح في أمّة جدّه، كلّ بحسب طاقته وإمكاناته، لا تفسدوا في الأرض، ولا تثيروا الفتنة، ولا تنحنوا لأكثر من يزيد، لا تقتلوا أكثر من حسين(ع)، ودموعكم تبكي حسين التاريخ وتقتل حسين الحاضر، بل وتخطّط لقتل أكثر من حسين في المستقبل.
ثانياً: ولادة العباس بن علي(ع)
والولادة الثانية هي ولادة العباس بن علي(ع)، أخ الحسين(ع)؛ هذا العبد الصالح المطيع لله ولرسوله ولأمير المؤمنين والحسن والحسين(ع)، وقد كان كما يقول الإمام الصادق(ع): "نافذ البصيرة، صلب الإيمان"[10]، وقد عبّر عن ذلك بقوله:
واللـه إن قطعتم يمينـي إنّـي أحامي أبداً عن دينـي
فهل تحبّونه؟ قد تذرفون الدّموع عليه، وقد تعيشون العنفوان في الحديث عن بطولته، ولكن كم من عباس عندنا يحامي عن دينه؟ وكم من عباس نافذ البصيرة في معنى الإسلام على مستوى الفكر والعاطفة والحياة؟ وكم من عباس يقف في الساحة قويّاً صلباً، فحتى لو أصيبت الساحة كلّها بالهزاهز والزلازل، فإنه لا تأخذه في الله لومة لائم؟
كان العباس(ع) فرحاً بشهادته وبجهاده، وكان يعيش الفرح في إرادته القوية الرائعة، عندما كان العطش يفترس شرايينه كلها، والماء البارد بين يديه، ولكنّه رفض أن يشرب منه، لأنه عاش الحسين(ع) في عطشه كلّه، وعاش أولئك العطاشى من أهل بيته، وتلك قمة الإيثار في حركة الإحساس بالآخر، وهو أن تعيش الإيثار للآخر في منطقة الشعور، فتمنع نفسك مما هو محروم منه، لأنك لا تستطيع أن تقدّم له شيئاً.
إنّ المشكلة في التاريخ، أنّه لا يحدّثك عن العباس إلا في بعض مواقع كربلاء، ولكنك عندما تنفذ إلى هذه الشخصيّة من خلال كلمة هنا وكلمة هناك، وموقف هنا وموقف هناك، فإنك تشعر بأنّك عندما تذكر العباس ترتفع، لتجد معنى شباب الإسلام في شبابه، ومعنى عنفوان الإسلام في عنفوانه، ومعنى إيثار الإسلام في إيثاره، ومعنى الأخلاقيّة المنفتحة على الله والمتحرّكة في حياة النّاس في أخلاقيّاته.
إني أتصوّره وهو يخرج للجهاد، يناجي ربّه، ويبتهل إليه، ويستعدّ للقائه، أتصوّره في إنسانيّته يبكي قلبه لضلال هؤلاء، لأنهم لم ينفتحوا على الحقّ، ولأنهم لم يلتقوا بما يقرّبهم من الله تبارك وتعالى ومن رحمته، ولأنهم لم يفهموا ما معنى الحسين(ع)، ولم يفهموا معنى أن يعيش موقف الإنسان مع خفقات قلبه، فلا تكون قلوبهم معه وسيوفهم عليه، بل تكون سيوفهم في اتجاه إخلاص قلوبهم.
كان العبّاس(ع) كالحسين(ع) يبكي على هؤلاء، لأنه كأبيه عليّ(ع)، ليس محارباً يهوى الحرب، ويحبّ أن يقتل أعداءه، حتى لو كانوا يستحقّون ذلك، بل كان يريد أن يهدي أعداءه، ليكونوا الأصدقاء للحقيقة كما هو صديق لها، كما قال عليّ(ع)، والعباس هو ابن علي(ع) جسداً وعقلاً وروحاً وحركةً وجهاداً وتطلّعاً: "والله ما دفعت الحرب يوماً إلا وأنا أطمع أن تلحق بي طائفة فتهتدي بي وتعشو إلى ضوئي، فهو أحبّ إليّ من أن أقتلها على ضلالها وإن كانت تبوء بآثامها"[11]. وكان عليّ(ع) سيّد الأبطال، ولكن بطولته كانت في معنى إنسانيته، وكان الإنسان في حربه كما كان الإنسان في سلمه، وقد تعلّم العباس(ع) ذلك من أبيه. لذلك، فإنّ علينا ـ أيها الأحبة ـ عندما نتذكّر العباس، أن لا نبكيه فقط، ولكن أن نحتذي به، وأن ننهج نهجه، ونعيش أفقه، ونحلّق مع روحه، وننطلق في خطّ رسالته.
إني أحامي أبداً عن ديني وعن إمام صادق اليقيـن
إني أحامي عن الخطّ كما أحامي عن القيادة الصالحة.
ثالثاً: ولادة زين العابدين(ع)
والولادة الثالثة هي ولادة الإمام زين العابدين(ع)، فمن هو زين العابدين يا ترى؟
إن الناس يعرفونه في الدعاء وفي البكاء، ولكن عندما تقرأ زين العابدين(ع)، فإنك تجده في حياته التي بدأت في قلب المأساة، حيث شاهد في يوم واحد كلّ هذه الصفوة الطيّبة من أهل بيته وأصحاب أبيه، وفي طليعتهم أبوه، مجزّرين كالأضاحي، وكان في قمة الصبر، لأنه كان في قمة الروح، ولأنه كان في تلك اللحظة يعيش مع الله سبحانه وتعالى، كما كان أبوه في آخر لحظات حياته يعيش مع الله، وقد صوّر الشاعر مشاعره آنذاك بقوله:
تركتُ الخلق طرّاً في هواك وأيتمت العيال لكي أراك
فلو قطّعتني في الحب إربـاً لما مـال الفؤاد إلى سواك
وعاش الإمام زين العابدين(ع) في تلك المرحلة، ووقف في مجلس ابن زياد ليؤنّبه، وليردّ عليه بما أثار حقده، فكاد أن يقتله لولا تدخّل عمّته السيّدة زينب(ع)، وعاش في الطريق مع السبايا، ولم يضعف، ولم يهن، ووصل إلى الشّام، ورأى كلّ مظاهر الشماتة والفرح بمقتل أبيه وأهله، وبقي قويّاً صامداً، ودخل مجلس يزيد، وتحدّث بكلّ القوّة والعنفوان الرسالي. ولذلك، إن كنتم حقاً أتباعه ومريديه، خفّفوا عن زين العابدين(ع) حديثكم في الشّعر الذي يصوّره ذليلاً، ذلك أن مشكلة الشعراء أنهم يسقطون عنفوان الأبطال في عالم المأساة، وإني لأخجل عندما أسمع شاعراً يكرّر الخطباء شعره:
أُقادُ ذليـلاً في دمشق كأنّني من الـرّوم ضلّ عنه نصير
هل هذا هو زين العابدين(ع)؟!
إنّ أعداءه كانوا يتمثّلون عنفوان العزّة في عينيه، فيخشعون له، ولا يمكن أن يُرى زين العابدين(ع)، الّذي تربّى على العزّة ونهل معانيها، ذليلاً. فلماذا نسيء إلى الإمام زين العابدين(ع) بمثل هذه الأشعار؟ هل من أجل أن نبكي؟ إنّنا لسنا بحاجة إلى هذه الصّورة لتنساب دموعنا، بل يكفي أن نتصوّر المأساة وهي تعيش في كلّ مفصل من مفاصله، وهو يتمرّد عليها ويتغلّب عليها، ويكفي أن نتطلّع إلى ذلك الجوّ الذي عاش فيه، لنبكي على الأمّة كيف تنكّرت لإمامها، ونبكي عليها كيف تقتل مخلّصها ومنقذها وسيّدها، وتنحني للطاغية الّذي يتّخذ مال الله دولاً وعباده خولاً، كما قال الإمام الحسين(ع)، وهو يصوّر حال الأمّة آنذاك.
وعندما كان زين العابدين(ع) يبكي، كان يريد أن يذكّر النّاس بالحسين(ع)، ليبكي النّاس واقعهم الّذي يشابه الواقع الّذي قتل الحسين(ع).
ثم إنّكم تتحدّثون عن الإمام زين العابدين(ع) كإنسان يقضي اللّيل والنّهار في العبادة والدّعاء، وكأن لا شغل له إلا الدّعاء، ولكنّه(ع) أراد أن يجدّد الدّعاء، وأن لا يقتصر على التضرّع، بل أن يدخل الإسلام كله في قيمه وأخلاقه وعقيدته في مفاصل الدعاء؛ فإذا قرأت زين العابدين(ع) في أدعيته، فإنك تشعر بأن الدعاء يثقّفك في العقيدة، وفي الأخلاق، وفي حركة الحياة، وفي الواقع الإسلامي الذي يحارب هنا ويسالم هناك.
إن دعاء الإمام زين العابدين(ع) مدرسة، ولكنّ مشكلتنا أننا كمن يدخل المدرسة ليحفظ دروسها في ذاكرته، ولكنّه لا يُدخل دروسها في عقله وقلبه وروحه، ولذلك، فقد نرى الكثيرين ممن ينجحون في الامتحان، ولكنّهم لا ينجحون في ثقافة ما امتحنوا به، فهم أميّون رغم أنّ معهم أكثر من شهادة جامعية، وهم أميّون رغم أن معهم أكثر من شهادة حوزوية، لأن الدعاء الذي خطّط له الأنبياء وحرّكه القرآن في أكثر من أفق، يراد للإنسان أن يتدبره، ويعيشه، ويتحرّك من خلاله، ويسمو إلى الله في هذا الجوّ، تماماً كما هو القرآن، ولقد كان الإمام زين العابدين(ع) في علاقته مع الله سبحانه وتعالى، وفي تجليّاته وابتهالاته، شاعر الله.
