الاستخارة: بين الدّعاء والتَّبصير

الاستخارة: بين الدّعاء والتَّبصير

مِنْ فَتْحِ القرآنِ لمعرفةِ المستقبل، مروراً بالاستخارة الإلكترونيَّة، وصولاً إلى التّفاؤل بالسّبحة، حالات باتت متفشّيةً في مجتمعاتنا، إلى حدِّ أنَّك إذا وقعت في مشكلةٍ ما، أو تعسَّرت في اتخاذ قرارٍ معيَّن، وحتّى قبل أن تطلب الاستشارة، ترى النَّاس من حولك يبادرون إلى طرح الحلِّ عليك، وكأنّه الحلّ اليقين: "الخيرة عند الحيرة".

تفرض الاستخارة نفسها اليوم كظاهرةٍ منتشرةٍ في أوساط المؤمنين، حيث باتت وسيلةً معتمدةً بشكل كبير وشائع بين الكثير منهم، بل هي مرغوبة ومحبَّبة عند الكثيرين، ومن مختلف الفئات العمريّة، ففي حين يلجأ إليها البعض لتحديد مواقف واتجاهات مفصليّة في حياتهم، كالزواج والعمل، يتّجه البعض الآخر إليها كملاذٍ آمنٍ يقيه شرّ التّفكير والإمعان في الأمور، حتى اليوميّة منها.

لكن يغيب عن بال البعض أنَّ للخيرة شروطاً، وأنَّ لها معايير تحدِّد مواضع استخدامها والاعتداد بها، فلا يجوز استخدامها كيفما اتّفق.

الحيرة والخيرة

الاستخارة، لغةً، تأتي بمعنى طلب الخير، أي طلب التَّوفيق من الله. وتختلف النّظرة إليها، بين من يراها دعاءً يتوجَّه به العبد إلى ربّه، وبين من ينظر إليها على أنّها طريقةٌ لكشف الغيب، الأمر الّذي يفرغ الدّعاء من معناه، ويحوّله نوعاً من أنواع التّبصير.

مورد الاستخارة هو وقوع الإنسان في الحيرة، وغياب النّاصح والمشير، ولا بدَّ هنا من التّشديد على هذه النّقطة، إذ ينبغي استنفاد جميع وسائل التّفكير والاستشارة ومحاولة الوصول إلى القرار الحاسم، قبل الخيرة وليس بعدها، فإذا لم تسعفنا المعطيات بين أيدينا في التوصّل إلى قرار واضح، نلجأ إلى الاستخارة.

أمّا عندما تكون الأمور واضحةً في ميزان العقل والمنطق، ولا يكون هناك مورد أو حاجة للاستخارة، فإنَّ الاستخارة تسقط ولا يجب التقيّد بها، فهي ليست تجميداً للعقل أو تعطيلاً للفكر، بل على العكس من ذلك، فأن يستخير العبد ربّه ويستشيره، يعني أن يطلب منه أن يُرِيَه وجه الصَّلاح أو عدمه في هذا العمل، لِيُقدم عليه أو يجتنبه، ويتمُّ استعلام الأمر من خلال الاعتماد على وسيلة معيّنة، كالرِّقاع، أو حبّات السُّبحة، أو من خلال مضمون آيات القرآن، أو غير ذلك.

تجدر الإشارة إلى أنَّ الإفراط في الاستخارة  يساهم في إفراغها من دورها، إضافةً إلى شلّ تفكير الإنسان، وتعطيل حكمته ونظرته إلى الأمور، بحيث يصبح متّكلاً بشكل سلبيّ على نتيجة "افعل" أو "لا تفعل"، وهذا الأمر لا يمتّ بصلة إلى الفرد المسلم الّذي حثّه الإسلام على الرّجوع إلى العقل في جميع خياراته ومشاغل حياته.

أمَّا الحيرة، فلا بدَّ من الوقوف عندها والمقصود بها، فليست كلّ حيرةٍ تحتاج إلى استخارة، بل إنَّ الحيرة الّتي تدفع إليها، هي عندما تتشابك الأمور عند الإنسان، وتتشابه عليه الخيارات، ولا يتَّضح له وجه المصلحة من المفسدة، فيظلّ محتاراً متردِّداً لا يهتدي سبيلاً، ولا يعرف ماذا يفعل. أمَّا الحيرة الّتي يمكن للإنسان أن يتجاوزها بقليلٍ من التَّفكير، فإنَّ اعتماد الاستخارة فيها، يعني الاتّكاليَّة الّتي تؤدِّي بالإنسان إلى تعطيل عقله، والاستهتار بمسؤوليَّته، حتّى إنَّ البعض تتحوَّل عنده الاستخارة إلى صفةٍ ملازمة له، وإلى وسواسٍ قهريّ أحياناً، وأصحاب هذه الحالة يعيشون أزمات نفسيّة تدفعهم إلى اللّجوء إلى الاستخارة حتّى في أصغر الأمور وأبسط التحركات الّتي تكون واضحةً لا شكَّ فيها.

الاستخارة مفتاح الغيب

إنَّ العنصر الرّئيس في الاستخارة، مهما كانت أشكالها، هو الدّعاء واستحضار الله في قلوبنا، وثقتنا بلطفه ورحمته الَّتي وسعت كلّ شيء. وتبقى الطّريقة وسيلةً ليس إلا، فلا يصحّ استخدام الاستخارة لكشف الغيب واستطلاع المستقبل واستبيان مآلات الأمور، وإلا تصبح عندها أقرب إلى التّنجيم المحرَّم شرعاً.

ولا مجال للخيرة أن تحلَّ مكان عمل الإنسان الفعليّ للوصول إلى هدفه، بالوسائل الذاتيَّة الّتي يستدعيها الوصول، من رؤيةٍ وسمعٍ وتفكيرٍ ومشورة، وما إلى ذلك من وسائل يمكن أن تكون درباً موصلاً إلى الهدف.

ويبقى أن نعمِّق علاقتنا بالله تعالى، فلا نفرّغها من الإيمان الحقيقيّ القائم على حسن الثّقة به، ولا نجعل العلاقة به قائمةً فقط على المنفعة، بل علينا أن نقوم بمسؤوليّاتنا تجاه أنفسنا، وأن نحسن التوكّل عليه، وهو الّذي قال في محكم كتابه الكريم: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ}[آل عمران: 159]، {وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}[المائدة: 23].

وإذا كانت المسؤوليّة الأساس تقع على الفرد نفسه، فلا ريب أنَّ علماء الدّين يتحمّلون أيضاً جزءاً مهمّاً من المسؤوليّة، بتوعية الأفراد، وتوجيههم الاتّجاه الصَّحيح فيما يتعلّق بالتّعاطي مع الاستخارة، وتوضيح الهدف الرّئيس منها.

*إنَّ الآراء الواردة في هذا المقال، لا تعبّر بالضَّرورة عن رأي الموقع، وإنّما عن وجهة نظر صاحبها. 

مِنْ فَتْحِ القرآنِ لمعرفةِ المستقبل، مروراً بالاستخارة الإلكترونيَّة، وصولاً إلى التّفاؤل بالسّبحة، حالات باتت متفشّيةً في مجتمعاتنا، إلى حدِّ أنَّك إذا وقعت في مشكلةٍ ما، أو تعسَّرت في اتخاذ قرارٍ معيَّن، وحتّى قبل أن تطلب الاستشارة، ترى النَّاس من حولك يبادرون إلى طرح الحلِّ عليك، وكأنّه الحلّ اليقين: "الخيرة عند الحيرة".

تفرض الاستخارة نفسها اليوم كظاهرةٍ منتشرةٍ في أوساط المؤمنين، حيث باتت وسيلةً معتمدةً بشكل كبير وشائع بين الكثير منهم، بل هي مرغوبة ومحبَّبة عند الكثيرين، ومن مختلف الفئات العمريّة، ففي حين يلجأ إليها البعض لتحديد مواقف واتجاهات مفصليّة في حياتهم، كالزواج والعمل، يتّجه البعض الآخر إليها كملاذٍ آمنٍ يقيه شرّ التّفكير والإمعان في الأمور، حتى اليوميّة منها.

لكن يغيب عن بال البعض أنَّ للخيرة شروطاً، وأنَّ لها معايير تحدِّد مواضع استخدامها والاعتداد بها، فلا يجوز استخدامها كيفما اتّفق.

الحيرة والخيرة

الاستخارة، لغةً، تأتي بمعنى طلب الخير، أي طلب التَّوفيق من الله. وتختلف النّظرة إليها، بين من يراها دعاءً يتوجَّه به العبد إلى ربّه، وبين من ينظر إليها على أنّها طريقةٌ لكشف الغيب، الأمر الّذي يفرغ الدّعاء من معناه، ويحوّله نوعاً من أنواع التّبصير.

مورد الاستخارة هو وقوع الإنسان في الحيرة، وغياب النّاصح والمشير، ولا بدَّ هنا من التّشديد على هذه النّقطة، إذ ينبغي استنفاد جميع وسائل التّفكير والاستشارة ومحاولة الوصول إلى القرار الحاسم، قبل الخيرة وليس بعدها، فإذا لم تسعفنا المعطيات بين أيدينا في التوصّل إلى قرار واضح، نلجأ إلى الاستخارة.

أمّا عندما تكون الأمور واضحةً في ميزان العقل والمنطق، ولا يكون هناك مورد أو حاجة للاستخارة، فإنَّ الاستخارة تسقط ولا يجب التقيّد بها، فهي ليست تجميداً للعقل أو تعطيلاً للفكر، بل على العكس من ذلك، فأن يستخير العبد ربّه ويستشيره، يعني أن يطلب منه أن يُرِيَه وجه الصَّلاح أو عدمه في هذا العمل، لِيُقدم عليه أو يجتنبه، ويتمُّ استعلام الأمر من خلال الاعتماد على وسيلة معيّنة، كالرِّقاع، أو حبّات السُّبحة، أو من خلال مضمون آيات القرآن، أو غير ذلك.

تجدر الإشارة إلى أنَّ الإفراط في الاستخارة  يساهم في إفراغها من دورها، إضافةً إلى شلّ تفكير الإنسان، وتعطيل حكمته ونظرته إلى الأمور، بحيث يصبح متّكلاً بشكل سلبيّ على نتيجة "افعل" أو "لا تفعل"، وهذا الأمر لا يمتّ بصلة إلى الفرد المسلم الّذي حثّه الإسلام على الرّجوع إلى العقل في جميع خياراته ومشاغل حياته.

أمَّا الحيرة، فلا بدَّ من الوقوف عندها والمقصود بها، فليست كلّ حيرةٍ تحتاج إلى استخارة، بل إنَّ الحيرة الّتي تدفع إليها، هي عندما تتشابك الأمور عند الإنسان، وتتشابه عليه الخيارات، ولا يتَّضح له وجه المصلحة من المفسدة، فيظلّ محتاراً متردِّداً لا يهتدي سبيلاً، ولا يعرف ماذا يفعل. أمَّا الحيرة الّتي يمكن للإنسان أن يتجاوزها بقليلٍ من التَّفكير، فإنَّ اعتماد الاستخارة فيها، يعني الاتّكاليَّة الّتي تؤدِّي بالإنسان إلى تعطيل عقله، والاستهتار بمسؤوليَّته، حتّى إنَّ البعض تتحوَّل عنده الاستخارة إلى صفةٍ ملازمة له، وإلى وسواسٍ قهريّ أحياناً، وأصحاب هذه الحالة يعيشون أزمات نفسيّة تدفعهم إلى اللّجوء إلى الاستخارة حتّى في أصغر الأمور وأبسط التحركات الّتي تكون واضحةً لا شكَّ فيها.

الاستخارة مفتاح الغيب

إنَّ العنصر الرّئيس في الاستخارة، مهما كانت أشكالها، هو الدّعاء واستحضار الله في قلوبنا، وثقتنا بلطفه ورحمته الَّتي وسعت كلّ شيء. وتبقى الطّريقة وسيلةً ليس إلا، فلا يصحّ استخدام الاستخارة لكشف الغيب واستطلاع المستقبل واستبيان مآلات الأمور، وإلا تصبح عندها أقرب إلى التّنجيم المحرَّم شرعاً.

ولا مجال للخيرة أن تحلَّ مكان عمل الإنسان الفعليّ للوصول إلى هدفه، بالوسائل الذاتيَّة الّتي يستدعيها الوصول، من رؤيةٍ وسمعٍ وتفكيرٍ ومشورة، وما إلى ذلك من وسائل يمكن أن تكون درباً موصلاً إلى الهدف.

ويبقى أن نعمِّق علاقتنا بالله تعالى، فلا نفرّغها من الإيمان الحقيقيّ القائم على حسن الثّقة به، ولا نجعل العلاقة به قائمةً فقط على المنفعة، بل علينا أن نقوم بمسؤوليّاتنا تجاه أنفسنا، وأن نحسن التوكّل عليه، وهو الّذي قال في محكم كتابه الكريم: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ}[آل عمران: 159]، {وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}[المائدة: 23].

وإذا كانت المسؤوليّة الأساس تقع على الفرد نفسه، فلا ريب أنَّ علماء الدّين يتحمّلون أيضاً جزءاً مهمّاً من المسؤوليّة، بتوعية الأفراد، وتوجيههم الاتّجاه الصَّحيح فيما يتعلّق بالتّعاطي مع الاستخارة، وتوضيح الهدف الرّئيس منها.

*إنَّ الآراء الواردة في هذا المقال، لا تعبّر بالضَّرورة عن رأي الموقع، وإنّما عن وجهة نظر صاحبها. 

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية