طبعاً، وبمراجعة غزوات الرسول الأعظم (ص)، وقوائم روحيّة المجاهدين في أيام رسول
الله (ص)، وإيثار كلّ واحدٍ منهم للإسلام وللعقيدة، إيثاره بكلّ وجوده، بكلّ طاقاته
وإمكانيّاته، هذه النماذج الرفيعة إنّما هي نتائج هذه الطاقة الحراريّة، هذه الطاقة
الحراريّة هي التي جعلت الأُمّة الإسلاميّة تعيش أيّام رسول الله (ص)، وتحمل لواء
الإسلام بكلّ شجاعةٍ وبطولةٍ إلى مختلف أرجاء الأرض والعالم، هذه هي طاقة حرارية
وليست وعياً.
ويجب أن نفرّق ونميّز بين الطاقة الحرارية والوعي:
الوعي عبارة عن الفهم الفعّال الإيجابي المحرّك للإسلام في نفس الأُمّة، الذي
يستأصل جذور المفاهيم الجاهلية السابقة استئصالاً كاملاً، ويحوّل تمام مرافق
الإنسان، يحوِّلها من مرافق للفكر الجاهلي، للعاصمة الجاهلية، للذوق الجاهلي، إلى
مرافق الفكر الإسلامي والعاصمة الإسلاميّة والذوق الإسلامي، هذا هو الوعي.
أمّا الطاقة الحراريّة، فهي عبارة عن توهّجِ عاطفيٍّ حارّ، شعور يبلغ في مظاهره نفس
ما يبلغه الوعي في ظواهره، بحيث يختلط الأمر، فلا يميّز بين الأمّة التي تحمل مثل
الطاقة الحراريّة، وبين أمّةٍ تتمتَّع بذلك الوعي إلّا بعد التبصّر.
إلّا أنّ الفرق بين الأمّة الواعية والأمّة التي تحمل الطاقة الحرارية فرق كبير،
فإنّ الطاقة الحرارية بطبيعتها تتناقص بالتّدريج بالابتعاد عن مركز هذه الطاقة
الحرارية، المركز الذي يؤمّن الأُمّة بهذه الطاقة، هو شخص القائد (عليه أفضل الصلاة
والسّلام)، وكان بطبيعة الحال أن يكون حال الأُمّة بعده في تناقضٍ مستمرّ، حال
الشخص الذي يتزوّد من الطاقة الحرارية للشمس أو النار، ثمّ يبتعد عن الشمس أو النار،
فإنّ هذه الحالة تتناقص عنده باستمرار. وهكذا كان.
تأريخ الإسلام يثبت أنّ الأُمّة الإسلامية كانت في حالة تناقصٍ مستمرٍّ من هذه
الطاقة الحراريّة التي خلّفها رسول اللّ (ص) في أمّته حين وفاته.
بخلاف الوعي، فإنّ الوعي بذلك المعنى الشّامل والمركز المستأصل لجذور ما قبله،
والذي يخلق جميع المفاهيم والأفكار المسبقة، ذلك الوعي من طبيعته الثّبات
والاستقرار، بل التعمّق على مرّ الزّمن؛ لأنّ هذا الوعي بطبيعته يمتدّ ويخلق له
بالتّدريج خيالاتٍ جديدةً وفقاً لخطّ العمل ولخطّ الأحداث، فإنّ الأُمّة الواعية هي
أمّة تسير في طريق التعمّق في وعيها، والأُمَّة التي تحمل طاقةً حراريةً هائلةً هي
الأُمَّة التي لو بقيت هي وحدها مع هذه الطاقة الحراريّة، فسوف تتناقص هذه الطاقة
الحراريّة بالاستمرار.
والفرق الآخر: أنَّ الوعي لا تهزّه الانفعالات، الوعي يجمد أمام الانفعالات، أمّا
الطاقة الحرارية، فتهزّها الانفعالات، الانفعال حينئذٍ يفجّر المشاعر الباطنيّة
المستترة، يبرز ما وراء الستار، ما وراء سطح النفس، كأنّ الطاقة الحرارية طاقة تبرز
على سطح النفس البشرية، وأمّا الوعي، فهو شيء يثبت مع أعماق هذه النفس البشريّة،
ففي حالة الانفعال، سواء كان الانفعال انفعالاً معاكساً يعني حزناً وألماً، أو كان
انفعالاً موافقاً فرحاً ولذّةً وانتصاراً، في كلا الحالين، يتفجّر ما وراء الستار،
ويبرز ما كان كامناً وراء الستار، هذه الطاقة الحرارية في الأُمّة المزوّدة بهذه
الطاقة.