وكان(ع) يقضي النهار مع الناس، وكان يعلّمهم، ويرشدهم، ويعظهم، ويجيب عن أسئلتهم، ويخطّط لهم ما ينبغي معرفته من الحقوق الإنسانية التي ركّزها الإسلام. ولأول مرة نقرأ دستور الحقوق في الإسلام في كلّ ما يتصل بحياة الإنسان المؤمن مع الله ومع نفسه ومع الناس ومع مسؤولياته، حتى إن كل مسؤولية من مسؤولياتك لها حقّ عليك، فالصلاة لها حق عليك، والصوم له حق عليك، والزكاة لها حق عليك، والحج له حق عليك، فرسالة الحقوق هي الرسالة التي سبقت كلّ دساتير حقوق الإنسان، لأنها لم تكتفِ بحقوق الإنسان فقط، وإنما حركت حقوق المسؤولية في الإنسان، وانفتحت في البداية على حقّ الله سبحانه وتعالى.
وعندما نقرأ زين العابدين(ع) في مواعظه، كما في (الكافي)، فإننا نرى أن الإمام(ع) كان يأتي المسجد في كلّ يوم جمعة، ويلتفّ الناس حوله، وكان يعظهم، ويرشدهم، ويقرّبهم إلى الله، ويبصّرهم بمسؤولياتهم، ما يعني أنه كان مشغولاً بتثقيف المجتمع الإسلامي وتوعيته، وكان يريد أن يثقّف المجتمع بالثورة على الظلم، بحيث تكون الثورة على الظلم جزءاً من إسلام الإنسان ومن إيمانه، ومما يتقرّب به إلى الله، لأنه عندما عاش تجربة كربلاء، ورأى أن الناس ساروا مع يزيد وخذلوا الحسين(ع)، وقبل ذلك خذلوا سفيره مسلماً(رض)، وخذلوا أخاه الحسن(ع) وأباه عليّاً(ع)، فإنه كان يرى أن هؤلاء الناس يعيشون الإسلام طقوساً وتقاليد، ولم يعيشوا الإسلام إيماناً بالله العادل الذي أنزل الرسالات ليقوم الناس بالقسط، والذي أراد للناس أن يكونوا الأعزاء، وللمستضعفين الوقوف بوجه المستكبرين، فلا يدفعهم استضعافهم أمام المستكبرين لتنفيذ خططهم.
لذلك، كانت الثورة الإمامية بعد الحسين(ع) ثورة تثقيفية تعبوية توعوية، تريد أن تربط الإنسان بالله، ليرتبط بكلّ القيم الإسلامية، بحيث لو أن الدنيا كلها ضغطت عليه، لبقي واقفاً على قدميه، كما قال علي(ع) لولده محمد بن الحنفية: "تزول الجبال ولا تزل... تِد في الأرض قدمك، أعِر الله جمجمتك، إرم ببصرك أقصى القوم"[12]، كانوا يريدون أن يقف الإنسان المسلم راسخاً أمام الطغيان والظلم والاستكبار، يثبّت قدمه، ويصلّب موقفه، ولا يخاف أحداً إلا الله. وكما قال الإمام الصادق(ع) عن المؤمن: "المؤمن أعزّ من الجبل، إنّ الجبل يستقلّ منه بالمعاول والمؤمن لا يستقلّ من دينه شيء"[13].
هل نولد مع الكبار؟
أيّها الأحبّة، في مولد هؤلاء الكبار، هل نولد روحاً وإسلاماً وموقفاً وإرادة وصلابة؟ انفذوا إلى أهل البيت(ع) من الداخل، وإذا عشتم معهم في الخارج، حاولوا أن تفهموا من أين انطلقوا، وكيف تحرّكوا، وكيف ارتفعوا. هل أنتم أتباعهم وشيعتهم؟ اصعدوا إليهم، لأن من أقسى المصائب أن ننـزل أهل البيت(ع) لنحجّمهم في تخلّفنا وتصوّراتنا الصغيرة، فهم الكبار، وعلينا أن نكون الكبار بهم ومعهم وفي آفاقهم.
هذا هو معنى المولد؛ مولد الإمام الحسين(ع) في عظمته، ومولد العباس(ع) في بطولته، ومولد زين العابدين في أبعاده الإسلاميّة كلّها. تعالوا لنرحل إليهم، أو لنستقدمهم إلينا، ليعطونا ـ وهم يعطوننا بالفعل في كلّ يوم ـ هذا التراث العظيم، وهذا التاريخ الرسالي الكبير.
*ندوة الشام الأسبوعيّة، فكر وثقافة
[1] [البقرة: 214].
[2] بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج 45، ص 8.
[3] نهج البلاغة، خطب الإمام علي(ع)، ج 3، ص 51.
[4] [المنافقون: 8].
[5] بحار الأنوار، ج 45، ص 83.
[6] نهج البلاغة، ج 1، ص 81.
[7] المصدر نفسه، ج 1، ص 37.
[8] بحار الأنوار، ج 45، ص 314.
[9] المصدر نفسه، ج 44، ص 330.
[10] عمدة الطالب، ابن عنبة، ص 356.
[11] نهج البلاغة، ج 1، ص 104.
[12] المصدر نفسه، ج 1، ص 44.
[13] الكافي، الشيخ الكليني، ج 5، ص 63.