الاستغفار وغسل الذّنوب

الاستغفار وغسل الذّنوب

قال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا الله فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا الله وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ}[آل عمران: 135].

قصّة النزول

حدثنا محمد بن إبراهيم بن إسحاق (رحمه الله)، قال: حدثنا أحمد بن محمد الهمداني، قال: أخبرنا أحمد بن صالح بن سعد التميمي، قال: حدثنا موسى بن داود، قال:حدثنا الوليد بن هشام، قال: حدثنا هشام بن حسان، عن الحسن بن أبي الحسن البصري، عن عبد الرّحمن بن غنم الدوسي، قال: دخل معاذ بن جبل على رسول الله (صلى الله عليه وآله) باكياً، فسلّم فردّ عليه السّلام، ثم قال: ما يبكيك يا معاذ؟ فقال: يا رسول الله، إنّ بالباب شابّاً طريّ الجسد، نقيّ اللّون، حسن الصّورة، يبكي على شبابه بكاء الثّكلى على ولدها يريد الدّخول عليك: فقال النبي (صلى الله عليه وآله): أدخل علي الشاب يا معاذ، فأدخله عليه، فسلّم فردّ عليه السلام، ثم قال: ما يبكيك يا شابّ؟ قال: كيف لا أبكي وقد ركبت ذنوباً إن أخذني الله عزّ وجلّ ببعضها أدخلني نار جهنّم، ولا أراني إلا سيأخذني بها، ولا يغفر لي أبداً. فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): هل أشركت بالله شيئا؟ قال: أعوذ بالله أن أشرك بربي شيئاً. قال: أقتلت النفس التي حرّم الله؟ قال: لا، فقال النبيّ (صلى الله عليه وآله): يغفر الله لك ذنوبك وإن كانت مثل الجبال الرواسي، قال الشابّ: فإنها أعظم من الجبال الرواسي، فقال النبيّ (صلى الله عليه وآله): يغفر الله لك ذنوبك وإن كانت مثل الأرضين السبع وبحارها ورمالها وأشجارها وما فيها من الخلق. قال: فإنها أعظم من الأرضين السّبع وبحارها ورمالها وأشجارها وما فيها من الخلق. فقال النبي (صلّى الله عليه وآله): يغفر الله لك ذنوبك وإن كانت مثل السّماوات السبع ونجومها ومثل العرش والكرسي. قال: فإنها أعظم من ذلك. قال: فنظر النبي (صلى الله عليه وآله) إليه كهيئة الغضبان، ثم قال: ويحك يا شابّ، ذنوبك أعظم أم ربّك؟ فخرّ الشابّ لوجهه وهو يقول: سبحان ربي! ما شيء أعظم من ربي، ربي أعظم يا نبيّ الله من كلّ عظيم. فقال النبي (صلى الله عليه وآله): فهل يغفر الذّنب العظيم إلا الرّبّ العظيم؟! قال الشابّ: لا والله يا رسول الله.

ثم سكت الشابّ، فقال له النبيّ (صلى الله عليه وآله): ويحك يا شابّ، ألا تخبرني بذنب واحد من ذنوبك؟ قال: بلى، أخبرك أني كنت أنبش القبور سبع سنين، أخرج الأموات وأنزع الأكفان، فماتت جارية من بعض بنات الأنصار، فلمّا حملت إلى قبرها ودفنت وانصرف عنها أهلها وجنّ عليها اللّيل، أتيت قبرها فنبشتها، ثم استخرجتها ونزعت ما كان عليها من أكفانها، وتركتها متجرّدة على شفير قبرها، ومضيت منصرفاً، فأتاني الشيطان، فأقبل يزيّنها لي ويقول: أما ترى بطنها وبياضها؟ أما ترى وركيها؟ فلم يزل يقول لي هذا حتى رجعت إليها، ولم أملك نفسي حتى جامعتها وتركتها مكانها، فإذا أنا بصوت من ورائي يقول: يا شابّ، ويل لك من ديّان يوم الدّين، يوم يقفني وإيّاك كما تركتني عريانة في عساكر الموتى، ونزعتني من حفرتي، وسلبتني أكفاني، وتركتني أقوم جنبة إلى حسابي، فويل لشبابك من النار، فما أظنّ أني أشمّ ريح الجنّة أبداً، فما ترى لي يا رسول الله؟

