موسمُ الحجِّ محطّةٌ للتَّوبةِ والاستعدادِ للقاءِ الله

موسمُ الحجِّ محطّةٌ للتَّوبةِ والاستعدادِ للقاءِ الله

يقول الله سبحانه وتعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ}[آل عمران: 97].
وقال سبحانه وهو يخاطب إبراهيم (ع)، بعدَ أن قام ببناء البيت: {وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ* لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ * وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلى ما رَزَقَهم مِن بَهِيمَةِ الأنْعامِ فَكُلُوا مِنها وأطْعِمُوا البائِسَ الفَقِيرَ}[الحجّ: 27 – 28].
الاستعدادُ لموسمِ الحجّ
في هذه الأيَّام، يستعدُّ النَّاس للتوجّه إلى بيت الله الحرام من أجل أن يحجّوا؛ فرضاً لمن استطاع ولم يحجّ، أو ندباً لمن أراد الاستزادة من الحجّ.
والحجّ، أيّها الأحبَّة، من أركان الإسلام، ومن العبادات الَّتي فرضها الله على النَّاس جميعاً: {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا}. والاستطاعة تتلخَّص في أن يكون لك مال تستطيع أن تحجَّ به، ممّا لا يرهقك بذله، وأن يكون لك مصرفٌ لعيالك يكفيهم في حال غيابك وبعد رجوعك، وأن تكون في صحة وعافية، وأن لا يكون هناك مانع أمنيّ أو رسميّ يمنعك من الحجّ، وأن لا يكون عليك حرجٌ في حجِّك، فمن اجتمعت له هذه الصّفات، وجب عليه أن يحجّ.
والمشهور بين علمائنا، أنَّ وجوب الحجّ لمن استطاع الحجّ فوريٌّ، بمعنى أنَّك إذا استطعت في هذه السنة أن تحجّ، فلا يجوز أن تؤخِّر الحجَّ إلى سنة أخرى، وإلَّا كنت عاصياً وآثماً، وإذا كان بعض النَّاس يعتذرون ببعض أشغالهم أو تجاراتهم وما إلى ذلك، فهذا ليس عذراً عند الله، إلَّا إذا كان بدرجة معيَّنة يمكن أن يسقط فيها وضعه أو عيشه. أمَّا إذا كانت غيبة الإنسان في الحجّ تكلّفه أن تنقص بعض أرباحه أو مكاسبه، فهذا ليس عذراً شرعيّاً.
وقد ورد في الحديث عن رسول الله (ص) بشكل متكرِّر: "منْ ماتَ ولم يحجَّ حجَّةَ الإسلامِ، لم يمنعْهُ من ذلكَ حاجةٌ تجحفُ به، أو مرضٌ لا يطيقُ فيه الحجَّ، أو سلطانٌ يمنعه، فليمتْ يهوديّاً أو نصرانيّاً". وربما يشير إلى هذه المسألة، قولُهُ تعالى: {وللّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيتِ مَنِ استَطاعَ إلَيهِ سَبيلاً ومَن كَفَرَ فَإِنَّ اللّهَ غَنِيٌّ عَنِ العالَمينَ}. وتُفسَّر كلمة (وَمَنْ كَفَرَ)، أي من لم يحجّ.
لذلك، إنَّ قصَّة الحجّ هي قصَّة عبادة في العمر مرَّة، ولا يجب على الإنسان أن يكرِّر حجَّه، وإن استُحِبَّ له ذلك، من أجل أن يستزيد من روحانيَّته، ومن الوسائل الَّتي تقرِّبه إلى ربِّه.
خصوصيّة الحجّ
وقد ورد أنَّ للحجِّ خصوصيّة معيَّنة، وهي أنَّ الإنسان إذا حجَّ الحجّ بأصوله، بأصوله الماديَّة والروحيَّة، فإنَّه يخرج من الحجِّ كيوم ولدته أمّه، ويقال له ابدأ العمل من جديد، طبعاً بشرطها وشروطها. فعندما تريد أن تحجّ، فعليك أن تتخفَّف من حقوق النَّاس عليك، فيما للنَّاس عليك من حقّ معنويّ أو ماديّ، ولو بأن تطلبَ من النَّاس أن يؤخِّروا حقَّهم، وأن تتخفَّفَ من حقوقِ الله عليك، فتدفع حقوق الله المترتّبة عليك، لا بالحجَّة الَّتي تحجُّها فقط، فبعض النَّاس لا يدفع ما عليه من خمس وزكاة إلّا فيما يتعلّق بأموال حجّته، والله يقول: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِن المُتَّقِيْنَ}[المائدة: 27]، ومن التَّقوى أن تخمِّس أموالك وأن تزكِّيها، لأنَّه كما الحجّ فريضة واجبة، فالخمس والزكاة أيضاً فريضة واجبة.
ولذلك، فإنَّ على الإنسان أن يخمِّس أمواله قبل أن يحجّ، حتَّى إذا أدَّى حقوق الله وحقوق النّاس، وحجَّ حجّاً صحيحاً، فإنَّه يخرج من الحجّ كيوم ولدته أمّه، وتغفر له كلّ ذنوبه، وهذه جائزة كبرى.
ثمّ هناك نقطة، أيُّها الأحبَّة، وهي مسألة أنَّ على الإنسان عندما يحجّ وينتهي من مناسك الحجّ، أن يشعر بأنَّ حجَّه يبدأ منذ يرجع من الحجّ، لأنَّ عليك أن تحتفظ بحجّك، أن لا تجعله يتبخّر بالمعاصي والأحقاد والعداوات وما إلى ذلك، لأنّ قصَّة الحجّ هي أن يهاجر الإنسان إلى الله، كقول إبراهيم (ع): {وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَىٰ رَبِّي}[العنكبوت: 26].
معنى التَّلبيةِ والإحرام
أنت في الحجّ تذهب إلى الله، وتبدأ حجّك بالتَّلبية: "لبَّيك اللَّهمَّ لبَّيك، لبَّيك لا شريك لك لبَّيك، إنَّ الحمد والنِّعمة لك والملك، لا شريك لك". إنَّك تقول لربِّك، يا ربّ، أنا قادم الآن لألبّيك مرَّتين، من أجل أن أقول لك إجابةً بعد إجابة، سأطيعك في كلِّ آية قلت فيها {يَا أَيُّها النَّاسُ} مما حلَّلت وحرَّمت، وسأطيعك في كلِّ آية قلت فيها {يَا أيُّها الَّذين آمَنُوا} مما أحللت وحرَّمت.. وأنا أعطيك العهد في ذلك.
ومعنى الإحرام، أنَّك تدخل مع الله في ميثاقٍ يتعاون فيه قلبك ولسانك، فقلبك يلبِّي، ولسانك يلبِّي، وأنت تنتظر أن يتقبَّلك الله بذلك، فهو ميثاق بينك وبين الله، أن تطيعه في كلِّ ما أمرك به ونهاك عنه، والله ينتظر منك أن تفي بعهدك بعد أن ترجع؛ فلا تظلم أهلك، ولا تظلم من تبيعهم ومن تشتري منهم، ولا تظلم جارك، ولا تظلم أمَّتك... لأنَّ الظّلم يُسقِط الإنسان من السَّماء إلى الأرض في ميزان الله.
وأنت عندما تلبِّي، فإنَّك تقول لله أحمدك ولا أحمد غيرك، أنت وحدك المنعم، وكلّ من ينعم عليَّ فهو مستمدٌّ من نعمتك، أنت المالك ولا مالك غيرك.
"إنَّ الحمد والنِّعمةَ لك والملك، لا شريك لك"، لا تشرك بالله غيره في طاعته، لا تطع المخلوق في معصية الخالق، لا تنحني للمخلوق وتخضع له أمام الله.
رمزيّةُ الطّواف
وعندما تطوف في البيت، أتعرف ما معنى الطَّواف في البيت؟ إنَّك لا تطوف بأحجار البيت، لكن البيت هو بيت الله، ورمز الطّواف هو أنَّك تقول لربِّك وأنت تطوف سبعة أشواط: يا ربّ، إنَّ حياتي تتلخَّص في أن يكون الطّواف ببيوتك، لن أطوف ببيوت الظَّالمين والمستكبرين، ولن أطوف ببيوت الفاسقين، لن أذهب إلى بيتٍ يمارس النَّاس فيه معصية الله، ولن أدخلَ بيتاً يظلم النَّاسُ فيه النَّاسَ، ولن أدخلَ بيتاً يستكبر فيه النَّاس على النَّاس. الطَّواف ليس مجرَّد خطوات تمشي بها، ولكنَّه أن يخطو عقلك وأن يخطو قلبك، وأن تخطو كلّ حياتك في الطَّريق الَّذي يريد الله لك أن تتحرَّك فيه.
