كثيرون يتبوّأون مناصب ومواقع اجتماعيَّة وعمليَّة في الحياة، فترى النَّاس من حولهم يتقاطرون من هنا وهناك، طمعاً بخدمة أو وظيفة أو حاجة معيَّنة، وتراهم دائماً مقصودين من قبل الآخرين، والنّاس، من معارف وأصحاب وغيرهم، تلتفّ حولهم، وتتواجد دائماً معهم.
ولكنَّ هذه الحال لا تبقى على ما هي عليه عندما يخسر أصحاب هذه المناصب مناصبهم ومواقعهم، حيث يتبخَّر الكثير من النّاس من حولهم، وترى من كانوا يستفيدون منهم قد اختفوا، فلا يتواجدون في فرحٍ ولا في حزنٍ ولا في أيّ مناسبة.
إنّه لأمر مخز أن تتحوّل العلاقات بين الناس، وبخاصّة اليوم، إلى مجرد حسابات ومصالح ومطامع، بعيداً عن التواصل الفاعل المبني على المحبة والتراحم والتعارف والتعاون ومبادلة الإحسان بالإحسان، حتى إنّ البعض يفقد أعزّ أصحابه وأقرب المقرّبين إليه من عائلته، عندما لا يعود نافعاً في مجال ما، وهذا لا ينسجم مع فطرة الإنسان وذوقه وأخلاقيّاته العامّة، لجهة حفظ المودّة والرّحمة والمحبّة والتّفاعل الإيجابيّ بين النّاس جميعاً.
هل من المعقول أن تنقلب الحال بين ليلةٍ وضحاها، ولا تعود ترى حولك من أحببتهم وخدمتهم يوماً وكنت عوناً لهم في الصّعاب؟!
هذا النّكران للإحسان وعدم تقدير العلاقة وحفظها، يسبّب ألماً نفسيّاً للإنسان المحسن، كما أنّه يقضي على روح العلاقات الطبيعيّة والأصيلة والحضاريّة بين أفراد المجتمع، الّذي يتحوَّل، بما يفعله هؤلاء، إلى كياناتٍ تقوم على الغدر والخيانة والطّعن في الظّهر، بدل أن يكون كياناً واحداً قويّاً قائماً على المودّة وروح التكافل والتضامن وحفظ الجميل.
إنّ اقتصار العلاقات الاجتماعيّة على التزلّف لأصحاب المناصب فقط، أمر مؤلم ويؤذي الشّعور والمجتمع بوجه عامّ، ولا يعمل على تقوية الرّوح الاجتماعيّة الواحدة المتعاونة والمتضامنة.
يشير اختصاصيّون في علم الاجتماع إلى أنّ طبيعة الحياة تقوم على تبادل المنافع دون تجميل، مع أنّ الأصل أن يميل الإنسان إلى الارتباط بأخيه الإنسان، لأنّ العلاقات الإنسانيّة تمثّل أساس الاجتماع البشري.
ويلفتون إلى أنّ طبيعة التحوّلات التي يشهدها المجتمع جراء انتقال الناس من قيم الريف وثقافته إلى ثقافة المدينة المادية القائمة على حساب الرقم والانتفاع واستثمار النفاق الاجتماعي خدمةً للمصالح الشخصية كلّها، يؤشِّر إلى حجم تأثير العولمة في بنية مجتمعاتنا وتماسكها. فالعلاقات الاجتماعيّة أصبحت مصالحيّة سريعة ومنفعيّة آنيّة، أقرب إلى فقاعات الصّابون على وجه الماء، لأنها لم تبن على أساس إنساني متين وعميق وصادق.
من جهتهم، يشير اختصاصيون في علم النفس والإرشاد التربوي، إلى أن مفهوم الصداقة التي تقوم على علاقة إنسانية سامية تربط الإنسان بالإنسان بحالة كيميائيّة، وجودية وجدانية، لا غاية لها ولاهدف، هي أعظم من أي علاقة أخرى في الحياة.
ولكن العلاقات المبنية على المصلحة ليست تعبيراً عن العمق الحقيقي للصداقة، وهو ما اعتاد عليه المجتمع، لافتين إلى أنّ حرف القيمة الأخلاقيّة وقلبها إلى ماديّة، جعل العلاقة التي تربط الأفراد أيضاً مادية وقائمة على الزّيف والنفاق، فهذه العلاقات لا قيمة لها، وليس لها أي صلة بالصداقة، إذ لا بدَّ من أن تكون العلاقات مبنيّةً على التقارب الروحي والإنساني والتّشارك الذهني القائم على العاطفة.
ويتابع هؤلاء أنّ الصّديق هو الشخص الذي يرتبط بالآخر من خلال الجانب الروحي والإنساني أكثر من المادّي، ومرتبط بالجزء الّذي يمثّل الروح الإنسانيّة الإيجابيّة في الإنسان، من هنا ضرورة إدراك أنَّ الإنسان إذا استطاع أن يحصل على علاقة صداقة واحدة، فإنه يحصل على علاقة إنسانية ذات قيمة عالية، مقارنةً بتلك العلاقات القائمة على المعرفة العادية وعلاقة الزمالة اليومية الروتينية.
من هنا أهميّة أن نبني علاقاتنا على أسس سليمة وواضحة، بعيداً عن لغة النّفاق والخداع والتزلّف، بل على المودّة والاعتراف بالجميل وحفظ الودّ والاحترام للآخرين، وعدم التسبّب بالضّرر لهم عبر غدرهم والانقلاب عليهم وجرح مشاعرهم، وخصوصاً أنّ المجتمع اليوم يحتاج إلى ثقافة الصّداقة والمودّة الأصيلة، وإلى التكاتف الجدّيّ والتّفاعل الإنساني الفعلي، والمشاركة الوجدانيّة التي تخفّف من آلام الناس ومشاكلهم، وتعطيهم الأمل بغد أفضل..
إنَّ الآراء الواردة في هذا المقال، لا تعبِّر بالضَّرورة عن رأي الموقع، وإنّما عن وجهة نظر صاحبها