وقفة مع مناظرات الإمام الكاظم(ع) مع العباسيّين

وقفة مع مناظرات الإمام الكاظم(ع) مع العباسيّين

لقد روى كتّاب سيرة الإمام الكاظم(ع) بعض الأحاديث في ما كان يجري بينه وبين هارون الرشيد من مناظرات في بعض الأمور التي تمثّل بعض الخلافات بين العلويِّين والعباسيين في القضايا المتصلة بالعلاقة برسول الله(ص)، وفي القضايا الأخرى القريبة من ذلك.

ولدى التدقيق في هذه الأحاديث، نجد في داخلها بعض الخلل في مضمونها الذاتي وفي إيحاءاتها السلبيّة، في ما يتعلّق بالإمام الكاظم(ع)، في ما هي قضية الضعف في شخصيته أمام الرشيد، بحيث تتحوّل المسألة إلى حالة الخوف الشديد الضاغط على الموقف، بما لا يتناسب مع الصلابة التي تتميّز بها شخصيته أمامه من خلال مواقف أخرى..

إننا ندعو إلى قراءة جديدة لأمثال هذه الأحاديث التي قد لا تحمل صفة الصحّة في إسناد الكثير منها، إن لم يكن كلّها، والدخول في تقييم جديد لمضمونها الفكريّ في طبيعة التقيّة التي كان يأخذ بها أئمة أهل البيت(ع)، وهل كانت تصل إلى مثل هذا المستوى من الإحباط النفسيّ الذي قد يسي‏ء إلى الصورة الإسلامية المشرقة التي نقدّمها لأجيالنا عنهم، لأننا معنيّون بذلك من خلال حركة الخطِّ الإسلاميّ في مضمون التقيّة التي قد تتدخّل في إسقاط الكثير من المواقف المتحدية للظلم والظالمين، تحت عنوان شرعيّة التقيّة. وهذا الموضوع كنا قد أشرنا إليه بالتفصيل في الحديث عن الإمام الصادق(ع)، لا سيما إذا كانت المسائل التي تتضمنها مما لا صلة له بالجانب الثوريّ الذي قد يخيّل للبعض أن لا مجال للتقيّة فيه، لأنَّ المسألة تدخل في النطاق الاجتهادي العام في الدائرة الاجتهاديّة الواسعة التي قد يختلف حولها المسلمون.. وقد نلاحظ في هذا المجال، أنَّ تاريخنا الشيعيّ قد يكون معنيّاً بإبراز مسألة ظلامة أهل البيت، بالدرجة التي تجعله يهتم بكلِّ رواية يؤكّد مضمونها شيئاً من ذلك، بقطع النظر عن صحتها التوثيقيّة وعدم صحّتها..

وفي هذا المجال، نقدّم رواية من روايات الاحتجاج الدائر بين الإمام الكاظم(ع) وبين هارون الرشيد في عرض تقييميّ نقديّ، لنأخذ نموذجاً حيّاً من ذلك كلِّه.

جاء في بحار الأنوار(45) (نقلاً عن كتاب الاختصاص) "عن أبي الوليد عن أحمد بن إدريس عن محمد بن إسماعيل العلويّ قال: حدّثني محمد بن الزبرقان الدامغاني، قال: قال أبو الحسن موسى بن جعفر(ع): لما أمر هارون الرشيد بحملي، دخلت عليه فسلّمت فلم يردّ السلام ورأيته مغضباً، فرمى إليَّ بطومار فقال: اقرأه، فإذا فيه كلامٌ، قد علم الله عزَّ وجلَّ براءتي منه، وفيه أنَّ موسى بن جعفر يُجبى إليه خراج الآفاق من غلاة الشيعة ممن يقولون بإمامته، يدينون الله بذلك ويزعمون أنّه فرْضٌ عليهم إلى أن يرث الله الأرضَ ومَنْ عليها، ويزعمون أنَّه من لم يذهب إليه بالعُشر ولم يصلِّ بإمامتهم، ولم يحجَّ بإذنهم، ويجاهد بأمرهم، ويحمل الغنيمة إليهم، ويفضِّل الأئمة على جميع الخلق، ويفرض طاعتهم مثل طاعة الله وطاعة رسوله، فهو كافرٌ حلالٌ مالُه ودمُه..