السَّعيُ والوقوفُ في عرفات
وهناك السّعي بين الصَّفا والمروة. والسَّعي هو رمز لأن يكون سعيك في الحياة في الطَّريق الَّذي يحبّه الله. لماذا تسعى؟ {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا}[البقرة: 158]. فلماذا تسعى؟ لأنَّ الله أمرك، والله أمرك أن تمشي في خطِّ الدَّعوة إلى الله، وفي خطِّ الإصلاح بينَ النَّاس، وفي خطِّ تعليم النَّاس وقضاء حوائجهم، والجهاد في سبيل الله... السَّعي هناك يحدِّد لك طبيعة السَّعي هنا، أن يكون سعيك لله هنا كما يكون سعيك لله هناك.
وعندما تقف في عرفات، فعرفات دعاء وابتهال وتأمّل وإنابة إلى الله، وإذا انطلقت إلى المشعر الحرام: {فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ - لا تشغل نفسك بالقصص والأحاديث والمناكفات - وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ - اذكر رَّبك إذا وصلت إلى المشعر الحرام، وقل {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَٰذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ}[الأعراف: 43]. اعتبر أنَّ الهداية نعمة ليست فوقها نعمة، لأنَّك عندما اهتديت لله ولرسوله ولدينه، فإنَّك أخذت بيدك مفتاح الجنَّة، إذا اهتديت هداية فكريَّة وعمليَّة، بحيث سرت في الطَّريق المستقيم - وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ}[البقرة: 198].
{ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ - امشوا مع الناس، مع الجماعة، مع كلِّ هؤلاء الواقفين في عرفات، مع كلِّ الذين يزحفون إلى المشعر الحرام، مع كلِّ الَّذين ينطلقون إلى منى وإلى البيت الحرام في نهاية المطاف.. فكر أنَّك جزء من هذه الأمَّة، جزء من هذا الجمع، فكِّر أن تفتح قلبك لكلِّ هؤلاء الَّذين هم إخوانك في الإيمان، أسقط كلَّ أحقادك عن المسلمين، أسقط كلَّ عداواتك، اقرأ كتابَ ربِّك {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ}[الحجرات: 10]، فكِّر أن تصلح بين إخوانك هناك وهنا - ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ - وأنت في السيَّارة، وأنت تسير راجلاً، تذكّر ذنوبك واستغفر ربَّك، فإنَّ تلك المواقف هي الفرصة الَّتي جعلها الله لك؛ أن تفتح قلبك له، وأن تفتح عقلك له، وأن تفتح تاريخ حياتك له، وأن تشهده على قلبك أنت تائب، وأنَّكَ تطلبُ منه الغفران - وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}[البقرة: 199].
ما بعدَ المناسك
{فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ – وانتهيتم إلى منى، فماذا تفعلون هناك؟ - فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُم – كما هي علاقتكم بآبائكم - أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا - لأنَّ علاقتكم بالله أعظم من علاقتكم بآبائكم.
وإذا أردتم أن تدعو الله هناك، فهل تدعونه في شؤون الدنيا فقط، كما نفعل: اللّهمّ ارزقني ولداً، مالاً، بيتاً، زوجةً...؟ فالله يقول: - فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا – فلا يتذكَّر الآخرة وليس له شغل فيها، ربَّنا أعطنا خبزنا كفاف يومنا أو أكثر من كفاف يومنا - وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ}[البقرة: 200] من نصيب. أمَّا المتوازن الواعي الَّذي لا يضيِّع الدنيا ولا الآخرة: {وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * أولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّما كَسَبُوا وَاللهُ سَرِيْعُ الْحِسَابِ}[البقرة: 201 – 202]، فالله يجعل لهم نصيباً مما كسبوه في الدّنيا ومما كسبوه في الآخرة، لأنَّهم عاشوا خطَّ التوازن: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ}[القصص: 77].
أهميَّةُ ذكرِ الله
{وَاذْكُرُواْ اللّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ}[البقرة: 203] اذكر ربَّك، وليس المراد ذكر الله باللِّسان فحسب، بل كما ورد عن الإمام جعفر الصَّادق (ع)، عندما قال إنَّ من الأمور الَّتي يرتفع بها الإنسان عند الله، ذكر الله على كلِّ حال، ثمّ يقول (ع): "ليسَ سبحانَ اللهِ، والحمدُ لله، ولا إلهَ إلّا الله، واللهُ أكبر، فقط، ولكنْ إذا وردَ عليْكَ شيءٌ أمَرَ الله عزَّ وجلَّ به، أخذْتَ به، أو إذا وَرَدَ عليْكَ شيءٌ نَهَى اللهُ عزَّ وجلَّ عنه، تَرَكْتَهُ". فمثلاً، إذا قدَّمَ إليك شخص كأساً من الخمر وأنت في حفلة دبلوماسيَّة أو في حفلة اجتماعيَّة، ويقول لك إنّها على حسابي.. فاذكر الله، قل له ماذا يفيدني حسابك لو شربت الخمر، والله يقول: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ}[المائدة: 90]، وإذا وقفت عند الحرام، وعرضَتْ عليك نفسك الحرام، أو عرض عليك النَّاس الحرام، فاذكر ربَّك، واذكر موقفك غداً أمامه {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ}[المطفّفين: 6]، {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا}[النّحل: 111]. وعندما تقف أمام الواجب فافعله، وإن كانت نفسك لا تريده، كما كثير من الناس، فقد يكون مستطيعاً للحجّ، لكن تنهاه نفسه، أو ينهاه أقرباؤه، وهذا أمرٌ موجودٌ عندنا، فالبعض يقولون أجِّل للسنة القادمة، وقد يقولون فلانة صبيَّة ولم تتزوَّج بعد، فلماذا تذهب من الآن إلى الحجّ، أو فلان لا يزال شابّاً وغير متزوّج، فيمكنه تأجيل الحجّ... ولكن من قال إنَّ على الإنسان أن يكون عجوزاً حتّى يحجّ؟ الله يقول: {وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا}، سواء كان شابّاً متزوّجاً أو غير متزوّج، أو صبيَّة متزوّجة أو غير متزوّجة، فكما أنَّ الصَّلاة واجبة على الشّابّ والصبيَّة، كذلك الحجّ واجب، ولكن هذا الفرض يحتاج إلى دفع مال أكثر.
بعض النَّاس يفكِّر أنَّ عليَّ أن أعيش شبابي وأفعل ما أريد، وعندما يصبح عمري ستّين سنة أذهب إلى الحجّ وأتوب، ولكن ما الضَّامن أن تعيش حتّى هذا العمر؟ ثم إنَّ هذا الَّذي منعك من طاعة الله الآن، قد يمنعك من طاعة الله لاحقاً، فالشَّيطان عندما سيطر عليك وأنت في كامل قوَّتك، يستطيع أن يسيطر عليك وأنت عجوز، وقد يقول لك اكتب ما عليك في وصيَّتك.. والإمام عليّ (ع) يقول: "كنْ وصيَّ نفسِكَ في مالِكَ، واعملْ فيهِ ما تؤثرُ أن يُعمَلَ فيه منْ بعدِكَ".
لذلك، أيُّها الأحبَّة، لم تؤكِّد آيات الحجّ شيئاً كما أكَّدت ذكر الله سبحانه وتعالى في كلِّ المجالات. لاحظ، مثلاً، أنّها ركَّزت في بعض آيات الحجّ على عناوين معيَّنة: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى - وهذا من أخلاق أجواء الحجّ، أن تعمل على أساس أن تعقد قلبك على أن تتعاون مع الآخرين على كلِّ خير وتقوى - وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}[المائدة: 2]، لأنَّ الله سبحانه وتعالى لا يريدك أن تعيش الإثم والعدوان في هذا المجال.
الحجُّ مظهرٌ للطَّهارة والتَّوبة
وهكذا، أيُّها الأحبَّة، يريد الله لنا أن نعيش في الحجّ الإخلاص والطَّهارة والمحبَّة والخير للنَّاس جميعاً، إنَّ الحجَّ يمثِّل المظهر الَّذي تتطهَّر فيه عقولنا من الباطل، وقلوبنا من الحقد والعداوة والضَّغينة، وأجسادنا من المعاصي والإثم والعدوان.
أيُّها الأحبَّة، إنَّنا سائرون في الرّحلة إلى الله، لا ندري متى نُدعَى فنجيب، فعلينا أن نستعدَّ للقاء الله بالتّوبة، وقد ورد عن الإمام زين العابدين (ع): "وَاجْعَلْ خِتَامَ مَا تُحْصِي عَلَيْنَا كَتَبَةُ أَعْمَالِنَا، تَوْبَةً مَقْبُولَةً، لا تُوقِفُنَا بَعْدَهَا عَلَى ذَنْبٍ اجْتَرَحْنَاهُ، وَلاَ مَعْصِيَةٍ اقْتَرَفْنَاهَا، وَلاَ تَكْشِفْ عَنَّا سِتْراً سَتَرْتَهُ عَلَى رُؤُوسِ الأشْهَادِ يَوْمَ تَبْلُو أَخْبَارَ عِبَادِكَ، إنَّكَ رَحِيمٌ بِمَنْ دَعَاكَ، وَمُسْتَجيبٌ لِمَنْ نَادَاكَ".
على كلٍّ منَّا قبل أن ينام، أن يجعل توبته تحت وسادته، وعندما يستيقظ، تكون توبته مشرقة بعقله إشراقة الشَّمس. لنحسبْ حسابَ الله، لأنَّ كثيراً من الَّذين لم يحسبوا حساب الله، واجهوا الحساب العسير أمامه: "اليوْمَ عملٌ ولَا حسابٌ، وغداً حسابٌ ولا عمل".
حجّوا قبل أن تحجّوا، وعليكم أن تحجّوا حجّا ًيحجّ فيه العقل والقلب والروح واللّسان والجسد، ليكون حجّاً إلى الله، وقد ورد في الحديث عن الإمام الباقر (ع): "مَا يعبأُ بمن يؤمُّ هذا البيت إذا لم يكن فيه ثلاث خصال: ورعٌ يحجزُه عن معاصي الله تعالى، وحلمٌ يملكُ به غضبَهُ، وحسنُ الصَّحابةِ لمن صحبه"، أن تكون لك الأخلاق الإسلاميَّة الّتي تعيش فيها مع النّاس، دون أن تثير حساسيّاتهم وعصبيّاتهم. هذه أمور ثلاث إذا فعلها الإنسان، نظر إليه الله نظرة رحمة، وإن لم يفعلها، فإنّه سبحانه لا يعتني به.
أيُّها الأحبَّة، لننظر إلى أنفسنا، ولنفكِّر في يوم لقائنا أمام ربّنا، ولنحضِّر حساباتنا أمام الله، ولنعرف كيف نرتِّب كتاب أعمالنا، لأنَّه سياتي وقت يقال: {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا}[الإسراء: 14].
بسم الله الرَّحمن الرَّحيم
عباد الله، اتَّقوا الله، واستعدّوا للقاء الله {يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}[الشّعراء: 88 – 89]، {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ}[عبس: 34- 36]. اتَّقوا الله في عباده وبلاده، فإنَّكم مسؤولون حتَّى عن البقاع والبهائم، كما قال عليٌّ (ع).
لنشعر دائماً بأنَّ حياتنا هي مسؤوليَّتنا أمام الله، فالله سوف يسألنا عن كلِّ كلمة نقولها، وعن كلِّ عمل نعمله، وكلّ موقف نقفه، تأييداً أو رفضاً، وكلّ علاقة ننشئها.. فلننظر إلى الله قبل أن نتكلَّم، وقبل أن نعمل، وقبل أن نؤيِّد، وقبل أن نرفض، ولنطع الله في ذلك كلِّه، ولتكن طاعتنا لله أحبَّ إلينا من طاعتنا لأيِّ مخلوق، إلَّا إذا كان هذا المخلوق يريدنا أن نطيع الله في طاعته. وعلينا أن نحبَّ الله أكثر مما نحبُّ أحداً: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ}[البقرة: 165]. ومحبَّتنا لله هي أن نعمل بما جاء عن رسول الله: {قُلْ إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ}[آل عمران: 31].
ومحبَّتنا لله تفرض علينا أن نحبَّ من أحبَّ الله، ونبغض من أبغضَ اللهُ، وأن نحبَّ في الله ونبغض في الله، وأن لا نؤيِّد المستكبرين الظَّالمين الَّذين يعيثون في الأرض فساداً ويبغون في الأرض بغير الحقّ. أن نعمل على أن نكون مع المظلوم، أيّاً كان المظلوم، وضدّ الظالم، أيّاً كان الظالم، استجابةً لوصيَّة عليّ (ع): "كونا للظَّالمِ خصماً، وللمظلومِ عوناً"، وأن لا نركن إلى الظَّالمين، سواء كانوا دولاً أو أحزاباً أو جماعاتٍ أو أفراداً، لأنَّ الله يقول: {وَلَا تركَنُوا إلى الَّذينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ}[هود: 113].
أيُّها الأحبَّة، إنَّنا في هذه الحياة مسؤولون أمام الله، وعلينا أن نذكر الله في كلّ مواقع المسؤوليّة، وعلينا أن نواجه كلَّ الَّذين يظلمون عباد الله ويستكبرون عليهم، ويغصبون حقوقهم، ويربكون أوضاعهم.
ونحن نواجه أكثر من قضيَّة في هذا الأسبوع، ولا بدَّ أن نواجه مسؤوليَّاتنا فيها.
ذكرى مجزرةِ بئرِ العبد
في الثَّامن من آذار، مرَّت علينا ذكرى مجزرة بئر العبد، هذه المجزرة الَّتي خطَّطت لها أمريكا، وموَّلتها بعض الدول العربيَّة، وخطَّطت لتنفيذها بعض الدول الأوروبيَّة، وعملَتْ على تنفيذها أجهزةُ المخابرات اللّبنانيَّة، هذه المجزرة الَّتي سقط فيها ما يقارب المئتين بين جنينٍ في بطن أمِّه، ورضيعٍ على يد أمِّه، وبين امرأةٍ كانت عائدةً من المسجد بعد الصَّلاة، وبينَ عاملٍ كانَ عائداً من عملِهِ بعدَ يومٍ طويل، وبينَ شيخٍ كبيرٍ كانَ متواجداً هناك...
لقد سقط فيها ما يقارب الثَّمانين شهيداً، وأعيق فيها ما يقارب المئة والعشرين، ولم نكن نتَّهم أمريكا من دون أساس، بل إنَّ الأجهزة الإعلاميَّة الأمريكيَّة، كواشنطن بوست، ومذكّرات وليام كايسي، مدير المخابرات المركزيَّة الأمريكيَّة، هم الَّذين تحدَّثوا عن كلِّ تفاصيلها.
هذه المجزرة لا بدَّ لنا أن نستعيدها، ونستعيد بقيَّة المجازر الَّتي حدثت في هذا البلد بفعل أجهزة المخابرات الأمريكيَّة والصهيونيَّة وبعض الأجهزة العربيَّة، حتَّى نعرف ما معنى هؤلاء الَّذين يتحدَّثون عن حقوق الإنسان، وهم أوَّل من يسقط حقوق الإنسان، ويتحدَّثون عن الأعمال الإرهابيَّة، وهم أوَّل من يقوم بالأعمال الإرهابيَّة.. وعندما فشل هؤلاء في الاغتيال الجسديّ، عملوا، ولا يزالون يعملون، من أجل اغتيالٍ معنويّ، وذلك على أساس استغلال نقاط الضّعف الموجودة لدى بعض النَّاس في مجتمعاتنا، من أناسٍ يحقدون أو يحسدون أو يتخلَّفون.
ونحن عندما نريد أن نثير هذه الذّكرى، فإنَّنا نريد لكلِّ إخواننا وأهلنا ومواطنينا، أن يكون كلّ واحد منهم خفيراً يحرس المجتمع، أن لا ينطلق كلّ أعداء الله من أجل أن ينفِّذوا مجزرة هنا ومجزرة هناك، ولا سيَّما العدوّ الصهيوني الَّذي لا يزال يتوعَّد ويهدِّد المقاومة ويهدِّد اللّبنانيّين بأنَّه سيثأر، وسيقوم ببعض الأعمال الَّتي تعيد إليه عنفوانه، ومن الطبيعيّ أنَّ العدوَّ لا يفكِّر في حرب عسكريَّة كبيرة، لأنَّه لا يملك الظّروف الَّتي تساعده على ذلك، ولكنَّه يعمل على محاولة القيام بعمليَّات أمنيَّة لاغتيال القيادات، أو لإرباك الواقع الاجتماعيّ بطريقة أمنيَّة.
