وصايا الله تعالى للنّبيّ موسى(ع)

وصايا الله تعالى للنّبيّ موسى(ع)

لا نزال نتحدَّث عن الرّحلة الفكريَّة في تجربة النّبيّ موسى(ع)، مستعرضين أهمّ مراحلها.

تكريم الله لموسى(ع)

لقد انتهت التَّجربة المعرفيَّة الّتي خاضها النّبيّ موسى(ع) في طلبه من ربّه أن يجعله ينظر إليه ليراه رؤيةً حسيّةً، واستطاع أن يحصل من خلال هذه التَّجربة ـ بفعل الصَّدمة العنيفة الّتي صعقته فخرَّ منها مغمًى عليه ـ على الحقيقة الإلهيَّة التوحيديَّة، بأنَّ وجود الله ليس كوجود مخلوقاته الّتي يتعلّق بها الحسّ البصريّ، وربما كان هذا الأسلوب الإلهيّ هو أحد الأساليب التي يمنح الله بها أنبياءه علماً من علمه.

وأراد الله ـ بعد ذلك ـ أن يوحي إلى موسى(ع) بمحبَّته ولطفه وكرامته، واصطفائه لرسالته، واختصاصه بكلامه، ليتخفَّف من هول الصَّدمة، وليرفع عنه إحساسه النَّفسيّ بتجاوزه الحدَّ في طلبه من ربّه النَّظر إليه، مما كان لا يعرف خطورته من خلال التَّجربة الفكريّة المعرفيّة والوحي الإلهيّ، لينفتح على الرّسالة الجديدة الشَّاملة في ركائزها العقيديّة، وخطوطها الثقافيَّة، ومفاهيمها الإنسانيَّة الحياتيَّة، وقوانينها التّشريعيَّة، فيستوعبها بروحٍ منفتحةٍ راضيةٍ مطمئنّة، من خلال إحساسه بالرَّحمة والمحبَّة الإلهيَّة.

{قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاَتِي}[1]، لقد اخترتك لتكون الرّسول الّذي يبلّغ رسالتي للناس، لتخرجهم من الظّلمات إلى النّور، لما تملكه من صفاء الإيمان ووضوحه وعمقه، ومن قوّة العزيمة وصلابة الإرادة وحكمة التَّفكير وصدق الموقف وصبر المعاناة، مما لا بدَّ للنّبيّ الرّسول الذي يتولّى هذه المهمّة التي تفرض المواجهة للتّحدّيات، من أن يتَّصف بها ليؤدّي الرّسالة بقوّةٍ وإخلاص. وهذا هو الّذي يجعل للأنبياء ميزةً يستحقّون بها اختصاص الله لهم برسالته، لأنَّ الّذي يحمل الرِّسالة، لا بدَّ من أن يعيش روحيّة الرّسالة وأخلاقيّتها وأفقها الواسع ورحابتها الروحيَّة، وأن يمتلك الخصائص الفكريّة والسّلوكيّة الّتي تجعل من تجربته في خطِّ الرّسالة وحركتها، تجربةً ناجحة على مستوى القدوة العظيمة في حساب النَّتائج الرّساليَّة للحياة.

{وَبِكَلاَمِي}، فقد كنت النّبيّ الوحيد الّذي كلَّمته بشكلٍ مباشر منذ بداية تكليفك بالرّسالة، لأمنحك الإحساس بالقوّة، وبأنَّك تملك الوسائل الكفيلة بتحقيق النّجاح في المهمّة الموكولة إليك في الدَّعوة وحركة الصّراع، بحيث كنت ترى أمامك مستقبل الانتصار في نهاية المطاف، من خلال الرّوح الّتي أفضتها عليك، بكلماتي الّتي نزعت منك ومن أخيك هارون الّذي طلبته مساعداً لك، عنصر الخوف من الطّاغية وقومه، حيث شعرت بأنّك بعين الله ورعايته، من خلال اتّصاله المباشَر بك في كلامه الَّذي كان يدخل في وعيك السَّمعي، تماماً كما تسمع الكلام في المخاطبات العاديَّة من حيث النَّتيجة في طبيعته. وهذا ما عاشه النبيّ موسى في تكليم الله له، فلم يجد فيه شيئاً غريباً عمّا اعتاده مما كان مألوفاً لديه، ولكن من الطبيعيّ أن تكون آليّة الكلام لله مختلفةً عن الآليّة لدى النّاس، لأنَّ الله ليس جسداً ينطلق في كلامه وفي نظرته إلى الأشياء بالطّريقة الّتي لدى المخلوقين، بل قد يكون ذلك صوتاً يخلقه الله يتضمَّن المعاني الَّتي يدلّ عليها اللّفظ الملقى بالكلام.

الالتزام بالرّسالة

وقد نلاحظ في هذا التَّعبير القرآني، الجوَّ الحميم الَّذي أراد الله لموسى أن يتمثَّله في الإحساس بمحبّة الله ورعايته له، بعد الصَّدمة الشَّديدة التي واجهها في تجربة طلب الرّؤية، ليزول كلّ شيء سلبيّ من نفسه، وليعرف أنَّ الله لم يسلب عنه رعايته ولطفه، وذلك من خلال الاصطفاء المميَّز عن النَّاس بما حمّله من مسؤوليّة الرّسالة وإنزال التّوراة عليه ليبلّغها للنّاس، وليبدأ عهداً جديداً في حركة الدّعوة والهداية والإصلاح في الواقع الإنساني الممتدّ مع الزّمن كلّه، الذي يتجاوز حياته إلى زمنٍ آخر، وهذا ما أعطاه الله له من الميزة في ثقافة الرّسالة الشَّاملة. {فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُن مِّنَ الشَّاكِرِينَ}[2] لله، بالإخلاص له في أداء رسالته، وتحويلها إلى ثروةٍ فكريّةٍ للعقيدة والشّريعة والمفاهيم العامّة للإنسان والحياة، فذلك هو الشّكر العمليّ الإيجابيّ في موضوع الرّسالة، إضافةً إلى الشّكر الشّعوري المتمثّل بحال الامتنان الروحيّ في الداخل.

{وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٍ ـ مما يحتاجه النّاس في عباداتهم ومعاملاتهم ومعاشهم ومعادهم ـ مَّوْعِظَةً ـ تليّن مشاعرهم، وتفتح قلوبهم على الله، فيخشعون له، ويخضعون لربوبيَّته، ويتحركون في حياتهم العامَّة والخاصَّة، وفي علاقاتهم الإنسانيَّة، بأعمال الخير وقيم الرّوح ـ وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ ـ في قوانين الشَّريعة الّتي تنظِّم للنَّاس أمور حياتهم بكلِّ مفرداتها وتفاصيلها، لتتحرَّك الحياة كلُّها في طريق الله من خلال الالتزام بإطاعته في أوامره ونواهيه، فلا بدَّ من الدَّعوة إلى هذه الشَّريعة، وتخطيط الوسائل العمليَّة الموصِلة إلى الأهداف، لتحويلها إلى واقعٍ يتحرَّك في حياة النَّاس، وتوجيه الأفكار نحو الالتزام بمفاهيمها وأهدافها بشكلٍ واقعيّ حاسم ـ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ ـ ليتلقَّاها النَّاس بوعيٍ منفتحٍ يفرض نفسه على العقل والإحساس والانتماء، لأنَّ إخضاع الواقع للرّسالة الإلهيّة، يتطلَّب من الدّاعية أن يستخدم كلَّ الأساليب القوية التي تدخل في كيانات المجتمع في تنوّعاته الانتمائيّة، وفي تحدّياته الفكريّة، فتخترق كلّ الحواجز الضّالّة مما يثيره أعداء الحقّ وخصوم الرّسالة، فتقهرهم بالمنطق القويّ والحجّة القاطعة بما تسقط معه كلّ التّحدّيات.

وتلك هي الدّعوة المستمرّة لكلِّ الدّعاة إلى الله من حملة الرّسالات، بأن يتحرّكوا في التزامات الدَّعوة وحركيّتها ونشاطاتها ووسائلها بكلِّ قوّةٍ وعقلانيّة، بما يجعل الآخرين غير قادرين على مواجهتها بتحدّياتهم الضالّة المضلَّة، بسبب ما يحشده الدّعاة من العناصر الفكريّة والروحيَّة الّتي تجعلهم في موقع المواجهة الحاسمة الحازمة الَّتي تسقط أمامها كلّ عوامل الضَّعف، وتنهار عندها كلّ وسائل الترهيب والتّهويل.

ـ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا ـ بما يرفع مستوى حياتهم، ويعزِّز لهم ثقافتهم، ويصلح لهم أوضاعهم. فليفتِّشوا عن الأحسن فيها ليأخذوا به، تماماً كما يفعل الإنسان العاقل الواعي في اختيار الأحسن في كلِّ ما يقرأه أو يراه أو يقدم عليه، وسيرون بعد التأمّل والتدبّر، أنَّ كلَّ ما فيها يمثّل المرتبة العليا في الحسن، فلا تفاضل بين تشريعٍ وتشريع، أو بين مفهومٍ ومفهوم، بل هو التَّوازن في خطِّ الاستقامة في الجميع، لأنَّ الله الَّذي أوحى بها وشرَّعها ودعا النَّاس إلى أن يتمثَّلوها في سلوكهم العمليّ وثقافتهم الفكريَّة، قد راعى الحكمة في ذلك كلِّه، فيما يريده من تحقيق الفلاح للإنسان المؤمن في الدّنيا، والسَّعادة الَّتي يحصل عليها في الحياة، والانتصار للحقِّ في ساحة الصِّراع مع الباطل في مواجهة أعداء الله الَّذين لا يؤمنون به في حقيقة توحيده، بل يأخذون بأسباب الفسق الفكريّ والعمليّ بما يشركون به ممّا لم ينـزل به سلطاناً، وينحرفون بأنفسهم عن الخطِّ المستقيم، فيتعرَّضون نتيجة ذلك لعقاب الله الَّذي يجمعهم في الدّار الّتي يحشر فيها الفاسقين في العقيدة والعمل، {سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ}[3]، الّذين ابتعدوا عن الحقّ، فتشاهدونهم هناك في نار الجحيم وهم يعيشون حياة الشّقاء والعناء ويواجهون عذاب الله.

التَّوراة هدى ورحمة

وقد تحدَّث الله عن التَّوراة في القرآن الكريم بأنّها: {هُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ}[4]، {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاء وَذِكْراً لِّلْمُتَّقِينَ}[5]، فهو الكتاب الّذي تحدِّد آياته الفرق بين الحقِّ والباطل، وتضيء للنّاس الطريق المظلم ليتحركوا من خلال النّور الإلهيّ الّذي يضيء العقول والقلوب وحركة الحياة في كلِّ قضاياها الحيويّة المنفتحة على ما يرفع مستوى الإنسان، ويفتح له آفاق المعرفة، ويقرِّبه إلى الله في مواقع الرّضوان والمغفرة، ويذكّره بالآخرة من خلال الإعداد للوصول إلى حال الإخلاص لله سبحانه في إطاعته لأوامره ونواهيه والسّير في الخطّ المستقيم.

وقد جاء في قوله تعالى، في حديثه عن اليهود الّذين ربما كانوا يلجأون أحياناً إلى النبي محمد(ص) ليحكم بينهم في بعض منازعاتهم، تهرّباً من الشدَّة التي تتمثَّل في بعض أحكام التّوراة، كما جاء في كتب السّيرة: {وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِندَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَـئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ * إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاء فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ * وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}[6].

ويقال إنَّ الآية تشير إلى حكم الرّجم للزّاني المحصن، إذ حدث عندهم أنّ زنا البعض ممن كانوا لا يريدون تطبيق حكم التّوراة عليه، فأرادوا من النبيّ محمّد(ص) أن يحكم بينهم بما يرفع ذلك عنهم، ظنّاً منهم أنّه لا يشرّع حكم الرّجم، ففوجئوا بأنَّ هناك تطابقاً بين حكمه وحكم التّوراة، وأنّه حكم عليه بذلك لأنّه حُكم العدل، فتولّوا عنه، لأنهم لم يكونوا ملتزمين حتى بالكتاب الّذي يؤمنون به، الّذي أنزله الله على نبيّه موسى وأراد للنبيّين والربّانيّين والأحبار أن يحكموا به بين النّاس، واليهود منهم.

"وفي الآية تصديق ما للتّوراة التي عند اليهود اليوم، وهي الّتي جمعها لهم عزراء بإذن (كورش) ملك إيران بعدما فتح بابل، وأطلق بني إسرائيل من أسر البابليّين، وأذن لهم في الرّجوع إلى فلسطين وتعمير الهيكل، وهي الّتي كانت بيدهم في زمن النّبيّ(ص)، وهي الّتي بيدهم اليوم، فالقرآن يصدِّق أنَّ فيها حكم الله، وهو يذكر أيضاً أن فيها تحريفاً وتغييراً.

ويستنتج من الجميع ـ كما يقول صاحب تفسير الميزان ـ أنَّ التوراة الموجودة بينهم اليوم فيها شيء من التّوراة الأصليّة النازلة على موسى(ع)، وأمور حُرِّفت وغُيّرت، إمّا بزيادة أو نقصان، أو تغيير لفظٍ أو محلٍّ أو غير ذلك، وهذا هو الّذي يراه القرآن في أمر التّوراة، والبحث الوافي عنها يهدي إلى ذلك"[7].

ويؤكِّد القرآن أنَّ الله قد تحدَّث في التَّوراة عن النبيّ محمَّد(ص) في صفته الدالّة عليه، من خلال خطوط رسالته وأحكامها ومفاهيمها، وذلك في قوله تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ}[8]. ويتحدَّث في آيةٍ أخرى عن أنَّ صفة النّبيّ(ص) وأصحابه الّذين هم معه، مذكورة في التّوراة، إضافةً إلى الإنجيل، وذلك في قوله تعالى: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً}[9].

تكامل الرّسالات

وفي ضوء ذلك، نلتقي بالفكرة الّتي تؤكِّد انفتاح الرِّسالات بعضها على بعض، فنبيّ هذه الرِّسالة يبشِّر بالنَّبيّ الّذي يأتي من بعده، كما جاء في الحديث عن النبيّ عيسى(ع) فيما حكاه الله عنه: {وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ}[10]. وقد تحدّث القرآن عن تصديقه لما سبقه من الرّسالات الإلهيّة والكتب المنـزلة من الله، وذلك هو قوله تعالى: {نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ * مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَأَنزَلَ الْفُرْقَانَ...}[11].

وإذا كان القرآن مصدِّقاً لما بين يديه من التّوراة والإنجيل، ومؤكِّداً لنبوّة الأنبياء الّذين أرسلهم الله قبل النّبيّ محمَّد(ص)، بما جاء في قوله تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ}[12]. وجاء في آيةٍ أخرى: {وَلَمَّا جَاءهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ}[13]. وقوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ}[14]، وقوله تعالى: {وَهَـذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُّصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ}[15]... إلى غير ذلك من الآيات الّتي تؤكّد تصديق القرآن للإنجيل والتّوراة، والإيمان بالرّسل كلّهم في أصول العقيدة الإسلاميّة، إلا أنَّ هناك بعض الملاحظات النقديّة لبعض العقائد الطّارئة التي لا تنسجم مع الحقائق الّتي جاءت بها كتب الله، كما في الالتزام بألوهيَّة السيّد المسيح أو قتله وصلبه إلى غير ذلك.

وفي ضوء ذلك، فإنَّ المسلمين يملكون القاعدة الثقافيّة العقيديّة الّتي يلتقون فيها مع أهل الكتاب في الخطوط العامّة، مع بعض التحفّظ في التّفاصيل، على القاعدة القرآنيّة بالدّعوة إلى الكلمة السّواء، وبذلك، فإنَّ باستطاعتهم الدّخول معهم في حوارٍ حول القضايا التفصيليَّة فيما يختلفون فيه معهم، في توجيهٍ أخلاقيٍّ يؤكّد الجدال بالّتي هي أحسن، من خلال الانطلاق من مواقع اللّقاء بالكلمة الطيّبة، والدّفع بالّتي هي أحسن، والقول بالّتي هي أحسن، في نطاق الحوار بين الأديان الّذي يلتقي بحوار الحضارات. وهذه هي ميزة الدّين الإسلاميّ الّذي ينفتح على أكثر المفردات الدينيّة في الأديان الأخرى في خطوط المسألة الثقافيّة. والحمد لله ربِّ العالمين.

*ندوة الشّام الأسبوعيّة، فكر وثقافة


[1]  [الأعراف: 144].

[2]  [الأعراف: 144].

[3]  [الأعراف: 145].

[4]  [الأعراف: 154].

[5]  [الأنبياء: 48].

[6]  [المائدة: 43 ـ 45].

[7]  تفسير الميزان، السيد الطباطبائي، ج5، ص 342.

[8]  [الأعراف: 157].

[9]   [الفتح: 29].

[10]  [الصفّ: 6].

[11]  [آل عمران: 3، 4].

[12]  [البقرة: 285].

[13]  [البقرة: 89].

[14]  [البقرة: 101].

[15]  [الأنعام: 92].

لا نزال نتحدَّث عن الرّحلة الفكريَّة في تجربة النّبيّ موسى(ع)، مستعرضين أهمّ مراحلها.

تكريم الله لموسى(ع)

لقد انتهت التَّجربة المعرفيَّة الّتي خاضها النّبيّ موسى(ع) في طلبه من ربّه أن يجعله ينظر إليه ليراه رؤيةً حسيّةً، واستطاع أن يحصل من خلال هذه التَّجربة ـ بفعل الصَّدمة العنيفة الّتي صعقته فخرَّ منها مغمًى عليه ـ على الحقيقة الإلهيَّة التوحيديَّة، بأنَّ وجود الله ليس كوجود مخلوقاته الّتي يتعلّق بها الحسّ البصريّ، وربما كان هذا الأسلوب الإلهيّ هو أحد الأساليب التي يمنح الله بها أنبياءه علماً من علمه.

وأراد الله ـ بعد ذلك ـ أن يوحي إلى موسى(ع) بمحبَّته ولطفه وكرامته، واصطفائه لرسالته، واختصاصه بكلامه، ليتخفَّف من هول الصَّدمة، وليرفع عنه إحساسه النَّفسيّ بتجاوزه الحدَّ في طلبه من ربّه النَّظر إليه، مما كان لا يعرف خطورته من خلال التَّجربة الفكريّة المعرفيّة والوحي الإلهيّ، لينفتح على الرّسالة الجديدة الشَّاملة في ركائزها العقيديّة، وخطوطها الثقافيَّة، ومفاهيمها الإنسانيَّة الحياتيَّة، وقوانينها التّشريعيَّة، فيستوعبها بروحٍ منفتحةٍ راضيةٍ مطمئنّة، من خلال إحساسه بالرَّحمة والمحبَّة الإلهيَّة.

{قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاَتِي}[1]، لقد اخترتك لتكون الرّسول الّذي يبلّغ رسالتي للناس، لتخرجهم من الظّلمات إلى النّور، لما تملكه من صفاء الإيمان ووضوحه وعمقه، ومن قوّة العزيمة وصلابة الإرادة وحكمة التَّفكير وصدق الموقف وصبر المعاناة، مما لا بدَّ للنّبيّ الرّسول الذي يتولّى هذه المهمّة التي تفرض المواجهة للتّحدّيات، من أن يتَّصف بها ليؤدّي الرّسالة بقوّةٍ وإخلاص. وهذا هو الّذي يجعل للأنبياء ميزةً يستحقّون بها اختصاص الله لهم برسالته، لأنَّ الّذي يحمل الرِّسالة، لا بدَّ من أن يعيش روحيّة الرّسالة وأخلاقيّتها وأفقها الواسع ورحابتها الروحيَّة، وأن يمتلك الخصائص الفكريّة والسّلوكيّة الّتي تجعل من تجربته في خطِّ الرّسالة وحركتها، تجربةً ناجحة على مستوى القدوة العظيمة في حساب النَّتائج الرّساليَّة للحياة.

{وَبِكَلاَمِي}، فقد كنت النّبيّ الوحيد الّذي كلَّمته بشكلٍ مباشر منذ بداية تكليفك بالرّسالة، لأمنحك الإحساس بالقوّة، وبأنَّك تملك الوسائل الكفيلة بتحقيق النّجاح في المهمّة الموكولة إليك في الدَّعوة وحركة الصّراع، بحيث كنت ترى أمامك مستقبل الانتصار في نهاية المطاف، من خلال الرّوح الّتي أفضتها عليك، بكلماتي الّتي نزعت منك ومن أخيك هارون الّذي طلبته مساعداً لك، عنصر الخوف من الطّاغية وقومه، حيث شعرت بأنّك بعين الله ورعايته، من خلال اتّصاله المباشَر بك في كلامه الَّذي كان يدخل في وعيك السَّمعي، تماماً كما تسمع الكلام في المخاطبات العاديَّة من حيث النَّتيجة في طبيعته. وهذا ما عاشه النبيّ موسى في تكليم الله له، فلم يجد فيه شيئاً غريباً عمّا اعتاده مما كان مألوفاً لديه، ولكن من الطبيعيّ أن تكون آليّة الكلام لله مختلفةً عن الآليّة لدى النّاس، لأنَّ الله ليس جسداً ينطلق في كلامه وفي نظرته إلى الأشياء بالطّريقة الّتي لدى المخلوقين، بل قد يكون ذلك صوتاً يخلقه الله يتضمَّن المعاني الَّتي يدلّ عليها اللّفظ الملقى بالكلام.

الالتزام بالرّسالة

وقد نلاحظ في هذا التَّعبير القرآني، الجوَّ الحميم الَّذي أراد الله لموسى أن يتمثَّله في الإحساس بمحبّة الله ورعايته له، بعد الصَّدمة الشَّديدة التي واجهها في تجربة طلب الرّؤية، ليزول كلّ شيء سلبيّ من نفسه، وليعرف أنَّ الله لم يسلب عنه رعايته ولطفه، وذلك من خلال الاصطفاء المميَّز عن النَّاس بما حمّله من مسؤوليّة الرّسالة وإنزال التّوراة عليه ليبلّغها للنّاس، وليبدأ عهداً جديداً في حركة الدّعوة والهداية والإصلاح في الواقع الإنساني الممتدّ مع الزّمن كلّه، الذي يتجاوز حياته إلى زمنٍ آخر، وهذا ما أعطاه الله له من الميزة في ثقافة الرّسالة الشَّاملة. {فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُن مِّنَ الشَّاكِرِينَ}[2] لله، بالإخلاص له في أداء رسالته، وتحويلها إلى ثروةٍ فكريّةٍ للعقيدة والشّريعة والمفاهيم العامّة للإنسان والحياة، فذلك هو الشّكر العمليّ الإيجابيّ في موضوع الرّسالة، إضافةً إلى الشّكر الشّعوري المتمثّل بحال الامتنان الروحيّ في الداخل.

{وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٍ ـ مما يحتاجه النّاس في عباداتهم ومعاملاتهم ومعاشهم ومعادهم ـ مَّوْعِظَةً ـ تليّن مشاعرهم، وتفتح قلوبهم على الله، فيخشعون له، ويخضعون لربوبيَّته، ويتحركون في حياتهم العامَّة والخاصَّة، وفي علاقاتهم الإنسانيَّة، بأعمال الخير وقيم الرّوح ـ وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ ـ في قوانين الشَّريعة الّتي تنظِّم للنَّاس أمور حياتهم بكلِّ مفرداتها وتفاصيلها، لتتحرَّك الحياة كلُّها في طريق الله من خلال الالتزام بإطاعته في أوامره ونواهيه، فلا بدَّ من الدَّعوة إلى هذه الشَّريعة، وتخطيط الوسائل العمليَّة الموصِلة إلى الأهداف، لتحويلها إلى واقعٍ يتحرَّك في حياة النَّاس، وتوجيه الأفكار نحو الالتزام بمفاهيمها وأهدافها بشكلٍ واقعيّ حاسم ـ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ ـ ليتلقَّاها النَّاس بوعيٍ منفتحٍ يفرض نفسه على العقل والإحساس والانتماء، لأنَّ إخضاع الواقع للرّسالة الإلهيّة، يتطلَّب من الدّاعية أن يستخدم كلَّ الأساليب القوية التي تدخل في كيانات المجتمع في تنوّعاته الانتمائيّة، وفي تحدّياته الفكريّة، فتخترق كلّ الحواجز الضّالّة مما يثيره أعداء الحقّ وخصوم الرّسالة، فتقهرهم بالمنطق القويّ والحجّة القاطعة بما تسقط معه كلّ التّحدّيات.

وتلك هي الدّعوة المستمرّة لكلِّ الدّعاة إلى الله من حملة الرّسالات، بأن يتحرّكوا في التزامات الدَّعوة وحركيّتها ونشاطاتها ووسائلها بكلِّ قوّةٍ وعقلانيّة، بما يجعل الآخرين غير قادرين على مواجهتها بتحدّياتهم الضالّة المضلَّة، بسبب ما يحشده الدّعاة من العناصر الفكريّة والروحيَّة الّتي تجعلهم في موقع المواجهة الحاسمة الحازمة الَّتي تسقط أمامها كلّ عوامل الضَّعف، وتنهار عندها كلّ وسائل الترهيب والتّهويل.

ـ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا ـ بما يرفع مستوى حياتهم، ويعزِّز لهم ثقافتهم، ويصلح لهم أوضاعهم. فليفتِّشوا عن الأحسن فيها ليأخذوا به، تماماً كما يفعل الإنسان العاقل الواعي في اختيار الأحسن في كلِّ ما يقرأه أو يراه أو يقدم عليه، وسيرون بعد التأمّل والتدبّر، أنَّ كلَّ ما فيها يمثّل المرتبة العليا في الحسن، فلا تفاضل بين تشريعٍ وتشريع، أو بين مفهومٍ ومفهوم، بل هو التَّوازن في خطِّ الاستقامة في الجميع، لأنَّ الله الَّذي أوحى بها وشرَّعها ودعا النَّاس إلى أن يتمثَّلوها في سلوكهم العمليّ وثقافتهم الفكريَّة، قد راعى الحكمة في ذلك كلِّه، فيما يريده من تحقيق الفلاح للإنسان المؤمن في الدّنيا، والسَّعادة الَّتي يحصل عليها في الحياة، والانتصار للحقِّ في ساحة الصِّراع مع الباطل في مواجهة أعداء الله الَّذين لا يؤمنون به في حقيقة توحيده، بل يأخذون بأسباب الفسق الفكريّ والعمليّ بما يشركون به ممّا لم ينـزل به سلطاناً، وينحرفون بأنفسهم عن الخطِّ المستقيم، فيتعرَّضون نتيجة ذلك لعقاب الله الَّذي يجمعهم في الدّار الّتي يحشر فيها الفاسقين في العقيدة والعمل، {سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ}[3]، الّذين ابتعدوا عن الحقّ، فتشاهدونهم هناك في نار الجحيم وهم يعيشون حياة الشّقاء والعناء ويواجهون عذاب الله.

التَّوراة هدى ورحمة

وقد تحدَّث الله عن التَّوراة في القرآن الكريم بأنّها: {هُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ}[4]، {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاء وَذِكْراً لِّلْمُتَّقِينَ}[5]، فهو الكتاب الّذي تحدِّد آياته الفرق بين الحقِّ والباطل، وتضيء للنّاس الطريق المظلم ليتحركوا من خلال النّور الإلهيّ الّذي يضيء العقول والقلوب وحركة الحياة في كلِّ قضاياها الحيويّة المنفتحة على ما يرفع مستوى الإنسان، ويفتح له آفاق المعرفة، ويقرِّبه إلى الله في مواقع الرّضوان والمغفرة، ويذكّره بالآخرة من خلال الإعداد للوصول إلى حال الإخلاص لله سبحانه في إطاعته لأوامره ونواهيه والسّير في الخطّ المستقيم.

وقد جاء في قوله تعالى، في حديثه عن اليهود الّذين ربما كانوا يلجأون أحياناً إلى النبي محمد(ص) ليحكم بينهم في بعض منازعاتهم، تهرّباً من الشدَّة التي تتمثَّل في بعض أحكام التّوراة، كما جاء في كتب السّيرة: {وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِندَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَـئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ * إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاء فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ * وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}[6].

ويقال إنَّ الآية تشير إلى حكم الرّجم للزّاني المحصن، إذ حدث عندهم أنّ زنا البعض ممن كانوا لا يريدون تطبيق حكم التّوراة عليه، فأرادوا من النبيّ محمّد(ص) أن يحكم بينهم بما يرفع ذلك عنهم، ظنّاً منهم أنّه لا يشرّع حكم الرّجم، ففوجئوا بأنَّ هناك تطابقاً بين حكمه وحكم التّوراة، وأنّه حكم عليه بذلك لأنّه حُكم العدل، فتولّوا عنه، لأنهم لم يكونوا ملتزمين حتى بالكتاب الّذي يؤمنون به، الّذي أنزله الله على نبيّه موسى وأراد للنبيّين والربّانيّين والأحبار أن يحكموا به بين النّاس، واليهود منهم.

"وفي الآية تصديق ما للتّوراة التي عند اليهود اليوم، وهي الّتي جمعها لهم عزراء بإذن (كورش) ملك إيران بعدما فتح بابل، وأطلق بني إسرائيل من أسر البابليّين، وأذن لهم في الرّجوع إلى فلسطين وتعمير الهيكل، وهي الّتي كانت بيدهم في زمن النّبيّ(ص)، وهي الّتي بيدهم اليوم، فالقرآن يصدِّق أنَّ فيها حكم الله، وهو يذكر أيضاً أن فيها تحريفاً وتغييراً.

ويستنتج من الجميع ـ كما يقول صاحب تفسير الميزان ـ أنَّ التوراة الموجودة بينهم اليوم فيها شيء من التّوراة الأصليّة النازلة على موسى(ع)، وأمور حُرِّفت وغُيّرت، إمّا بزيادة أو نقصان، أو تغيير لفظٍ أو محلٍّ أو غير ذلك، وهذا هو الّذي يراه القرآن في أمر التّوراة، والبحث الوافي عنها يهدي إلى ذلك"[7].

ويؤكِّد القرآن أنَّ الله قد تحدَّث في التَّوراة عن النبيّ محمَّد(ص) في صفته الدالّة عليه، من خلال خطوط رسالته وأحكامها ومفاهيمها، وذلك في قوله تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ}[8]. ويتحدَّث في آيةٍ أخرى عن أنَّ صفة النّبيّ(ص) وأصحابه الّذين هم معه، مذكورة في التّوراة، إضافةً إلى الإنجيل، وذلك في قوله تعالى: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً}[9].

تكامل الرّسالات

وفي ضوء ذلك، نلتقي بالفكرة الّتي تؤكِّد انفتاح الرِّسالات بعضها على بعض، فنبيّ هذه الرِّسالة يبشِّر بالنَّبيّ الّذي يأتي من بعده، كما جاء في الحديث عن النبيّ عيسى(ع) فيما حكاه الله عنه: {وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ}[10]. وقد تحدّث القرآن عن تصديقه لما سبقه من الرّسالات الإلهيّة والكتب المنـزلة من الله، وذلك هو قوله تعالى: {نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ * مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَأَنزَلَ الْفُرْقَانَ...}[11].

وإذا كان القرآن مصدِّقاً لما بين يديه من التّوراة والإنجيل، ومؤكِّداً لنبوّة الأنبياء الّذين أرسلهم الله قبل النّبيّ محمَّد(ص)، بما جاء في قوله تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ}[12]. وجاء في آيةٍ أخرى: {وَلَمَّا جَاءهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ}[13]. وقوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ}[14]، وقوله تعالى: {وَهَـذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُّصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ}[15]... إلى غير ذلك من الآيات الّتي تؤكّد تصديق القرآن للإنجيل والتّوراة، والإيمان بالرّسل كلّهم في أصول العقيدة الإسلاميّة، إلا أنَّ هناك بعض الملاحظات النقديّة لبعض العقائد الطّارئة التي لا تنسجم مع الحقائق الّتي جاءت بها كتب الله، كما في الالتزام بألوهيَّة السيّد المسيح أو قتله وصلبه إلى غير ذلك.

وفي ضوء ذلك، فإنَّ المسلمين يملكون القاعدة الثقافيّة العقيديّة الّتي يلتقون فيها مع أهل الكتاب في الخطوط العامّة، مع بعض التحفّظ في التّفاصيل، على القاعدة القرآنيّة بالدّعوة إلى الكلمة السّواء، وبذلك، فإنَّ باستطاعتهم الدّخول معهم في حوارٍ حول القضايا التفصيليَّة فيما يختلفون فيه معهم، في توجيهٍ أخلاقيٍّ يؤكّد الجدال بالّتي هي أحسن، من خلال الانطلاق من مواقع اللّقاء بالكلمة الطيّبة، والدّفع بالّتي هي أحسن، والقول بالّتي هي أحسن، في نطاق الحوار بين الأديان الّذي يلتقي بحوار الحضارات. وهذه هي ميزة الدّين الإسلاميّ الّذي ينفتح على أكثر المفردات الدينيّة في الأديان الأخرى في خطوط المسألة الثقافيّة. والحمد لله ربِّ العالمين.

*ندوة الشّام الأسبوعيّة، فكر وثقافة


[1]  [الأعراف: 144].

[2]  [الأعراف: 144].

[3]  [الأعراف: 145].

[4]  [الأعراف: 154].

[5]  [الأنبياء: 48].

[6]  [المائدة: 43 ـ 45].

[7]  تفسير الميزان، السيد الطباطبائي، ج5، ص 342.

[8]  [الأعراف: 157].

[9]   [الفتح: 29].

[10]  [الصفّ: 6].

[11]  [آل عمران: 3، 4].

[12]  [البقرة: 285].

[13]  [البقرة: 89].

[14]  [البقرة: 101].

[15]  [الأنعام: 92].

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية