إنّنا عندما نستقبل شهر رمضان، وهو شهر البركة والرَّحمة والمغفرة، نحتاج إلى شيئين؛ الشَّيء الأوَّل يتعلَّق بنفوسنا، لأنَّنا في استغراقنا في كلّ شؤوننا السياسيَّة أو الاجتماعيَّة أو التبليغيَّة، قد ننسى أنفسنا، ولذلك، قد نكون مصداقاً في كثير من الحالات لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ}[الصّفّ: 2-3]، باعتبار أنّنا مشغولون بما هو خارج نفوسنا، ولا سيَّما أنَّ هناك ذهنيَّة لدى طلَّاب العلم أو لدى العلماء، إلَّا من عصمه الله تعالى، وهي الشّعور بالفوقيَّة، فإذا دخل العالم مجلساً، ولم يُوضَع في صدر المجلس، يشعر بأنَّه قد انتُقِص من قدره، وبأنَّ على النَّاس أن تحترمه وتقدّره، وأن لا تعترض عليه وتنقده، وأن لا تناقشه في الأمور لأنَّه عالم.
وهذا الأمر، أوَّلاً، يوجد نقاش حوله في الصّغرى، فقد تكون عالماً في شيء وغير عالم في شيء آخر، فإذا كنت عالماً في الفقه ومتقناً لعلمك، فقد تكون أفضل من الآخرين في هذا المجال، لكن أن يناقشك أحد في أمر سياسيّ أو اجتماعيّ أو في موضوع خارجيّ، فقد يكون في النَّاس من هو أعلم منك وأفهم في هذه المسائل.
مرض الطَّبقيَّة!
هذا الشّعور بالفوقيَّة، يتحوَّل إلى شعور بالكبرياء وشعور بالطَّبقيَّة، بمعنى أنَّ هؤلاء الّذين هم طلبة العلم، يعتبرون أنفسهم طبقةً تختلف عن النَّاس الآخرين، فكما حال طبقة الرأسماليّين وطبقة الإقطاعيّين، يوجد طبقة طلَّاب العلم. ولعلَّه مرض موجود بشكل عامّ في كلّ الحوزات، وهذا الَّذي ينمّي في نفس الإنسان شعور الكبرياء حتَّى في داخل الحوزة، لأنَّه إذا صار عند الإنسان مرض الكبر وانتفاخ الشَّخصيَّة والشّعور بالطبقيَّة بالنّسبة إلى النَّاس العاديّين، فعندما تتوفَّر الظروف، سيصبح لديه أيضاً شعور بالطبقيَّة تجاه زملائه.
والملحوظ في هذه الأجواء الموجودة في الحوزات - وهذا من الأمراض الأخلاقيَّة الَّتي عندنا –أنَّ أيَّ خلاف أو نزاع بين شخص وآخر، يجعل الإنسان يقاطع الإنسان الآخر تحت تسويلات شيطانيَّة، ومن هذه التَّسويلات، مثلاً، أنّني إذا زرت فلاناً، فستصير زيارتي له بمثابة تأييد له، أو أنَّ فلاناً لديه انحراف في جانب معيَّن، فلا يصحُّ لي مصافحته أو السَّلام عليه، وهكذا، مع أنَّنا نعظ النّاس، ونقول لهم، كما ورد في وصيَّة أمير المؤمنين (ع): "وَعَلَيْكُمْ بِالتَّوَاصُلِ وَالتَّبَاذُلِ، وَإِيَّاكُمْ وَالتَّدَابُرَ وَالتَّقَاطُعَ".
لذلك، فإنَّ المشاكل الَّتي تحدث بين المشايخ، من الصَّعب أن يحلَّها أحد، نحن نحلّ مشاكل الآخرين، ونطلب من الآخرين أن يتسامح بعضهم من بعض، ولكنَّنا لا نتسامح فيما بيننا، بل إنّنا قساة بعضنا على بعض.
العصبيَّة في الحوزات
ومن خلال التَّجارب والوضع الموجود، نلاحظ أنّه إذا اختلف إنسان مع إنسان في أيّ شيء، ولا سيَّما بعد أن دخلت الحزبيَّة على الطَّريقة الشَّرقيَّة، وهي الحزبيَّة العصبيَّة، فإنّنا نرى بعض طلَّاب العلم أو بعض العلماء، بالعناوين الثَّانويَّة، يستحلّ من الإنسان الآخر الَّذي ليس من جماعته، ولا من حزبه، ولا من منظَّمته، يستحلّ منه كلَّ شيء، ويستحلّ الاتّهام والإساءة من غير علم... وهذا أمر أصبح ظاهرة في واقع الحوزات، وليس حالة فرديَّة، وهذه الحالة تصل إلى مرحلة تنمو معه عندما يصل إلى موقع القيادة...
الآن، مثلاً، في مجتمع الحوزات، لا يقدر الإنسان أن يأمن على نفسه، فالمفروض في مجتمع المؤمنين أن يأمن الإنسان على نفسه، أن لا يحكم عليك هذا المؤمن بغير علم، أن لا يتَّهمك بغير علم، أن لا يقاطعك، بينما أنت ترى نفسك خائفاً من أن يثير أحدهم إشاعةً عنك، أو أن يتكلّم عليك، وهكذا.
دراسةُ النَّفس ومحاسبتُها
لذلك أقول إنَّ الإنسان في شهر رمضان؛ شهر رمضان القرآن، شهر رمضان الصَّوم الَّذي هو أساس التَّقوى، شهر رمضان الدّعاء، شهر رمضان التَّأمّل، شهر رمضان الصَّلاة... يحتاج إلى أن يفرغ لنفسه، أن يدرسها ويفحصها ويكتشف الأمراض الموجودة فيها، وإلَّا يكون مثل الإنسان الَّذي يحرق نفسه ليضيء للنَّاس، جاء في الحديث: "إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ حَسْرَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ، مَنْ وَصَفَ عَدْلًا ثُمَّ خَالَفَهُ إِلَى غَيْرِهِ"، كرجلٍ وعظَ شخصاً، فأخذ بموعظته، وترك هو ما وعظَ به، فدخل ذاك الجنَّة، ودخل هو النَّار.
إنَّ علينا أن نلتفت إلى أنفسنا التفاتةً حقيقيَّة، وأن نتخفَّف مما حولنا، لأنَّ ما حولنا من الضَّجيج والفوضى والعصبيَّات، يشغلنا حتَّى عن معرفة تكليفنا الشَّرعيّ، فعندما يغرق الإنسان في العصبيَّة لشخص أو لجماعة أو لحزب أو حركة أو منظَّمة أو عائلة، فإنَّها تعمي عينيه، وقد جاء في الحديث: "مَن تَعَصَّبَ أو تُعُصِّبَ لَهُ فقَد خَلَعَ رِبْقَ الإيمانِ مِن عُنُقِهِ"، ونحن مجتمع العصبيَّات.
فعلى الإنسان أن يحاول، مهما أمكن، أن يجلس مع نفسه، أن يدرسها ويحاسبها ويحاكمها ويجاهدها. إنَّ هذه الأمور الّتي نعلّمها للنَّاس، علينا أن نعلّمها لأنفسنا، ونحن نعرف أنَّ "مَن نَصَبَ نَفسَهُ للنَّاسِ إمامًا، فليَبدأْ بتَعليمِ نَفسِهِ قَبلَ تَعليمِ غَيرِهِ، وليَكُن تأديبُهُ بسِيرَتِهِ قَبلَ تأديبِهِ بلِسانِهِ، ومُعَلِّمُ نَفسِهِ ومُؤدِّبُها أحَقُّ بالإجلالِ من مُعَلِّمِ النّاسِ ومُؤدِّبِهِم".
استعادةُ الرّوحانيَّة
هذه مسألة نرجو أن يوفّقنا الله سبحانه وتعالى إليها؛ أن نربّي أنفسنا على الإسلام، وأن نستعيد الرّوحانيَّة، لأنَّ الواقع الَّذي نعيشه هو واقع خالٍ من الرّوحانيَّة؛ الرّوحانيَّة الّتي تجعلنا نجلس ونبكي بين يدي الله، ونحزن ونتذكَّر الآخرة، ونتذكَّر موقف الحساب بين يديه تعالى. فأساس الإسلام هو الرّوحانيَّة، وأن يوفَّق الإنسان لأن يخشع ويخاف بين يدي الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ}[الأنفال: 2]، {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَىٰ رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ}[المؤمنون: 60].
شرطُ التَّبليغ
الجانب الثَّاني هو جانب الاهتمام بالتَّبليغ، فقد يتاح لأحدٍ الفرصة لأن يخرج خارج بلده أو منطقته ليبلّغ في مكان آخر. هنا، من الطَّبيعيّ أنَّ أوَّل شرط للتَّبليغ، هو أن يعطي النَّاسَ الإسلامَ الصَّافي النَّقيّ، وأن يربّيهم على عدم العصبيَّات، وخصوصاً عصبيَّات الأحزاب.. فأن يكون الشَّخص منتمياً إلى حزب، ويكون مقتنعاً به، فلا مشكلة، لكن عليه أن لا يتعصَّب له ويلغي الآخر.
الآن، هناك تيَّارات إسلاميَّة موجودة، وهناك أحزاب إسلاميَّة موجودة، وقد يكون هناك شخص لا يحبّ أن يتحزَّب، وقد يكون هناك شخص يحبّ أن يتحزَّب لجهة معيَّنة، ويعتبر الجانب الثّاني مخطئاً. ولكن في هذه الحالة، عليه أن لا يتعصَّب على الآخرين، وأن تكون الوسيلة الإسلاميَّة لاتّخاذ الموقف من الحزب الآخر هي الحوار، فكما عليه أن يحمل الآخر على الأحسن، عليه أيضاً أن يحمل الجهة الأخرى على الأحسن، "ضَعْ أَمْرَ أَخِيكَ عَلَى أَحْسَنِهِ حَتَّى يَأْتِيَكَ مَا يَغْلِبُكَ مِنْه، ولَا تَظُنَّنَّ بِكَلِمَةٍ خَرَجَتْ مِنْ أَخِيكَ سُوءاً، وأَنْتَ تَجِدُ لَهَا فِي الْخَيْرِ مَحْمِلًا". فإذا كان هناك ضلال، أن نحاول أن نفكّر في أفضل السّبل والطّرق من أجل هداية هذا الإنسان.
التّعصّب للمرجعيّات
وكذلك الآن العصبيَّات الَّتي ولدت عندنا بشكلٍ حادّ، وهي عصبيَّات المرجعيَّات، لأنَّني أزعم أنَّ الأساليب الّتي تُتَّخذ، أنَّه حتَّى طلَّاب العلم، عندما يُرجِعون إلى شخصٍ ما، لا يطبّقون ما يدرسونه في الفقه على ما يعملون. فمثلاً، إذا أَعجَبَ طالبَ العلم أن يرجّعَ لشخص، يحاول أن يرى ما الوسيلة الَّتي يستطيع فيها أن يأتي بالأشخاص حتّى يؤكّد ما عنده، فهو يتَّخذ الموقف مسبقاً، ثمَّ يبحث بعد ذلك عن مخارج له، كما في تعليلات النّحاة: "رُفِعَ الفاعلُ لأنَّه عمدة، ونُصِبَ المفعولُ لأنَّه فضلة".
لا ينبغي أن يكون الأمر هكذا، هناك موازيين نحن نقرأها في باب التَّقليد، وهناك أسس الرّجوع إلى شخصٍ ما، وفي حال تعارضت البيّنات ماذا نفعل، هذه أمور نقرأها ونعلّمها للنَّاس.
فأن نتعصَّب لشخص، بحيث نهمل القواعد الشَّرعيَّة الَّتي نقرأها ونعلّمها للنَّاس، فهذا غير مقبول. يعني، مثلاً، إذا كان عندنا سبعة مراجع أو ثمانية أو عشرة، فإذا تعارضت البيّنات، فعلى أيّ أساس نأخذ بهذا دون هذا؟ هل الحكم هو التَّخيير، أم هو الاحتياط؟ هل نأخذ بالمرجّحات في باب البيّنات أو لا نأخذ بها؟ فهذه كلّها مسائل فقهيَّة، ونحن من المفروض أنَّنا نقرأ فقهاً.
عندنا، مثلاً، كلمة "الشّياع المفيد للعلم"، ولكن مع وجود عدَّة جهات، فإنَّ الشّياع لن يفيد العلم، وخصوصاً الشّياع النَّاشئ من العصبيَّات.
فما أريد أن أقوله، أنّ علينا، أوَّلاً، أن لا نكون المتعصّبين، بل أن نكون الملتزمين؛ الالتزام المنطلق على القاعدة الشَّرعيَّة، وليس على القاعدة المزاجيَّة الشَّهوانيَّة. إنَّ المرجعيَّة ليست قراراً حزبيّاً وليست قراراً حركيّاً، وليس لها علاقة بولاية الفقيه، فالفقيه ليس له أن يستعمل ولايته في ذلك، لأنَّ الأمر ثقافيّ، ويرجع إلى الأمور الموضوعيَّة.
علينا أن نتفقَّه في هذا، لأنَّ بعض النَّاس قد يكون محصّلاً، ولكنَّه ليس مستعدّاً لأن يتفقَّه في الأمر الَّذي قد لا ينسجم مع مزاجه.. أن لا نكون المتعصّبين، وأن لا نشجّع الآخرين على العصبيَّة، ولا سيَّما إذا كانت العصبيَّة تؤدّي إلى أن يتكلَّم النَّاس على العلماء...
طوارئ تبليغيّة
وعلينا، أيضاً، عندما نريد أن نبلّغ النَّاس، أن ننضّج الفكرة الَّتي نبلّغها، فعندما أريد أن أبلّغ فكرةً، فمعنى ذلك أنّني أعطي إسلاماً، وأقول للنَّاس هذا هو الإسلام، والمفروض أنّني أقدّم الإسلام على أساس الحجَّة والبيّنة، فلا فرق بين أن يفتي أحدٌ ويقول يجب أو يحرم، وبين أن يقول إنَّ المفهوم الإسلاميّ هو كذا، لأنَّ المفهوم الإسلاميّ يرتكز على أساس أحكام شرعيَّة معيَّنة.
وأيضاً في قضيَّة التّبليغ، ينبغي أن يكون هناك حالة طوارئ إسلاميَّة وإيمانيَّة؛ أن ندخل البيوت، أن ننتقل من بيت إلى بيت، وأن نقيم سهرات فيها، وأن يأتي الجيران إلى هذا البيت وذاك البيت، وأن نشتغل، هذا من قبيل عندما يكون هناك وباء، ألا نقف، مثلاً، على مفارق الطّرق كي نلقّح النَّاس؟! وكذلك "إِذَا ظَهَرَتِ الْبِدَعُ فِي أُمَّتِي، فَلْيُظْهِرِ الْعَالِمُ عِلْمَهُ"، أن يبادر، لا أن ينتظر النَّاس حتّى يسألوه، على الطّريقة الّتي يقولها البعض بأنّ العالم كالشَّجرة إذا هززتها أعطتك، فاذهب وقم بهزّها، أو كالكعبة يُقصَد ولا يَقصِد، فعلى العالم أن يظهر علمه ويبادر، "فَمَنْ لَمْ يَفْعَلْ، فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ"، وهذا حديث نبويّ صحيح.
لذلك، شهر رمضان هو شهر الرَّحمة والبركة والمغفرة، والإمام زين العابدين (ع) الَّذي ينبغي أن نقرأ دعاءه إذا دخل شهر رمضان، يقول إنَّه "شهر الإسلام وشهر الطَّهور"، هو الشَّهر الَّذي يجدّد فيه الإنسان إسلامه وينضّجه، وهو الشَّهر الَّذي يطهّر فيه عقله وقلبه ونفسه.
نسأل الله أن يجعله شهر رحمة وخير وبركة وصحَّة وعافية، ونصر على أعداء الله...
*محاضرة رمضانيّة لسماحته أمام طلبة العلوم الدينيّة، بتاريخ: 2-12- 1999م.
إنّنا عندما نستقبل شهر رمضان، وهو شهر البركة والرَّحمة والمغفرة، نحتاج إلى شيئين؛ الشَّيء الأوَّل يتعلَّق بنفوسنا، لأنَّنا في استغراقنا في كلّ شؤوننا السياسيَّة أو الاجتماعيَّة أو التبليغيَّة، قد ننسى أنفسنا، ولذلك، قد نكون مصداقاً في كثير من الحالات لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ}[الصّفّ: 2-3]، باعتبار أنّنا مشغولون بما هو خارج نفوسنا، ولا سيَّما أنَّ هناك ذهنيَّة لدى طلَّاب العلم أو لدى العلماء، إلَّا من عصمه الله تعالى، وهي الشّعور بالفوقيَّة، فإذا دخل العالم مجلساً، ولم يُوضَع في صدر المجلس، يشعر بأنَّه قد انتُقِص من قدره، وبأنَّ على النَّاس أن تحترمه وتقدّره، وأن لا تعترض عليه وتنقده، وأن لا تناقشه في الأمور لأنَّه عالم.
وهذا الأمر، أوَّلاً، يوجد نقاش حوله في الصّغرى، فقد تكون عالماً في شيء وغير عالم في شيء آخر، فإذا كنت عالماً في الفقه ومتقناً لعلمك، فقد تكون أفضل من الآخرين في هذا المجال، لكن أن يناقشك أحد في أمر سياسيّ أو اجتماعيّ أو في موضوع خارجيّ، فقد يكون في النَّاس من هو أعلم منك وأفهم في هذه المسائل.
مرض الطَّبقيَّة!
هذا الشّعور بالفوقيَّة، يتحوَّل إلى شعور بالكبرياء وشعور بالطَّبقيَّة، بمعنى أنَّ هؤلاء الّذين هم طلبة العلم، يعتبرون أنفسهم طبقةً تختلف عن النَّاس الآخرين، فكما حال طبقة الرأسماليّين وطبقة الإقطاعيّين، يوجد طبقة طلَّاب العلم. ولعلَّه مرض موجود بشكل عامّ في كلّ الحوزات، وهذا الَّذي ينمّي في نفس الإنسان شعور الكبرياء حتَّى في داخل الحوزة، لأنَّه إذا صار عند الإنسان مرض الكبر وانتفاخ الشَّخصيَّة والشّعور بالطبقيَّة بالنّسبة إلى النَّاس العاديّين، فعندما تتوفَّر الظروف، سيصبح لديه أيضاً شعور بالطبقيَّة تجاه زملائه.
والملحوظ في هذه الأجواء الموجودة في الحوزات - وهذا من الأمراض الأخلاقيَّة الَّتي عندنا –أنَّ أيَّ خلاف أو نزاع بين شخص وآخر، يجعل الإنسان يقاطع الإنسان الآخر تحت تسويلات شيطانيَّة، ومن هذه التَّسويلات، مثلاً، أنّني إذا زرت فلاناً، فستصير زيارتي له بمثابة تأييد له، أو أنَّ فلاناً لديه انحراف في جانب معيَّن، فلا يصحُّ لي مصافحته أو السَّلام عليه، وهكذا، مع أنَّنا نعظ النّاس، ونقول لهم، كما ورد في وصيَّة أمير المؤمنين (ع): "وَعَلَيْكُمْ بِالتَّوَاصُلِ وَالتَّبَاذُلِ، وَإِيَّاكُمْ وَالتَّدَابُرَ وَالتَّقَاطُعَ".
لذلك، فإنَّ المشاكل الَّتي تحدث بين المشايخ، من الصَّعب أن يحلَّها أحد، نحن نحلّ مشاكل الآخرين، ونطلب من الآخرين أن يتسامح بعضهم من بعض، ولكنَّنا لا نتسامح فيما بيننا، بل إنّنا قساة بعضنا على بعض.
العصبيَّة في الحوزات
ومن خلال التَّجارب والوضع الموجود، نلاحظ أنّه إذا اختلف إنسان مع إنسان في أيّ شيء، ولا سيَّما بعد أن دخلت الحزبيَّة على الطَّريقة الشَّرقيَّة، وهي الحزبيَّة العصبيَّة، فإنّنا نرى بعض طلَّاب العلم أو بعض العلماء، بالعناوين الثَّانويَّة، يستحلّ من الإنسان الآخر الَّذي ليس من جماعته، ولا من حزبه، ولا من منظَّمته، يستحلّ منه كلَّ شيء، ويستحلّ الاتّهام والإساءة من غير علم... وهذا أمر أصبح ظاهرة في واقع الحوزات، وليس حالة فرديَّة، وهذه الحالة تصل إلى مرحلة تنمو معه عندما يصل إلى موقع القيادة...
الآن، مثلاً، في مجتمع الحوزات، لا يقدر الإنسان أن يأمن على نفسه، فالمفروض في مجتمع المؤمنين أن يأمن الإنسان على نفسه، أن لا يحكم عليك هذا المؤمن بغير علم، أن لا يتَّهمك بغير علم، أن لا يقاطعك، بينما أنت ترى نفسك خائفاً من أن يثير أحدهم إشاعةً عنك، أو أن يتكلّم عليك، وهكذا.
دراسةُ النَّفس ومحاسبتُها
لذلك أقول إنَّ الإنسان في شهر رمضان؛ شهر رمضان القرآن، شهر رمضان الصَّوم الَّذي هو أساس التَّقوى، شهر رمضان الدّعاء، شهر رمضان التَّأمّل، شهر رمضان الصَّلاة... يحتاج إلى أن يفرغ لنفسه، أن يدرسها ويفحصها ويكتشف الأمراض الموجودة فيها، وإلَّا يكون مثل الإنسان الَّذي يحرق نفسه ليضيء للنَّاس، جاء في الحديث: "إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ حَسْرَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ، مَنْ وَصَفَ عَدْلًا ثُمَّ خَالَفَهُ إِلَى غَيْرِهِ"، كرجلٍ وعظَ شخصاً، فأخذ بموعظته، وترك هو ما وعظَ به، فدخل ذاك الجنَّة، ودخل هو النَّار.
إنَّ علينا أن نلتفت إلى أنفسنا التفاتةً حقيقيَّة، وأن نتخفَّف مما حولنا، لأنَّ ما حولنا من الضَّجيج والفوضى والعصبيَّات، يشغلنا حتَّى عن معرفة تكليفنا الشَّرعيّ، فعندما يغرق الإنسان في العصبيَّة لشخص أو لجماعة أو لحزب أو حركة أو منظَّمة أو عائلة، فإنَّها تعمي عينيه، وقد جاء في الحديث: "مَن تَعَصَّبَ أو تُعُصِّبَ لَهُ فقَد خَلَعَ رِبْقَ الإيمانِ مِن عُنُقِهِ"، ونحن مجتمع العصبيَّات.
فعلى الإنسان أن يحاول، مهما أمكن، أن يجلس مع نفسه، أن يدرسها ويحاسبها ويحاكمها ويجاهدها. إنَّ هذه الأمور الّتي نعلّمها للنَّاس، علينا أن نعلّمها لأنفسنا، ونحن نعرف أنَّ "مَن نَصَبَ نَفسَهُ للنَّاسِ إمامًا، فليَبدأْ بتَعليمِ نَفسِهِ قَبلَ تَعليمِ غَيرِهِ، وليَكُن تأديبُهُ بسِيرَتِهِ قَبلَ تأديبِهِ بلِسانِهِ، ومُعَلِّمُ نَفسِهِ ومُؤدِّبُها أحَقُّ بالإجلالِ من مُعَلِّمِ النّاسِ ومُؤدِّبِهِم".
استعادةُ الرّوحانيَّة
هذه مسألة نرجو أن يوفّقنا الله سبحانه وتعالى إليها؛ أن نربّي أنفسنا على الإسلام، وأن نستعيد الرّوحانيَّة، لأنَّ الواقع الَّذي نعيشه هو واقع خالٍ من الرّوحانيَّة؛ الرّوحانيَّة الّتي تجعلنا نجلس ونبكي بين يدي الله، ونحزن ونتذكَّر الآخرة، ونتذكَّر موقف الحساب بين يديه تعالى. فأساس الإسلام هو الرّوحانيَّة، وأن يوفَّق الإنسان لأن يخشع ويخاف بين يدي الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ}[الأنفال: 2]، {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَىٰ رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ}[المؤمنون: 60].
شرطُ التَّبليغ
الجانب الثَّاني هو جانب الاهتمام بالتَّبليغ، فقد يتاح لأحدٍ الفرصة لأن يخرج خارج بلده أو منطقته ليبلّغ في مكان آخر. هنا، من الطَّبيعيّ أنَّ أوَّل شرط للتَّبليغ، هو أن يعطي النَّاسَ الإسلامَ الصَّافي النَّقيّ، وأن يربّيهم على عدم العصبيَّات، وخصوصاً عصبيَّات الأحزاب.. فأن يكون الشَّخص منتمياً إلى حزب، ويكون مقتنعاً به، فلا مشكلة، لكن عليه أن لا يتعصَّب له ويلغي الآخر.
الآن، هناك تيَّارات إسلاميَّة موجودة، وهناك أحزاب إسلاميَّة موجودة، وقد يكون هناك شخص لا يحبّ أن يتحزَّب، وقد يكون هناك شخص يحبّ أن يتحزَّب لجهة معيَّنة، ويعتبر الجانب الثّاني مخطئاً. ولكن في هذه الحالة، عليه أن لا يتعصَّب على الآخرين، وأن تكون الوسيلة الإسلاميَّة لاتّخاذ الموقف من الحزب الآخر هي الحوار، فكما عليه أن يحمل الآخر على الأحسن، عليه أيضاً أن يحمل الجهة الأخرى على الأحسن، "ضَعْ أَمْرَ أَخِيكَ عَلَى أَحْسَنِهِ حَتَّى يَأْتِيَكَ مَا يَغْلِبُكَ مِنْه، ولَا تَظُنَّنَّ بِكَلِمَةٍ خَرَجَتْ مِنْ أَخِيكَ سُوءاً، وأَنْتَ تَجِدُ لَهَا فِي الْخَيْرِ مَحْمِلًا". فإذا كان هناك ضلال، أن نحاول أن نفكّر في أفضل السّبل والطّرق من أجل هداية هذا الإنسان.
التّعصّب للمرجعيّات
وكذلك الآن العصبيَّات الَّتي ولدت عندنا بشكلٍ حادّ، وهي عصبيَّات المرجعيَّات، لأنَّني أزعم أنَّ الأساليب الّتي تُتَّخذ، أنَّه حتَّى طلَّاب العلم، عندما يُرجِعون إلى شخصٍ ما، لا يطبّقون ما يدرسونه في الفقه على ما يعملون. فمثلاً، إذا أَعجَبَ طالبَ العلم أن يرجّعَ لشخص، يحاول أن يرى ما الوسيلة الَّتي يستطيع فيها أن يأتي بالأشخاص حتّى يؤكّد ما عنده، فهو يتَّخذ الموقف مسبقاً، ثمَّ يبحث بعد ذلك عن مخارج له، كما في تعليلات النّحاة: "رُفِعَ الفاعلُ لأنَّه عمدة، ونُصِبَ المفعولُ لأنَّه فضلة".
لا ينبغي أن يكون الأمر هكذا، هناك موازيين نحن نقرأها في باب التَّقليد، وهناك أسس الرّجوع إلى شخصٍ ما، وفي حال تعارضت البيّنات ماذا نفعل، هذه أمور نقرأها ونعلّمها للنَّاس.
فأن نتعصَّب لشخص، بحيث نهمل القواعد الشَّرعيَّة الَّتي نقرأها ونعلّمها للنَّاس، فهذا غير مقبول. يعني، مثلاً، إذا كان عندنا سبعة مراجع أو ثمانية أو عشرة، فإذا تعارضت البيّنات، فعلى أيّ أساس نأخذ بهذا دون هذا؟ هل الحكم هو التَّخيير، أم هو الاحتياط؟ هل نأخذ بالمرجّحات في باب البيّنات أو لا نأخذ بها؟ فهذه كلّها مسائل فقهيَّة، ونحن من المفروض أنَّنا نقرأ فقهاً.
عندنا، مثلاً، كلمة "الشّياع المفيد للعلم"، ولكن مع وجود عدَّة جهات، فإنَّ الشّياع لن يفيد العلم، وخصوصاً الشّياع النَّاشئ من العصبيَّات.
فما أريد أن أقوله، أنّ علينا، أوَّلاً، أن لا نكون المتعصّبين، بل أن نكون الملتزمين؛ الالتزام المنطلق على القاعدة الشَّرعيَّة، وليس على القاعدة المزاجيَّة الشَّهوانيَّة. إنَّ المرجعيَّة ليست قراراً حزبيّاً وليست قراراً حركيّاً، وليس لها علاقة بولاية الفقيه، فالفقيه ليس له أن يستعمل ولايته في ذلك، لأنَّ الأمر ثقافيّ، ويرجع إلى الأمور الموضوعيَّة.
علينا أن نتفقَّه في هذا، لأنَّ بعض النَّاس قد يكون محصّلاً، ولكنَّه ليس مستعدّاً لأن يتفقَّه في الأمر الَّذي قد لا ينسجم مع مزاجه.. أن لا نكون المتعصّبين، وأن لا نشجّع الآخرين على العصبيَّة، ولا سيَّما إذا كانت العصبيَّة تؤدّي إلى أن يتكلَّم النَّاس على العلماء...
طوارئ تبليغيّة
وعلينا، أيضاً، عندما نريد أن نبلّغ النَّاس، أن ننضّج الفكرة الَّتي نبلّغها، فعندما أريد أن أبلّغ فكرةً، فمعنى ذلك أنّني أعطي إسلاماً، وأقول للنَّاس هذا هو الإسلام، والمفروض أنّني أقدّم الإسلام على أساس الحجَّة والبيّنة، فلا فرق بين أن يفتي أحدٌ ويقول يجب أو يحرم، وبين أن يقول إنَّ المفهوم الإسلاميّ هو كذا، لأنَّ المفهوم الإسلاميّ يرتكز على أساس أحكام شرعيَّة معيَّنة.
وأيضاً في قضيَّة التّبليغ، ينبغي أن يكون هناك حالة طوارئ إسلاميَّة وإيمانيَّة؛ أن ندخل البيوت، أن ننتقل من بيت إلى بيت، وأن نقيم سهرات فيها، وأن يأتي الجيران إلى هذا البيت وذاك البيت، وأن نشتغل، هذا من قبيل عندما يكون هناك وباء، ألا نقف، مثلاً، على مفارق الطّرق كي نلقّح النَّاس؟! وكذلك "إِذَا ظَهَرَتِ الْبِدَعُ فِي أُمَّتِي، فَلْيُظْهِرِ الْعَالِمُ عِلْمَهُ"، أن يبادر، لا أن ينتظر النَّاس حتّى يسألوه، على الطّريقة الّتي يقولها البعض بأنّ العالم كالشَّجرة إذا هززتها أعطتك، فاذهب وقم بهزّها، أو كالكعبة يُقصَد ولا يَقصِد، فعلى العالم أن يظهر علمه ويبادر، "فَمَنْ لَمْ يَفْعَلْ، فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ"، وهذا حديث نبويّ صحيح.
لذلك، شهر رمضان هو شهر الرَّحمة والبركة والمغفرة، والإمام زين العابدين (ع) الَّذي ينبغي أن نقرأ دعاءه إذا دخل شهر رمضان، يقول إنَّه "شهر الإسلام وشهر الطَّهور"، هو الشَّهر الَّذي يجدّد فيه الإنسان إسلامه وينضّجه، وهو الشَّهر الَّذي يطهّر فيه عقله وقلبه ونفسه.
نسأل الله أن يجعله شهر رحمة وخير وبركة وصحَّة وعافية، ونصر على أعداء الله...
*محاضرة رمضانيّة لسماحته أمام طلبة العلوم الدينيّة، بتاريخ: 2-12- 1999م.