فقال النبيّ (صلى الله عليه وآله): تنحّ عني يا فاسق، إني أخاف أن أحترق بنارك، فما أقربك من النّار، فما أقربك من النّار! ثم لم يزل (صلى الله عليه وآله) يقول ويشير إليه، حتى أمعن من بين يديه، فذهب فأتى المدينة، فتزوَّد منها، ثم أتى بعض جبالها، فتعبّد فيها، ولبس مسحاً، وغلّ يديه جميعاً إلى عنقه، ونادى: يا ربّ، هذا عبدك بهلول، بين يديك مغلول، يا ربّ أنت الذي تعرفني، وزلّ مني ما تعلم. يا سيدي يا ربّ، إني أصبحت من النّادمين، وأتيت نبيّك تائباً، فطردني وزادني خوفاً، فأسألك باسمك وجلالك وعظمة سلطانك أن لا تخيب رجائي، سيّدي ولا تبطل دعائي، ولا تقنطني من رحمتك. فلم يزل يقول ذلك أربعين يوماً وليلة، تبكي له السباع والوحوش، فلما تمت له أربعون يوماً وليلة، رفع يديه إلى السماء، وقال: اللّهمّ ما فعلت في حاجتي؟ إن كنت استجبت دعائي وغفرت خطيئتي، فأوح إلى نبيِّك، وإن لم تستجب لي دعائي ولم تغفر لي خطيئتي وأردت عقوبتي، فعجّل بنارٍ تحرقني أو عقوبة في الدّنيا تهلكني، وخلّصني من فضيحة يوم القيامة، فأنزل الله تبارك وتعالى على نبيّه (صلى الله عليه وآله): {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً} يعني الزّنا {أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ} يعني بارتكاب ذنب أعظم من الزّنا ونبش القبور وأخذ الأكفان {ذَكَرُواْ اللهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ}. يقول: خافوا الله فعجّلوا التّوبة {وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللهُ} يقول عزَّ وجلّ: أتاك عبدي يا محمّد تائباً فطردته، فأين يذهب، وإلى من يقصد، ومن يسأل أن يغفر له ذنباً غيري؟ ثم قال عزَّ وجلَّ: {وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}، يقول: لم يقيموا على الزّنا ونبش القبور وأخذ الأكفان {أُوْلَـئِكَ جَزَآؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ}.

فلمَّا نزلت هذه الآية على رسول الله (صلى الله عليه وآله)، خرج وهو يتلوها ويتبسم، فقال لأصحابه: من يدلّني على ذلك الشابّ التّائب؟ فقال معاذ: يا رسول الله، بلغنا أنّه في موضع كذا وكذا: فمضى رسول الله (صلى الله عليه وآله) بأصحابه حتى انتهوا إلى ذلك الجبل، فصعدوا إليه يطلبون الشابّ، فإذا هم بالشابّ قائم بين صخرتين، مغلولة يداه إلى عنقه، وقد اسودّ وجهه، وتساقطت أشفار عينيه من البكاء وهو يقول: سيّدي، قد أحسنت خلقي، وأحسنت صورتي، فليت شعري ماذا تريد بي، أفي النّار تحرقني؟ أو في جوارك تسكنني؟ اللّهمّ إنك قد أكثرت الإحسان إليّ، وأنعمت عليّ، فليت شعري ماذا يكون آخر أمري، إلى الجنّة تزفني، أم إلى النّار تسوقني؟ اللّهمّ إن خطيئتي أعظم من السماوات والأرض، ومن كرسيّك الواسع وعرشك العظيم، فليت شعري تغفر لي خطيئتي، أم تفضحني بها يوم القيامة؟ فلم يزل يقول نحو هذا وهو يبكي ويحثو التراب على رأسه، وقد أحاطت به السباع، وصفت فوقه الطّير، وهم يبكون لبكائه، فدنا رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فأطلق يديه من عنقه، ونفض التراب عن رأسه، وقال: يا بهلول، أبشر، فإنك عتيق الله من النار. ثم قال (صلى الله عليه وآله) لأصحابه: هكذا تداركوا الذّنوب كما تداركها بهلول، ثم تلا عليه ما أنزل الله عزّ وجلّ فيه وبشّره بالجنّة (انظر: أمالي الصدوق، ص 97 - 100).