أمّا الأُمّة الواعية، فوعيها يجمد ويتقوّى على مرّ الزمن، كلّما مرّ بها انفعال
جديد، أكّدت شخصيّتها الواعية في مقابل هذا الانفعال، وصبغته بما يتطلّبه وعيها من
موقف، هذا هو الفرق بين الوعي والطاقة الحرارية.
نحن ندّعي أنّ الأُمّة الإسلامية العظيمة التي خلّفها القائد العظيم (ص)، والتي
ضربت أعظم مثلٍ للأمَّة في تأريخ الإنسان إلى يومنا هذا، هذه الأُمَّة كانت تحمل
طاقةً حراريةً كثيرة، ولم تكن اُمّةً تحمل وعياً مستنيراً مستوعباً مجتثّاً لأصول
الجاهليّة فيها. والدليل على هذا كلّه واضح من تأريخ الأُمّة نفسها، من يقرأ تأريخ
الأُمّة، يعرف أنّ الأُمّة كانت أمّةَ طاقةٍ حرارية، ولم تكن أمّةَ وعيٍ مستنيرٍ
يُجتثّ به أصول الجاهليّة في حالات الانفعال: الانفعال الموافق، والانفعال المخالف،
يبدو أنَّ هذه الأُمّة لم تكن إلاّ أمّة طاقةٍ حراريةٍ ولم تكن أمّة وعي.
الشّواهد على ذلك:
1) اُنظر غزوة هوازن بعد فتح مكّة، ماذا صنعت هذه الأُمّة العظيمة بتلك الطاقة
الحرارية في لحظة الانفعال؟
رسول الله خرج بجيشٍ مزيجٍ من الأنصار ومن قريش من أهل مكّة، فانتصر في معركته،
وأخذ غنائم كثيرة، وكان من قراره (ص) توزيع هذه الغنائم جميعاً على من خرج من مسلمي
مكّة، فوزّعها جميعاً على مسلمي مكَّة، ولم يعطِ من مسلمي الأنصار شيئاً منها، هذه
لحظة انفعال، لحظة انفعالٍ نفسيٍّ أنَّ هؤلاء يرون أنفسهم أنّهم خرجوا مع رسول الله
(ص) من المدينة ليفتحوا مكّة، وفتحوا مكّة، وحقَّقوا للأمّة أعظم الانتصارات في
حياة النبيّ (ص) بفتح مكّة، وبعد هذا، يدخل معه في الدعوة أناس جدد، فهؤلاء الأناس
الجدد يستقلّون بتمام الغنائم، ويأخذونها على يدي النبيّ (ص). هذه لحظة انفعال، في
هذه اللحظة من لحظات الانفعال، لا تكفي الطاقة الحرارية، هنا نحتاج إلى وعيٍ ليثبّت
هذه الأُمَّة، لتستطيع أن تتغلّب على لحظة الانفعال، فهل كان مثل هذا موجوداً؟ لا،
لم يكن موجوداً.
فإنّ الأنصار أخذ يثير ما بينهم هذا الحسّ القائل: بأنّ محمّداً (ص) لقي أهله وقومه
وعشيرته، فنسي أنصاره وأصحابه! هؤلاء الذين شاركوه في محنته، هؤلاء الذين ضحّوا في
سبيله، هؤلاء الذين قاوموا عشيرته في سبيل دعوته، نسيهم وأهملهم وأعرض عنهم؛ لأنّه
رأى أحبّاءه وأقرباءه وأولاد عمّه، رأى عشيرته. انظروا إلى هذا التَّفسير، يبدو أنَّ
الأنصار كان المفهوم القَبَلي مركّزاً في نظرهم، متمركزاً في نفوسهم، إلى درجةٍ
يبدو لهم أنّ محمّداً (ص)، هو الرجل الأشرف الأكمل الّذي عاشوا معه، وعاشوا مع تمام
مراحل حياته الجهاديّة، ولم يبدوا في كلّ مراحلهم الجهادية أيّ لونٍ من ألوان
الانحراف، يعطي شعوراً قبليّاً قوميّاً، بالرّغم من هذا، وبالرغم من خلوّ حياته من
أيّ إشعارٍ سابقٍ بذلك، في لحظة انفعالٍ قالوا بأنّه وقع تحت تأثير العاطفة
القبليّة، تحت تأثير العاطفة القوميّة. هذه العاطفة القومية القبلية، هذا الترابط
القبلي، كيف كان قوياً في أنفسهم، بحيث إنّهم اصطنعوه تفسيراً للموقف في لحظةٍ من
لحظات الانفعال.
رسول الله (ص) سمع بالحسّ، اطّلع على أنّ هناك بذوراً فكريّة ضدّه في الأنصار. أرسل
على كبار الأنصار من الأوس والخزرج، جمعهم عنده، التفت إليهم وقال (ص): ما مقالة
تبلغني عن بعضكم في هذا الموضوع: أنَّ محمّداً نسي أصحابه وأنصاره حينما التقى
بقومه؟! فسكت الجميع، واعترف البعض بهذه المقالة. حينئذٍ، أخذ رسول الله (ص) يعالج
الموقف الآني، المشكلة الآنية، يعالجها أيضاً بإعطاء مزيدٍ من الطاقة الحراريّة؛
لأنّ هذه المشكلة ذات حدّين: حدّ آنيّ، وحدّ على مدى طويل، الحدّ على المدى الطويل
يجب أن يعالج عن طريق التّوعية على الخطّ الطويل، وهو الشّيء الذي كان يمارسه (ص) .
وأمّا المشكلة بحدّها الآنيّ، فيجب أن تعالج أيضاً معالجةً آنيّة، والمعالجة
الآنيّة لا تكون إلًا عن طريق إعطاء مزيد من هذه الطاقة الحراريّة للسّيطرة على
لحظة الانفعال.
ماذا قال (ص) لهم؟ وكيف ألهب عواطفهم؟ قال لهم: ألا ترضون أن يذهب أهل مكَّة إلى
بلادهم بمجموعة من الأموال الزّائفة، وأنتم ترجعون بالنبيّ (ص) إلى المدينة؟! هؤلاء
يرجعون إلى مكّة بكومةٍ من الأموال لا تنفعهم إلّا برهةً من الزمن. هذه كانت دفعةً
حراريّةً جدّاً تحوّل الموقف في لحظة، هذه الأُمّة التي تعيش اللّحظات العاطفيّة
هكذا أمام رسول الله (ص)، يستغفرون ويعلنون ولاءهم واستعدادهم ويقينهم به.
أراد (ص) أن يعمّق الموقف أكثر عاطفياً، فبعد أن سكن بكاؤهم، وهدأت عواطفهم، قال
لهم: ألا تقولون لي في مقابل هذا؟! أخذ يترجم بعض الأحاسيس المستترة في نفوسهم،
لأجل أن يهيّج عواطفهم تجاهه، ولأجل أن يشيع في ذلك المجلس جوّاً عاطفياً روحياً
بتغلّبه على الموقف إلى آخر القصّة.
النتيجة هي: أنَّ هذه الأُمّة التي تحمل الطاقة الحراريّة، تنهار أمام لحظة
الانفعال.
2) لحظة انفعالٍ أخرى أيضاً في تأريخ هذه الأُمّة، بعد وفاة رسول الله (ص)، لحظة
انفعالٍ كبيرة، لأنّ رسول الله (ص) رحل وكان (ص) يشكّل هزّةً نفسيّة هائلة بالنسبة
إلى الأُمّة الإسلامية، التي لم تكن قد تهيّأت بعد ذهنياً وروحياً لأن تفقد رسول
الله (ص) في هذه اللّحظة من الانفعال، أيضاً المشاعر التي كانت في الأعماق برزت على
السّطح. الشاهد الأوّل كان بالنسبة إلى الأنصار.
وهذا شاهدٌ بالنّسبة إلى المهاجرين: ماذا قال المهاجرون في لحظة الانفعال؟ هؤلاء
المهاجرون الذين هاجروا من بلادهم، وتركوا دورهم وعوائلهم وقومهم في سبيل الإسلام،
ماذا قالوا؟ ماذا كان موقفهم؟
كان موقفهم أنّهم قالوا: إنَّ السلطان سلطان قريش! إنّ سلطان محمّد وسلطان قريش نحن
أولى به من بقيّة العرب، أولى به من بقيّة المسلمين.
هنا أيضاً برز الشعور القَبَلي، أو الشّعور القومي، برز في لحظة انفعال؛ لأنَّ هذه
اللحظة من الانفعال من طبيعتها أن تشكّل صدمةً بالنّسبة إلى الطاقة الحراريّة، يصبح
الإنسان في حالةٍ غير طبيعيّة، وفي هذه الحالة غير الطبيعيّة، حيث لا يوجد وعي عاصم،
ينهار فيها أمام تلك الأفكار المستترة، أمام تلك العواطف المختفية وراء السّتار،
تبرز هذه الأفكار وهذه العواطف. إذاً لحظة الانفعال هي الّتي تحدّد أنَّ هذه
الأُمّة هل تحمل وعياً، أو تحمل طاقةً حراريّة؟!
صحيح أنّ عبادة بن الصّامت حينما واجه ملك القبط في مصر واجهه بطاقةٍ حراريّةٍ
كبيرةٍ هائلة، حينما سأله عن هدفه هل يريد مالاً؟ هل يريد جاهاً ؟ هل يريد مقاماً؟
قال: لا أريد شيئاً من ذلك، وإنّما نريد أن ننقذ المظلوم من الظالم في أيّ مكانٍ
على وجه الأرض، ونريد أن تكون كلمة الله هي العليا وكلمة الشيطان هي السّفلى، هذه
طاقة حراريّة، هذه الطاقة الحرارية تشبه الوعي تماماً، لأنَّ عبادة بن الصامت لو
كان يمثّل الأُمّة الواعية، لقال هذا الكلام نفسه في تقسيم الغنائم.
لكنّ الفرق في لحظة الانفعال، في لحظة الانتصار، ماذا صنع المسلمون في لحظة
الانتصار والاستيلاء على كنوز كسرى وقيصر؟ الاستيلاء على العالم؟ المسلمون في هذه
اللحظة، أخذوا يفكّرون في الدنيا، أخذوا يفكّرون في أن يقتنص كلّ واحدٍ منهم أفضل
قدرٍ ممكنٍ من هذه الدنيا.
٣) والأزمة التي مرّت بعمر بن الخطّاب في تحقيق حال الأرض المفتوحة عنوة، وأنّ
الأرض المفتوحة عنوةً هل تقسَّم على المقاتلين، أو أنّها تجعل لبيت المال وتجعل
ملكاً عاماً؟ هذه الأزمنة تعطي في المقام كيف أنّ هذه الأُمّة تردّدت في لحظة
الانفعال؟ لأنّ وجوه المهاجرين والأنصار، هؤلاء الأبرار المجاهدون، هؤلاء الذين
عاشوا كلّ حياتهم في الكفاح والجهاد في سبيل الله، هؤلاء أخذوا يصرّون إصراراً
مستميتاً على أنّ هذه الأراضي يجب أن توزّع عليهم، وعلى أنَّ كلَّ واحدٍ منهم يجب
أن ينال أكبر قدرٍ ممكنٍ من هذه الأرض، إلى أن أفتى علي بن أبي طالب (ع) بأنّ الأرض
للمسلمين جميعاً، لمن هو موجود الآن، ولمن يوجد بعد اليوم إلى يوم القيامة.
هذه اللّحظات لحظات الانفعال والانفعاليّة، هي التي تحدّد أنّ الأُمّة ككلٍّ تحمل
طاقةً حراريةً أو تحمل وعياً.
إذاً فالأُمّة كانت تحمل وعياً، ولكن وراء هذا الوعي، يوجد قدر كبير من الرواسب
الفكرية والعاطفية والنفسية التي لم تكن قد استؤصلت بعد.
*من كتاب "أئمّة أهل البيت ودورهم في تحصين الرّسالة الإسلاميّة".