تعقيدٌ أمريكيٌّ لأوضاعِ المنطقة
النقطة الثَّانية الّتي نريد أن نثيرها، هي مسألة استقبال موفديْن أمريكيَّيْن مع جهازهما في هذه المرحلة؛ الموفد الأمريكي الأوَّل هو وزير الدّفاع الأمريكي الَّذي يقوم بجولة في دول الخليج، وفي دول المنطقة، من أجل التَّخطيط لبعض أهداف السياسة الأمريكيَّة في هذه المرحلة في المنطقة، وهذا ما نلاحظه، فقد أراد أن يحصل على تأييد دول المنطقة في استمرار الغارات على العراق أوّلاً، وفي تأكيد سياسة أمريكا في الاحتواء المزدوَج لكلٍّ من إيران والعراق، واستمرار سياسة التخويف للدّول الخليجيّة، ولا سيَّما من إيران والعراق، وذلك كوسيلةٍ من وسائل ابتزاز دول الخليج ماليّاً، ببيعها أسلحة متقدّمة بعدَّة مليارات، في الوقت الَّذي لا تحتاج إلى هذه الأسلحة، وليس عندها كفاءات عسكريَّة تستطيع من خلالها أن تستعمل هذه الأسلحة، ولكنَّ المسألة أنَّ أمريكا تريد أن تنقذ بعض ثغرات اقتصادها، ولذلك تثير أنَّ إيران بدأت بتجربة الصَّاروخ بعيد المدى، ونحن مستعدّون لأن نبيعكم نظام الإنذار المبكر لتستطيعوا أن تكتشفوا هذه الصّواريخ، وقد صرَّحت إيران أنَّ أسلحتها لن توجَّه لا إلى عالم عربي ولا إلى عالم إسلاميّ. أمَّا مسألة الجزر، فقد عرضت إيران على دولة الإمارات العربيَّة أن تتفاوض عليها، لأنَّ المسألة لها بعد قانوني أكثر من البعد السياسي، هل هي لإيران أو للإمارات..
وهكذا رأينا أنَّ وزير الحرب الأمريكي استطاع، كما يدَّعي، أن يقنع هذه الدول بما أراده، وقد صرَّح بذلك، بأننا استطعنا أن نحصل على تأييد هذه الدول، بالرغم من أنَّ بعض الدول صرَّحت بأنَّنا لا نوافق على قصف العراق، أو ما أشبه ذلك.
إنَّ السياسة الأمريكيَّة تعمل دائماً على تعقيد العلاقات العربيّة الإيرانيّة، لأنها لا تريد للواقع العربي أن يستقرّ، ولا تريد للواقع الإيراني أن يستقرّ، وذلك بأن تخوِّف كلًّا منهما من الآخر، ولا سيَّما في الدول الخليجيَّة. ونحن نعرف وتعرف الدّول الخليجيَّة، أنَّ مصلحتها إنَّما هي في علاقات وثيقة متقدِّمة مع إيران، الدولة الخليجيَّة الأكبر في المنطقة، لأنَّ إيران هي أكبر دولة خليجيَّة في المنطقة، وعندما هدأت التوتّرات بين إيران ودول الخليج، استقرَّت دول الخليج، فإذا عادت التوتّرات بينهما، فلن تستقرّ دول الخليج.
ولذلك، نحن نقول للخليجيّين وللإيرانيّين، أن ينتبهوا جيّداً للألاعيب الأمريكيَّة، وأن يعملوا على تأكيد علاقاتهم بالتَّعاون والتَّخطيط، لحماية الخليج أمنياً وسياسياً واقتصادياً.
وبهذه المناسبة، فإنَّنا نشجِّع التقارب بين إيران وبين دول الاتحاد الأوروبي، ولا سيَّما فرنسا وإيطاليا وألمانيا، لأنَّ ذلك هو الَّذي يسقط الحصار الأمريكي على إيران، وهو الَّذي يمثِّل مصلحةً لأوروبَّا ولإيران في ذلك.
ونحن نقول إنَّ السياسة الحكيمة الرَّشيدة الَّتي سارت فيها إيران، استطاعت أن تنتصر فيها على أمريكا في تجاوزها لكلِّ هذا الحصار.
تدخّلٌ أمريكيٌّ لمصلحةِ العدوّ
وفي هذا الاتجاه، نراقب زيارة أخرى، وهي زيارة مارتن إنديك الَّذي هو مساعد وزير الخارجيَّة الأمريكيَّة، حيث يجول في دول المنطقة لسببٍ واحد، وهو محاولة تهدئة السَّاحة اللّبنانيَّة لمصلحة إسرائيل، ولمصلحة الانتخابات الإسرائيليَّة في هذا الجانب أو ذاك الجانب، فهو يطرح وقف عمليات المقاومة حتَّى انتهاء الانتخابات الإسرائيليَّة، وهو يطرح أيضاً تعديل تفاهم نيسان، وهو يحاول أن يتوسَّط لدى سوريا في هذا، ويضغط على لبنان بطريقة وبأخرى، لأنَّ أمريكا تعمل بكلِّ وسائلها في سبيل خدمة إسرائيل، وفي سبيل أمن إسرائيل. ولكنَّ المبعوث الأمريكي يعرف أنَّه لا سوريا ولا لبنان ولا المجاهدون في ساحة الاحتلال، يقبلون بتهدئة عمليَّات المقاومة ضدَّ إسرائيل، لأنَّ إسرائيل باحتلالها للبنان، حتَّى لو لم تطلق رصاصة واحدة، هي تمارس الحرب ضدّ لبنان، لأنَّ الاحتلال عمليَّة حرب، وقد أعلن المجاهدون أنَّه لا يمكن لهم أن يغمدوا السِّلاح ما دام هناك جنديّ محتلّ في داخل لبنان.
وهكذا أرادت أمريكا، ومن خلالها إسرائيل، تعديل تفاهم نيسان، حتَّى يأخذ الإسرائيليّون حرَّيتهم في ضرب المدنيّين، من دون أيِّ ردّ فعل من قبل المجاهدين في إطلاق صواريخ الكاتيوشا، وهذا أمر لن يكون، لأنَّ معنى ذلك أن نقول لإسرائيل خذي حرّيتك في قتل أطفالنا وشيوخنا ونسائنا وتدمير بيوتنا من دون أيِّ عقاب، وهذا ما لا يفعله عاقل.
إنَّنا نقول لأمريكا، إذا كانت تفكِّر في مصلحة حليفتها، فعليها أن تضغط عليها لتنسحب من دون قيدٍ أو شرط.
هذه هي المسألة الَّتي لا بدَّ لنا أن نعيها؛ أن يبقى الموقف واحداً في مواجهة الاحتلال بكلِّ أساليبه.
استعادة أموال الشَّعب
وأخيراً، إنَّنا نشجِّع مبادرة الدَّولة في استعادة أموال الشَّعب، ولكن على أساس عدم الاستثناء؛ أن لا يكون هناك قويّ وضعيف، وأن لا يكون هناك شريف وحقير، وقد جاء في الحديث عن رسول الله (ص): "إنَّما هلك الَّذين قبلَكم، أنَّهم كانوا إذا سرق فيهمُ الشَّريفُ تركوه، وإذا سرق فيهمُ الضَّعيفُ أقاموا عليه الحدَّ. وأيمُ اللهِ! لو أنَّ فاطمةَ بنتَ محمَّدٍ سرقت، لقطعْتُ يدَها". وهي (ع) أعظم وأعظم من ذلك، لكنَّ النّبيَّ (ص) أراد أن يبيِّن المستوى العالي من المسألة، أي أنَّ هذا المستحيل لو فرضنا تحقَّق، ولا يتحقَّق، لو سرقت فاطمة بنت محمَّد، لقطعَ يدها.
نحن نريد أن تبدأ عمليَّة استعادة أموال الشَّعب من الذين سرقوا أموال الشَّعب، من أكبر رأس في الدولة إلى أصغر رأس، وإلَّا لن تكون هناك عمليَّة صحيحة، عندما نحاكم الضعفاء ونترك الأقوياء. هذا أمر ننصح به الدَّولة حتّى تكون منسجمةً مع شعاراتها، ولا نريد لأحد أن يتدخَّل في القضاء، ليكون القضاء مستقلاً.
ونحن نقول لو أنَّ الدولة كانت جادَّة، وعملت على أساس العدل في جمع كلِّ الأموال الَّتي سرقت من قبل الكثيرين ممن سرقوا الأموال، لاستطاعت أن تفي كلَّ الدّيون، واستطاعت أن تحلَّ المشكلة من دون ضرائب، ولكنَّ المسألة هي كيف تتحرَّك الأمور بشكل وبآخر.
إنَّنا نريد للدَّولة أن تعمل دائماً لإقرار خطَّة اقتصاديَّة تبدأ بالتقشّف المدروس الَّذي لا ينعكس سلباً على المشاريع الإنمائيَّة والخدمات الاجتماعيَّة، وتصل إلى فتح الثَّغرات في الجدار الاقتصادي المقفل الَّذي لا يزال يهدِّد البلد، في ظلِّ تراكم الديون واستمرار العجز، ولكن مع الالتفاف إلى أن لا يدفع الفقراء والمحرومون مجدَّداً ثمن هذا العجز بالمزيد من الضَّرائب الجديدة.
إنَّ الشَّعب لا يطلب المستحيل، ولكنَّه يطلب التَّخطيط في الحلول المتوازنة في حلِّ مشكلاته.
والحمد لله ربِّ العالمين.
* خطبة الجمعة لسماحته، بتاريخ: 12/ 03/ 1999م.
 
 
يقول الله سبحانه وتعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ}[آل عمران: 97].
وقال سبحانه وهو يخاطب إبراهيم (ع)، بعدَ أن قام ببناء البيت: {وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ* لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ * وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلى ما رَزَقَهم مِن بَهِيمَةِ الأنْعامِ فَكُلُوا مِنها وأطْعِمُوا البائِسَ الفَقِيرَ}[الحجّ: 27 – 28].
الاستعدادُ لموسمِ الحجّ
في هذه الأيَّام، يستعدُّ النَّاس للتوجّه إلى بيت الله الحرام من أجل أن يحجّوا؛ فرضاً لمن استطاع ولم يحجّ، أو ندباً لمن أراد الاستزادة من الحجّ.
والحجّ، أيّها الأحبَّة، من أركان الإسلام، ومن العبادات الَّتي فرضها الله على النَّاس جميعاً: {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا}. والاستطاعة تتلخَّص في أن يكون لك مال تستطيع أن تحجَّ به، ممّا لا يرهقك بذله، وأن يكون لك مصرفٌ لعيالك يكفيهم في حال غيابك وبعد رجوعك، وأن تكون في صحة وعافية، وأن لا يكون هناك مانع أمنيّ أو رسميّ يمنعك من الحجّ، وأن لا يكون عليك حرجٌ في حجِّك، فمن اجتمعت له هذه الصّفات، وجب عليه أن يحجّ.
والمشهور بين علمائنا، أنَّ وجوب الحجّ لمن استطاع الحجّ فوريٌّ، بمعنى أنَّك إذا استطعت في هذه السنة أن تحجّ، فلا يجوز أن تؤخِّر الحجَّ إلى سنة أخرى، وإلَّا كنت عاصياً وآثماً، وإذا كان بعض النَّاس يعتذرون ببعض أشغالهم أو تجاراتهم وما إلى ذلك، فهذا ليس عذراً عند الله، إلَّا إذا كان بدرجة معيَّنة يمكن أن يسقط فيها وضعه أو عيشه. أمَّا إذا كانت غيبة الإنسان في الحجّ تكلّفه أن تنقص بعض أرباحه أو مكاسبه، فهذا ليس عذراً شرعيّاً.
وقد ورد في الحديث عن رسول الله (ص) بشكل متكرِّر: "منْ ماتَ ولم يحجَّ حجَّةَ الإسلامِ، لم يمنعْهُ من ذلكَ حاجةٌ تجحفُ به، أو مرضٌ لا يطيقُ فيه الحجَّ، أو سلطانٌ يمنعه، فليمتْ يهوديّاً أو نصرانيّاً". وربما يشير إلى هذه المسألة، قولُهُ تعالى: {وللّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيتِ مَنِ استَطاعَ إلَيهِ سَبيلاً ومَن كَفَرَ فَإِنَّ اللّهَ غَنِيٌّ عَنِ العالَمينَ}. وتُفسَّر كلمة (وَمَنْ كَفَرَ)، أي من لم يحجّ.
لذلك، إنَّ قصَّة الحجّ هي قصَّة عبادة في العمر مرَّة، ولا يجب على الإنسان أن يكرِّر حجَّه، وإن استُحِبَّ له ذلك، من أجل أن يستزيد من روحانيَّته، ومن الوسائل الَّتي تقرِّبه إلى ربِّه.
خصوصيّة الحجّ
وقد ورد أنَّ للحجِّ خصوصيّة معيَّنة، وهي أنَّ الإنسان إذا حجَّ الحجّ بأصوله، بأصوله الماديَّة والروحيَّة، فإنَّه يخرج من الحجِّ كيوم ولدته أمّه، ويقال له ابدأ العمل من جديد، طبعاً بشرطها وشروطها. فعندما تريد أن تحجّ، فعليك أن تتخفَّف من حقوق النَّاس عليك، فيما للنَّاس عليك من حقّ معنويّ أو ماديّ، ولو بأن تطلبَ من النَّاس أن يؤخِّروا حقَّهم، وأن تتخفَّفَ من حقوقِ الله عليك، فتدفع حقوق الله المترتّبة عليك، لا بالحجَّة الَّتي تحجُّها فقط، فبعض النَّاس لا يدفع ما عليه من خمس وزكاة إلّا فيما يتعلّق بأموال حجّته، والله يقول: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِن المُتَّقِيْنَ}[المائدة: 27]، ومن التَّقوى أن تخمِّس أموالك وأن تزكِّيها، لأنَّه كما الحجّ فريضة واجبة، فالخمس والزكاة أيضاً فريضة واجبة.
ولذلك، فإنَّ على الإنسان أن يخمِّس أمواله قبل أن يحجّ، حتَّى إذا أدَّى حقوق الله وحقوق النّاس، وحجَّ حجّاً صحيحاً، فإنَّه يخرج من الحجّ كيوم ولدته أمّه، وتغفر له كلّ ذنوبه، وهذه جائزة كبرى.
ثمّ هناك نقطة، أيُّها الأحبَّة، وهي مسألة أنَّ على الإنسان عندما يحجّ وينتهي من مناسك الحجّ، أن يشعر بأنَّ حجَّه يبدأ منذ يرجع من الحجّ، لأنَّ عليك أن تحتفظ بحجّك، أن لا تجعله يتبخّر بالمعاصي والأحقاد والعداوات وما إلى ذلك، لأنّ قصَّة الحجّ هي أن يهاجر الإنسان إلى الله، كقول إبراهيم (ع): {وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَىٰ رَبِّي}[العنكبوت: 26].
معنى التَّلبيةِ والإحرام
أنت في الحجّ تذهب إلى الله، وتبدأ حجّك بالتَّلبية: "لبَّيك اللَّهمَّ لبَّيك، لبَّيك لا شريك لك لبَّيك، إنَّ الحمد والنِّعمة لك والملك، لا شريك لك". إنَّك تقول لربِّك، يا ربّ، أنا قادم الآن لألبّيك مرَّتين، من أجل أن أقول لك إجابةً بعد إجابة، سأطيعك في كلِّ آية قلت فيها {يَا أَيُّها النَّاسُ} مما حلَّلت وحرَّمت، وسأطيعك في كلِّ آية قلت فيها {يَا أيُّها الَّذين آمَنُوا} مما أحللت وحرَّمت.. وأنا أعطيك العهد في ذلك.
ومعنى الإحرام، أنَّك تدخل مع الله في ميثاقٍ يتعاون فيه قلبك ولسانك، فقلبك يلبِّي، ولسانك يلبِّي، وأنت تنتظر أن يتقبَّلك الله بذلك، فهو ميثاق بينك وبين الله، أن تطيعه في كلِّ ما أمرك به ونهاك عنه، والله ينتظر منك أن تفي بعهدك بعد أن ترجع؛ فلا تظلم أهلك، ولا تظلم من تبيعهم ومن تشتري منهم، ولا تظلم جارك، ولا تظلم أمَّتك... لأنَّ الظّلم يُسقِط الإنسان من السَّماء إلى الأرض في ميزان الله.
وأنت عندما تلبِّي، فإنَّك تقول لله أحمدك ولا أحمد غيرك، أنت وحدك المنعم، وكلّ من ينعم عليَّ فهو مستمدٌّ من نعمتك، أنت المالك ولا مالك غيرك.
"إنَّ الحمد والنِّعمةَ لك والملك، لا شريك لك"، لا تشرك بالله غيره في طاعته، لا تطع المخلوق في معصية الخالق، لا تنحني للمخلوق وتخضع له أمام الله.
رمزيّةُ الطّواف
وعندما تطوف في البيت، أتعرف ما معنى الطَّواف في البيت؟ إنَّك لا تطوف بأحجار البيت، لكن البيت هو بيت الله، ورمز الطّواف هو أنَّك تقول لربِّك وأنت تطوف سبعة أشواط: يا ربّ، إنَّ حياتي تتلخَّص في أن يكون الطّواف ببيوتك، لن أطوف ببيوت الظَّالمين والمستكبرين، ولن أطوف ببيوت الفاسقين، لن أذهب إلى بيتٍ يمارس النَّاس فيه معصية الله، ولن أدخلَ بيتاً يظلم النَّاسُ فيه النَّاسَ، ولن أدخلَ بيتاً يستكبر فيه النَّاس على النَّاس. الطَّواف ليس مجرَّد خطوات تمشي بها، ولكنَّه أن يخطو عقلك وأن يخطو قلبك، وأن تخطو كلّ حياتك في الطَّريق الَّذي يريد الله لك أن تتحرَّك فيه.
السَّعيُ والوقوفُ في عرفات
وهناك السّعي بين الصَّفا والمروة. والسَّعي هو رمز لأن يكون سعيك في الحياة في الطَّريق الَّذي يحبّه الله. لماذا تسعى؟ {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا}[البقرة: 158]. فلماذا تسعى؟ لأنَّ الله أمرك، والله أمرك أن تمشي في خطِّ الدَّعوة إلى الله، وفي خطِّ الإصلاح بينَ النَّاس، وفي خطِّ تعليم النَّاس وقضاء حوائجهم، والجهاد في سبيل الله... السَّعي هناك يحدِّد لك طبيعة السَّعي هنا، أن يكون سعيك لله هنا كما يكون سعيك لله هناك.
وعندما تقف في عرفات، فعرفات دعاء وابتهال وتأمّل وإنابة إلى الله، وإذا انطلقت إلى المشعر الحرام: {فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ - لا تشغل نفسك بالقصص والأحاديث والمناكفات - وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ - اذكر رَّبك إذا وصلت إلى المشعر الحرام، وقل {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَٰذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ}[الأعراف: 43]. اعتبر أنَّ الهداية نعمة ليست فوقها نعمة، لأنَّك عندما اهتديت لله ولرسوله ولدينه، فإنَّك أخذت بيدك مفتاح الجنَّة، إذا اهتديت هداية فكريَّة وعمليَّة، بحيث سرت في الطَّريق المستقيم - وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ}[البقرة: 198].
{ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ - امشوا مع الناس، مع الجماعة، مع كلِّ هؤلاء الواقفين في عرفات، مع كلِّ الذين يزحفون إلى المشعر الحرام، مع كلِّ الَّذين ينطلقون إلى منى وإلى البيت الحرام في نهاية المطاف.. فكر أنَّك جزء من هذه الأمَّة، جزء من هذا الجمع، فكِّر أن تفتح قلبك لكلِّ هؤلاء الَّذين هم إخوانك في الإيمان، أسقط كلَّ أحقادك عن المسلمين، أسقط كلَّ عداواتك، اقرأ كتابَ ربِّك {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ}[الحجرات: 10]، فكِّر أن تصلح بين إخوانك هناك وهنا - ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ - وأنت في السيَّارة، وأنت تسير راجلاً، تذكّر ذنوبك واستغفر ربَّك، فإنَّ تلك المواقف هي الفرصة الَّتي جعلها الله لك؛ أن تفتح قلبك له، وأن تفتح عقلك له، وأن تفتح تاريخ حياتك له، وأن تشهده على قلبك أنت تائب، وأنَّكَ تطلبُ منه الغفران - وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}[البقرة: 199].
ما بعدَ المناسك
{فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ – وانتهيتم إلى منى، فماذا تفعلون هناك؟ - فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُم – كما هي علاقتكم بآبائكم - أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا - لأنَّ علاقتكم بالله أعظم من علاقتكم بآبائكم.
وإذا أردتم أن تدعو الله هناك، فهل تدعونه في شؤون الدنيا فقط، كما نفعل: اللّهمّ ارزقني ولداً، مالاً، بيتاً، زوجةً...؟ فالله يقول: - فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا – فلا يتذكَّر الآخرة وليس له شغل فيها، ربَّنا أعطنا خبزنا كفاف يومنا أو أكثر من كفاف يومنا - وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ}[البقرة: 200] من نصيب. أمَّا المتوازن الواعي الَّذي لا يضيِّع الدنيا ولا الآخرة: {وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * أولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّما كَسَبُوا وَاللهُ سَرِيْعُ الْحِسَابِ}[البقرة: 201 – 202]، فالله يجعل لهم نصيباً مما كسبوه في الدّنيا ومما كسبوه في الآخرة، لأنَّهم عاشوا خطَّ التوازن: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ}[القصص: 77].
أهميَّةُ ذكرِ الله
{وَاذْكُرُواْ اللّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ}[البقرة: 203] اذكر ربَّك، وليس المراد ذكر الله باللِّسان فحسب، بل كما ورد عن الإمام جعفر الصَّادق (ع)، عندما قال إنَّ من الأمور الَّتي يرتفع بها الإنسان عند الله، ذكر الله على كلِّ حال، ثمّ يقول (ع): "ليسَ سبحانَ اللهِ، والحمدُ لله، ولا إلهَ إلّا الله، واللهُ أكبر، فقط، ولكنْ إذا وردَ عليْكَ شيءٌ أمَرَ الله عزَّ وجلَّ به، أخذْتَ به، أو إذا وَرَدَ عليْكَ شيءٌ نَهَى اللهُ عزَّ وجلَّ عنه، تَرَكْتَهُ". فمثلاً، إذا قدَّمَ إليك شخص كأساً من الخمر وأنت في حفلة دبلوماسيَّة أو في حفلة اجتماعيَّة، ويقول لك إنّها على حسابي.. فاذكر الله، قل له ماذا يفيدني حسابك لو شربت الخمر، والله يقول: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ}[المائدة: 90]، وإذا وقفت عند الحرام، وعرضَتْ عليك نفسك الحرام، أو عرض عليك النَّاس الحرام، فاذكر ربَّك، واذكر موقفك غداً أمامه {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ}[المطفّفين: 6]، {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا}[النّحل: 111]. وعندما تقف أمام الواجب فافعله، وإن كانت نفسك لا تريده، كما كثير من الناس، فقد يكون مستطيعاً للحجّ، لكن تنهاه نفسه، أو ينهاه أقرباؤه، وهذا أمرٌ موجودٌ عندنا، فالبعض يقولون أجِّل للسنة القادمة، وقد يقولون فلانة صبيَّة ولم تتزوَّج بعد، فلماذا تذهب من الآن إلى الحجّ، أو فلان لا يزال شابّاً وغير متزوّج، فيمكنه تأجيل الحجّ... ولكن من قال إنَّ على الإنسان أن يكون عجوزاً حتّى يحجّ؟ الله يقول: {وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا}، سواء كان شابّاً متزوّجاً أو غير متزوّج، أو صبيَّة متزوّجة أو غير متزوّجة، فكما أنَّ الصَّلاة واجبة على الشّابّ والصبيَّة، كذلك الحجّ واجب، ولكن هذا الفرض يحتاج إلى دفع مال أكثر.
بعض النَّاس يفكِّر أنَّ عليَّ أن أعيش شبابي وأفعل ما أريد، وعندما يصبح عمري ستّين سنة أذهب إلى الحجّ وأتوب، ولكن ما الضَّامن أن تعيش حتّى هذا العمر؟ ثم إنَّ هذا الَّذي منعك من طاعة الله الآن، قد يمنعك من طاعة الله لاحقاً، فالشَّيطان عندما سيطر عليك وأنت في كامل قوَّتك، يستطيع أن يسيطر عليك وأنت عجوز، وقد يقول لك اكتب ما عليك في وصيَّتك.. والإمام عليّ (ع) يقول: "كنْ وصيَّ نفسِكَ في مالِكَ، واعملْ فيهِ ما تؤثرُ أن يُعمَلَ فيه منْ بعدِكَ".
لذلك، أيُّها الأحبَّة، لم تؤكِّد آيات الحجّ شيئاً كما أكَّدت ذكر الله سبحانه وتعالى في كلِّ المجالات. لاحظ، مثلاً، أنّها ركَّزت في بعض آيات الحجّ على عناوين معيَّنة: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى - وهذا من أخلاق أجواء الحجّ، أن تعمل على أساس أن تعقد قلبك على أن تتعاون مع الآخرين على كلِّ خير وتقوى - وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}[المائدة: 2]، لأنَّ الله سبحانه وتعالى لا يريدك أن تعيش الإثم والعدوان في هذا المجال.
الحجُّ مظهرٌ للطَّهارة والتَّوبة
وهكذا، أيُّها الأحبَّة، يريد الله لنا أن نعيش في الحجّ الإخلاص والطَّهارة والمحبَّة والخير للنَّاس جميعاً، إنَّ الحجَّ يمثِّل المظهر الَّذي تتطهَّر فيه عقولنا من الباطل، وقلوبنا من الحقد والعداوة والضَّغينة، وأجسادنا من المعاصي والإثم والعدوان.
أيُّها الأحبَّة، إنَّنا سائرون في الرّحلة إلى الله، لا ندري متى نُدعَى فنجيب، فعلينا أن نستعدَّ للقاء الله بالتّوبة، وقد ورد عن الإمام زين العابدين (ع): "وَاجْعَلْ خِتَامَ مَا تُحْصِي عَلَيْنَا كَتَبَةُ أَعْمَالِنَا، تَوْبَةً مَقْبُولَةً، لا تُوقِفُنَا بَعْدَهَا عَلَى ذَنْبٍ اجْتَرَحْنَاهُ، وَلاَ مَعْصِيَةٍ اقْتَرَفْنَاهَا، وَلاَ تَكْشِفْ عَنَّا سِتْراً سَتَرْتَهُ عَلَى رُؤُوسِ الأشْهَادِ يَوْمَ تَبْلُو أَخْبَارَ عِبَادِكَ، إنَّكَ رَحِيمٌ بِمَنْ دَعَاكَ، وَمُسْتَجيبٌ لِمَنْ نَادَاكَ".
على كلٍّ منَّا قبل أن ينام، أن يجعل توبته تحت وسادته، وعندما يستيقظ، تكون توبته مشرقة بعقله إشراقة الشَّمس. لنحسبْ حسابَ الله، لأنَّ كثيراً من الَّذين لم يحسبوا حساب الله، واجهوا الحساب العسير أمامه: "اليوْمَ عملٌ ولَا حسابٌ، وغداً حسابٌ ولا عمل".
حجّوا قبل أن تحجّوا، وعليكم أن تحجّوا حجّا ًيحجّ فيه العقل والقلب والروح واللّسان والجسد، ليكون حجّاً إلى الله، وقد ورد في الحديث عن الإمام الباقر (ع): "مَا يعبأُ بمن يؤمُّ هذا البيت إذا لم يكن فيه ثلاث خصال: ورعٌ يحجزُه عن معاصي الله تعالى، وحلمٌ يملكُ به غضبَهُ، وحسنُ الصَّحابةِ لمن صحبه"، أن تكون لك الأخلاق الإسلاميَّة الّتي تعيش فيها مع النّاس، دون أن تثير حساسيّاتهم وعصبيّاتهم. هذه أمور ثلاث إذا فعلها الإنسان، نظر إليه الله نظرة رحمة، وإن لم يفعلها، فإنّه سبحانه لا يعتني به.
أيُّها الأحبَّة، لننظر إلى أنفسنا، ولنفكِّر في يوم لقائنا أمام ربّنا، ولنحضِّر حساباتنا أمام الله، ولنعرف كيف نرتِّب كتاب أعمالنا، لأنَّه سياتي وقت يقال: {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا}[الإسراء: 14].
بسم الله الرَّحمن الرَّحيم
عباد الله، اتَّقوا الله، واستعدّوا للقاء الله {يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}[الشّعراء: 88 – 89]، {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ}[عبس: 34- 36]. اتَّقوا الله في عباده وبلاده، فإنَّكم مسؤولون حتَّى عن البقاع والبهائم، كما قال عليٌّ (ع).
لنشعر دائماً بأنَّ حياتنا هي مسؤوليَّتنا أمام الله، فالله سوف يسألنا عن كلِّ كلمة نقولها، وعن كلِّ عمل نعمله، وكلّ موقف نقفه، تأييداً أو رفضاً، وكلّ علاقة ننشئها.. فلننظر إلى الله قبل أن نتكلَّم، وقبل أن نعمل، وقبل أن نؤيِّد، وقبل أن نرفض، ولنطع الله في ذلك كلِّه، ولتكن طاعتنا لله أحبَّ إلينا من طاعتنا لأيِّ مخلوق، إلَّا إذا كان هذا المخلوق يريدنا أن نطيع الله في طاعته. وعلينا أن نحبَّ الله أكثر مما نحبُّ أحداً: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ}[البقرة: 165]. ومحبَّتنا لله هي أن نعمل بما جاء عن رسول الله: {قُلْ إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ}[آل عمران: 31].
ومحبَّتنا لله تفرض علينا أن نحبَّ من أحبَّ الله، ونبغض من أبغضَ اللهُ، وأن نحبَّ في الله ونبغض في الله، وأن لا نؤيِّد المستكبرين الظَّالمين الَّذين يعيثون في الأرض فساداً ويبغون في الأرض بغير الحقّ. أن نعمل على أن نكون مع المظلوم، أيّاً كان المظلوم، وضدّ الظالم، أيّاً كان الظالم، استجابةً لوصيَّة عليّ (ع): "كونا للظَّالمِ خصماً، وللمظلومِ عوناً"، وأن لا نركن إلى الظَّالمين، سواء كانوا دولاً أو أحزاباً أو جماعاتٍ أو أفراداً، لأنَّ الله يقول: {وَلَا تركَنُوا إلى الَّذينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ}[هود: 113].
أيُّها الأحبَّة، إنَّنا في هذه الحياة مسؤولون أمام الله، وعلينا أن نذكر الله في كلّ مواقع المسؤوليّة، وعلينا أن نواجه كلَّ الَّذين يظلمون عباد الله ويستكبرون عليهم، ويغصبون حقوقهم، ويربكون أوضاعهم.
ونحن نواجه أكثر من قضيَّة في هذا الأسبوع، ولا بدَّ أن نواجه مسؤوليَّاتنا فيها.
ذكرى مجزرةِ بئرِ العبد
في الثَّامن من آذار، مرَّت علينا ذكرى مجزرة بئر العبد، هذه المجزرة الَّتي خطَّطت لها أمريكا، وموَّلتها بعض الدول العربيَّة، وخطَّطت لتنفيذها بعض الدول الأوروبيَّة، وعملَتْ على تنفيذها أجهزةُ المخابرات اللّبنانيَّة، هذه المجزرة الَّتي سقط فيها ما يقارب المئتين بين جنينٍ في بطن أمِّه، ورضيعٍ على يد أمِّه، وبين امرأةٍ كانت عائدةً من المسجد بعد الصَّلاة، وبينَ عاملٍ كانَ عائداً من عملِهِ بعدَ يومٍ طويل، وبينَ شيخٍ كبيرٍ كانَ متواجداً هناك...
لقد سقط فيها ما يقارب الثَّمانين شهيداً، وأعيق فيها ما يقارب المئة والعشرين، ولم نكن نتَّهم أمريكا من دون أساس، بل إنَّ الأجهزة الإعلاميَّة الأمريكيَّة، كواشنطن بوست، ومذكّرات وليام كايسي، مدير المخابرات المركزيَّة الأمريكيَّة، هم الَّذين تحدَّثوا عن كلِّ تفاصيلها.
هذه المجزرة لا بدَّ لنا أن نستعيدها، ونستعيد بقيَّة المجازر الَّتي حدثت في هذا البلد بفعل أجهزة المخابرات الأمريكيَّة والصهيونيَّة وبعض الأجهزة العربيَّة، حتَّى نعرف ما معنى هؤلاء الَّذين يتحدَّثون عن حقوق الإنسان، وهم أوَّل من يسقط حقوق الإنسان، ويتحدَّثون عن الأعمال الإرهابيَّة، وهم أوَّل من يقوم بالأعمال الإرهابيَّة.. وعندما فشل هؤلاء في الاغتيال الجسديّ، عملوا، ولا يزالون يعملون، من أجل اغتيالٍ معنويّ، وذلك على أساس استغلال نقاط الضّعف الموجودة لدى بعض النَّاس في مجتمعاتنا، من أناسٍ يحقدون أو يحسدون أو يتخلَّفون.
ونحن عندما نريد أن نثير هذه الذّكرى، فإنَّنا نريد لكلِّ إخواننا وأهلنا ومواطنينا، أن يكون كلّ واحد منهم خفيراً يحرس المجتمع، أن لا ينطلق كلّ أعداء الله من أجل أن ينفِّذوا مجزرة هنا ومجزرة هناك، ولا سيَّما العدوّ الصهيوني الَّذي لا يزال يتوعَّد ويهدِّد المقاومة ويهدِّد اللّبنانيّين بأنَّه سيثأر، وسيقوم ببعض الأعمال الَّتي تعيد إليه عنفوانه، ومن الطبيعيّ أنَّ العدوَّ لا يفكِّر في حرب عسكريَّة كبيرة، لأنَّه لا يملك الظّروف الَّتي تساعده على ذلك، ولكنَّه يعمل على محاولة القيام بعمليَّات أمنيَّة لاغتيال القيادات، أو لإرباك الواقع الاجتماعيّ بطريقة أمنيَّة.
تعقيدٌ أمريكيٌّ لأوضاعِ المنطقة
النقطة الثَّانية الّتي نريد أن نثيرها، هي مسألة استقبال موفديْن أمريكيَّيْن مع جهازهما في هذه المرحلة؛ الموفد الأمريكي الأوَّل هو وزير الدّفاع الأمريكي الَّذي يقوم بجولة في دول الخليج، وفي دول المنطقة، من أجل التَّخطيط لبعض أهداف السياسة الأمريكيَّة في هذه المرحلة في المنطقة، وهذا ما نلاحظه، فقد أراد أن يحصل على تأييد دول المنطقة في استمرار الغارات على العراق أوّلاً، وفي تأكيد سياسة أمريكا في الاحتواء المزدوَج لكلٍّ من إيران والعراق، واستمرار سياسة التخويف للدّول الخليجيّة، ولا سيَّما من إيران والعراق، وذلك كوسيلةٍ من وسائل ابتزاز دول الخليج ماليّاً، ببيعها أسلحة متقدّمة بعدَّة مليارات، في الوقت الَّذي لا تحتاج إلى هذه الأسلحة، وليس عندها كفاءات عسكريَّة تستطيع من خلالها أن تستعمل هذه الأسلحة، ولكنَّ المسألة أنَّ أمريكا تريد أن تنقذ بعض ثغرات اقتصادها، ولذلك تثير أنَّ إيران بدأت بتجربة الصَّاروخ بعيد المدى، ونحن مستعدّون لأن نبيعكم نظام الإنذار المبكر لتستطيعوا أن تكتشفوا هذه الصّواريخ، وقد صرَّحت إيران أنَّ أسلحتها لن توجَّه لا إلى عالم عربي ولا إلى عالم إسلاميّ. أمَّا مسألة الجزر، فقد عرضت إيران على دولة الإمارات العربيَّة أن تتفاوض عليها، لأنَّ المسألة لها بعد قانوني أكثر من البعد السياسي، هل هي لإيران أو للإمارات..
وهكذا رأينا أنَّ وزير الحرب الأمريكي استطاع، كما يدَّعي، أن يقنع هذه الدول بما أراده، وقد صرَّح بذلك، بأننا استطعنا أن نحصل على تأييد هذه الدول، بالرغم من أنَّ بعض الدول صرَّحت بأنَّنا لا نوافق على قصف العراق، أو ما أشبه ذلك.
إنَّ السياسة الأمريكيَّة تعمل دائماً على تعقيد العلاقات العربيّة الإيرانيّة، لأنها لا تريد للواقع العربي أن يستقرّ، ولا تريد للواقع الإيراني أن يستقرّ، وذلك بأن تخوِّف كلًّا منهما من الآخر، ولا سيَّما في الدول الخليجيَّة. ونحن نعرف وتعرف الدّول الخليجيَّة، أنَّ مصلحتها إنَّما هي في علاقات وثيقة متقدِّمة مع إيران، الدولة الخليجيَّة الأكبر في المنطقة، لأنَّ إيران هي أكبر دولة خليجيَّة في المنطقة، وعندما هدأت التوتّرات بين إيران ودول الخليج، استقرَّت دول الخليج، فإذا عادت التوتّرات بينهما، فلن تستقرّ دول الخليج.
ولذلك، نحن نقول للخليجيّين وللإيرانيّين، أن ينتبهوا جيّداً للألاعيب الأمريكيَّة، وأن يعملوا على تأكيد علاقاتهم بالتَّعاون والتَّخطيط، لحماية الخليج أمنياً وسياسياً واقتصادياً.
وبهذه المناسبة، فإنَّنا نشجِّع التقارب بين إيران وبين دول الاتحاد الأوروبي، ولا سيَّما فرنسا وإيطاليا وألمانيا، لأنَّ ذلك هو الَّذي يسقط الحصار الأمريكي على إيران، وهو الَّذي يمثِّل مصلحةً لأوروبَّا ولإيران في ذلك.
ونحن نقول إنَّ السياسة الحكيمة الرَّشيدة الَّتي سارت فيها إيران، استطاعت أن تنتصر فيها على أمريكا في تجاوزها لكلِّ هذا الحصار.
تدخّلٌ أمريكيٌّ لمصلحةِ العدوّ
وفي هذا الاتجاه، نراقب زيارة أخرى، وهي زيارة مارتن إنديك الَّذي هو مساعد وزير الخارجيَّة الأمريكيَّة، حيث يجول في دول المنطقة لسببٍ واحد، وهو محاولة تهدئة السَّاحة اللّبنانيَّة لمصلحة إسرائيل، ولمصلحة الانتخابات الإسرائيليَّة في هذا الجانب أو ذاك الجانب، فهو يطرح وقف عمليات المقاومة حتَّى انتهاء الانتخابات الإسرائيليَّة، وهو يطرح أيضاً تعديل تفاهم نيسان، وهو يحاول أن يتوسَّط لدى سوريا في هذا، ويضغط على لبنان بطريقة وبأخرى، لأنَّ أمريكا تعمل بكلِّ وسائلها في سبيل خدمة إسرائيل، وفي سبيل أمن إسرائيل. ولكنَّ المبعوث الأمريكي يعرف أنَّه لا سوريا ولا لبنان ولا المجاهدون في ساحة الاحتلال، يقبلون بتهدئة عمليَّات المقاومة ضدَّ إسرائيل، لأنَّ إسرائيل باحتلالها للبنان، حتَّى لو لم تطلق رصاصة واحدة، هي تمارس الحرب ضدّ لبنان، لأنَّ الاحتلال عمليَّة حرب، وقد أعلن المجاهدون أنَّه لا يمكن لهم أن يغمدوا السِّلاح ما دام هناك جنديّ محتلّ في داخل لبنان.
وهكذا أرادت أمريكا، ومن خلالها إسرائيل، تعديل تفاهم نيسان، حتَّى يأخذ الإسرائيليّون حرَّيتهم في ضرب المدنيّين، من دون أيِّ ردّ فعل من قبل المجاهدين في إطلاق صواريخ الكاتيوشا، وهذا أمر لن يكون، لأنَّ معنى ذلك أن نقول لإسرائيل خذي حرّيتك في قتل أطفالنا وشيوخنا ونسائنا وتدمير بيوتنا من دون أيِّ عقاب، وهذا ما لا يفعله عاقل.
إنَّنا نقول لأمريكا، إذا كانت تفكِّر في مصلحة حليفتها، فعليها أن تضغط عليها لتنسحب من دون قيدٍ أو شرط.
هذه هي المسألة الَّتي لا بدَّ لنا أن نعيها؛ أن يبقى الموقف واحداً في مواجهة الاحتلال بكلِّ أساليبه.
استعادة أموال الشَّعب
وأخيراً، إنَّنا نشجِّع مبادرة الدَّولة في استعادة أموال الشَّعب، ولكن على أساس عدم الاستثناء؛ أن لا يكون هناك قويّ وضعيف، وأن لا يكون هناك شريف وحقير، وقد جاء في الحديث عن رسول الله (ص): "إنَّما هلك الَّذين قبلَكم، أنَّهم كانوا إذا سرق فيهمُ الشَّريفُ تركوه، وإذا سرق فيهمُ الضَّعيفُ أقاموا عليه الحدَّ. وأيمُ اللهِ! لو أنَّ فاطمةَ بنتَ محمَّدٍ سرقت، لقطعْتُ يدَها". وهي (ع) أعظم وأعظم من ذلك، لكنَّ النّبيَّ (ص) أراد أن يبيِّن المستوى العالي من المسألة، أي أنَّ هذا المستحيل لو فرضنا تحقَّق، ولا يتحقَّق، لو سرقت فاطمة بنت محمَّد، لقطعَ يدها.
نحن نريد أن تبدأ عمليَّة استعادة أموال الشَّعب من الذين سرقوا أموال الشَّعب، من أكبر رأس في الدولة إلى أصغر رأس، وإلَّا لن تكون هناك عمليَّة صحيحة، عندما نحاكم الضعفاء ونترك الأقوياء. هذا أمر ننصح به الدَّولة حتّى تكون منسجمةً مع شعاراتها، ولا نريد لأحد أن يتدخَّل في القضاء، ليكون القضاء مستقلاً.
ونحن نقول لو أنَّ الدولة كانت جادَّة، وعملت على أساس العدل في جمع كلِّ الأموال الَّتي سرقت من قبل الكثيرين ممن سرقوا الأموال، لاستطاعت أن تفي كلَّ الدّيون، واستطاعت أن تحلَّ المشكلة من دون ضرائب، ولكنَّ المسألة هي كيف تتحرَّك الأمور بشكل وبآخر.
إنَّنا نريد للدَّولة أن تعمل دائماً لإقرار خطَّة اقتصاديَّة تبدأ بالتقشّف المدروس الَّذي لا ينعكس سلباً على المشاريع الإنمائيَّة والخدمات الاجتماعيَّة، وتصل إلى فتح الثَّغرات في الجدار الاقتصادي المقفل الَّذي لا يزال يهدِّد البلد، في ظلِّ تراكم الديون واستمرار العجز، ولكن مع الالتفاف إلى أن لا يدفع الفقراء والمحرومون مجدَّداً ثمن هذا العجز بالمزيد من الضَّرائب الجديدة.
إنَّ الشَّعب لا يطلب المستحيل، ولكنَّه يطلب التَّخطيط في الحلول المتوازنة في حلِّ مشكلاته.
والحمد لله ربِّ العالمين.
* خطبة الجمعة لسماحته، بتاريخ: 12/ 03/ 1999م.
 
 
اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية