[بعد الحديث عن الدرس الأوَّل للصَّوم، وهو التمرُّد على العادات، والدَّرس
الثَّاني وهو الصَّبر]، الدّرس الثالث الذي نتعلَّمه من الصّوم، هو درس الحالة
الروحيّة التي تجعل الإنسان يعيش الضّمير الشّرعيّ، الوازع الدّينيّ، أن يكون لك
ضمير شرعيّ يحاسبك، بعض النّاس يتحدّثون عن الضّمير بعيداً من الخطوط التي يتحرّك
فيها الضّمير. والله يريد منك أن يكون لك ضمير دينيّ، أن يكون لك ضمير شرعيّ، بحيث
إنّك إذا أقبلت على ما حرَّم الله، فإنَّ ضميرك الشرعيَّ يؤنّبك ويحاسبك، ليقول لك
يا عبد الله إنَّك أسأْتَ إلى الله في ذلك، وإذا أردت أن تترك واجباً شرعياً، فإنَّ
ضميرك يحاسبك ويؤنّبك.
أن يكون عندك ضمير شرعيّ، بمعنى أن تكون لك ذهنيّة شرعيّة تقيّة منفتحة على الله
سبحانه وتعالى، لتمنعْك ولتحاسبك ولتهمس إليك في كلّ مشاعرك: يا عبد الله اتّقِ
الله، يا عبد الله أطع الله، يا عبد الله لا تعصِ الله، الذهنيّة الشرعيّة تقول لك
ذلك في كلّ موقع من مواقع حياتك، لأنّك في الصّوم تعيش هذا الجوّ، تشعر بأنّك وحدك،
لا يراك أهلك ولا يراك النّاس من حولك، وتجوع، وقد تقول لك نفسك: إنَّ لك أن تأكل
وليس هناك من أحد، ولكنَّك لا تأكل، وليس هناك أحد تخافه، لماذا؟ لأنّك تقول لنفسك
عندما تدعوك إلى الأكل ولا أحد هناك، وعندما تدعوك إلى الشّرب ولا أحد هناك، وعندما
تدعوك إلى الأخذ باللّذَّات ولا أحد هناك، تقول لنفسك صحيح لا أحد هناك، ولكنَّ
الله هو الذي يملك السموات والأرض وما بينهما وما فوقهما وما تحتهما، يعلم خائنة
الأعين وما تخفي الصّدور، إذا كان الله يعلم ما قد لا أعلمه من نفسي، فكيف
أتَسَتَّر مِنَ الله؟ وهل يمكن أن أتَسَتَّر مِنَ الله الّذي لا ساتر يحجبه عن خلقه
أو يحجب خلقه عنه، يبصر من فوق عرشه ما تحت سبع أرضين، لا تغشى بصره الظّلمة؟ أَلاَ
تدعون ذلك في أدعية النّهار في شهر رمضان؟ "لا تغشى بصره الظّلمة، ولا يستتر منه
بستر، ولا يواري منه جدار، ولا يغيب منه بحرٌ ما في قعره..."، لأنَّ عينه النافذة
تنفذ إلى كلّ شيء...
حاوِلْ أن تستفيد من ذلك إذا جاءك الشَّيطان وطلب منك أن تكون جاسوساً للظالمين،
وقالَ لك: لا أحد يسمعك، لا أحد يعرفك، لا أحد ينظر، اتّفاقنا بيننا وبينك سرّيّ،
قل: هل تضمن لي أن يكون الاتّفاق سريّاً عن الله؟ إذا دعاكَ النّاس من حولك إلى أن
ترتكب أيّ محرَّم لأيّ حساب، وقالوا لك: إذا كنتَ تخاف النّاس فليس هناك مَن يبصرك،
سنذهب إلى مكانٍ لا يرانا فيه أحد، قل لهم: إذا كنتم تضمنون لي أن لا يبصرني الله
فأنا معكم. كما قالت تلك المرأة العفيفة لشخصٍ أراد أن يعتدي عليها بالحرام ولم يكن
هناك أحد، وكانت الجزيرة خاليةً من كلّ أحد، وارتعبت المرأة، فقال لها: لماذا
ترتعبين وتخافين وليس هناك إلّا الكواكب، قالت صحيح، ولكن أين مكوكبها، أين الذي
خلقها وكوكبها؟ إنَّ الله يرانا برغم عدم وجود أحد.
لنحاول جميعاً أن نزرع في أنفسنا هذا الوازع الدّينيّ، وهذا الضّمير الشرعيّ الذي
يجعلنا نشعر برقابة الله علينا وبحضور الله في حياتنا {مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى
ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا
أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا...} [المجادلة:
7].
هكذا نستفيد من الصّوم؛ تربية الضّمير الديني، الضّمير الشّرعي، الوازع الدّيني
الذي يحمينا من شهواتنا ويحمي النّاس منّا في ما نريد أن نسيء به إلى النّاس.
*من كتاب "الجمعة منبر ومحراب".