حديث القرآن عن طلب رؤية موسى لربِّه

حديث القرآن عن طلب رؤية موسى لربِّه

حدَّد الله للنّبيّ موسى(ع) ميقاتاً لحضوره بين يديه، تكريماً له، ولإنزال التَّوراة عليه وتكليمه بشكلٍ مباشرٍ فيما يريد أن يوحي به إليه، واندمج موسى في هذا الجوِّ الإلهيّ، وشعر بالسَّعادة تغمر قلبه، ففاضت روحه بالأشواق الإلهيَّة الرّوحيَّة، من خلال ما توحيه كلمات الله إليه، وما يتمثَّل فيها من معاني القرب منه، والوصول إلى الدَّرجة العليا من رضوانه، مما لم يسبق لنبيٍّ قبله، وهذا ما جعله ينفتح على إشراق النّور الإلهيّ في لحظة روحيّة رائعة، فطلب من الله أن ينظر إليه، فقال: {رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ}[1]، فقد خيِّل إليه أنّ من يسمع كلام الله يستطيع أن يراه، أو يمكن له أن يطلب منه أن يحقِّق له هذه الأمنية الَّتي تهزّ كيانه بالسّعادة.

هذا هو الظّاهر من الآية، ولكنَّ أكثر العلماء والمفسِّرين وقفوا من ذلك وقفة حيرة فلسفيَّة تستبعد الأمر، بل تضع المسألة في نطاق الاستحالة، من خلال التّركيز على شخصيَّة هذا النّبيّ العظيم الّذي هو من أنبياء أولي العزم، وهو يعلم أنَّ الله ليس بجسم، ولا يحويه مكان ولا زمان، وليس كمثله شيء، والحال أنَّ مثل هذا الطَّلب لا يليق حتى بالأفراد العاديّين من النّاس، فكيف نفسِّر ذلك؟

تفسير الطّوسي للرّؤية

وقد اختلفت أجوبة المفسّرين، فأجاب الشَّيخ الطّوسي في "تفسير التبيان"، بأنّ هناك ثلاثة أقوال: "أحدها، أنّه سأل الرؤية لقومه حين قالوا له: {لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً}[2]، بدلالة قوله تعالى: {أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاء مِنَّ}[3]. فإن قيل: على هذا ينبغي أن يجوِّزوا أن يُسأل الله تعالى: هل هو جسم أم لا؟ أو يسأله الصّعود والنّزول، وغير ذلك مما لا يجوز عليه؟ قلنا عنه جوابان: أحدهما أنّه يجوز ذلك، إذا علم أنَّ في ورود الجواب من جهة الله مصلحةً، وأنّه أقرب إلى زوال الشّبهة عن القوم، بأنَّ ذلك لا يجوز عليه تعالى كما جاز ذلك في مسألة الرؤية. وقال الجبائي: إنهم سألوا الله تعالى قبل ذلك: هل يجوز عليه تعالى النّوم أم لا؟ وقالوا له: سل الله أن يبيّن لنا ذلك. فسأل الله تعالى ذلك، فأمره بأن يأخذ قدحين يملأ أحدهما ماءً والآخر دهناً، ففعل، وألقى عليه النّعاس، فضرب أحدهما على الآخر فانكسرا، فأوحى الله تعالى إليه أن لو جاز عليه تعالى النّوم، لاضطرب أمر العالم كما اضطرب القدحان في مدّة حتى تكسّرا.

والجواب الثّاني: هو أنّه إنما يجوز أن يسأل الله ما يمكن أن يعلم صحّته بالسَّمع، وما يكون الشّكّ فيه لا يمنع من العلم بصحّة السّمع، وإنما يمنع من ذلك سؤال الرّؤية التي تقتضي الجسميّة والتّشبيه، لأنَّ الشّكَّ في الرؤية الّتي لا تقتضي التَّشبيه، مثل الشكّ في رؤية الضّمائر والاعتقادات، وما لا يجوز عليه الرؤية، وليس كذلك الشّكّ في كونه جسماً أو ما يتبع كونه جسماً من الصّعود والنّزول، لأنّ مع الشّكّ في كونه جسماً، لا يصحّ العلم بصحّة السّمع، من حيث إنّ الجسم لا يجوز أن يكون غنيّاً ولا عالماً بجميع المعلومات، وكلاهما لا بدَّ فيه من العلم بصحّة السّمع، فلذلك جاز أن يسأل الرّؤية الّتي لا توجب التّشبيه، ولم يجز أن يسأل كونه جسماً وما أشبهه.

والجواب الثاني ـ في أصل المسألة ـ أنّه سأل العلم الضّروريّ الذي يحصل في الآخرة، ولا يكون في الدنيا ليزول عنه الخواطر والشّبهات، والرؤية تكون بمعنى العلم، كما يكون الإدراك بالبصر، كما قال: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ}[4] وأمثاله. وللأنبياء أن يسألوا ما يزول عنهم الوساوس والخواطر، كما سأل إبراهيم(ع) ربّه: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِـي الْمَوْتَى}[5]، غير أنّه سأل ما يطمئنّ قلبه إلى ذلك، وتزول عنه الخواطر والوساوس، فبيّن الله تعالى له أن ذلك لا يكون في الدّنيا.

