العقيدة مجموعة من القيم التي تحرّك الإنسان نحو الارتباط بالله، بما يعنيه ذلك من ممارسة لإيمانه، من خلال العدل مع الناس والحياة. ونسمع كثيراً بمحاكمات لأناس يخالفون أهل البلد الذي يعيشون فيه بالعقيدة، ويتعرضون لظلم وإجحاف، وهذا أمر لا بدّ من الوقوف عنده ومراجعته ومعالجته.
فالقضاء لا بدّ وأن يكون مستقلاً وحيادياً، لا يتأثر بعقيدة أو ما شاكل، بل أن يحاسب الإنسان على أساس الحقّ والعدل فيما لو كان مخطئاً، وأن لا يستغل مخالفته لعقيدة ما لظلمه وتشديد عقوبته.
وقد قدم بعض الدّعاة أمثلة على ذلك، فأشار إلى التالي:
1ـ مصر مثلاً؛ دينها الإسلام، وقوانينها تخضع لما يظنون أنّه الشريعة الإسلامية؛ فما حكم من يقول من المصريين إنّ لله ولداً؟
2ـ إيران أيضاً، دينها الإسلام؛ فما حكم من يقول من مواطنيها بكفر أبي طالب؟
3ـ دول الخليج، دينها الإسلام أيضاً؛ فما حكم من يقول بكفر أبي بكر وعمر؟
4ـ ولو أنّ المسيحيّين في الغرب يطبّقون (عقيدتهم)؛ فما حكم الّذي لا يقرّ بأنّ المسيح ابن الله؟
وكذلك سائر البلدان لها أديانها ومذاهبها؛ فما الحلّ؟
وتابع قائلاً: "الحلّ في عزل العقيدة عن القضاء؛ فالعقيدة فكر، ثقافة، قناعات، ولا إكراه في الدّين. أمّا القضاء؛ فيهدف إلى العدالة بين الناس والعقوبة على الجرائم؛ والضّرر من انبثاق القضاء عن العقيدة كبير جداً؛ فلو أنَّ مصر - مثلاً - تعاقب كلّ من أساء إلى الله بقوله (إنّ المسيح ابن الله)، لتمّت معاقبة كلّ الأقباط؛ ولو أنَّ إيران - وفق مذهبها الجعفريّ - عاقبت كلّ من كفَّر أبا طالب ووالديْ النبيّ (صلوات الله وسلامه عليه وآله)، لعاقبت كلّ أهل السنّة في إيران. ولو أنّ السعوديّة ودول الخليج - وفق العقيدة السلفيّة أو الأشعريّة - عاقبت كلّ من كفَّر أبا بكر وعمر؛ لعاقبت مواطنيها من الشّيعة؛ ولو أنَّ سلطنة عمان - وفق العقيدة الإباضيّة - عاقبت كلَّ من طعن في رموز أهل حروراء؛ لعاقبت مواطنيها من السنّة والشّيعة.. وهكذا... فالعقيدة شيء والقضاء شيء.
وأقصد بالعقيدة هنا، فكر المجتمع وفلسفته، ولا أقصد الأحكام الشرعيّة؛ فالأحكام الشرعيّة من القرآن والسنّة الجامعة، لا تعاقب أصلاً على الأفكار؛ وكذلك الآراء في الرواة والعلماء والرموز والتيارات والدول... لا عقوبة شرعيّة فيها؛ فالقضاء موضوعه (الفصل بين النّاس؛ وليس الفصل في الأفكار)".
وأضاف :"القضاء الإسلامي - عبر العصور - تأثّر بطغيان الأغلبيّة؛ فتمّ قتل مفكّرين وفلاسفة وعلماء بعد تكفيرهم؛ ولو أنصفهم القضاء؛ لحاكم هؤلاء المحرضين المكفّرين".
اليوم، في ظلّ ما يجري من أوضاع وتعقيدات على السّاحة الإسلاميّة، وما يجري من تحريض وتجييش مذهبي وطائفي، فإنّه لا بدّ من إعادة النّظر في مسألة تداخل العقيدة والقضاء بواقعية وحكمة، من قبل أهل العلم الذين يحرصون على تحقيق مصالح النّاس، وإبعادهم عن المفاسد، مع أنّ الواقع يشي بكثير من التحديات، حيث العصب المذهبي لا يزال، للأسف، هو من يتحكّم بذهنيّة الأغلبية التي تعتبر نفسها أمينةً على الدّين، ولا تقبل نقاشاً ولا حتى مراجعة لما عليه حال الأمور.
فلا يجوز، والحال هذه، أن يؤاخذ البعض على عقيدته، مهما كانت، وأن يمارس بحقه ظلماً من هنا أو هناك على أساس قناعاته وأفكاره الّتي لا تتوافق مع العقائد الأخرى، بل على العكس، فاحترام عقيدته تعمل على تحصين المجتمع وتقويته. في المقابل، على الإنسان احترام قوانين المجتمع الّذي يعيش فيه، إذ لا بدّ للحق والعدل من أن يكونا من يتحكم بمسار الأمور.
إنّ الآراء الواردة في هذا االمقال، لا تعبّر بالضّرورة عن رأي الموقع، وإنّما عن وجهة نظر صاحبها.