قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ
كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}[البقرة:
183].
من بركات الله علينا، أن هيأ لنا هذا الشّهر الكريم، من أجل أن نعيش معه بتفرّغ
روحيّ، وبكلّ لحظة، لأنّ الله أراد للإنسان أن يكون معه في كلّ شيء في هذه الحياة
الدّنيا، وجاء هذا الشّهر ليكون دورة تدريبيّة، ليعيش فعلاً كيفية أن يكون مع الله
في كلّ لحظة من لحظات وجوده. لذلك، فإنّ الصوم عن الطعام والشّراب في شهر رمضان هو
دورة تدريبيّة للإنسان.
يقول تعالى: "الصّوم لي وأنا أجزي به". فالصّوم أكثر عبادة يتجلّى فيها الإخلاص لله
تعالى. لماذا؟ لأنّ كلّ العبادات عندما يؤدّيها النّاس تظهر عليهم، فهذا الإنسان
عندما يصلّي، يُعرف من خلال حركاته، عندما يحجّ إلى بيت الله الحرام، يسافر إلى
الحجّ، عندما يؤدي الزكاة يدفع المال أو يدفع المواد العينيّة...
أيّ عبادة من العبادات لها مظهر خارجيّ إلا الصّوم، فلا يستطيع أحد أن يعلم أنّ
فلاناً صائم أو غير صائم، لأنّ الصّوم بينه وبين الله سبحانه وتعالى، إلا إذا كان
هناك من يريد أن يرائي، والعياذ بالله، أو يظهر أنه صائم. ولذلك، كلّ واحد منا قادر
أن يقول إنّني صائم، وقد يكون في الواقع غير صائم، فبإمكانه أن يأكل ويشرب ويمارس
كلّ المفطرات، ولا أحد يعلم أنه مفطر. لذلك، فإنّ أمر الصّيام هو بينه وبين الله
تعالى. لذلك، فعندما نصوم لله، يكون الصّيام دورة على أهميّة الإخلاص لله سبحانه
والانقطاع إليه تعالى.
لذلك، أعطانا الله تعالى الأجر العظيم على الصّوم، وهو أفضل العبادات الّتي أرادها
الله سبحانه وتعالى، لأنها العبادة الخالصة. فمن خلال الصّوم، نحن نرتقي بين يدي
الله سبحانه، وهو حاضر معنا في هذا الشَّهر.
ولذلك قلنا إنّها دورة، فالإنسان القادر على أن يصوم عن الحلال في شهر رمضان، سيكون
قادراً على أن يصوم عن الحرام في خارج شهر رمضان، ففيه أدرّب نفسي على الوقوف بين
يدي الله تعالى، وألتزم بما أراد عزّ وجلّ، فأصل من خلال صومي إلى التّقوى.
والتّقوى تعني أن تمتنع عمّا حرّم الله، وتلتزم بما أراد الله، وبذلك فسّرها الإمام
الصّادق (ع): ألا يجدك حيث نهاك، ولا يفقدك حيث أمرك... هذه هي التقوى الحقيقيّة.
فالتقوى ليست بكثرة الذّكر والأوراد، كما يظنّ البعض، بل هي أمر روحي وعملي، أن
أتّقي الله، أن أقف عند حدود الطاعات والمحرَّمات التي جعلها الله سبحانه وتعالى.
أن أكون تقيّاً، فلا أغتاب إنساناً، ولا أغشّ، ولا أكذب، ولا أترك واجب الأمر
بالمعروف والنّهي عن المنكر، أن اجاهد في سبيل الله، أن أؤدّي الزكاة والخمس، أن
أبرّ والديّ، أن أصل رحمي، أن أقف إلى جانب النّاس... فهذه الواجبات هي التّقوى.
لذلك، الصّوم هو هذه الدورة التدريبيّة للإنسان، لنصل إلى هذه المرحلة.
فالإنسان الّذي يستطيع الامتناع عن الحرام في شهر رمضان، يمتنع عنه في خارجه،
فالرّجل الّذي يستطيع أن لا يعاشر زوجته التي أحلّها الله له في نهارات شهر رمضان،
مثلاً، قادر على الامتناع عن الحرام ـ لا سمح الله ـ كالزنا في خارجه.
وهذا يعطينا فكرة أنّ الصّوم ليس فقط من الطّعام والشّراب، كما ورد عن النبيّ (ص)،
عندما جاءت امرأة صائمة وسبّت جاريتها، فجاء لها النبيّ بطعام وقال لها كلي، قالت
أنا صائمة، قال: كيف تكونين صائمة وقد سببت جاريتك؟!
الصوم ليس من الطعام والشراب، إنما جعل حجاباً عما سواه من الفواحش، ما ظهر منها
وما بطن.
لذلك، أن نصوم، أن نلتفت إلى أننا نصوم ليس فقط عن الطّعام والشّراب، بل عن كلّ ما
حرّم الله تعالى.
نسأل الله لنا ولكم أن نكون من الصّائمين حقاً، وليس من الجائعين، والحمد لله ربّ
العالمين.