دروس الآية ومعطياتها

في هذه الآية المباركة جملة من الدّروس يمكننا إجمالها فيما يلي:

أوّلاً: قبول التّوبة

إنَّ من رحمة الله تعالى بنا أنّه يمهل الإنسان ولا يؤاخذه بذنوبه، قال تعالى:{وَلَوْ يُؤَاخِذُ الله النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ الله كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرً}[ فاطر: 45]، بل فتح لهم أبواب التَّوبة والاستغفار على مصراعيه، ودعاهم إلى نفسه، وحثَّهم بكلّ لطف ومحبّة على أن يعودوا إليه متى شاؤوا وأحبوا، قال تعالى:{قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ الله إِنَّ الله يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}، وأخذ على نفسه أن يغفر لهم {وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا الله}، مهما كانت ذنوبهم عظيمة وكبيرة، فالله تعالى لا يتعاظمه غفران الذّنب العظيم، والمهمّ أن يعود العبد إلى الله تعالى ويطلب منه التوبة. وباب التوبة مفتوح إلى آخر العمر، بشرط واحد، وهو أن لا تبلغ الرّوح الحلقوم، قال تعالى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى الله لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ الله عَلَيْهِمْ وَكَانَ الله عَلِيمًا حَكِيمًا وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآَنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمً}[النّساء: 17- 18]. وحضور الموت هو أن يعاين أمر الآخرة كما ورد في الحديث. [من لا يحضره الفقيه، ج 1، ص 133].

وأمّا إذا تبنا ولو قبل ساعة من الموت، فالله يقبل توبتنا. في الحديث عن رسول الله (ص): "من تاب قبل موته بسنة تاب الله عليه. ثم قال: إنّ سنة لكثير، من تاب قبل موته بشهر تاب الله عليه. ثم قال: وإنّ شهراً لكثير، من تاب قبل موته بيوم تاب الله عليه. ثم قال: وإنّ يوماً لكثير، من تاب قبل موته بساعة تاب الله عليه. ثم قال: وإنّ ساعة لكثير، من تاب وقد بلغت نفسه هاهنا، وأشار بيده إلى حلقه، تاب الله عليه". [وسائل الشيعة، ج 16، ص 88].

ثانياً: شروط قبول التّوبة

والتَّوبة أو الاستغفار ليسا مجرّد ألفاظ يلهج بها لسان المرء، وإنما التّوبة ندم صادق على ما صدر عنه، وعزم على عدم العود إلى الذّنب، وقد حدثنا القرآن عن بعض شروط التوبة:

عدم الإصرار

الشّرط الأول: وهو ما أشارت إليه الآية المذكورة، { وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُو}، فالإصرار على فعل الذّنب هو مؤشّر جليّ على عدم تحقق التّوبة أو عدم قبولها، وفي الخبر عن أبي جعفر (عليه السلام) في قول الله عزَّ وجلَّ: {وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}، قال: "الإصرار هو أن يذنب الذّنب، فلا يستغفر الله، ولا يحدّث نفسه بتوبة، فذلك الإصرار". [الكافي، ج 2، ص 288].

2- العمل الصّالح

والشّرط الثّاني: الإصلاح، وذلك بأن يصلح ما أفسده، فالسّارق لا بدّ لقبول توبته من أن يعيد المال إلى أصحابه، قال تعالى: {فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ}[المائدة: 39]، وقال عزّ وجلّ: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى}[طه: 82 ]، وقد تكرّرت عبارة "تابوا وأصلحوا" في القرآن الكريم مرات عديدة. [اُنظر: آل عمران 89، والنساء 146، النحل 119، النّور 5...]، ومن أضلّ الناس أو أغواهم، فمن شرط توبته أن يبذل الجهد في أن يبيِّن لهم طريق الهدى، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَـئِكَ يَلعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ * إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَبَيَّنُواْ فَأُوْلَـئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}[البقرة: 159- 160]. قال الطبرسي: "وبيّنوا ما قد بينه الله في كتابهم، أو بيّنوا للناس ما أحدثوه من توبتهم، ليعرفوا بضدّ ما عرفوا به ويقتدي غيرهم بهم".[جوامع الجامع، ج 1 ص 169].

* من سلسلة محاضرات رمضانيّة ألقاها سماحته في مسجد بئر العبد في شهر رمضان من العام 1436 هـ، ومنشورة على موقعه، بتاريخ 13-7-2015.

قال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا الله فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا الله وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ}[آل عمران: 135].

قصّة النزول

حدثنا محمد بن إبراهيم بن إسحاق (رحمه الله)، قال: حدثنا أحمد بن محمد الهمداني، قال: أخبرنا أحمد بن صالح بن سعد التميمي، قال: حدثنا موسى بن داود، قال:حدثنا الوليد بن هشام، قال: حدثنا هشام بن حسان، عن الحسن بن أبي الحسن البصري، عن عبد الرّحمن بن غنم الدوسي، قال: دخل معاذ بن جبل على رسول الله (صلى الله عليه وآله) باكياً، فسلّم فردّ عليه السّلام، ثم قال: ما يبكيك يا معاذ؟ فقال: يا رسول الله، إنّ بالباب شابّاً طريّ الجسد، نقيّ اللّون، حسن الصّورة، يبكي على شبابه بكاء الثّكلى على ولدها يريد الدّخول عليك: فقال النبي (صلى الله عليه وآله): أدخل علي الشاب يا معاذ، فأدخله عليه، فسلّم فردّ عليه السلام، ثم قال: ما يبكيك يا شابّ؟ قال: كيف لا أبكي وقد ركبت ذنوباً إن أخذني الله عزّ وجلّ ببعضها أدخلني نار جهنّم، ولا أراني إلا سيأخذني بها، ولا يغفر لي أبداً. فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): هل أشركت بالله شيئا؟ قال: أعوذ بالله أن أشرك بربي شيئاً. قال: أقتلت النفس التي حرّم الله؟ قال: لا، فقال النبيّ (صلى الله عليه وآله): يغفر الله لك ذنوبك وإن كانت مثل الجبال الرواسي، قال الشابّ: فإنها أعظم من الجبال الرواسي، فقال النبيّ (صلى الله عليه وآله): يغفر الله لك ذنوبك وإن كانت مثل الأرضين السبع وبحارها ورمالها وأشجارها وما فيها من الخلق. قال: فإنها أعظم من الأرضين السّبع وبحارها ورمالها وأشجارها وما فيها من الخلق. فقال النبي (صلّى الله عليه وآله): يغفر الله لك ذنوبك وإن كانت مثل السّماوات السبع ونجومها ومثل العرش والكرسي. قال: فإنها أعظم من ذلك. قال: فنظر النبي (صلى الله عليه وآله) إليه كهيئة الغضبان، ثم قال: ويحك يا شابّ، ذنوبك أعظم أم ربّك؟ فخرّ الشابّ لوجهه وهو يقول: سبحان ربي! ما شيء أعظم من ربي، ربي أعظم يا نبيّ الله من كلّ عظيم. فقال النبي (صلى الله عليه وآله): فهل يغفر الذّنب العظيم إلا الرّبّ العظيم؟! قال الشابّ: لا والله يا رسول الله.

ثم سكت الشابّ، فقال له النبيّ (صلى الله عليه وآله): ويحك يا شابّ، ألا تخبرني بذنب واحد من ذنوبك؟ قال: بلى، أخبرك أني كنت أنبش القبور سبع سنين، أخرج الأموات وأنزع الأكفان، فماتت جارية من بعض بنات الأنصار، فلمّا حملت إلى قبرها ودفنت وانصرف عنها أهلها وجنّ عليها اللّيل، أتيت قبرها فنبشتها، ثم استخرجتها ونزعت ما كان عليها من أكفانها، وتركتها متجرّدة على شفير قبرها، ومضيت منصرفاً، فأتاني الشيطان، فأقبل يزيّنها لي ويقول: أما ترى بطنها وبياضها؟ أما ترى وركيها؟ فلم يزل يقول لي هذا حتى رجعت إليها، ولم أملك نفسي حتى جامعتها وتركتها مكانها، فإذا أنا بصوت من ورائي يقول: يا شابّ، ويل لك من ديّان يوم الدّين، يوم يقفني وإيّاك كما تركتني عريانة في عساكر الموتى، ونزعتني من حفرتي، وسلبتني أكفاني، وتركتني أقوم جنبة إلى حسابي، فويل لشبابك من النار، فما أظنّ أني أشمّ ريح الجنّة أبداً، فما ترى لي يا رسول الله؟

فقال النبيّ (صلى الله عليه وآله): تنحّ عني يا فاسق، إني أخاف أن أحترق بنارك، فما أقربك من النّار، فما أقربك من النّار! ثم لم يزل (صلى الله عليه وآله) يقول ويشير إليه، حتى أمعن من بين يديه، فذهب فأتى المدينة، فتزوَّد منها، ثم أتى بعض جبالها، فتعبّد فيها، ولبس مسحاً، وغلّ يديه جميعاً إلى عنقه، ونادى: يا ربّ، هذا عبدك بهلول، بين يديك مغلول، يا ربّ أنت الذي تعرفني، وزلّ مني ما تعلم. يا سيدي يا ربّ، إني أصبحت من النّادمين، وأتيت نبيّك تائباً، فطردني وزادني خوفاً، فأسألك باسمك وجلالك وعظمة سلطانك أن لا تخيب رجائي، سيّدي ولا تبطل دعائي، ولا تقنطني من رحمتك. فلم يزل يقول ذلك أربعين يوماً وليلة، تبكي له السباع والوحوش، فلما تمت له أربعون يوماً وليلة، رفع يديه إلى السماء، وقال: اللّهمّ ما فعلت في حاجتي؟ إن كنت استجبت دعائي وغفرت خطيئتي، فأوح إلى نبيِّك، وإن لم تستجب لي دعائي ولم تغفر لي خطيئتي وأردت عقوبتي، فعجّل بنارٍ تحرقني أو عقوبة في الدّنيا تهلكني، وخلّصني من فضيحة يوم القيامة، فأنزل الله تبارك وتعالى على نبيّه (صلى الله عليه وآله): {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً} يعني الزّنا {أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ} يعني بارتكاب ذنب أعظم من الزّنا ونبش القبور وأخذ الأكفان {ذَكَرُواْ اللهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ}. يقول: خافوا الله فعجّلوا التّوبة {وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللهُ} يقول عزَّ وجلّ: أتاك عبدي يا محمّد تائباً فطردته، فأين يذهب، وإلى من يقصد، ومن يسأل أن يغفر له ذنباً غيري؟ ثم قال عزَّ وجلَّ: {وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}، يقول: لم يقيموا على الزّنا ونبش القبور وأخذ الأكفان {أُوْلَـئِكَ جَزَآؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ}.

فلمَّا نزلت هذه الآية على رسول الله (صلى الله عليه وآله)، خرج وهو يتلوها ويتبسم، فقال لأصحابه: من يدلّني على ذلك الشابّ التّائب؟ فقال معاذ: يا رسول الله، بلغنا أنّه في موضع كذا وكذا: فمضى رسول الله (صلى الله عليه وآله) بأصحابه حتى انتهوا إلى ذلك الجبل، فصعدوا إليه يطلبون الشابّ، فإذا هم بالشابّ قائم بين صخرتين، مغلولة يداه إلى عنقه، وقد اسودّ وجهه، وتساقطت أشفار عينيه من البكاء وهو يقول: سيّدي، قد أحسنت خلقي، وأحسنت صورتي، فليت شعري ماذا تريد بي، أفي النّار تحرقني؟ أو في جوارك تسكنني؟ اللّهمّ إنك قد أكثرت الإحسان إليّ، وأنعمت عليّ، فليت شعري ماذا يكون آخر أمري، إلى الجنّة تزفني، أم إلى النّار تسوقني؟ اللّهمّ إن خطيئتي أعظم من السماوات والأرض، ومن كرسيّك الواسع وعرشك العظيم، فليت شعري تغفر لي خطيئتي، أم تفضحني بها يوم القيامة؟ فلم يزل يقول نحو هذا وهو يبكي ويحثو التراب على رأسه، وقد أحاطت به السباع، وصفت فوقه الطّير، وهم يبكون لبكائه، فدنا رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فأطلق يديه من عنقه، ونفض التراب عن رأسه، وقال: يا بهلول، أبشر، فإنك عتيق الله من النار. ثم قال (صلى الله عليه وآله) لأصحابه: هكذا تداركوا الذّنوب كما تداركها بهلول، ثم تلا عليه ما أنزل الله عزّ وجلّ فيه وبشّره بالجنّة (انظر: أمالي الصدوق، ص 97 - 100).

دروس الآية ومعطياتها

في هذه الآية المباركة جملة من الدّروس يمكننا إجمالها فيما يلي:

أوّلاً: قبول التّوبة

إنَّ من رحمة الله تعالى بنا أنّه يمهل الإنسان ولا يؤاخذه بذنوبه، قال تعالى:{وَلَوْ يُؤَاخِذُ الله النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ الله كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرً}[ فاطر: 45]، بل فتح لهم أبواب التَّوبة والاستغفار على مصراعيه، ودعاهم إلى نفسه، وحثَّهم بكلّ لطف ومحبّة على أن يعودوا إليه متى شاؤوا وأحبوا، قال تعالى:{قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ الله إِنَّ الله يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}، وأخذ على نفسه أن يغفر لهم {وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا الله}، مهما كانت ذنوبهم عظيمة وكبيرة، فالله تعالى لا يتعاظمه غفران الذّنب العظيم، والمهمّ أن يعود العبد إلى الله تعالى ويطلب منه التوبة. وباب التوبة مفتوح إلى آخر العمر، بشرط واحد، وهو أن لا تبلغ الرّوح الحلقوم، قال تعالى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى الله لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ الله عَلَيْهِمْ وَكَانَ الله عَلِيمًا حَكِيمًا وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآَنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمً}[النّساء: 17- 18]. وحضور الموت هو أن يعاين أمر الآخرة كما ورد في الحديث. [من لا يحضره الفقيه، ج 1، ص 133].

وأمّا إذا تبنا ولو قبل ساعة من الموت، فالله يقبل توبتنا. في الحديث عن رسول الله (ص): "من تاب قبل موته بسنة تاب الله عليه. ثم قال: إنّ سنة لكثير، من تاب قبل موته بشهر تاب الله عليه. ثم قال: وإنّ شهراً لكثير، من تاب قبل موته بيوم تاب الله عليه. ثم قال: وإنّ يوماً لكثير، من تاب قبل موته بساعة تاب الله عليه. ثم قال: وإنّ ساعة لكثير، من تاب وقد بلغت نفسه هاهنا، وأشار بيده إلى حلقه، تاب الله عليه". [وسائل الشيعة، ج 16، ص 88].

ثانياً: شروط قبول التّوبة

والتَّوبة أو الاستغفار ليسا مجرّد ألفاظ يلهج بها لسان المرء، وإنما التّوبة ندم صادق على ما صدر عنه، وعزم على عدم العود إلى الذّنب، وقد حدثنا القرآن عن بعض شروط التوبة:

عدم الإصرار

الشّرط الأول: وهو ما أشارت إليه الآية المذكورة، { وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُو}، فالإصرار على فعل الذّنب هو مؤشّر جليّ على عدم تحقق التّوبة أو عدم قبولها، وفي الخبر عن أبي جعفر (عليه السلام) في قول الله عزَّ وجلَّ: {وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}، قال: "الإصرار هو أن يذنب الذّنب، فلا يستغفر الله، ولا يحدّث نفسه بتوبة، فذلك الإصرار". [الكافي، ج 2، ص 288].

2- العمل الصّالح

والشّرط الثّاني: الإصلاح، وذلك بأن يصلح ما أفسده، فالسّارق لا بدّ لقبول توبته من أن يعيد المال إلى أصحابه، قال تعالى: {فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ}[المائدة: 39]، وقال عزّ وجلّ: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى}[طه: 82 ]، وقد تكرّرت عبارة "تابوا وأصلحوا" في القرآن الكريم مرات عديدة. [اُنظر: آل عمران 89، والنساء 146، النحل 119، النّور 5...]، ومن أضلّ الناس أو أغواهم، فمن شرط توبته أن يبذل الجهد في أن يبيِّن لهم طريق الهدى، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَـئِكَ يَلعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ * إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَبَيَّنُواْ فَأُوْلَـئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}[البقرة: 159- 160]. قال الطبرسي: "وبيّنوا ما قد بينه الله في كتابهم، أو بيّنوا للناس ما أحدثوه من توبتهم، ليعرفوا بضدّ ما عرفوا به ويقتدي غيرهم بهم".[جوامع الجامع، ج 1 ص 169].

* من سلسلة محاضرات رمضانيّة ألقاها سماحته في مسجد بئر العبد في شهر رمضان من العام 1436 هـ، ومنشورة على موقعه، بتاريخ 13-7-2015.

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية