نظم الشّرع حدود العلاقة بين الرجل والمرأة، بما يحفظ الأجواء بينهما، ومنعاً من أيّ انحراف قد يطرأ تبعاً لحدود العلاقة وجوّها، فالمهمّ شرعاً أن تبقى العلاقة في إطارها الإنساني الطّبيعيّ، بعيداً عن أجواء الإثارة الجنسيّة والوقوع في الانحراف والمفاسد.
ولا مانع من اجتماع الرّجل والمرأة في الأماكن العامّة أو العمل، ما داما يأمنان على نفسيهما من الانجرار إلى المحرَّمات في القول والفعل..
ويوضح العلامة المرجع السيِّد محمد حسين فضل الله(رض) هذه المسألة فيقول: "إنّ الاختلاط ليس من العناوين المحرَّمة في الإسلام، بل هو من العناوين المحلَّلة بالأصل.. فلا مانع من أن تجتمع المرأة مع الرّجل في الأمكنة العامة أو أماكن العمل المشترك".[دنيا المرأة، ص:155].
فما دام الرّجل والمرأة محافظين على الحدود الشرعيّة وما تفرضه، فلا مشكلة في اختلاطهما مع بعضهما البعض، بما تقتضيه ضرورات العمل والواقع..
يتابع السيّد فضل الله(رض): "إذا كان هناك أمن من كِلا الطّرفين بأن لا يقعا فيما يحرم أو فيما يثير، وكان الاختلاط خاضعاً للحدود الشرعيّة المفروضة، فلا مشكلة في ذلك، حيث إنّه إذا كان لم يؤدِّ إلى حرام، وكانت هناك وسائل شرعيّة لاستمرار العلاقة (حتى مع وجود العلاقة العاطفيّة الحميمة) بالروابط الشرعيّة، بحيث لو حدثت نتائج معيَّنة، فإنها تكون منطلقةً من الخطوط الشرعيّة، كعقد وما إلى ذلك ممّا يجوز القيام به في هذه الحال، فلا مشكلة من ناحية شرعيّة". [فقه الحياة، ص:112].
وقد سُئل سماحته(رض) عن حكم الاختلاط بين الجنسيْن الموجود في المجتمع الآن، فأجاب موضحاً: "لا يحرم الاختلاط الذي يؤمن معه الفتنة وعدم الوقوع في الحرام، وخصوصاً أنّ المجتمع يقع في الحرج بسبب الفصل التامّ بين الرجال والنساء، وهو على خلاف مقاصد الشّريعة التي ابتنت على اليسر والسّماحة". [المسائل الفقهية، ص:33].
وقد يسأل سائل عن حكم الخلوة بين الرّجل والمرأة بهدف الزّواج مثلاً، فالجواب: "الخلوة حرام، عندما تكون في أجواء تقود الإنسان إلى الحرام، أمّا إذا كانت هناك عناصر أمن واقعيّة بأنَّ هذه الخلوة لا تؤدّي إلى شيء، بحيث تسمح للطرفين بأن يتحركا بعيداً عن الحرام، فليست محرَّمة.
ونحن عندما نتحدّث عن أنه لا مانع من وجود علاقة، فذلك من حيث المبدأ، أما من حيث التفاصيل، فإنها تخضع للأحكام الشرعيّة، وقد يكون الأسلوب في العلاقة محرَّماً، وقد يكون الأسلوب محلَّلاً.. ولذلك فنحن لم ندخل في التّفاصيل لنقول إنّ كلّ علاقة جائزة، بل نقول يمكن أن يلجآ إلى وسيلة يتفاهمان بها حول أوضاعهما وعقليتهما بالطرق الشرعية المألوفة، وربما توحي الخلوة ببعض المشاعر والأوضاع المثيرة التي تؤدّي إلى الخروج عن خطّ الالتزام الشرعي في علاقتهما ببعضهما البعض، مما يقتضي التحفظ الإسلامي في ذلك، وضرورة إيجاد الضّوابط الواقعيّة لتفادي ذلك". [الندوة، ج:1، ص:763].
ومن الفقهاء من يرى أنَّ الخلوة ليست محرَّمة بما هي موضوع، وإنما حُرّمت لكونها مقدّمة لوقوع الحرام (من النظرة المحرَّمة إلى ما بعد ذلك)، وقد ذكر ذلك السيّد أبو القاسم الخوئي(رض) بقوله: "إنّه حتى لو ورد نصّ صريح في النّهي عن الخلوة مع المرأة الأجنبيّة، فلا موضوعية لها أيضاً، وإنما نهى عنها لكونها من المقدّمات القريبة من الزنا، فإنّ أهمية حفظ الأعراض في نظر الشّارع المقدَّس، تقتضي النهي عن الزّنا وعن كلّ ما يؤدّي إليه عرفاً.. وأمّا الروايات المشتملة على أن إبليس لا يغيب عن الإنسان في مواضع، منها موضع خلوة الرّجل مع امرأة أجنبيّة، فإنّ المستفاد منها أنّ الشّيطان يقظان في تلك المواضع يجرّ الناس إلى الحرام، فلا دلالة فيها على المدّعى وعلى الجملة، فلا دليل على حرمة الخلوة بما هي خلوة، وإنما النهي عنها للمقدّمية فقط". [مصباح الفقاهة، السيد الخوئي، ج:1، ص:345].
وعند علماء أهل السنّة والجماعة، فإنَّ الاختلاط بين الرّجال والنساء لا تجوز، إلا إذا كانوا من المحارم مع أمن الوقوع في الحرام، وهم يرون أنّ الاختلاط ينشأ عنه الكثير من المفاسد وإثارة الغرائز، وإشاعة الفاحشة وانتهاك الأعراض، وانتشار الشّذوذ والانحراف، وهذا خلاف شرع الله تعالى الّذي قال في كتابه العزيز: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ* وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا}[النور:30-31].
بالمحصِّلة، إن حافظ الرّجل والمرأة في علاقتهما واختلاطهما مع بعضهما البعض على الضّوابط الشرعيّة، ولم ينجرّا إلى الحرام ومقدّماته، فهذا جائز، وإلا فلا.
إنَّ الآراء الواردة في هذا المقال، لا تعبِّر بالضّرورة عن رأي الموقع، وإنّما عن وجهة نظر صاحبها.