ليلة القدر من اللّيالي العظيمة عند الله تعالى، لما في ذلك من أجواء أحاطت بها، وجعلتها من الأوقات التي هي موضع تقدير وتقديس، ومحطة لتجديد العلاقة بين أهل الأرض وخالقهم.
ومن أبرز ما تتميّز به ليلة القدر وتتشرّف به، نزول القرآن الكريم فيها، كما صرّح بذلك القرآن نفسه، بغضّ النظر عن التفسيرات التي تعتبر أن نزوله كان على وجه الإجمال في هذه الليلة لا على وجه التفصيل.
المهمّ أنّ ما يمثله القرآن الكريم من كتاب سماوي فيه شفاء لما في الصّدور على مستوى الفكر والشريعة والعقيدة والعِبرة وغير ذلك، قد نزل رحمةً للعالمين، ومصباح هداية لهم من الظلمات إلى النور، وقد اختار الله تعالى ليلة القدر لنزول هذا الوحي العظيم، الذي شكَّل منعطفاً أساسياً في حياة البشريّة ولا يزال.
من هنا، نعرف مدى الشّرف والحظوة لليلة القدر، وما خصَّها الله به من التّبجيل والتكريم، فعندما ننفتح على ليلة القدر وما فيها من بركات، يعني ذلك انفتاحنا على كتاب الله تعالى بما فيه من خيرٍ وبركةٍ ونفع.. وبالتالي، فإنّ إحياءنا لليلة القدر، يعني إحياءنا لتناولنا وتعاملنا وفهمنا وقربنا من القرآن الكريم.
يقول الله تعالى في كتابه العزيز: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ* فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ* أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ* رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}[الدخان: 3-6].
وفي تفسيرها، يقول سماحة العلامة المرجع السيّد محمد حسين فضل الله(ض): "{إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ}، وهي ليلة القدر الّتي صرّح القرآن باسمها في قوله تعالى: { إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ}[القدر :1]، وقد باركها الله بالقرآن الّذي انفتح فيه على عباده بالرّحمة الرساليّة التي تشمل الحياة كلها... وربما يستظهر من الآية، أنَّ القرآن نزل دفعة واحدة في ليلة القدر، كما أكَّدت بعض الأخبار الواردة في التفسير، ولكن ذلك قد يتنافى مع الآية الّتي تتحدث عن النزول التدريجي للقرآن في قوله تعالى: {وَقُرْآَنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا}[الإسراء: 106]. وفي قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآَنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا}"[الفرقان: 32].
ويتبنّى السيّد فضل الله القول بابتداء نزول القرآن في ليلة القدر، كإجابةٍ على الإشكاليَّة التي مفادها أنَّ القرآن نزل على دفعتين، مرّة مجملاً ومرّة مفصّلاً. يقول: "فقد يكون الأقرب إلى الاعتبار، أن يكون المقصود من نزول القرآن في ليلة القدر، ابتداء نزوله، ولا سيّما إذا عرفنا أنَّ القرآن يُطلق على الآية والسّورة والمجموع، مع ملاحظة أنّ الآية التي تتحدَّث عن نزوله في ليلة القدر، أو في ليلة مباركة، هي من آيات القرآن، فكيف تكون ناظرةً إلى المجموع.. وعلى كلّ حال، فإنّ طبيعة التّعبير القرآني لا يأبى ذلك. والله العالم.
{فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ}، وربما كان المراد بها التّقديرات الّتي تتّصل بما يحدث للنّاس في الحياة، من خيرٍ وشرّ، وطاعةٍ ومعصية، ومولود وأجل ورزق، في نطاق الأسباب الّتي أودعها الله في واقع الحياة وإرادة الإنسان، مما أحاط الله بعلمه، وقدَّره من خلال ذلك. وكأنّ الله سبحانه في ليلة القدر، يُخرج الأمور من خطوطها العامّة التي تمثّل الجانب النوعي من حياة المخلوقات ونظام الموجودات، إلى خطوطها التفصيلية المتعلّقة بكلّ مخلوق موجود على سطح الأرض، في تدبيره المتّصل بحركة عبادة في الزّمن، {أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا} لا من غيرنا، لأنّنا ـ في موقع الألوهيّة المطلقة ـ نملك الأمر كلّه والتدبير كله، كما نملك الخلق كله...". [تفسير من وحي القرآن، ج:20، ص:276-279].
وتعليقاً على ما تقدَّم من آيات مباركة، يقول العلامة الشّيخ محمد جواد مغنيّة(رض): "{إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ}: وإذا قرأنا هذه الآية معطوفاً عليها آية { إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ}، وآية {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ}، تبيَن لنا أنّ هذه الليلة المباركة بنزول القرآن هي ليلة القدر، وأنها إحدى ليالي شهر رمضان المبارك. {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ}: يُفرق يبيّن، وضمير "فيها" لليلة القدر، وحكيم: محكم، وكلّ أمر هنا، وفي سورة "إنّا أنزلناه" يعمّ ويشمل كلّ شيء، ونسكت عن التّفصيل الذي سكت عنه التّنزيل".[التفسير المبين].
وهذا المفسِّر فخر الدين الرازي يشير إلى الاختلاف في تفسير الليلة المباركة، فيقول: "... قال الأكثرون إنّها ليلة القدر، وقال عكرمة وطائفة آخرون: إنها ليلة البراءة، وهي ليلة النّصف من شعبان". ويعدِّد الرازي الوجوه التي أوردها أصحاب الرأي الأوّل، ومنها: "أنه تعالى قال: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ}[القدر: 1]. وههنا قال: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ}، فوجب أن تكون هذه الليلة المباركة هي تلك المسمّاة بليلة القدر، لئلا يلزم التناقض. وأنه تعالى قال: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ}[البقرة: 185]، فبيّن أنّ إنزال القرآن إنما وقع في شهر رمضان، وقال ههنا: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ}، فوجب أن تكون هذه الليلة المباركة واقعة في شهر رمضان، وكلّ من قال: إنّ هذه اللّيلة المباركة واقعة في شهر رمضان، قال: إنها ليلة القدر، فثبت أنها ليلة القدر.
ومن الوجوه أيضاً، أنه تعالى قال في صفة ليلة القدر: {تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ * سَلَامٌ هِيَ...}[القدر: 4-5]، وقال أيضاً ههنا: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ}، وهذا مناسب لقوله: {تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا}، وههنا قال: {أَمْراً مِّنْ عِندِنَا}، وقال في تلك الآية: {بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ}، وقال ههنا: {رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ}، وقال في تلك الآية: {سلامٌ هي} وإذا تقاربت الأوصاف، وجب القول بأنَّ إحدى اللّيلتين هي الأخرى..
وأمّا القائلون بأنَّ المراد من اللّيلة المباركة المذكورة في هذه الآية هي ليلة النّصف من شعبان، فما رأيت لهم فيه دليلاً يُعوَّل عليه.. {فِيهَا يُفْرَقُ} أي يُفصَّل ويبيَّن.. {كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ}، فالحكيم معناه ذو الحكمة، وذلك لأنَّ تخصيص الله تعالى كلّ أحد بحال معيّنة من العمر والرّزق والأجل والسّعادة والشّقاوة، يدلّ على حكمة بالغة لله تعالى، فلمَّا كانت تلك الأفعال والأقضية دالّةً على حكمة فاعلها، وصفت بكونها حكيمة، وهذا من الإسناد المجازي، لأنّ الحكيم صفة صاحب الأمر على الحقيقة، ووصف الأمر به مجاز".[التفسير الكبير].
يتّضح مما تقدَّم، ذهاب جلّ المفسّرين إلى أنّ المقصود بالليلة المباركة هو ليلة القدر التي أُنزِل فيها القرآن الكريم رحمةً للعالمين وهدايةً لهم، وأنّ هذه الليلة أخذت شرفها وتكريمها من نزول القرآن فيها.
إنَّ الآراء الواردة في هذا المقال، لا تعبِّر بالضَّرورة عن رأي الموقع، وإنّما عن وجهة نظر صاحبها.