الثالث: أنه سأل آيةً من آيات السّاعة الّتي يعلم معها العلم الّذي لا يختلج فيه الشّكّ، كما يعلم في الآخرة، وهذا قريب من الثّاني. وقال الحسن والرّبيع والسدّي: إنّه سأل الرّؤية بالبصر على غير وجه التّشبيه. وقوله: {لَن تَرَانِي}[6]، جواب من الله تعالى لموسى أنّه لا يراه على الوجه الّذي سأله، وذلك دليل على أنّه لا يُرى لا في الدّنيا ولا في الآخرة، لأنّ (لن) تنفي على وجه التّأبيد، كما قال: {وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَد}[7]، وهذا إنما يمكن أن يعتمده من قال بالجواب الأوّل، فأمّا من قال إنّه سأل العلم الضّروريّ أو علماً من أعلام السّاعة، لا يمكنه أن يعتمده، لأنّ ذلك يحصل في الآخرة، فيجري ذلك مجرى اختصاص الرؤية بالبصر على مذهب المخالف بحال الدّنيا"[8].

ونلاحظ على ذلك، أنَّ التّأويل بأنّه سأل الرؤية لقومه لا لنفسه باطل، لأنّ الآية التي جعلوها شاهداً على ذلك، وهي قوله تعالى: {لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً}[9]، لا تصلح لأن تكون قرينةً على ذلك؛ أوّلاً، لأنَّ مسؤوليّة موسى أن يبيّن لهم استحالة رؤية الله من كلِّ أحد، تماماً كما بيّن لهم استحالة أن يكون هناك آلهة غير الله لما طلبوا منه ذلك.

وثانياً: لأنَّ ما تدلّ عليه الآية في سياقها، هو أنهم لم يطلبوا الرّؤية لله جهاراً للمعرفة الّتي تؤدّي بهم إلى الإيمان، بل للتحدّي الذي يعبّر عن الرّفض، لأنَّ مسألة رؤية الله ـ حتى لو كانت ممكنة ـ لا تحصل لكلِّ من يطلبها من الناس، بحيث يظهر الله لخلقه بشكل الاستجابة لاقتراحاتهم.

وثالثاً: إنَّ الآية في قوله: {رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ}[10]، دالة على أنّه طلب الرّؤية لنفسه لا لقومه، ولو كان الأمر كذلك، لقال موسى: أرهم ينظروا إليك، ولقال الله تعالى: لن يروني. وأمّا ما يذكره البعض من أنه إذا رآه أخبرهم، فإنَّ الجواب أنهم علقوا إيمانهم على رؤيتهم المباشرة الخاصَّة، لا على رؤيته له. وإذا كان البعض يرتئي بأن السّبعين الذين اختارهم موسى للميقات كانوا معه في ميقاته الّذي أنزل الله عليه فيه التّوراة، فإذا استجاب الله له الرّؤية رأوه معه، فإنّه لا ظهور للآية في ذلك، بل الظّهور على خلافه، لأنَّ الحوار كان بين الله وموسى صاحب الطّلب.

وأمّا ما ذكره الشيخ الطّوسي في تفسيره من السؤال والجواب، فلا حاجة إليه في إبطال القول المذكور. أمّا الحديث عن سؤاله العلم الضَّروري، فإنَّ استعمال الرؤية لا يبرّر التَّعبير بها عنه، لأنَّ الآية لم تتحدَّث عن الرؤية، بل قال موسى: {رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ}، ما يدلّ على طلب النظر الحسّي، لا العلم البديهي الذي يمتنع في الدنيا ويمكن في الآخرة، كما احتمله صاحب تفسير الميزان. وأما السؤال عن آيةٍ من آيات الساعة التي يعلم معها العلم الذي لا يختلج فيه الشّكّ كما يعلم في الآخرة، فهو بعيد كلَّ البعد عن منطوق الآية.

وقد وردت في ذلك روايات متنوّعة لا نضمن وثاقتها وصحّتها، لغرابة مضمونها في تفاصيلها، ونحن نحاول البحث في ذلك حول طبيعة رؤية الله، وسؤال موسى(ع) الرؤية في إمكان ذلك من جانبه.

النّظر إلى الله

أمّا مسألة الرؤية لله، فيدلُّ الكتاب المجيد على نفيها عن الله، وذلك في قوله تعالى: {لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}[11]، والظاهر من الإدراك إذا قرن بالبصر، أنه يعني الرؤية بالعين.

وقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}[12]، وقوله تعالى: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْم}[13]. وقد جاء في الحديث عن الإمام علي أمير المؤمنين(ع)، وقد سأله ذعلب اليماني، فقال: هل رأيت ربّك يا أمير المؤمنين؟ فقال(ع): "أفأعبد ما لا أرى؟" فقال: وكيف تراه؟ فقال: "لا تراه العيون بمشاهدة العيان، ولكن تدركه القلوب بحقائق الإيمان"[14].

وجاء عن الإمام عليّ بن محمد الهادي(ع)، مما رواه أحمد بن إسحاق، قال: "كتبت إلى أبي الحسن الثّالث أسأله عن الرّؤية وما اختلف فيه النّاس، فقال: "لا تجوز الرّؤية ـ عقلاً ـ ما لم يكن بين الرائي والمرئي هواء لم ينفذه البصر، فإذا انقطع الهواء أو عُدم الضّياء بين الرائي والمرئيّ، لم تصحّ الرؤية، وكان في ذلك الاشتباه، لأنَّ الرّائي متى ساوى المرئي في السَّبب الموجب بينهما في الرّؤية، وجب الاشتباه، وكان ذلك التّشبيه، لأنَّ الأسباب لا بدَّ من اتّصالها بالمسبّبات"[15].

أمّا ما استدلّ من العقل، فإنَّ الرّؤية إمّا أن تقع على الله كلّه، فيكون مركّباً محدوداً متناهياً محصوراً يشغل فراغ النّاحية المرئي فيها، فتخلو منه بقيّة النواحي، وإمّا أن تقع على بعضه، فيكون مبعّضاً مركّباً متحيّزاً، وكلّ ذلك ممّا يمنعه أهل التنـزيه. ولعل من الطبيعي أن لا يكون الله بحاجة إلى الزمان والمكان، وهو الغني عن كلّ شيء، لأنّ ذلك خلقه، فلا معنى لحاجته إلى خلقه.

وقد استدلّ القائلون بالرؤية بقوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}[16]. قالوا إنها ظاهرة في أنّ أصحاب تلك الوجوه الناضرة يوم القيامة ينظرون إلى ربهم، فيرونه عياناً بأبصارهم.

والظاهر أنَّ المراد بنظرها إلى الله، أنها تتطلَّع إليه من موقعها على أساس الإيمان بعظمته ونعمته، لتحصل على لطفه ورضوانه وكرامته، كما يقال: إننا ننظر إلى الله ثم إليك، في انتظار الفضل منه أوّلاً، وليس المراد هو التحديق بوجهه بعيونهم، لأنَّ الله إذا كان ممن يظهر بنفسه يوم القيامة، لرآه كلّ الناس، كما قد يستوحيه البعض في قوله تعالى: {وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّ}[17]، فإنَّ المقصود من مجيء الله هو حضوره، بحيث يشعر الناس بوجوده كما لو كان أمامهم عياناً، لأنّه لا معنى لمجيئه بمعنى حركته بطريقة استعراضية.

واستدلّوا بقوله تعالى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ}[18]، فقد قالوا إنَّ المستفاد منها، أنّ المؤمنين يرونه سبحانه وتعالى، بينما يُحجب الكافرون عن رؤيته، ولولا ذلك، لم يكن للتشخيص فائدة. ولكنّ الظاهر أنَّ المقصود بالحجب هنا الحجب عن رحمته، وهذا خاصّ بهم دون المؤمنين، فإنَّ المؤمنين في سعة رحمة الله وبحبوحة جنّته مع {الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَـئِكَ رَفِيق}[19].

واستدلّوا بقوله تعالى: {وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ * الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ}[20]، قالوا: نصّت الآية على أنهم ملاقو ربهم، والملاقاة تستلزم الرؤية بحكم العقل. ولكنّ الظاهر أنَّ المقصود بملاقاة ربهم هنا كناية عن الموت، بدليل قولهم فيمن مات: لقي الله تعالى، ولا يعنون أنّه رأى الله، ولا يفهمون منه سوى موت من أخبروا عنه. وقد جاء في آيةٍ أخرى قوله تعالى عن المنافقين: {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ}[21]، فإنَّ المنافقين لا يرون ربهم، وإنما يلقون الموت، وما بعده من الحساب وألوان العذاب.

الصّفة الحركيّة للرّسالة

وهناك مسألة أخرى قد تتَّصل بالجانب الثّقافيّ في تفاصيل الرّسالة، وهي أنَّ الله يوحي إلى بعض الأنبياء بالرّسالة في قضاياها وتشريعاتها ومفاهيمها بطريقة تدريجيّة، لأنَّ طبيعة المرحلة الّتي تتحرّك بها النبوّة، في التّحدّيات التي تواجهها، والأوضاع الصَّعبة الّتي تحيط بها، والحاجات الّتي تمثّل الأمور المرتبطة بجماهيرها، قد تفرض ذلك، من أجل تقوية الموقع النبوي، وتثبيت شخصيّته، وتنظيم حركته، ومتابعة علاقاته بالناس من المؤمنين والكافرين والمنافقين، فيما يثيرونه من الإيجابيّات أو السلبيّات، وهذا ما توحي به الآية الكريمة التي جاءت ردّاً على الكافرين الّذين أنكروا على الرّسول تدريجيّة الوحي النازل عليه بحسب حاجات الزمان والمكان، والمناسبات المرتبطة بالحرب والسّلم وحركة الصّراع المنفتحة على أكثر من قضيّة، وهو ما جاء في قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيل}[22].

فقد كان المشركون يثيرون الشبهات حول القرآن، ليشكّكوا في نزوله من عند الله، وليبطلوا مفعول تأثيره في النفوس، من خلال الإيحاء الداخلي بعدم قداسته، وليحاولوا إبطال الإيمان برسالة الرسول، ليتحوَّل في نظر الناس إلى رجل عادي يختلق الكلام كلَّما عرضت له حاجة، على أساس المناسبات الطّارئة، ثم ينسبه إلى الله.

وقد كان من بين هذه الشّبهات، الحديث عن نزول القرآن عليه على دفعات، في الوقت الّذي كانوا يسمعون عن التّوراة والإنجيل بأنهما قد نزلا على موسى وعيسى(عليهما السلام) دفعةً واحدةً، وكما يوحي به لفظ الكتاب الّذي يدلّ على مجموعة من الفصول المترابطة بعضها ببعض، بحيث تمثّل وحدة الفكر العامّة الموزّعة على مواقع متعدّدة، كما هو الدّين في معناه الشّامل الّذي يتضمَّن العقيدة والشّريعة معاً.

وفي ضوء ذلك، فقد كانوا يثيرون الشّبهة على أساس أنَّ هذا النـزول التدريجي الذي لا ترتبط فيه الآيات بعضها ببعض، باعتبار أنه موزّع على الحوادث والقضايا التي يعيشها الرسول مع الناس، وعلى المشاكل التي يثيرونها حوله، قد يدلّ على أنّ المسألة تعبّر عن معاناة شخصيّة تتأثّر بالأحداث.

ولكنَّ الله يثير أمامهم المسألة من موقع الصّفة الحركيّة للرسالة، والخطّ التربويّ للمسيرة الإنسانيّة في حركة الإسلام في تنمية الفكر والروح، ومراقبة الحركة في الوسيلة والهدف ومواجهة التّحدّيات، فلم يكن الإسلام مجرد فكرٍ يُراد للناس أن يختزنوه في وعيهم في مواقع نظرية للمعرفة المجردة، بل كان فكراً يُراد له أن يتجذّر في النفس والواقع والحياة، لأنَّ المقصود هو تنمية الروح الإسلاميَّة في الإنسان، في عمليَّة صنع الأمّة على هدى الإسلام وتعاليمه، ولهذا كانت الخطَّة أن تطرح الفكرة في ساحة التَّطبيق، ليعيش المسلمون المشكلة، فتتفاعل في عقولهم ومشاعرهم، وتحتوي أوضاعهم وعلاقاتهم ومواقعهم، لتأتي الآية بالحلِّ المناسب الذي يستوعب الحالة كلّها، فيرى الناس الحلّ في حجم المشكلة وفي صعيدها، بحيث ينظرون إلى الفكرة وهي تتحرَّك على الأرض متجسّدةً بطريقة واقعيّة، فيعيشون واقعيّتها، وتثبت في شخصيَّتهم، وبذلك تمنحهم المعرفة والتّطبيق والثبات الفكريّ والروحيّ والعمليّ على الخطّ المستقيم، فهناك فرق بين أن يأخذ الإنسان الفكرة من موقع التجريد، وأن يأخذها من موقع الواقع، إذ إنَّ الانطلاق من الواقع يجعل الفكرة أكثر تجذّراً في الشّخصيّة.

سبب تنزّل القرآن على دفعات

أمّا الأساس في تنـزّل القرآن على دفعات، فمن أجل أن يواكب المسيرة كلّها، ليرعاها ويشرف عليها ويؤصّلها ويجنّبها المشاكل الصَّعبة، وينظّم لها خطوطها التفصيليّة على مستوى القيادة والقاعدة، ولا سيَّما عندما تتَّصل القضيّة بالنّبيّ في القضايا الشّائكة التي تواجهه، والمشاكل الواسعة الّتي تتحرّك في واقع المسلمين، مما لم ينـزل عليه فيه وحي خاصّ للمعالجة، فيبقى منتظراً لأمر ربّه، فتنـزل الآية لتملأ عقله وحركته بالحلّ الملائم، وتثبّت موقعه في تجاوز المشكلة إلى الحلّ، وهذا ما جاء في قوله تعالى: {كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ}، والفؤاد ـ هنا ـ هو الشّخصيّة العقليّة والروحيّة الّتي تواجه المأزق أمام الحالات القلقة الطّارئة.

وإذا كان الله يتحدَّث عن تثبيت النبيّ في استقراره الداخليّ، فإنّه يتحدَّث عنه بصفته الرساليّة القياديّة، من موقع انفتاحه على الأمّة في قضاياها التي تتطلّب معرفة الحلول الطبيعيّة من خلال وحي الله، وليس في هذا التّثبيت منافاةً لعصمته، لأنَّ هناك فرقاً بين الخطأ في الممارسة الإنسانيّة، وما هو التّكامل الحركيّ في تحديد المراحل ومراعاة الظّروف من خلال التّخطيط في صناعة الشخصيّة، للارتفاع إلى مواقع السموّ والكمال.

ونقرأ في قوله تعالى، أنَّ الله كان يقصّ على رسوله أنباء الرّسل الّذين سبقوه: {وَكُـلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ}[23]. وقوله تعالى: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِل لَّهُمْ}[24]. وقوله تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ}[25]. ونقرأ قوله تعالى: {تِلْكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَـذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ}[26]. وقوله تعالى في قصَّة الكفالة لمريم: {ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ}[27]، وقوله تعالى في قصّة يوسف: {ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُواْ أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ}[28]، إلى غير ذلك من الآيات التي أراد الله أن يوجّه فيها رسوله من خلال الإشراف على تاريخ الرّسل من قبله، لينفتح على تجربتهم الرساليَّة، وليثبّت فؤاده بالكثير من حوادث التّاريخ، الأمر الَّذي قد يوحي إلينا بأنَّ الله كان يتابع إنزال الحقائق العقيديّة والشرعيّة والمفاهيم الحركيّة بشكل تدريجيّ يتناسب مع طبيعة المرحلة الّتي كان الإسلام يتحرّك فيها، مما لم يكن النّبيّ مطَّلعاً عليه قبل ذلك، ليستكمل له الدّين في حاجاته العامّة على مستوى حركة المراحل، ما قد يدلّ على أنَّ إغفال حقيقة في حالة، وبيانها في حالة أخرى في ثقافة النّبيّ، كان أمراً مألوفاً في وحي الرّسالات. والسؤال: كيف كان الأمر مع موسى في هذا الاتجاه؟

وللحديث بقيّة في الأسبوع القادم، إن شاء الله تعالى. والحمد لله ربِّ العالمين.

*ندوة الشام الأسبوعيّة، فكر وثقافة


[1]  [الأعراف: 143].

[2]  [البقرة: 55].

[3]  [الأعراف: 155].

[4]  [الفيل: 1].

[5]  [البقرة: 260].

[6]   [الأعراف: 143].

[7]  [البقرة: 95].

[8]  التبيان، الشيخ الطوسي، ج 4، ص 534 ـ 536.

[9]  [البقرة: 55].

[10]  [الأعراف: 143].

[11] [الأنعام: 103].

[12]  [الشورى: 11].

[13]  [طه: 110].

[14]  نهج البلاغة، خطب الإمام علي(ع)، ج 2، ص 100.

[15]  الكافي، الشيخ الكليني، ج 1، ص 97.

[16]  [القيامة: 22، 23].

[17]  [الفجر: 22].

[18]  [المطففين: 15].

[19]  [النساء: 69].

[20]  [البقرة: 45، 46].

[21]  [التوبة: 77].

[22]  [الفرقان: 32].

[23]  [هود: 120].

[24]  [الأحقاف: 35].

[25]  [الزمر: 65].

[26]  [هود: 49].

[27]  [آل عمران: 44].

[28]  [يوسف: 102].

حدَّد الله للنّبيّ موسى(ع) ميقاتاً لحضوره بين يديه، تكريماً له، ولإنزال التَّوراة عليه وتكليمه بشكلٍ مباشرٍ فيما يريد أن يوحي به إليه، واندمج موسى في هذا الجوِّ الإلهيّ، وشعر بالسَّعادة تغمر قلبه، ففاضت روحه بالأشواق الإلهيَّة الرّوحيَّة، من خلال ما توحيه كلمات الله إليه، وما يتمثَّل فيها من معاني القرب منه، والوصول إلى الدَّرجة العليا من رضوانه، مما لم يسبق لنبيٍّ قبله، وهذا ما جعله ينفتح على إشراق النّور الإلهيّ في لحظة روحيّة رائعة، فطلب من الله أن ينظر إليه، فقال: {رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ}[1]، فقد خيِّل إليه أنّ من يسمع كلام الله يستطيع أن يراه، أو يمكن له أن يطلب منه أن يحقِّق له هذه الأمنية الَّتي تهزّ كيانه بالسّعادة.

هذا هو الظّاهر من الآية، ولكنَّ أكثر العلماء والمفسِّرين وقفوا من ذلك وقفة حيرة فلسفيَّة تستبعد الأمر، بل تضع المسألة في نطاق الاستحالة، من خلال التّركيز على شخصيَّة هذا النّبيّ العظيم الّذي هو من أنبياء أولي العزم، وهو يعلم أنَّ الله ليس بجسم، ولا يحويه مكان ولا زمان، وليس كمثله شيء، والحال أنَّ مثل هذا الطَّلب لا يليق حتى بالأفراد العاديّين من النّاس، فكيف نفسِّر ذلك؟

تفسير الطّوسي للرّؤية

وقد اختلفت أجوبة المفسّرين، فأجاب الشَّيخ الطّوسي في "تفسير التبيان"، بأنّ هناك ثلاثة أقوال: "أحدها، أنّه سأل الرؤية لقومه حين قالوا له: {لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً}[2]، بدلالة قوله تعالى: {أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاء مِنَّ}[3]. فإن قيل: على هذا ينبغي أن يجوِّزوا أن يُسأل الله تعالى: هل هو جسم أم لا؟ أو يسأله الصّعود والنّزول، وغير ذلك مما لا يجوز عليه؟ قلنا عنه جوابان: أحدهما أنّه يجوز ذلك، إذا علم أنَّ في ورود الجواب من جهة الله مصلحةً، وأنّه أقرب إلى زوال الشّبهة عن القوم، بأنَّ ذلك لا يجوز عليه تعالى كما جاز ذلك في مسألة الرؤية. وقال الجبائي: إنهم سألوا الله تعالى قبل ذلك: هل يجوز عليه تعالى النّوم أم لا؟ وقالوا له: سل الله أن يبيّن لنا ذلك. فسأل الله تعالى ذلك، فأمره بأن يأخذ قدحين يملأ أحدهما ماءً والآخر دهناً، ففعل، وألقى عليه النّعاس، فضرب أحدهما على الآخر فانكسرا، فأوحى الله تعالى إليه أن لو جاز عليه تعالى النّوم، لاضطرب أمر العالم كما اضطرب القدحان في مدّة حتى تكسّرا.

والجواب الثّاني: هو أنّه إنما يجوز أن يسأل الله ما يمكن أن يعلم صحّته بالسَّمع، وما يكون الشّكّ فيه لا يمنع من العلم بصحّة السّمع، وإنما يمنع من ذلك سؤال الرّؤية التي تقتضي الجسميّة والتّشبيه، لأنَّ الشّكَّ في الرؤية الّتي لا تقتضي التَّشبيه، مثل الشكّ في رؤية الضّمائر والاعتقادات، وما لا يجوز عليه الرؤية، وليس كذلك الشّكّ في كونه جسماً أو ما يتبع كونه جسماً من الصّعود والنّزول، لأنّ مع الشّكّ في كونه جسماً، لا يصحّ العلم بصحّة السّمع، من حيث إنّ الجسم لا يجوز أن يكون غنيّاً ولا عالماً بجميع المعلومات، وكلاهما لا بدَّ فيه من العلم بصحّة السّمع، فلذلك جاز أن يسأل الرّؤية الّتي لا توجب التّشبيه، ولم يجز أن يسأل كونه جسماً وما أشبهه.

والجواب الثاني ـ في أصل المسألة ـ أنّه سأل العلم الضّروريّ الذي يحصل في الآخرة، ولا يكون في الدنيا ليزول عنه الخواطر والشّبهات، والرؤية تكون بمعنى العلم، كما يكون الإدراك بالبصر، كما قال: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ}[4] وأمثاله. وللأنبياء أن يسألوا ما يزول عنهم الوساوس والخواطر، كما سأل إبراهيم(ع) ربّه: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِـي الْمَوْتَى}[5]، غير أنّه سأل ما يطمئنّ قلبه إلى ذلك، وتزول عنه الخواطر والوساوس، فبيّن الله تعالى له أن ذلك لا يكون في الدّنيا.

الثالث: أنه سأل آيةً من آيات السّاعة الّتي يعلم معها العلم الّذي لا يختلج فيه الشّكّ، كما يعلم في الآخرة، وهذا قريب من الثّاني. وقال الحسن والرّبيع والسدّي: إنّه سأل الرّؤية بالبصر على غير وجه التّشبيه. وقوله: {لَن تَرَانِي}[6]، جواب من الله تعالى لموسى أنّه لا يراه على الوجه الّذي سأله، وذلك دليل على أنّه لا يُرى لا في الدّنيا ولا في الآخرة، لأنّ (لن) تنفي على وجه التّأبيد، كما قال: {وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَد}[7]، وهذا إنما يمكن أن يعتمده من قال بالجواب الأوّل، فأمّا من قال إنّه سأل العلم الضّروريّ أو علماً من أعلام السّاعة، لا يمكنه أن يعتمده، لأنّ ذلك يحصل في الآخرة، فيجري ذلك مجرى اختصاص الرؤية بالبصر على مذهب المخالف بحال الدّنيا"[8].

ونلاحظ على ذلك، أنَّ التّأويل بأنّه سأل الرؤية لقومه لا لنفسه باطل، لأنّ الآية التي جعلوها شاهداً على ذلك، وهي قوله تعالى: {لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً}[9]، لا تصلح لأن تكون قرينةً على ذلك؛ أوّلاً، لأنَّ مسؤوليّة موسى أن يبيّن لهم استحالة رؤية الله من كلِّ أحد، تماماً كما بيّن لهم استحالة أن يكون هناك آلهة غير الله لما طلبوا منه ذلك.

وثانياً: لأنَّ ما تدلّ عليه الآية في سياقها، هو أنهم لم يطلبوا الرّؤية لله جهاراً للمعرفة الّتي تؤدّي بهم إلى الإيمان، بل للتحدّي الذي يعبّر عن الرّفض، لأنَّ مسألة رؤية الله ـ حتى لو كانت ممكنة ـ لا تحصل لكلِّ من يطلبها من الناس، بحيث يظهر الله لخلقه بشكل الاستجابة لاقتراحاتهم.

وثالثاً: إنَّ الآية في قوله: {رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ}[10]، دالة على أنّه طلب الرّؤية لنفسه لا لقومه، ولو كان الأمر كذلك، لقال موسى: أرهم ينظروا إليك، ولقال الله تعالى: لن يروني. وأمّا ما يذكره البعض من أنه إذا رآه أخبرهم، فإنَّ الجواب أنهم علقوا إيمانهم على رؤيتهم المباشرة الخاصَّة، لا على رؤيته له. وإذا كان البعض يرتئي بأن السّبعين الذين اختارهم موسى للميقات كانوا معه في ميقاته الّذي أنزل الله عليه فيه التّوراة، فإذا استجاب الله له الرّؤية رأوه معه، فإنّه لا ظهور للآية في ذلك، بل الظّهور على خلافه، لأنَّ الحوار كان بين الله وموسى صاحب الطّلب.

وأمّا ما ذكره الشيخ الطّوسي في تفسيره من السؤال والجواب، فلا حاجة إليه في إبطال القول المذكور. أمّا الحديث عن سؤاله العلم الضَّروري، فإنَّ استعمال الرؤية لا يبرّر التَّعبير بها عنه، لأنَّ الآية لم تتحدَّث عن الرؤية، بل قال موسى: {رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ}، ما يدلّ على طلب النظر الحسّي، لا العلم البديهي الذي يمتنع في الدنيا ويمكن في الآخرة، كما احتمله صاحب تفسير الميزان. وأما السؤال عن آيةٍ من آيات الساعة التي يعلم معها العلم الذي لا يختلج فيه الشّكّ كما يعلم في الآخرة، فهو بعيد كلَّ البعد عن منطوق الآية.

وقد وردت في ذلك روايات متنوّعة لا نضمن وثاقتها وصحّتها، لغرابة مضمونها في تفاصيلها، ونحن نحاول البحث في ذلك حول طبيعة رؤية الله، وسؤال موسى(ع) الرؤية في إمكان ذلك من جانبه.

النّظر إلى الله

أمّا مسألة الرؤية لله، فيدلُّ الكتاب المجيد على نفيها عن الله، وذلك في قوله تعالى: {لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}[11]، والظاهر من الإدراك إذا قرن بالبصر، أنه يعني الرؤية بالعين.

وقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}[12]، وقوله تعالى: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْم}[13]. وقد جاء في الحديث عن الإمام علي أمير المؤمنين(ع)، وقد سأله ذعلب اليماني، فقال: هل رأيت ربّك يا أمير المؤمنين؟ فقال(ع): "أفأعبد ما لا أرى؟" فقال: وكيف تراه؟ فقال: "لا تراه العيون بمشاهدة العيان، ولكن تدركه القلوب بحقائق الإيمان"[14].

وجاء عن الإمام عليّ بن محمد الهادي(ع)، مما رواه أحمد بن إسحاق، قال: "كتبت إلى أبي الحسن الثّالث أسأله عن الرّؤية وما اختلف فيه النّاس، فقال: "لا تجوز الرّؤية ـ عقلاً ـ ما لم يكن بين الرائي والمرئي هواء لم ينفذه البصر، فإذا انقطع الهواء أو عُدم الضّياء بين الرائي والمرئيّ، لم تصحّ الرؤية، وكان في ذلك الاشتباه، لأنَّ الرّائي متى ساوى المرئي في السَّبب الموجب بينهما في الرّؤية، وجب الاشتباه، وكان ذلك التّشبيه، لأنَّ الأسباب لا بدَّ من اتّصالها بالمسبّبات"[15].

أمّا ما استدلّ من العقل، فإنَّ الرّؤية إمّا أن تقع على الله كلّه، فيكون مركّباً محدوداً متناهياً محصوراً يشغل فراغ النّاحية المرئي فيها، فتخلو منه بقيّة النواحي، وإمّا أن تقع على بعضه، فيكون مبعّضاً مركّباً متحيّزاً، وكلّ ذلك ممّا يمنعه أهل التنـزيه. ولعل من الطبيعي أن لا يكون الله بحاجة إلى الزمان والمكان، وهو الغني عن كلّ شيء، لأنّ ذلك خلقه، فلا معنى لحاجته إلى خلقه.

وقد استدلّ القائلون بالرؤية بقوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}[16]. قالوا إنها ظاهرة في أنّ أصحاب تلك الوجوه الناضرة يوم القيامة ينظرون إلى ربهم، فيرونه عياناً بأبصارهم.

والظاهر أنَّ المراد بنظرها إلى الله، أنها تتطلَّع إليه من موقعها على أساس الإيمان بعظمته ونعمته، لتحصل على لطفه ورضوانه وكرامته، كما يقال: إننا ننظر إلى الله ثم إليك، في انتظار الفضل منه أوّلاً، وليس المراد هو التحديق بوجهه بعيونهم، لأنَّ الله إذا كان ممن يظهر بنفسه يوم القيامة، لرآه كلّ الناس، كما قد يستوحيه البعض في قوله تعالى: {وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّ}[17]، فإنَّ المقصود من مجيء الله هو حضوره، بحيث يشعر الناس بوجوده كما لو كان أمامهم عياناً، لأنّه لا معنى لمجيئه بمعنى حركته بطريقة استعراضية.

واستدلّوا بقوله تعالى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ}[18]، فقد قالوا إنَّ المستفاد منها، أنّ المؤمنين يرونه سبحانه وتعالى، بينما يُحجب الكافرون عن رؤيته، ولولا ذلك، لم يكن للتشخيص فائدة. ولكنّ الظاهر أنَّ المقصود بالحجب هنا الحجب عن رحمته، وهذا خاصّ بهم دون المؤمنين، فإنَّ المؤمنين في سعة رحمة الله وبحبوحة جنّته مع {الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَـئِكَ رَفِيق}[19].

واستدلّوا بقوله تعالى: {وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ * الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ}[20]، قالوا: نصّت الآية على أنهم ملاقو ربهم، والملاقاة تستلزم الرؤية بحكم العقل. ولكنّ الظاهر أنَّ المقصود بملاقاة ربهم هنا كناية عن الموت، بدليل قولهم فيمن مات: لقي الله تعالى، ولا يعنون أنّه رأى الله، ولا يفهمون منه سوى موت من أخبروا عنه. وقد جاء في آيةٍ أخرى قوله تعالى عن المنافقين: {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ}[21]، فإنَّ المنافقين لا يرون ربهم، وإنما يلقون الموت، وما بعده من الحساب وألوان العذاب.

الصّفة الحركيّة للرّسالة

وهناك مسألة أخرى قد تتَّصل بالجانب الثّقافيّ في تفاصيل الرّسالة، وهي أنَّ الله يوحي إلى بعض الأنبياء بالرّسالة في قضاياها وتشريعاتها ومفاهيمها بطريقة تدريجيّة، لأنَّ طبيعة المرحلة الّتي تتحرّك بها النبوّة، في التّحدّيات التي تواجهها، والأوضاع الصَّعبة الّتي تحيط بها، والحاجات الّتي تمثّل الأمور المرتبطة بجماهيرها، قد تفرض ذلك، من أجل تقوية الموقع النبوي، وتثبيت شخصيّته، وتنظيم حركته، ومتابعة علاقاته بالناس من المؤمنين والكافرين والمنافقين، فيما يثيرونه من الإيجابيّات أو السلبيّات، وهذا ما توحي به الآية الكريمة التي جاءت ردّاً على الكافرين الّذين أنكروا على الرّسول تدريجيّة الوحي النازل عليه بحسب حاجات الزمان والمكان، والمناسبات المرتبطة بالحرب والسّلم وحركة الصّراع المنفتحة على أكثر من قضيّة، وهو ما جاء في قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيل}[22].

فقد كان المشركون يثيرون الشبهات حول القرآن، ليشكّكوا في نزوله من عند الله، وليبطلوا مفعول تأثيره في النفوس، من خلال الإيحاء الداخلي بعدم قداسته، وليحاولوا إبطال الإيمان برسالة الرسول، ليتحوَّل في نظر الناس إلى رجل عادي يختلق الكلام كلَّما عرضت له حاجة، على أساس المناسبات الطّارئة، ثم ينسبه إلى الله.

وقد كان من بين هذه الشّبهات، الحديث عن نزول القرآن عليه على دفعات، في الوقت الّذي كانوا يسمعون عن التّوراة والإنجيل بأنهما قد نزلا على موسى وعيسى(عليهما السلام) دفعةً واحدةً، وكما يوحي به لفظ الكتاب الّذي يدلّ على مجموعة من الفصول المترابطة بعضها ببعض، بحيث تمثّل وحدة الفكر العامّة الموزّعة على مواقع متعدّدة، كما هو الدّين في معناه الشّامل الّذي يتضمَّن العقيدة والشّريعة معاً.

وفي ضوء ذلك، فقد كانوا يثيرون الشّبهة على أساس أنَّ هذا النـزول التدريجي الذي لا ترتبط فيه الآيات بعضها ببعض، باعتبار أنه موزّع على الحوادث والقضايا التي يعيشها الرسول مع الناس، وعلى المشاكل التي يثيرونها حوله، قد يدلّ على أنّ المسألة تعبّر عن معاناة شخصيّة تتأثّر بالأحداث.

ولكنَّ الله يثير أمامهم المسألة من موقع الصّفة الحركيّة للرسالة، والخطّ التربويّ للمسيرة الإنسانيّة في حركة الإسلام في تنمية الفكر والروح، ومراقبة الحركة في الوسيلة والهدف ومواجهة التّحدّيات، فلم يكن الإسلام مجرد فكرٍ يُراد للناس أن يختزنوه في وعيهم في مواقع نظرية للمعرفة المجردة، بل كان فكراً يُراد له أن يتجذّر في النفس والواقع والحياة، لأنَّ المقصود هو تنمية الروح الإسلاميَّة في الإنسان، في عمليَّة صنع الأمّة على هدى الإسلام وتعاليمه، ولهذا كانت الخطَّة أن تطرح الفكرة في ساحة التَّطبيق، ليعيش المسلمون المشكلة، فتتفاعل في عقولهم ومشاعرهم، وتحتوي أوضاعهم وعلاقاتهم ومواقعهم، لتأتي الآية بالحلِّ المناسب الذي يستوعب الحالة كلّها، فيرى الناس الحلّ في حجم المشكلة وفي صعيدها، بحيث ينظرون إلى الفكرة وهي تتحرَّك على الأرض متجسّدةً بطريقة واقعيّة، فيعيشون واقعيّتها، وتثبت في شخصيَّتهم، وبذلك تمنحهم المعرفة والتّطبيق والثبات الفكريّ والروحيّ والعمليّ على الخطّ المستقيم، فهناك فرق بين أن يأخذ الإنسان الفكرة من موقع التجريد، وأن يأخذها من موقع الواقع، إذ إنَّ الانطلاق من الواقع يجعل الفكرة أكثر تجذّراً في الشّخصيّة.

سبب تنزّل القرآن على دفعات

أمّا الأساس في تنـزّل القرآن على دفعات، فمن أجل أن يواكب المسيرة كلّها، ليرعاها ويشرف عليها ويؤصّلها ويجنّبها المشاكل الصَّعبة، وينظّم لها خطوطها التفصيليّة على مستوى القيادة والقاعدة، ولا سيَّما عندما تتَّصل القضيّة بالنّبيّ في القضايا الشّائكة التي تواجهه، والمشاكل الواسعة الّتي تتحرّك في واقع المسلمين، مما لم ينـزل عليه فيه وحي خاصّ للمعالجة، فيبقى منتظراً لأمر ربّه، فتنـزل الآية لتملأ عقله وحركته بالحلّ الملائم، وتثبّت موقعه في تجاوز المشكلة إلى الحلّ، وهذا ما جاء في قوله تعالى: {كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ}، والفؤاد ـ هنا ـ هو الشّخصيّة العقليّة والروحيّة الّتي تواجه المأزق أمام الحالات القلقة الطّارئة.

وإذا كان الله يتحدَّث عن تثبيت النبيّ في استقراره الداخليّ، فإنّه يتحدَّث عنه بصفته الرساليّة القياديّة، من موقع انفتاحه على الأمّة في قضاياها التي تتطلّب معرفة الحلول الطبيعيّة من خلال وحي الله، وليس في هذا التّثبيت منافاةً لعصمته، لأنَّ هناك فرقاً بين الخطأ في الممارسة الإنسانيّة، وما هو التّكامل الحركيّ في تحديد المراحل ومراعاة الظّروف من خلال التّخطيط في صناعة الشخصيّة، للارتفاع إلى مواقع السموّ والكمال.

ونقرأ في قوله تعالى، أنَّ الله كان يقصّ على رسوله أنباء الرّسل الّذين سبقوه: {وَكُـلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ}[23]. وقوله تعالى: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِل لَّهُمْ}[24]. وقوله تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ}[25]. ونقرأ قوله تعالى: {تِلْكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَـذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ}[26]. وقوله تعالى في قصَّة الكفالة لمريم: {ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ}[27]، وقوله تعالى في قصّة يوسف: {ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُواْ أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ}[28]، إلى غير ذلك من الآيات التي أراد الله أن يوجّه فيها رسوله من خلال الإشراف على تاريخ الرّسل من قبله، لينفتح على تجربتهم الرساليَّة، وليثبّت فؤاده بالكثير من حوادث التّاريخ، الأمر الَّذي قد يوحي إلينا بأنَّ الله كان يتابع إنزال الحقائق العقيديّة والشرعيّة والمفاهيم الحركيّة بشكل تدريجيّ يتناسب مع طبيعة المرحلة الّتي كان الإسلام يتحرّك فيها، مما لم يكن النّبيّ مطَّلعاً عليه قبل ذلك، ليستكمل له الدّين في حاجاته العامّة على مستوى حركة المراحل، ما قد يدلّ على أنَّ إغفال حقيقة في حالة، وبيانها في حالة أخرى في ثقافة النّبيّ، كان أمراً مألوفاً في وحي الرّسالات. والسؤال: كيف كان الأمر مع موسى في هذا الاتجاه؟

وللحديث بقيّة في الأسبوع القادم، إن شاء الله تعالى. والحمد لله ربِّ العالمين.

*ندوة الشام الأسبوعيّة، فكر وثقافة


[1]  [الأعراف: 143].

[2]  [البقرة: 55].

[3]  [الأعراف: 155].

[4]  [الفيل: 1].

[5]  [البقرة: 260].

[6]   [الأعراف: 143].

[7]  [البقرة: 95].

[8]  التبيان، الشيخ الطوسي، ج 4، ص 534 ـ 536.

[9]  [البقرة: 55].

[10]  [الأعراف: 143].

[11] [الأنعام: 103].

[12]  [الشورى: 11].

[13]  [طه: 110].

[14]  نهج البلاغة، خطب الإمام علي(ع)، ج 2، ص 100.

[15]  الكافي، الشيخ الكليني، ج 1، ص 97.

[16]  [القيامة: 22، 23].

[17]  [الفجر: 22].

[18]  [المطففين: 15].

[19]  [النساء: 69].

[20]  [البقرة: 45، 46].

[21]  [التوبة: 77].

[22]  [الفرقان: 32].

[23]  [هود: 120].

[24]  [الأحقاف: 35].

[25]  [الزمر: 65].

[26]  [هود: 49].

[27]  [آل عمران: 44].

[28]  [يوسف: 102].

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية