أرسل الله موسى(ع) برسالته من أجل إبلاغها إلى فرعون وقومه، لتحرير بني إسرائيل من العبوديَّة الَّتي فرضت عليهم استضعافاً لهم، وليصطحبهم معه ليقودهم إلى منهجٍ جديدٍ في حركة الحريَّة الإنسانيَّة، ثم ليدعو فرعون إلى الإيمان بالله الواحد، ويبتعد به عن عبادة الأوثان كآلهةٍ مزعومة، وعن إعلان ادّعاء الربوبيَّة والألوهيّة.
التّحرّر من العبوديّة
ولم تنفتح الرَّسالة على التّفاصيل العقيديّة في مفرداتها الفلسفيَّة، لأنَّ الدَّعوة لم تكن بحاجة إلى ذلك، ولهذا اكتفى النّبيّ موسى(ع) بإعلام فرعون وقومه بأنّه رسولٌ من ربِّ العالمين الذي تشمل ربوبيَّته العوالم كلَّها، وأنَّ هذا الربّ العظيم هو الَّذي أعطى كلَّ شيءٍ خلقه، فهو الّذي خلق الكون كلّه، وهداه إلى تحقيق كلِّ ما يرتبط بوجوده من غاياتٍ وأهداف، وهو الّذي جعل الأرض مهداً، وسلك فيها سبُلاً، وأنزل من السَّماء ماءً، فأنبت به الزّرع بجميع أشكاله وألوانه وثماره وخصائصه الحيويَّة الإنتاجيَّة، ليأكل النَّاس منه ما يتطلَّبونه في أغذيتهم، ولتغتدي به أنعامهم الَّتي يركبون عليها ويأكلون لحومها ويشربون من ألبانها، وهو ربّ السَّماوات والأرض وما بينهما، وهو ربُّ النَّاس كلِّهم ممن حضر وممن مات في الأزمنة الأولى...
وقد تحقَّق لموسى(ع) الهدف الأوَّل بتحرير قومه، واصطحابهم معه بعد إغراق فرعون وأتباعه، ولم يؤمن فرعون إلا بعد أن أدركه الغرق في الماء ومات بسبب ذلك. وواجه موسى(ع) بعد ذلك قومه الَّذين رأوا بعض الوثنيّين ممن التقوهم في مسيرتهم يعبدون الأصنام، باعتبار أنَّهم يؤمنون بألوهيَّتها، فطلبوا منه أن يجعل لهم صنماً يعبدونه كإلهٍ كهؤلاء النَّاس، فواجههم موسى باتهامهم بالجهل الَّذي يطبق على عقولهم، إذ كيف يفكِّرون في أن يجعل لهم إلهاً غير الله الّذي فضَّلهم على العالمين بنعمه، ما يفرض عليهم أن يعبدوه ويؤمنوا بتوحيده، لأنَّ ذلك هو ما يمثِّل شكر النِّعمة.
تلك هي المرحلة الرّساليّة الّتي حكمت مسيرة النّبيّ موسى مع فرعون وقومه ومع بني إسرائيل، ولم يحدّثنا القرآن عن أيّة تفاصيل عقيديّة أخرى عرفها موسى فيما يجوز نسبته إلى الله سبحانه وفيما لا يجوز، مما يمتنع اتّصافه به مما هو من صفات خلقه... ولذلك، لم يكلَّف النبيّ موسى في مهمّته الرساليّة بذلك، ولكنّ الله سبحانه أراد أن يكمل له تفاصيل الرّسالة في العقيدة بالله، في تجربةٍ منفتحة على الحقيقة التّوحيديّة في تعالي الله عن بعض ما هو من صفات خلقه، وفي الشّريعة من خلال إنزال التَّوراة عليه، التي فيها تبيان كلّ شيء مما يتعلَّق بما يريده الله للنّاس في مسؤوليّاتهم العمليّة في مواقع عبادته وطاعته في حلال الأفعال وحرامها، مما يكمل به تصوّراته للأشياء وللحياة وللانفتاح العميق الواسع على الله في سرِّ وحدانيّته، وذلك في الموعد الّذي واعد الله به موسى ليكلِّمه وليفتح عقله، وليوسّع علمه في مدى أربعين ليلة.
الرّغبة في رؤية الله
وإنَّنا لا نستبعد أن يسأل موسى(ع) ربّه أن يراه، بعد أن سمع كلامه بشكلٍ مباشر، وأحسّ بحضوره في وجدانه وموقعه، بحيث خيِّل إليه أنه يستطيع أن يراه، وأنَّ بإمكانه أن يطلب المزيد من القرب الحضوري، وذلك بأن يكرمه برؤيته كما أكرمه بكلامه. فقد لا يكون من البعيد من ناحية التصوّر والاحتمال، أن يكون مرّ في خاطر موسى(ع) مثل هذا التصوّر في الذّات الإلهيَّة، لأنَّ الوحي لم يكن قد تنـزَّل عليه بذلك، إذ إنَّ مهمّته في المرحلة السَّابقة لم تكن تفرض الإيحاء إليه بمثل هذا العلم الدّقيق، ولم يكن هناك مجال واسع للتأمّل والتَّحليل النّفسيّ حول استحالة تجسّد الإله أو إمكان ذلك، لأنّه لم يكن أمراً مطروحاً لديه، ولا ينافي ذلك عظمته وموقعه النّبويّ باعتباره من أنبياء أولي العزم، لأنَّ الله سبحانه قد جرت سنَّته وحكمته أن يتعامل مع رسوله بطريقة التدرّج، لتحصيل التَّكامل التّدريجيّ للتصوّر الإيماني في شخصيَّة الرسول الثقافيّة.
وربما نلاحظ في هذه الأجواء، أنّ هذه المسألة ليست من المسائل البسيطة الّتي قد تُعَدّ من البديهيّات الفكرية، بل هي من المسائل الدّقيقة العميقة التي تثير الكثير من الشّبهات، كما حدث في الجدل الفكري في مسألة رؤية الله بين الأشاعرة الّذين يلتزمون إمكانيّة الرّؤية أخذاً بظاهر بعض الآيات القرآنيّة، وبين المعتزلة والإماميّة الذين يؤكّدون استحالة رؤية الله، لأنَّ ذلك يؤدّي إلى الكثير من اللّوازم الباطلة التي لا تتناسب مع أصالة التّوحيد، مما قد يسيء إلى التصوّر العقيديّ الّذي يرتفع بالله عن الحاجة الّتي قد يوحي بها التجسّد، إلى غير ذلك من الأمور. ولهذا أوّلوا الآيات الظّاهرة في إمكانيّة الرؤية بمعانٍ أخرى بخلاف الظّاهر، بواسطة القرينة العقليّة التي تؤكّد استحالة الرّؤية...
وفي ضوء ذلك، قد لا يكون النّبيّ موسى(ع) قد أثار هذه المسألة في تفكيره الذّاتي، لأنها لم تكن جزءاً من مسؤوليَّته في تبليغ الرّسالة، لأنَّ الله لم يوحِ بها إليه، ولم يكلّفه ببيانها للنّاس. وربما نستوحي ذلك من إرشاد الله للنبيّ موسى(ع) إلى أن يلتقي العبد الصَّالح الذي أتاه الله رحمةً من عنده، وعلَّمه من لدنه علماً، فلمَّا التقاه قال له: {هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْد}[1]، لأنَّ الله أراد أن يوحي إلى موسى بما يريد له أن يتعلَّمه من خلال هذا العبد الصّالح، كما يوحي إليه بكلامه أو بالوسائل الأخرى الّتي يوحي بها إلى الأنبياء.
خصائص الأنبياء
ولهذا، فإنّا نحاول ـ هنا ـ أن نسجِّل تحفّظنا عن الكثير من الأحكام المسبقة الّتي تحاول تطويق النّصّ القرآنيّ ببعض الاستبعادات الخاصَّة من خلال الثّقافة الذاتيّة ـ كما في مثل هذه الآية ـ إذ إنَّنا نلاحظ أنَّ المنهج الإسلاميّ الثّقافيّ يفرض علينا أن يكون تصوّرنا لشخصيَّة الأنبياء منطلقاً من الآيات القرآنيَّة، مما يحدِّثنا عنهم من أحاديث ويسبغه عليهم من صفات، فهو المصدر الأساس الأمين المعصوم الَّذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
ونحن نلاحظ أنَّ الحديث القرآني يركِّز في بعض آياته على نقاط الضّعف لدى الأنبياء، كما يركِّز على نقاط القوَّة عندهم، من موقع بشريّتهم الّتي يريد أن يؤكِّدها في التّصوّر القرآنيّ في أكثر من موقع، وفي أكثر من اتّجاه. فهل نريد أن ندخل في مزايدة كلاميَّة على القرآن بما يتعلّق بمثل هذه الأمور، فنفرض لأنفسنا بعض التصوّرات المعيَّنة للأنبياء من خلال بعض التّصوّرات الفلسفيّة المجرَّدة، ثم نحاول تأويل كلام الله بطريقةٍ لا يقبلها النّصّ في بعض الأحيان؟!
إنَّنا نفهم التَّأويل حملاً للّفظ على خلاف الظَّاهر، على أساس المجاز والكناية أو ما يقترب منهما، ولا بدَّ للخروج عن الظّاهر من أن يكون هناك قرينة لفظيَّة أو عقليَّة تصرّف اللَّفظ عن معناه الظّاهريّ. أمّا في هذا النصّ المتَّصل بطلب موسى من ربه النَّظر إليه، فلا نجد في هذا الطّلب أيّ مانعٍ عقليّ من إرادة النَّظر بالمعنى الحسّي المباشر، بل هو الظّاهر الواضح جدّاً في أجواء الآية، من خلال التّجربة الّتي قدَّمها الله أمامه، بما تعطيه كلمة التجلّي من أجواء استحالة الرؤية البصرية من خلال ما وجَّهه للجبل من صورة نوره الّذي خلقه، مما لم يستطع الجبل أن يتماسك معه، فكيف لو كان التجلّي له؟ ثم لو كان المراد الرؤية القلبيّة الّتي لا تحصل للإنسان في الدّنيا كما تحصل في الآخرة، لما كان هناك وجه قريب لهذه التَّجربة في انهيار الجبل، بما تعطيه من معنى مادّي للمسألة، لأنَّ الجبل لا يحمل أيّة مناسبة أو إشارة للجانب القلبيّ في الموضوع في تأثّره بنور الله.
استحالة النَّظر إلى الله
وخلاصة الفكرة، أنَّنا لا نستهين بعظمة موسى(ع) في موقعه النّبويّ الرّسالي، باعتبار أنّه يتَّصف بنبوّة مميّزة كونه من أنبياء أولي العزم، ولكنّنا نلاحظ أنَّ الله لم ينـزل عليه وحياً في مسألة رؤيته، ولم يكلّفه بتبليغ ذلك للنّاس، على أساس التثقيف التدريجي لنبيّه من خلال طبيعة المرحلة التي يتحرك في مسيرتها التكامليَّة. وقد بيّن الله له ذلك في التجربة الجديدة التي عاشها عندما ذهب إلى ميقات الله الَّذي ألهمه أن يسأل هذا السّؤال، ويطلب ذلك الطّلب، ليعرّفه هذه الحقيقة الإيمانيّة، وهي أنَّ الله ليس وجوداً متجسِّداً يحتويه الزّمان والمكان، وليس كياناً عضوياً تتعلّق به أبصار النَّاس، لأنّه الربّ الذي لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار، وهذا هو الدّرس الذي تعلّمه في موعده مع الله قبل أن يُنـزِل عليه التّوراة.
وبذلك، أدرك في وعيه التّوحيديّ هذه الصّفة الإلهيَّة، وهي أنّه يستحيل النظر الحسّي إلى الله الّذي لا يعرف ذاته إلا هو، لأنَّ ذاته تختزن الأسرار الخفيّة العميقة الّتي لا يصل إليها الوعي البشريّ في وسائله المادّية الّتي يستخدمها في الوصول إلى آفاق المعرفة.
وهكذا انطلق موسى(ع) من تكليم الله له: {وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ}، لينتقل في معرفته به إلى موقع آخر، {قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ}[2]، لأتمثَّل الإشراق الإلهيّ في وجهك الّذي يفيض بالنّور على الكون كلّه، فأنفتح على حبّك والإيمان بك من خلال المعرفة الخاصَّة، إضافةً إلى ما أختزنه من المعرفة العامَّة، لأنَّ الإنسان إذا التقى في إيمانه بالوسائل الحسيَّة، كان أكثر طمأنينةً، وأوسع علماً، وأعمق إدراكاً، كما هو حال النّبيّ إبراهيم(ع)، الذي كان يؤمن الإيمان الواسع العميق بقدرة الله على إحياء الموتى، ولكنَّه أراد أن يزداد معرفةً ليحصل على المزيد من الاطمئنان القلبي الذي ينطلق من الرؤية الحسيَّة، كما جاء في قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِـي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَـكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}[3].
فقد كان يريد أن يشهد عمليَّة الإحياء على الطَّبيعة، وكان الجواب سؤالاً تقريريّاً: {أَوَلَمْ تُؤْمِن}، فإنَّ مثل هذا السّؤال قد يصدر في صورته هذه عن غير المؤمن، فكيف يصدر عن إبراهيم(ع) الّذي جاء من أجل أن يقود النَّاس إلى الإيمان؟! وكان جوابه بتأكيد إيمانه، فلم يكن السّؤال منطلقاً من حالة شكّ، بل من أجل الحصول على حال الاطمئنان القلبي الَّذي يتحرَّك من مواقع الحسِّ في التَّجربة في الواقع، بما لا يحصل من خلال القناعة الفكريَّة الّتي تعتمد على المعادلات العقليَّة الوجدانيَّة الّتي تصنع للإنسان إيمانه، ولكنَّها لا تمنع الهواجس الذَّاتيَّة السَّاذجة من أن تتحرَّك في النَّفس في نطاق الأوهام الطّارئة، فكانت رغبته هذه من أجل تذويب كلّ ما يخطر في البال، ولو على سبيل الوهم. وأخيراً، نفَّذ الله له هذه الرّغبة الروحيَّة، لأنَّ المسألة كانت في طور الإمكان لا في طور الاستحالة.
أمَّا سؤال موسى(ع)، فلم يكن تحقيقه أمراً ممكناً يجيبه الله له، {قَالَ لَن تَرَانِي}، لأنَّ الرّؤية لا تكون إلا للموجود المادّي المتجسِّد المحدود، وهذا مما يستحيل على الله الَّذي لا يدخل وجوده في سرّ ذاته تحت التّجربة، فهو الوجود الغيبـيّ الّذي لا يقدر أحدٌ على الإحاطة به ولا يتعلَّق به الحسّ، فهو معنى خفيّ في عمق الأسرار الإلهيّة الّتي لا يعلمها إلا الله الّذي لا يماثله شيء، لأنّه ـ كما قال عن نفسه ـ {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}[4]. ولم تكن هذه الخصوصيَّة الإيمانيَّة في المعرفة بالله معلومةً للنبيّ موسى، لأنَّ الله لم يبيِّنها له في وحيه، {وَلَـكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي}[5]. إنها التّجربة البارزة التي قد تعطي موسى(ع) فكرةً توضيحيّةً حول استحالة تحقّق ما يطلبه، ما يوحي بامتناع الاستجابة له في ذلك.
الشّعور بالعظمة الإلهيَّة
ولكن في صورةٍ أخرى، أراد الله له أن ينظر إلى هذا الجبل العظيم وهو يتهاوى قطعةً قطعة حتى يتحوَّل إلى ما يشبه الرَّمم، في عمليَّة زلزالٍ عنيفٍ أمام التّجلّي الإلهيّ الّذي لم يكشف الله سرّه ومعناه؛ فهل تمثّل التجلّي بصورة مادّيّة، أو تمثّل ـ على سبيل الكناية ـ بتسليط نوره عليه، الّذي قد يكون معنى في إشراقة ذاته وإضاءة وجوده مما لا يتصوَّره الإنسان الّذي لا يملك الوعي للإشراق الغيبـيّ في نور الخالق؟ فإذا لم يستطع المخلوق ـ وهو النّبيّ موسى ـ أن يواجه تجربة تجلّي الله بنوره للجبل الّذي أطلّ عليه وزلزله وأزاله من مكانه، فكيف يمكن له أن يواجه الله بذاته ـ لو كانت الرّؤية ممكنةً ـ وهو الوجود الغيبـيّ في أسراره الخفيّة؟
{فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ}، بالمعنى الغامض للتجلّي، الّذي قد يعبّر به عن إشراف الله عليه بقوّته وقدرته وإشراقه، {جَعَلَهُ دَكّ} مهدوماً، وتحوَّل إلى أرض مستوية ليّنة، بعد أن فقد صلابته وعلوَّه وارتفاعه وشموخه في الأعالي، {وَخَرَّ موسَى صَعِق}، أي مصعوقاً من هول الصّدمة العنيفة المرعبة، بحيث أغمي عليه ـ بما توحي به الكلمة ـ {فَلَمَّا أَفَاقَ}، وتجلَّت له الحقيقة الإلهيّة في جلال العظمة الّتي لا يقترب منها بصر، ولا يحيط بها فكر في تجربة الحسّ، وشعر بأنّه قد تجاوز الحدَّ في طلبه الرّؤية، مما لم يسبق له العلم به في تفاصيل الصّفة الإلهيّة فيما يمكن نسبته إليه وما لا يمكن، سواء كان منطلقاً من رغبة ذاتيّة يحسّ بها في نفسه، أو كان منطلقاً من الاستجابة لما قد يجيب عنه السّائلون له، مما يتّصل بذلك الأمر.
فلمَّا أفاق من هذه الحالة الرّوحيَّة والرّغبة الذّاتيَّة، رجع إلى الله وأناب، واعتبر ذلك بمثابة الذَّنب ـ وإن لم يكن ذنباً ـ لأنَّ الله لم يحرِّم عليه مثل هذا الطّلب، ولذلك عرَّضه للتّجربة التي توحي إليه بالحقيقة الإيمانيَّة في استحالة رؤية الله، ولكنَّ الأنبياء ـ وفي مقدَّمهم موسى ـ يرغبون في الحصول على القرب من الله، بحيث لا يبعدهم عنه شيء، مما لا ينسجم مع شأنه الربوبيّ، من دون أن يكون ذلك عصياناً، ونحن هنا لا نريد أن ندخل في مناقشة مسألة العصمة النّافية للمعصية. {قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ}، في إحساسٍ عميقٍ بالعظمة الإلهيّة والنّدم الرّوحيّ في السؤال عمّا ليس له به علم حتى من أجل المعرفة، ما دفعه إلى التّسبيح والتّوبة المعبّرة عن التّواضع لله، {وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ}[6] في الدّرجة العليا من الإيمان. والحمد لله ربِّ العالمين.
*ندوة الشّام الأسبوعيّة، فكر وثقافة
[1] [الكهف: 66].
[2] [الأعراف: 143].
[3] [البقرة: 260].
[4] [الشورى: 11].
[5] [الأعراف: 143].
[6] [الأعراف: 143].