توثيق عقود البيع أو الشّراء، أو ما يرثه الإنسان من دارٍ أو أرضٍ وغير ذلك، يحفظ الحقوق ويمنع التعدّيات عليها. واليوم، نجد الكثير من قضايا الادّعاء على ملكيّة شيء، ونفي ذلك في المقابل من قبل الأطراف الآخرين، وهناك الآلاف من الشَّكاوى والمشاكل، حيث يستغلّ بعض المزوّرين أو التجّار أو الأشخاص بعض النّاس، ليحقِّقوا مصالحهم الخاصَّة على حساب الحقّ.
ومن المشاكل الحاصلة، أن يكون هناك إخوة أو أصدقاء يشتركون في مشروع معيّن، دون توثيق ما يتّفقون عليه، وعند وقوع المشكلة، يقدّم كلّ منهم ادّعاء يختلف عن الآخر.
وهناك قصص طويلة لأناسٍ كانوا أحباباً وأهلاً، ثم جعلتهم قضايا عدم توثيق العقود والاتّفاقات أعداءً، فحتى ضمن الأسرة الواحدة والبيت الواحد، تجد الخلافات المستعرة، والشّكاوى المرفوعة في المحاكم، وما يتركه ذلك من أثرٍ سلبيّ في وضع التّماسك العائليّ وقوّة الأسرة وفي العلاقات بين النّاس.
يعتبر محامون أنَّ التّوثيق كان منذ القدم، وله أهميَّة بالغة في حفظ الحقوق والمصالح للجميع.. لذا من الواجب توثيق العقود المتعارفة، سواء العقود المدنيّة كالزّواج والطّلاق، أو الماليّة كالشّراء والبيع والقروض..
فالتّوثيق ـ يتابع هؤلاء ـ ينظِّم سير المعاملات بين النّاس، وينظِّم أمورهم، والالتزام به يمنحهم السَّلامة والطمأنينة، ويجعل الثّقة كبيرة وموجودة بينهم، والتّوثيق أيضاً يقطع الطّريق على أصحاب النفوس المريضة، ويمنعهم من استغلال نقاط الضَّعف لدى النّاس، أو استثمار طيبتهم وغفلتهم بغية تحقيق مآربهم وطموحاتهم وأطماعهم.
كما أنَّ التّوثيق يثبت الحقوق، فالنّاس معرّضون للموت، وحرصاً على عدم وقوع المنازعات، فإنَّ التّوثيق يبرز تلك الحقوق، ويقطع أسباب المنازعات، ويجعل الجميع أمام مسؤوليّاتهم.. وفي حال الدّيون والمستحقّات يبن الناس، فإنَّ الوثائق المكتوبة تؤكِّد حقّ الدّائن، وتكشف نيّات المدين، إنْ حاول التّلاعب أو التهرّب من المستحقّات الواجبة عليه.. فهناك كثير من المتحايلين على النّاس، من الّذين يعمدون إلى تحريف بعض الوثائق أو انتحال صفة قانونيّة معيّنة بغير وجه حقّ، وهو ما يستدعي من القيّمين على الشّأن العام التحرّك ووضع القوانين الصّارمة لمواجهة هؤلاء ومحاسبتهم بصرامة عبر تطبيق تلك القوانين بحقّهم.
وفيما يتَّصل بجوانب الموضوع من النّاحية الشرعيَّة، يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ}[البقرة: 282]، وذلك عبر مراعاة العدل في كتابته، فيكون دقيقاً في كلِّ الخصوصيّات المتعلِّقة بالموضوع، ولا يكتب ما لا أساس له في القضيَّة.
ويقول العلامة المرجع السيِّد محمد حسين فضل الله(رض): "{فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ}، ما يوحي بأنَّ القضيّة ناظرة إلى المستقبل الّذي قد يتمخَّض عن بعض الأوضاع والانحرافات الَّتي تؤدِّي إلى النّزاع فيما بينهما، فأريد توثيق الدَّين، بحيث لا يستطيع المدين أن ينكره فيما بعد.
{وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ الله}... وقد يستوحي الإنسان منها ضرورة وجود أشخاص في المجتمع يملكون مثل هذه المعرفة الّتي تساهم في تنظيم وثائق المجتمع في معاملاته مما يحتاج فيها إلى التوثيق، ولعلّ وظيفة "كاتب العدل" الَّذي يعمل على كتابة العقود المتداولة بين الناس، بما فيها الديون، مستوحاة من هذه الآية، لأنَّ الدين لا خصوصية له في المسألة، بل القضية تشمل كل المعاملات الجارية بين الناس التي يُحتاج فيها إلى التوثيق، حذراً من أن ينكر البائع بيعه والمؤجر إجارته والشريك شراكته ونحو ذلك، فهي قضية عامة في عمق المسؤوليّة.
{فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ}، بأن يلقي عليه حدود الحقّ الذي يلزمه للدّائن، {وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا}، فإنَّ التّقوى تفرض على الإنسان أن لا ينقص أحداً ما في ما يعطي وفي ما يوثّق من إثباتات". [تفسير من وحي القرآن، ج 5، ص 168، 169].
من هنا نتعرَّف إلى أهميّة التّوثيق كوسيلةٍ من وسائل حفظ حقوق النّاس وتنظيم أمورهم وحماية علاقاتهم.
*إنّ الآراء الواردة في هذا المقال، لا تعبِّر بالضّرورة عن رأي الموقع، وإنَّما عن وجهة نظر صاحبها.