لو أغفلنا ـ في حسابنا ـ ضرورة الابتعاد عن الحكم على الفكرة من خلال إخفاق
تجربة واحدة، أو الاستسلام لليأس عند الاصطدام بأوّل عقبة، لو أغفلنا ذلك كلّه،
وأغمضنا أعيننا عن كلّ ما في الحياة، لكان لنا في تاريخ الأنبياء الذي يعرضه القرآن
دروس ـ أيّ دروس ـ في الإصرار على التجربة، حتى يتحدّى كلّ نوازع اليأس، مادام هناك
مجال للأمل ومنفذ للتفاؤل.
وكانت قصة نوح النبيّ مثلاً قرآنياً يحتذى في هذه القضية، فقد مكث في قومه ـ في ما
يحدّثنا القرآن ـ "ألف سنة إلا خمسين عاماً" واستنفد كلّ ما يملك من أساليب الإقناع،
وكلّ ما عنده من طرق الدعوة، من دون أن ييأس أو يكلّ أو يملّ. وامتدت تجربته
وامتدّت ـ عبر مئات السنين ـ تتنوّع وتتشكّل وتتلوّن بألوان وصور مختلفة... وجاءت
النهاية بعد أن نفد الرصيد وذاب أمام التجارب التي لا تدخل في نطاق العدّ والحصر،
فوقف ليدعو بهذا الدعاء المؤثّر الذي يمثّل روح النبيّ الداعية الذي يبدو وكأنَّه
يقدّم حسابه لله، ويعرض تقريره للخالق، في ما عمل، وفي ما قدَّم من تجارب.
{قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً * فَلَمْ يَزِدْهُمْ
دُعَائِي إِلَّا فِرَاراً* وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ
جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا
وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَاراً * ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَاراً * ثُمَّ
إِنِّي أَعْلَنتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَار} [نوح: 5-9].
وتستمرّ تجارب الأنبياء وجهودهم في حلقات متّصلة، لا تنتهي عند نبيّ إلا ليبدأها
نبيّ آخر بالدعوة إلى الإيمان بالله بشتى الوسائل والأساليب؛ حتى ظهر أمر الله
وانتشر، وأصبح دين الله قوّة تحكم الحياة وتقودها برغم كفر الكافرين وضلال الضالّين..
وكانت نهاية التجربة النبويّة على يد نبيّنا الأعظم محمَّد(ص)، الذي كانت حياته
سلسلة تجارب مريرة لم يقف فيها لحظة واحدة. وكانت سيرته ـ وهو في مكّة ـ مثلاً من
أروع الأمثلة على الإصرار على الحقّ والصمود أمام عوامل الفشل والإخفاق، وكانت
تجاربه تتلون وتتنوّع، حسب تنوّع الأشخاص والأوضاع، وقد انتهى به الإصرار على
التجربة في أداء الرسالة والدعوة إلى الإيمان، أنَّه كان يدعو المشركين إلى أن
يسمعوا القرآن فحسب، دون أن يكلّفهم مهمّة الإيمان في البداية.
ونجحت التجربة، وانتصر الصمود، وانطلقت دعوة الله في أرجاء المعمورة حيّةً قويّةً،
توجّه الإنسان إلى مصيره النيِّر في الدنيا والآخرة، وتقوده إلى حيث الخير والمحبّة
والسّلام في ظلال الإيمان بالله والالتقاء برحمته ولطفه.
الفرج الإلهيّ
والإيمان بالله من أقوى العوامل التي تساعد الإنسان على الاستمرار في التجربة حتى
النهاية، لأنَّه يفتح له أبواب الأمل والتفاؤل في كلّ تجربة وفي كلّ موقف، كنتيجة
طبيعية للعقيدة الإلهية التي توحي للإنسان أنّ بعد العسر يسراً، وأنَّ بعد الضيق
فرجاً، وأنَّ الله قادر على أن يغيِّر الأمور من حال إلى حال، وأنّ على المؤمنين أن
لا يقنطوا من رحمة الله ولا ييأسوا من روحه، فإنَّه {إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن
رَّوْحِ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ}[يوسف: 87].
وهكذا تشارك العقيدة في فتح أبواب الأمل أمام العاملين، لتساعدهم من الناحية
النفسية والفكرية على أن يعاودوا التجربة من جديد كلّما أخفقت، ويسارعوا إلى
تجديدها كلّما فشلت، حتى يأتي النصر من عند الله، استجابةً لوعده في قوله تعالى: {إِن
تَنصُرُوا اللهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمَّد: 7].
الموقف من تجارب الآخرين
تلك هي بعض الظلال التي نحاول أن نلقيها على دورنا في التجربة ودور التجربة في
حياتنا.
أمّا موقفنا من تجارب الآخرين... فقد نجد الكثير منها قامت بها جماعات غير إسلامية،
دينية وغير دينية، دفاعاً عن عقائدها ومبادئها؛ وقد نلمح ـ في الوقت نفسه ـ بعضها
قامت بها بعض الجماعات الإسلامية ـ ذات الألوان المختلفة ـ من أجل أن يقود الإسلام
ركب الحياة، وتتركّز مفاهيمه وقيمه.
وقد نجح بعض هذه التجارب، وأخفق بعضها الآخر.
أمّا موقفنا من هذه التجارب، فهو موقف الباحث الذي يحاول أن يستفيد من خبرات
الآخرين وتجاربهم، ولكن بحذر ودقّة، لئلا يقع في بعض الالتباسات التي قد تبعده عن
هدفه.
*من كتاب "قضايانا على ضوء الإسلام".