وفيه كلام شناعة مثل المتعة بلا شهود، واستحلال الفروج بأمره ولو بدرهم، والبراءة من السَلَف، ويلعنون عليهم في صلاتهم، ويزعمون أنَّ مَن لم يتبرّأ منهم فقد بانت امرأته منه، ومَن أخّر الوقت فلا صلاة له، لقول الله تبارك وتعالى {أضاعُوا الصلاة واتّبعوا الشهوات فسوف يَلْقَوْن غيّاً} [مريم:59]، يزعمون أنَّه وادٍ في جهنّم، والكتاب طويلٌ، وأنا أقرأ وهو ساكت، فرفع رأسه وقال: اكتفيتَ بما قرأت؟ قلت: يا أمير المؤمنين، والذي بعث محمداً(ص) بالنبوّة، ما حمل إليَّ أحدٌ درهماً ولا ديناراً من طريق الخراج، لكنّا معاشر آل أبي طالب نقبل الهديّة التي أحلّها الله عزَّ وجلَّ لنبيِّه(ص) في قوله: "لو أُهدي لي كراعٌ لقبلتُ، ولو دعيتُ إلى ذراع لأجبت"، وقد علم أمير المؤمنين ضيق ما نحن فيه، وكثرة عدوّنا، وما منعنا السَلَف من الخُمس الذي نطق لنا به الكتاب، فضاق بنا الأمر، وحُرّمت علينا الصدقة، وعوّضنا الله عزَّ وجلَّ عنها الخُمس، واضطررنا إلى قبول الهديّة، وكلُّ ذلك مما علمه أمير المؤمنين.. فلما تمَّ كلامي سكت.

ثم قلت: إن رأى أمير المؤمنين أن يأذن لابن عمه في حديث عن آبائه، عن النبيِّ(ص)، فكأنه اغتنمها، فقال: مأذونٌ لك، هاته، فقلت: حدّثني أبي، عن جدِّي يرفعه إلى النبيّ(ص): "أنَّ الرحم إذا مسّت رحماً تحرّكت واضطربت"، فإن رأيت أن تناولني يدك، فأشار بيده إليَّ.

ثم قال: ادنُ، فدنوت، فصافحني وجذبني إلى نفسه مليّاً، ثم فارقني، وقد دمعت عيناه، فقال لي: اجلس يا موسى، فليس عليك بأسٌ، صدقت وصدق جدُّك وصدق النبيّ(ص)، لقد تحرّك دمي، واضطربت عروقي، واعلم أنَّك لحمي ودمي، وأنَّ الذي حدّثتني به صحيح، وإنّي أريد أن أسألك عن مسألة، فإن أجبتني أعلم أنَّك صدقتني خلّيت عنك ووصلتك، ولم أصدّق ما قيل فيك، فقلت: ما كان علمه عندي أجبتك فيه.

فقال: لِمَ لا تنهون شيعتكم عن قولهم لكم يابن رسول الله، وأنتم وُلْدُ عليٍّ، وفاطمة إنَّما هي وعاء، والولد يُنسب إلى الأب لا إلى الأم؟ فقلت: إن رأى أمير المؤمنين أن يعفيني من هذه المسألة فعل.. فقال: لستُ أفعل أو أجبت، فقلت: فأنا في أمانِك ألا يصيبني من آفة السلطان شي‏ء؟ فقال: لك الأمان، قلت: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: {ووهبنا له إسحاقَ ويعقوبَ كُلاً هَدَيْنَا ونوحاً هَدَيْنا مِن قبلُ ومن ذرِّيته داوود وسليمان وأيّوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزي المحسنين* وزكريّا ويحيى وعيسى..} [الأنعام:84ـ85]، فَمَن أبو عيسى؟ فقال: ليس له أبٌ، إنَّما خُلِق من كلام الله وروح القُدُس، فقلت: إنَّما أُلحقَ عيسى بذراري الأنبياء من قِبَل مريم، وأُلحقنا بذراري الأنبياء من قِبَل فاطمة(ع) لا من قِبَل عليٍّ(ع)، فقال: أحسنت أحسنت يا موسى زدني من مثله.

فقلت: اجتمعت الأمة بَرُّها وفاجرها أنَّ حديث النجرانيّ حين دعاه النبيُّ(ص) إلى المباهلة، لم يكن في الكساء إلاَّ النبيُّ وعليٌّ وفاطمة والحسن والحسين، فقال الله تبارك وتعالى: {فَمَنْ حاجَّك فيه من بعدِ ما جاءَك من العلم فقلْ تَعَالَوا ندعُ أبناءَنا وأبناءَكم ونساءَنا ونساءَكم وأنفُسنَا وأنفسَكُم} [آل عمران:61].

فكان تأويل (أبناءنا) الحسن والحسين (ونساءنا) فاطمة و(أنفسنا) عليّ بن أبي طالب. فقال: أحسنت.

ثم قال: أخبرني عن قولكم: ليس للعمِّ مع ولد الصلب ميراث، فقلت: أسألك يا أمير المؤمنين، بحقِّ الله وبحقِّ رسوله(ص) أن تعفيني من تأويل هذه الآية وكشفها، وهي عند العلماء مستورة، فقال: إنَّك قد ضمنت لي أن تجيب في ما أسألك ولست أعفيك، فقلت: فجدِّد لي الأمان، فقال: قد أمنتُك، فقلت: إنَّ النبيَّ(ص) لم يورِّث مَنْ قدر على الهجرة فلم يهاجر، وإن عمّي العباس قدر على الهجرة فلم يهاجر، وإنَّما كان في عداد الأُسارى عند النبيِّ(ص)، وجحد أن يكون له الفداء، فأنزل الله تبارك وتعالى على النبيِّ(ص) يخبره بدفينٍ له من ذَهَب، فبعث علياً(ع)، فأخرجه من عند أمِّ الفضل، وأخبر العباس بما أخبره جبرئيل عن الله تبارك وتعالى، فأذِنَ لعليٍّ وأعطاه علامة الذي دُفِن فيه، فقال العباس عند ذلك: يابن أخي، ما فاتني منك أكثر، وأشهد أنَّك رسول ربِّ العالمين.

فلما أحضر عليٌّ(ع) الذهب، فقال العبّاس: أفقرتني يابن أخي، فأنزل الله تبارك وتعالى: {إن يعلم اللهُ في قلوبِكم خيراً يُؤَتِكُم خيراً مما أُخِذ منكم ويغفر لكم} [الأنفال:70]، وقوله: {والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شي‏ءٍ حتى يهاجروا} [الأنفال:72] ثم قال: {وإن استنصروكم في الدِّين فعليكم النَّصر} [الأنفال:72] فرأيته قد اغتمَّ..

ثم قال: أخبرني، من أين قلتم إنَّ الإنسان يدخله الفساد من قِبَل النساء لحال الخُمس الذي لم يُدفَع إلى أهله؟ فقلت: أُخبرك يا أمير المؤمنين بشرط ألاَّ تكشف هذا البابَ لأحدٍ ما دمت حيّاً، وعن قريب يفرِّق الله بيننا وبين مَنْ ظلمنا، وهذه مسألةٌ لم يسألها أحد من السلاطين غيرُ أمير المؤمنين، قال: ولا تَيم ولا عُديّ ولا بنو أميّة ولا أحدٌ من أبنائنا؟ قلت: ما سُئلت ولا سُئِل أبو عبد الله جعفر بن محمد عنها، قال: فإن بلغني عنك أو عن أحدٍ من أهل بيتك كشف ما أخبرتني به رجعت عما أمنتك، فقلت: لك عليَّ ذلك.

فقال: أحببت أن تكتب لي كلاماً موجزاً له أصولٌ وفروعٌ، يُفهم تفسيرُه، ويكون ذلك سماعَك عن أبي عبد الله(ع)، فقلت: نعم، وعلى عيني يا أمير المؤمنين، قال: فإذا فرغت فارفع حوائجك، وقام ووكّل بي مَن يحفظني، وبعث إليَّ في كلِّ يومٍ بمائدة سريّة، فكتبت:

بسم الله الرحمن الرحيم، أمور الدنيا أمران: أمرٌ لا اختلاف فيه، وهو إجماع الأمّة على الضرورة التي يضطرُّون إليها، والأخبار المجتمع عليها، المعروض عليها شبهة، والمستنبط منها كلُّ حادثة، وأمر يحتمل الشكَّ والإنكار، وسبيل استنصاح أهله الحجّة عليه، فما ثبت لمنتحليه من كتاب مستجمعٍ على تأويله، أو سنّة عن النبيِّ(ص) لا اختلاف فيها، أو قياس تعرف العقول عدله، ضاق على من استوضح تلك الحجّة ردُّها، ووجب عليه قبولُها، والإقرارُ والديانةُ بها، وما لم يثبت لمنتحليه به حجّةٌ من كتاب مستجمع على تأويله، أو سنّةٌ عن النبيِّ(ص) لا اختلاف فيها، أو قياس تعرف العقول عدله، وسع خاصَّ الأمة وعامَّها الشكُّ فيه، والإنكار له، كذلك هذان الأمران من أمر التوحيد فما دونه، إلى أرْش الخدش فما دونه، فهذا المعروض الذي يُعرَض عليه أمر الدين، فما ثبت لك برهانه اصطفيتُه، وما غمض عنك ضوءه نفيته، ولا قوّة إلاَّ بالله وحسبنا اللهُ ونِعْمَ الوكيل..

فأخبرت الموكَّلَ به أنني قد فرغت من حاجته، فأخبره فخرج، وعرضتُ عليه، فقال: أحسنت هو كلامٌ موجزٌ جامع، فارفع حوائجك يا موسى، فقلت: يا أمير المؤمنين، أوّل حاجتي إليك أن تأذن لي في الانصراف إلى أهلي، فإنِّي تركتهم باكين آيسين من أن يروني أبداً، فقال: مأذون لك، ازدد؟ فقلت: يُبقي الله أمير المؤمنين لنا معاشر بني عمّه، فقال: ازدد؟ فقلت: عليَّ عيالٌ كثير، وأعيُنُنا بعد الله ممدودةٌ إلى فضل أمير المؤمنين وعادته، فأمر لي بمائة ألف درهم، وكسوة، وحملني وردّني إلى أهلي".

وقفة مع الرواية

وقد نقلت هذه القضية بروايات أخرى قد تختلف في بعض مضمونها زيادة ونقصاناً. إنَّنا نريد أن نتساءل عن هذه اللهجة المرعوبة التي يتحدّث بها الإمام(ع) مع هارون الرشيد قبل إجابته له عن أيّة مسألةٍ من هذه المسائل التي كانت من القضايا المثارة منذ تسلّم بني العباس الحكم في سجال الصراع بين آل عليٍّ(ع) وآل العباس، وقد تحدّث عنها الشعراء في أسلوب عرض الاحتجاج لهذه الدعوة أو تلك..

ونتساءل أيضاً، ومن خلال سياق الرواية، ما معنى أن يطلب الإمام(ع) من هارون الرشيد الأمان من ألا يصيبه من آفة السلطان شي‏ء، كما لو كان السلطان شخصاً آخر غيره؟ ثم ما معنى أن يأخذ الإمام(ع) العهد منه ألاَّ يخبر أحداً عن مسألة الخُمس وتأثيره في الفساد من قِبَل النساء؟ وممن يخاف الرشيد إذا كان يقتنع بمنطق الجواب، وما المشكلة في أنَّ هذه المسألة لم يسبق لها أن أُْثيرت من قِبَل الخلفاء السابقين حتى أثارها هارون الرشيد؟

ثم نتوقف عند طريقة الإمام(ع) في تقديم حاجاته للرشيد وتواضعه الشديد له، ودعائه له بالبقاء لأبناء عمّه، وأخيراً حديثه بأنَّ "أعيننا" بعد الله ممدودةٌ إلى فضل "أمير المؤمنين وعادته". إنَّنا لا نجد في هذا منطق أئمة أهل البيت(ع)، ولا نستطيع أن نعتبر التقيّة مبرّراً ما دام الكثير من هذا الكلام لا يخضع لأيّة ضرورة أمنيّة في الموقف، في الوقت الذي يجعل الرشيد في الموقع الأعلى في نظرته لنفسه، باعتبار أنَّه وليُّ النعمة للإمام وللأمة، وفي طريقة تقييمه لشخصيّة الإمام(ع)، مما قد يأباه منطق الإمام(ع) الذي يوصي به بعض أصحابه، كما مرَّ معنا في البحث السابق، بأن يقاطعوه حتى لا يحبوا بقاءهم (العباسيّين) في المدة القصيرة التي ينتظرون فيها خروج عطائهم إليهم، وكان(ع) يقف ليتحدّى الرشيد في ردِّه عليه أمام قبر رسول الله(ص)، عندما وقف ليخاطب النّبي(ص) بقوله: "السلام عليك يا أبه"، في مقابل كلام الرشيد وخطابه للنبيِّ(ص) بقوله: السلام عليك يابن العم.

وإذا كنا نثير علامات الاستفهام الفكريّة أمام مثل هذا الحديث الذي لم تثبت وثاقة رواته من حيث السند ، فإنَّنا ندعو إلى الكفِّ عن التحدّث به في الخطاب الديني الذي يوجّهه الخطباء والمحدّثون إلى النّاس، لأنَّ ذلك سوف يترك انعكاساً سلبيّاً على الذهنية العامة التي تتأثّر بأمثال هذا المنطق، لتعيش صورة الأئمة(ع) في نطاق المأساة، لا في نطاق الحركة المعارضة في نطاق خطِّ التغيير أو الثورة.. وبذلك قد تفقد الثورة شرعيتها في أذهان النّاس، إذا كان العلماء يعتبرون الشرعيّة للبُعد عن حركة المواجهة عند أية بادرةٍ للخطر حتى بهذا المستوى البسيط.

وربما عاش النّاس الكثير من أفكار الضعف الروحيّ من خلال الأحاديث التي لا ترتقي إلى مستوى الحقيقة في السند والمتن، لأنَّ الذين يقرأونها لا يناقشونها، لأنَّهم لا يريدون تحريك المناقشة في أمورٍ لا تتضمّن حكماً شرعياً، مما يمكن أن يُتسامح فيها بما لا يُتسامح في رواية الحكم الشرعيّ، لا سيما إذا كان الموضوع موضوع إثارة للظُّلامة التي لحقت بأهل البيت(ع)، أو تحريك العاطفة في دائرة المأساة، وهذا هو الذي أوجب اتساع دائرة الوضع في الأحاديث التي نُسبت إلى الأئمة(ع) زوراً وكذباً.

ونحن إذ نرفض هذا المنطق، فلأنَّ القضيّة هي قضية تكوين الذهنية الإسلاميّة العامة في الجانب الفكري والروحيّ والعمليّ، ما يفرض أن تكون التصوُّرات منطلقة من عمق الحقيقة في المضمون، حتى يكون الفكر إسلاميّاً من خلال الفكر الإسلاميّ العميق، وحتى تكون الروح إسلاميّة في آفاقها وتطلّعاتها، وحتى يكون الخطُّ العمليّ خطَّ الإسلام في الوسيلة والغاية، فلا تكون القضية قضيّة أوهام تأخذ صورة الحقائق، أو موضوعات تأخذ شكل الثوابت.

وهذا هو السبيل لإعادة تأصيل المجتمع الإسلاميّ، وتخفيف المؤثرات المتنوّعة التي شاركت في إدخال الكثير من الأمور الهامشيّة الوافدة علينا من أفكار أخرى، أو شعوبٍ أخرى، بعيداً عن عمق الحقيقة الإسلاميّة.

المصادر:

(45)بحار الأنوار، ج:48، ص:121 وما يليها.

لقد روى كتّاب سيرة الإمام الكاظم(ع) بعض الأحاديث في ما كان يجري بينه وبين هارون الرشيد من مناظرات في بعض الأمور التي تمثّل بعض الخلافات بين العلويِّين والعباسيين في القضايا المتصلة بالعلاقة برسول الله(ص)، وفي القضايا الأخرى القريبة من ذلك.

ولدى التدقيق في هذه الأحاديث، نجد في داخلها بعض الخلل في مضمونها الذاتي وفي إيحاءاتها السلبيّة، في ما يتعلّق بالإمام الكاظم(ع)، في ما هي قضية الضعف في شخصيته أمام الرشيد، بحيث تتحوّل المسألة إلى حالة الخوف الشديد الضاغط على الموقف، بما لا يتناسب مع الصلابة التي تتميّز بها شخصيته أمامه من خلال مواقف أخرى..

إننا ندعو إلى قراءة جديدة لأمثال هذه الأحاديث التي قد لا تحمل صفة الصحّة في إسناد الكثير منها، إن لم يكن كلّها، والدخول في تقييم جديد لمضمونها الفكريّ في طبيعة التقيّة التي كان يأخذ بها أئمة أهل البيت(ع)، وهل كانت تصل إلى مثل هذا المستوى من الإحباط النفسيّ الذي قد يسي‏ء إلى الصورة الإسلامية المشرقة التي نقدّمها لأجيالنا عنهم، لأننا معنيّون بذلك من خلال حركة الخطِّ الإسلاميّ في مضمون التقيّة التي قد تتدخّل في إسقاط الكثير من المواقف المتحدية للظلم والظالمين، تحت عنوان شرعيّة التقيّة. وهذا الموضوع كنا قد أشرنا إليه بالتفصيل في الحديث عن الإمام الصادق(ع)، لا سيما إذا كانت المسائل التي تتضمنها مما لا صلة له بالجانب الثوريّ الذي قد يخيّل للبعض أن لا مجال للتقيّة فيه، لأنَّ المسألة تدخل في النطاق الاجتهادي العام في الدائرة الاجتهاديّة الواسعة التي قد يختلف حولها المسلمون.. وقد نلاحظ في هذا المجال، أنَّ تاريخنا الشيعيّ قد يكون معنيّاً بإبراز مسألة ظلامة أهل البيت، بالدرجة التي تجعله يهتم بكلِّ رواية يؤكّد مضمونها شيئاً من ذلك، بقطع النظر عن صحتها التوثيقيّة وعدم صحّتها..

وفي هذا المجال، نقدّم رواية من روايات الاحتجاج الدائر بين الإمام الكاظم(ع) وبين هارون الرشيد في عرض تقييميّ نقديّ، لنأخذ نموذجاً حيّاً من ذلك كلِّه.

جاء في بحار الأنوار(45) (نقلاً عن كتاب الاختصاص) "عن أبي الوليد عن أحمد بن إدريس عن محمد بن إسماعيل العلويّ قال: حدّثني محمد بن الزبرقان الدامغاني، قال: قال أبو الحسن موسى بن جعفر(ع): لما أمر هارون الرشيد بحملي، دخلت عليه فسلّمت فلم يردّ السلام ورأيته مغضباً، فرمى إليَّ بطومار فقال: اقرأه، فإذا فيه كلامٌ، قد علم الله عزَّ وجلَّ براءتي منه، وفيه أنَّ موسى بن جعفر يُجبى إليه خراج الآفاق من غلاة الشيعة ممن يقولون بإمامته، يدينون الله بذلك ويزعمون أنّه فرْضٌ عليهم إلى أن يرث الله الأرضَ ومَنْ عليها، ويزعمون أنَّه من لم يذهب إليه بالعُشر ولم يصلِّ بإمامتهم، ولم يحجَّ بإذنهم، ويجاهد بأمرهم، ويحمل الغنيمة إليهم، ويفضِّل الأئمة على جميع الخلق، ويفرض طاعتهم مثل طاعة الله وطاعة رسوله، فهو كافرٌ حلالٌ مالُه ودمُه..

وفيه كلام شناعة مثل المتعة بلا شهود، واستحلال الفروج بأمره ولو بدرهم، والبراءة من السَلَف، ويلعنون عليهم في صلاتهم، ويزعمون أنَّ مَن لم يتبرّأ منهم فقد بانت امرأته منه، ومَن أخّر الوقت فلا صلاة له، لقول الله تبارك وتعالى {أضاعُوا الصلاة واتّبعوا الشهوات فسوف يَلْقَوْن غيّاً} [مريم:59]، يزعمون أنَّه وادٍ في جهنّم، والكتاب طويلٌ، وأنا أقرأ وهو ساكت، فرفع رأسه وقال: اكتفيتَ بما قرأت؟ قلت: يا أمير المؤمنين، والذي بعث محمداً(ص) بالنبوّة، ما حمل إليَّ أحدٌ درهماً ولا ديناراً من طريق الخراج، لكنّا معاشر آل أبي طالب نقبل الهديّة التي أحلّها الله عزَّ وجلَّ لنبيِّه(ص) في قوله: "لو أُهدي لي كراعٌ لقبلتُ، ولو دعيتُ إلى ذراع لأجبت"، وقد علم أمير المؤمنين ضيق ما نحن فيه، وكثرة عدوّنا، وما منعنا السَلَف من الخُمس الذي نطق لنا به الكتاب، فضاق بنا الأمر، وحُرّمت علينا الصدقة، وعوّضنا الله عزَّ وجلَّ عنها الخُمس، واضطررنا إلى قبول الهديّة، وكلُّ ذلك مما علمه أمير المؤمنين.. فلما تمَّ كلامي سكت.

ثم قلت: إن رأى أمير المؤمنين أن يأذن لابن عمه في حديث عن آبائه، عن النبيِّ(ص)، فكأنه اغتنمها، فقال: مأذونٌ لك، هاته، فقلت: حدّثني أبي، عن جدِّي يرفعه إلى النبيّ(ص): "أنَّ الرحم إذا مسّت رحماً تحرّكت واضطربت"، فإن رأيت أن تناولني يدك، فأشار بيده إليَّ.

ثم قال: ادنُ، فدنوت، فصافحني وجذبني إلى نفسه مليّاً، ثم فارقني، وقد دمعت عيناه، فقال لي: اجلس يا موسى، فليس عليك بأسٌ، صدقت وصدق جدُّك وصدق النبيّ(ص)، لقد تحرّك دمي، واضطربت عروقي، واعلم أنَّك لحمي ودمي، وأنَّ الذي حدّثتني به صحيح، وإنّي أريد أن أسألك عن مسألة، فإن أجبتني أعلم أنَّك صدقتني خلّيت عنك ووصلتك، ولم أصدّق ما قيل فيك، فقلت: ما كان علمه عندي أجبتك فيه.

فقال: لِمَ لا تنهون شيعتكم عن قولهم لكم يابن رسول الله، وأنتم وُلْدُ عليٍّ، وفاطمة إنَّما هي وعاء، والولد يُنسب إلى الأب لا إلى الأم؟ فقلت: إن رأى أمير المؤمنين أن يعفيني من هذه المسألة فعل.. فقال: لستُ أفعل أو أجبت، فقلت: فأنا في أمانِك ألا يصيبني من آفة السلطان شي‏ء؟ فقال: لك الأمان، قلت: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: {ووهبنا له إسحاقَ ويعقوبَ كُلاً هَدَيْنَا ونوحاً هَدَيْنا مِن قبلُ ومن ذرِّيته داوود وسليمان وأيّوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزي المحسنين* وزكريّا ويحيى وعيسى..} [الأنعام:84ـ85]، فَمَن أبو عيسى؟ فقال: ليس له أبٌ، إنَّما خُلِق من كلام الله وروح القُدُس، فقلت: إنَّما أُلحقَ عيسى بذراري الأنبياء من قِبَل مريم، وأُلحقنا بذراري الأنبياء من قِبَل فاطمة(ع) لا من قِبَل عليٍّ(ع)، فقال: أحسنت أحسنت يا موسى زدني من مثله.

فقلت: اجتمعت الأمة بَرُّها وفاجرها أنَّ حديث النجرانيّ حين دعاه النبيُّ(ص) إلى المباهلة، لم يكن في الكساء إلاَّ النبيُّ وعليٌّ وفاطمة والحسن والحسين، فقال الله تبارك وتعالى: {فَمَنْ حاجَّك فيه من بعدِ ما جاءَك من العلم فقلْ تَعَالَوا ندعُ أبناءَنا وأبناءَكم ونساءَنا ونساءَكم وأنفُسنَا وأنفسَكُم} [آل عمران:61].

فكان تأويل (أبناءنا) الحسن والحسين (ونساءنا) فاطمة و(أنفسنا) عليّ بن أبي طالب. فقال: أحسنت.

ثم قال: أخبرني عن قولكم: ليس للعمِّ مع ولد الصلب ميراث، فقلت: أسألك يا أمير المؤمنين، بحقِّ الله وبحقِّ رسوله(ص) أن تعفيني من تأويل هذه الآية وكشفها، وهي عند العلماء مستورة، فقال: إنَّك قد ضمنت لي أن تجيب في ما أسألك ولست أعفيك، فقلت: فجدِّد لي الأمان، فقال: قد أمنتُك، فقلت: إنَّ النبيَّ(ص) لم يورِّث مَنْ قدر على الهجرة فلم يهاجر، وإن عمّي العباس قدر على الهجرة فلم يهاجر، وإنَّما كان في عداد الأُسارى عند النبيِّ(ص)، وجحد أن يكون له الفداء، فأنزل الله تبارك وتعالى على النبيِّ(ص) يخبره بدفينٍ له من ذَهَب، فبعث علياً(ع)، فأخرجه من عند أمِّ الفضل، وأخبر العباس بما أخبره جبرئيل عن الله تبارك وتعالى، فأذِنَ لعليٍّ وأعطاه علامة الذي دُفِن فيه، فقال العباس عند ذلك: يابن أخي، ما فاتني منك أكثر، وأشهد أنَّك رسول ربِّ العالمين.

فلما أحضر عليٌّ(ع) الذهب، فقال العبّاس: أفقرتني يابن أخي، فأنزل الله تبارك وتعالى: {إن يعلم اللهُ في قلوبِكم خيراً يُؤَتِكُم خيراً مما أُخِذ منكم ويغفر لكم} [الأنفال:70]، وقوله: {والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شي‏ءٍ حتى يهاجروا} [الأنفال:72] ثم قال: {وإن استنصروكم في الدِّين فعليكم النَّصر} [الأنفال:72] فرأيته قد اغتمَّ..

ثم قال: أخبرني، من أين قلتم إنَّ الإنسان يدخله الفساد من قِبَل النساء لحال الخُمس الذي لم يُدفَع إلى أهله؟ فقلت: أُخبرك يا أمير المؤمنين بشرط ألاَّ تكشف هذا البابَ لأحدٍ ما دمت حيّاً، وعن قريب يفرِّق الله بيننا وبين مَنْ ظلمنا، وهذه مسألةٌ لم يسألها أحد من السلاطين غيرُ أمير المؤمنين، قال: ولا تَيم ولا عُديّ ولا بنو أميّة ولا أحدٌ من أبنائنا؟ قلت: ما سُئلت ولا سُئِل أبو عبد الله جعفر بن محمد عنها، قال: فإن بلغني عنك أو عن أحدٍ من أهل بيتك كشف ما أخبرتني به رجعت عما أمنتك، فقلت: لك عليَّ ذلك.

فقال: أحببت أن تكتب لي كلاماً موجزاً له أصولٌ وفروعٌ، يُفهم تفسيرُه، ويكون ذلك سماعَك عن أبي عبد الله(ع)، فقلت: نعم، وعلى عيني يا أمير المؤمنين، قال: فإذا فرغت فارفع حوائجك، وقام ووكّل بي مَن يحفظني، وبعث إليَّ في كلِّ يومٍ بمائدة سريّة، فكتبت:

بسم الله الرحمن الرحيم، أمور الدنيا أمران: أمرٌ لا اختلاف فيه، وهو إجماع الأمّة على الضرورة التي يضطرُّون إليها، والأخبار المجتمع عليها، المعروض عليها شبهة، والمستنبط منها كلُّ حادثة، وأمر يحتمل الشكَّ والإنكار، وسبيل استنصاح أهله الحجّة عليه، فما ثبت لمنتحليه من كتاب مستجمعٍ على تأويله، أو سنّة عن النبيِّ(ص) لا اختلاف فيها، أو قياس تعرف العقول عدله، ضاق على من استوضح تلك الحجّة ردُّها، ووجب عليه قبولُها، والإقرارُ والديانةُ بها، وما لم يثبت لمنتحليه به حجّةٌ من كتاب مستجمع على تأويله، أو سنّةٌ عن النبيِّ(ص) لا اختلاف فيها، أو قياس تعرف العقول عدله، وسع خاصَّ الأمة وعامَّها الشكُّ فيه، والإنكار له، كذلك هذان الأمران من أمر التوحيد فما دونه، إلى أرْش الخدش فما دونه، فهذا المعروض الذي يُعرَض عليه أمر الدين، فما ثبت لك برهانه اصطفيتُه، وما غمض عنك ضوءه نفيته، ولا قوّة إلاَّ بالله وحسبنا اللهُ ونِعْمَ الوكيل..

فأخبرت الموكَّلَ به أنني قد فرغت من حاجته، فأخبره فخرج، وعرضتُ عليه، فقال: أحسنت هو كلامٌ موجزٌ جامع، فارفع حوائجك يا موسى، فقلت: يا أمير المؤمنين، أوّل حاجتي إليك أن تأذن لي في الانصراف إلى أهلي، فإنِّي تركتهم باكين آيسين من أن يروني أبداً، فقال: مأذون لك، ازدد؟ فقلت: يُبقي الله أمير المؤمنين لنا معاشر بني عمّه، فقال: ازدد؟ فقلت: عليَّ عيالٌ كثير، وأعيُنُنا بعد الله ممدودةٌ إلى فضل أمير المؤمنين وعادته، فأمر لي بمائة ألف درهم، وكسوة، وحملني وردّني إلى أهلي".

وقفة مع الرواية

وقد نقلت هذه القضية بروايات أخرى قد تختلف في بعض مضمونها زيادة ونقصاناً. إنَّنا نريد أن نتساءل عن هذه اللهجة المرعوبة التي يتحدّث بها الإمام(ع) مع هارون الرشيد قبل إجابته له عن أيّة مسألةٍ من هذه المسائل التي كانت من القضايا المثارة منذ تسلّم بني العباس الحكم في سجال الصراع بين آل عليٍّ(ع) وآل العباس، وقد تحدّث عنها الشعراء في أسلوب عرض الاحتجاج لهذه الدعوة أو تلك..

ونتساءل أيضاً، ومن خلال سياق الرواية، ما معنى أن يطلب الإمام(ع) من هارون الرشيد الأمان من ألا يصيبه من آفة السلطان شي‏ء، كما لو كان السلطان شخصاً آخر غيره؟ ثم ما معنى أن يأخذ الإمام(ع) العهد منه ألاَّ يخبر أحداً عن مسألة الخُمس وتأثيره في الفساد من قِبَل النساء؟ وممن يخاف الرشيد إذا كان يقتنع بمنطق الجواب، وما المشكلة في أنَّ هذه المسألة لم يسبق لها أن أُْثيرت من قِبَل الخلفاء السابقين حتى أثارها هارون الرشيد؟

ثم نتوقف عند طريقة الإمام(ع) في تقديم حاجاته للرشيد وتواضعه الشديد له، ودعائه له بالبقاء لأبناء عمّه، وأخيراً حديثه بأنَّ "أعيننا" بعد الله ممدودةٌ إلى فضل "أمير المؤمنين وعادته". إنَّنا لا نجد في هذا منطق أئمة أهل البيت(ع)، ولا نستطيع أن نعتبر التقيّة مبرّراً ما دام الكثير من هذا الكلام لا يخضع لأيّة ضرورة أمنيّة في الموقف، في الوقت الذي يجعل الرشيد في الموقع الأعلى في نظرته لنفسه، باعتبار أنَّه وليُّ النعمة للإمام وللأمة، وفي طريقة تقييمه لشخصيّة الإمام(ع)، مما قد يأباه منطق الإمام(ع) الذي يوصي به بعض أصحابه، كما مرَّ معنا في البحث السابق، بأن يقاطعوه حتى لا يحبوا بقاءهم (العباسيّين) في المدة القصيرة التي ينتظرون فيها خروج عطائهم إليهم، وكان(ع) يقف ليتحدّى الرشيد في ردِّه عليه أمام قبر رسول الله(ص)، عندما وقف ليخاطب النّبي(ص) بقوله: "السلام عليك يا أبه"، في مقابل كلام الرشيد وخطابه للنبيِّ(ص) بقوله: السلام عليك يابن العم.

وإذا كنا نثير علامات الاستفهام الفكريّة أمام مثل هذا الحديث الذي لم تثبت وثاقة رواته من حيث السند ، فإنَّنا ندعو إلى الكفِّ عن التحدّث به في الخطاب الديني الذي يوجّهه الخطباء والمحدّثون إلى النّاس، لأنَّ ذلك سوف يترك انعكاساً سلبيّاً على الذهنية العامة التي تتأثّر بأمثال هذا المنطق، لتعيش صورة الأئمة(ع) في نطاق المأساة، لا في نطاق الحركة المعارضة في نطاق خطِّ التغيير أو الثورة.. وبذلك قد تفقد الثورة شرعيتها في أذهان النّاس، إذا كان العلماء يعتبرون الشرعيّة للبُعد عن حركة المواجهة عند أية بادرةٍ للخطر حتى بهذا المستوى البسيط.

وربما عاش النّاس الكثير من أفكار الضعف الروحيّ من خلال الأحاديث التي لا ترتقي إلى مستوى الحقيقة في السند والمتن، لأنَّ الذين يقرأونها لا يناقشونها، لأنَّهم لا يريدون تحريك المناقشة في أمورٍ لا تتضمّن حكماً شرعياً، مما يمكن أن يُتسامح فيها بما لا يُتسامح في رواية الحكم الشرعيّ، لا سيما إذا كان الموضوع موضوع إثارة للظُّلامة التي لحقت بأهل البيت(ع)، أو تحريك العاطفة في دائرة المأساة، وهذا هو الذي أوجب اتساع دائرة الوضع في الأحاديث التي نُسبت إلى الأئمة(ع) زوراً وكذباً.

ونحن إذ نرفض هذا المنطق، فلأنَّ القضيّة هي قضية تكوين الذهنية الإسلاميّة العامة في الجانب الفكري والروحيّ والعمليّ، ما يفرض أن تكون التصوُّرات منطلقة من عمق الحقيقة في المضمون، حتى يكون الفكر إسلاميّاً من خلال الفكر الإسلاميّ العميق، وحتى تكون الروح إسلاميّة في آفاقها وتطلّعاتها، وحتى يكون الخطُّ العمليّ خطَّ الإسلام في الوسيلة والغاية، فلا تكون القضية قضيّة أوهام تأخذ صورة الحقائق، أو موضوعات تأخذ شكل الثوابت.

وهذا هو السبيل لإعادة تأصيل المجتمع الإسلاميّ، وتخفيف المؤثرات المتنوّعة التي شاركت في إدخال الكثير من الأمور الهامشيّة الوافدة علينا من أفكار أخرى، أو شعوبٍ أخرى، بعيداً عن عمق الحقيقة الإسلاميّة.

المصادر:

(45)بحار الأنوار، ج:48، ص:121 وما يليها.

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية