كتابات
17/02/2020

الولاية بين المؤمنين والمؤمنات والتَّكامل في المسؤوليَّات

الولاية بين المؤمنين والمؤمنات والتَّكامل في المسؤوليَّات

لانزال نتابع آيات الله في القرآن، في العناصر التي يريد الله للفرد المؤمن أن يتّصف بها، وللمجتمع المؤمن أن يعيشها. ومن بين هذه الآيات، قوله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَـئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}(التّوبة؛ 71). ففي هذه الآية، يتحدث الله عزّ وجلّ عن المجتمع المؤمن كيف يتحرّك في مسؤوليّاته لينصر بعضه بعضه الآخر وليدعمه، وليؤكّد القيم المنفتحة على طاعة الله في الخطّ العام للطاعات، وفي بعض التفاصيل المتصلة بحركة الواقع الإسلامي.

ولاية المؤمنين والمؤمنات

فالفقرة الأولى من الآية تتحدّث عن الولاية بين المؤمنين والمؤمنات الّذين يمثلون فريقين إنسانيين يختلفان في خصائصهما الإنسانية النوعيّة، فلكلّ واحد أو لكلّ فريق منهما خصائص تختلف عن خصائص الفريق الآخر، ولكنهما يتكاملان من أجل أن يجمعا، كلّ بحسب خصوصيّته، وكلّ بحسب موقعه، وكلّ بحسب ساحته، ما يحتاجه الواقع في عمليّة التّغيير {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ}. وكلمة الولاية عندما تتحرَّك في خطِّ الواقع الإسلامي، فإنها تعطي هذا الاندماج الروحي والعقلي والحركي بين فريق وفريق آخر، باعتبار أنّ الولاية لا تكون إلا من خلال شعور بالقاعدة المشتركة وبالوحدة التي تضمّ الطرفين، ليكون كلّ واحد وليّ الآخر، بأن يرعاه وينصره ويساعده ويدافع عنه ويتكامل معه ويتفاعل معه.

نتائج الولاية

هذه هي الولاية في بُعدها الرّوحيّ وفي بُعدها العملي في الواقع، وعندما نستنطق نتائجها، فإننا نجد أنها توحي إلينا بأنّ حركة التّغيير في المجتمع وحركة الانفتاح على الله في المجتمع، وحركة العطاء في المجتمع، وحركة الانضباط في المجتمع، لا بدّ أن تشمل المجتمع كلّه في عمليّة تفاعل، فلا ينعزل أحد عن السّاحة، بل هو مسؤول عن أن يلتقي بالآخر وأن يندمج فيه وأن يعيش معه، إذ ليس للمؤمن أن يعيش وحده، بل لا بدّ له أن يندمج في المجتمع، وليس لمؤمنة أن تعيش وحدها، فلا بد أن تندمج في المجتمع، وفي هذا الإطار، نجد أنّ هذا النص القرآنيّ استطاع أن يعطي للمجتمع الإسلامي الصورة الحركية في خط التغيير وفي خط الطاعة وفي خط الانفتاح على الله والعطاء، بالدرجة التي يجعل فيها المرأة تسير جنباً إلى جنب في هذه الأهداف مع الرجل.

فكما أنّ الله لا يريد للمؤمن أن ينعزل عن الساحة العامّة لتحقيق الأهداف، كذلك لا يريد للمرأة المؤمنة أن تنعزل عن الساحة العامّة في تحقيق الأهداف، بل إنّه يرفع القضيّة إلى المستوى الأرفع، فلا يريد للمؤمنين أن يشتغلوا وحدهم، ولا يريد للمؤمنات أن يشتغلن وحدهنّ، بل أن يندمج المؤمنون والمؤمنات في ساحة الدّعوة وفي ساحة السياسة وفي ساحة الحركة، أن يندمجوا ليتوزّعوا الأدوار وليتكاملوا في أدوارهم، وليعطي كلّ واحد منهم قوّة من دوره للآخر، وليساعد كلّ واحد منهم الآخر، وقد فتحت هذه الآية للنساء المسلمات كلّ الخطّ الحركي في الواقع السياسيّ، عندما يصاب الواقع السياسي ببعض الانحراف أو ببعض الاهتزاز، وهكذا بالنّسبة إلى الواقع الاقتصادي وحتى الواقع الأمني، ومع أنّ الله لم يكلّف المرأة بأن تحمل البندقيّة لتجاهد، ولكنه أراد لها أن تعيش في هذه الأجواء لتقدّم جهداً، وقد لا يكون جهدها مباشراً، بل غير مباشر.

الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر

كيف نستوحي ذلك من هذه الفقرة في الآية {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ}؟ المعروف والمنكر، هاتان الكلمتان تشملان كلّ المواقع الإيجابيّة في الإسلام وكلّ المواقع السلبيّة، ولهذا نجد أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو صفة الأنبياء {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ}، فرسالة النّبيّ في الجانب الحركي منها تقف تحت عنوانين: الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، أمّا قوله تعالى: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ}(الأعراف؛ 157)، فهذه مفردات تمثِّل تفاصيل مهمة المعروف والمنكر ومعناهما في الواقع التفصيلي في الحياة، فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هما العنوانان اللّذان يمثّلان الإسلام كلّه، فالظّلم هو قمَّة المنكر، والعدل هو قمَّة المعروف، وكلّ النشاطات السلبيّة فيما يعتدي به إنسان على إنسان هو المنكر، لذلك {يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ}، فيحملون رسالة الإسلام في خطّ الدّعوة وفي خطّ الحركة وفي خطّ المواجهة وفي ساحة الصّراع، بحيث يدخلون معاً، فيعطي كلّ واحد منهم للآخر فكراً من فكره، وعاطفة من عاطفته، وطاقة من طاقته، وحركة من حركته.

نماذج نسويّة مشرّفة

وهذا ما نلاحظه في بداية الدعوة، فنحن نرى أنّ النساء كُنّ يعملن في خطّ الدعوة تماماً كالرجال، فكما كان الرّجال الذين دخلوا في الإسلام أفراداً يعملون على أساس دعوة من يلتقونهم من المشركين إلى الإسلام، كانت النساء يقمن بالدور نفسه. وينقل التاريخ عن "أمّ سليم" أنّ رجلاً خطبها، فوافقت بشرط أن يكون مهرها إسلامه، وامتنع في البداية، ولكنّها استغلّت ميله إليها حتى أدخلته في الإسلام.

ولاحظنا أيضاً أنّ المسلمات عُذّبن على أيدي المشركين كما تعذّب المسلمون، واستشهدت "سميّة" كما استشهد "ياسر"، وهاجرت النّساء إلى الحبشة كما هاجر الرّجال، وانطلقت النساء اللاتي بقين في مكّة ليهاجرن إلى المدينة فراراً بدينهنّ، ونزلت فيهنّ سورة، كما أنّ الرّجال أيضاً هاجروا فراراً بدينهم.

وهكذا عندما نأتي في بداية الدّعوة إلى رسول الله (ص)، نجد أنّ أمّ المؤمنين "خديجة" تقف إلى جانبه، تعطيه من جهدها ومن مالها ومن موقعها الاجتماعيّ من أجل الدّعوة والحركة الإسلامية، وهكذا وجدنا كيف وقفت فاطمة الزهراء(ع) مع عليّ (ع)، تتكلّم وتدافع وتتحدّث وتنتقل من مكان إلى مكان، باعتبار أنها تريد أن تشاركه في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وهكذا رأينا كيف انطلقت زينب (ع) مع الإمام الحسين لتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر في كربلاء وفي الكوفة وفي الشّام.

الدّور الحركيّ للمرأة

من خلال ذلك نعرف أنّ المسألة الحركيّة للمسلمات كانت مبكرة في بداية الدّعوة وفي امتداد الواقع الإسلاميّ، عندما كان المسلمون والمسلمات يعيشون ساحة الصّراع كأقوى ما يكون، حتى إن تاريخ السيرة ينقل لنا أن رسول الله (ص) كان يُخرج النساء معه في الحرب ليسقين العطشى ويداوين الجرحى، الأمر الّذي نفهم منه أنّ المرأة في مرحلة الدّعوة الأولى ومرحلة حركة الإسلام في المدينة، كانت تعيش في قلب ساحة الصّراع، وكانت تتحرّك في خطّ المسؤوليّة.

وإذا أردنا أن نقارن بين ذلك المجتمع وبين مجتمعنا الآن الّذي تعزل فيه المرأة عن ساحة المجتمع وعن كلّ مواقع الصّراع، فإننا نجد أنّ ذلك المجتمع كان أكثر وعياً وأكثر إحساساً بالمسؤوليّة وأكثر التزاماً بالخطّ القرآني الإسلامي.

مهمّة التّغيير مشتركة

إنّ مسألة تغيير المجتمع لا يمكن أن يقوم بها الرجال وحدهم، لأن الرجال مهما أعطوا، فإنهم لا يستطيعون العطاء الذي يمكن أن يسدّ الثغرة، بل لا بدَّ للمرأة أن تكون كذلك، ومن هنا، فإننا بحاجة إلى مؤمنات مثقّفات متعلّمات يعرفن الإسلام ويعرفن الفقه ويعرفن السياسة ويعرفن كلّ عناصر الواقع الاجتماعي ويعرفن كلّ الأوضاع التي يعيشها المسلمون في السلبيات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية وما إلى ذلك، وإذا كان البعض يتحدّث عن أخلاقيّة المرأة، فإنّ الله أيضاً تحدّث عن أخلاقيّة الرّجل بلا فرق، ذلك أنّ الأخلاق ليست مفروضة على المرأة دون الرّجل، وإذا كان الله يريد للمرأة أن تكون عفيفة، فقد أراد للرّجل أن يكون عفيفاً، وإذا أراد للمرأة أن تقف عند حدود الله سبحانه وتعالى فيما حرَّم، فإنه أراد للرّجل كذلك، فلم يفرّق سبحانه وتعالى بين رجل وامرأة في الجانب الايجابي أو السلبي.

المساواة بين الجنسين

فنحن نقرأ في سورة الأحزاب: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيم}(الأحزاب؛ 35)، فهو لم يفرق في الجانب الأخلاقي بين رجل وامرأة، فما هو مطلوب للرّجل في الجانب الإيجابيّ، وما يعطيه الله للرّجل في انسجامه مع هذه العناوين الأخلاقيّة والعمليّة في الإسلام، أعطاه للمرأة أيضاً، وعندما أراد للإنسان المسلم أن يلتزم، فإنه قال بعد هذه الآية: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ}(الأحزاب؛ 36). وهكذا نرى أنّ الله عندما يتحدَّث عن النّتائج العمليَّة في الآخرة، فإنّه يقول: {لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى}(آل عمران؛ 195)، فلا فرق بينهما في هذا المجال، وعندما تحدَّث عن الجانب السلبيّ، تحدث عن {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ}(النور؛ 2)، وتحدّث عن {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَ}(المائدة؛ 38).

إذاً، لا نلاحظ أن الله سبحانه فرض أخلاقاً على المرأة أكثر مما فرض أخلاقاً على الرّجل، فعندما نتحدّث أنَّ على الرّجل أن يدخل ساحة الصّراع الاجتماعيّ، وأن يدخل ساحة الصّراع السياسي والأمني والاقتصادي والثقافي، فإنّه لا بدّ أن يَدخله بأخلاقية الإسلام.

مثل المرأة في القرآن

وهكذا أراد الله سبحانه وتعالى للمرأة أن تكون كذلك، بأن تدخل الساحة أيضاً بأخلاقيّة الإسلام، وعندما أراد سبحانه وتعالى أن يعطي للنّاس القدوة، وأراد أن يعطي للناس المثل في السلبيات ونتائجها، والمثل في الإيجابيّات ونتائجها، قال {ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ}(التّحريم؛ 10). فقد ضرب الله هاتين المرأتين مثلاً للرّجال والنساء من الكافرين والكافرات، وإنّ أيّة قرابة لأيّ إنسان قريب من الله سبحانه وتعالى لا تجدي نفعاً. فإذاً، المرأة المنحرفة ـ المرأة الخائنة للرّسالة ـ هي مثلٌ سلبيّ للكافرين والكافرات، والمرأة المؤمنة مثل إيجابيّ للنِّساء وللرّجال {وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}(التحريم؛ 11). هذه المرأة التي رفست وداست كلّ النعيم الدنيويّ بقدمها، وانفتحت ورجعت إلى الله طالبةً أن يبدلها بجنّة الأرض جنّة السماء، لأنها تريد رضاه ولا تريد غير رضاه، وضرب هذا المثل للرّجال وللنّساء على أنهم إذا وقفوا بين الدّنيا وهي مقبلة عليهم وبين الآخرة، فإنّ عليهم أن يضحّوا بالدّنيا أمام الآخرة، وأن يبتهلوا إلى الله سبحانه وتعالى بأن يثبتهم على ذلك {وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ}(التحريم؛ 12)، فهي المثل، باعتبار أنَّ العفَّة تأتي في أعلى درجاتها، وهي المثل في أنها صدقت بكلمات ربّها، وهي المثل في أنها صدَّقت بكتب ربها، وهي المثل في أنها كانت من القانتين.

لذلك من يقول: بأن على المرأة أن تنكفئ في البيت، وأن تبتعد عن كلّ ساحات الصّراع على أساس الجانب الأخلاقيّ، فإننا نقول إنّ الجانب الأخلاقي في المرأة هو نفسه الجانب الأخلاقيّ للرّجل، فإذا كانت ساحة الصّراع لا تمنع الرّجل من أن يكون الملتزم أخلاقيّاً، فإنها لا تمنع المرأة من أن تكون الملتزمة أخلاقيّاً.

الحجاب ليس حاجباً

وإذا كانت المرأة ملتزمة بالحجاب، فإنّ الحجاب لم يمنع النساء المسلمات من أن يدخلن ساحة الصّراع في المجتمع، ولم يمنع سيّدة النساء فاطمة (ع) أن تدخل إلى ساحة الصّراع، فتخطب في مسجد رسول الله (ص)، وتتحدّث هنا وهناك بالطريقة التي ترى فيها أنها تبلغ رسالات الله، وأنها تواجه ساحة الباطل وما إلى ذلك.

وهكذا، لم يمنع الحجاب السيّدة زينب (ع) من أن تقف في كربلاء تلك الوقفات البطوليّة الشجاعة المبتهلة إلى الله، وتقف في الكوفة في مجلس ابن زياد، وتخطب في أهل الكوفة، وتقف أيضاً في مجلس يزيد، لم يمنعها حجابها من ذلك، والظاهر أنّ المسلمين كانوا لا يعيشون عقدة في هذا الأمر، وإلا لكان لمعارضيهم أن يقولوا إن هذا يخالف الخطّ الإسلامي في أن على المرأة أن تلتزم بيتها.

أهميّة دور الأمومة

وعندما نتحدّث بأن على المؤمنات أن يكنّ مع المؤمنين جنباً إلى جنب، ليكون كلّ فريق منهم وليّاً للآخر وقوّة له، فإننا لا نتحدث بسلبية عن دور الأمومة ودور الزوجيّة في حياة المرأة، ونحن نعرف أنّ الأمومة تتّصل بجسد المرأة، بينما لا تتّصل بجسد الرّجل، ولكن كما أنّ الأبوّة للرّجل في كلّ تعقيداتها الماديّة لا تمنع الرّجل من أن يتحمل مسؤوليّته عن الإسلام وأهله، فإنها لا تمنع المرأة في ذلك، وربما كان وقت المرأة أضيق من وقت الرّجل، وربما كانت أعباء المرأة أكثر فيما يتّصل بحركيتها الذاتية من جهة أطفالها، ولكن يبقى لها هامش في الواقع تستطيع من خلاله أن تقوم بدورها الإسلاميّ، لتدعو إلى الله، وتواجه الظلم كلّه والانحراف كلّه والشرّ كلّه في الحدود الشرعيّة المرسومة، أي أن لا تكون المرأة شيئاً معزولاً عن ساحة الصّراع.

{وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ}، ينطلقون معاً من أجل إقامة الصّلاة، حتى تنفتح بهم على الله لتزيدهم إيماناً وروحانيّة ولتقوّي دوافعهم ضدّ الكفر، لأنّ الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، {وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} التي تمثّل العطاء الإنساني المؤمن للنّاس الذين يحتاجون إلى العطاء، {وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ}، ثم تنطلق الآية لتمثِّل الخطَّ العامَّ الذي يجعل المؤمنين والمؤمنات في حالة تكامل في طاعة الله ورسوله.

الجزاء والجائزة

{أُوْلَـئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}.

وهكذا تنطلق هذه المسيرة الإيمانيّة إلى الله سبحانه وتعالى، لتتحوّل المسيرة في الدّنيا إلى مسيرة في الآخرة، والله يحدثنا عن ذلك في سورة "الحديد" عن المظاهرة الإيمانيّة التي يتحرّك فيها المؤمنون والمؤمنات في ساحة القيادة، ليتحوّل هذا النور الإيماني ـ الذي كان يشرق في عقولهم وفي قلوبهم وفي حياتهم ـ إلى نور مادّيّ يتحرّك أمامهم في يوم القيامة {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم}، باعتبار أنّ اليمين هو العضو الذي يحرّكه الإنسان بالعطاء والجهاد وكتابة الخير وإعانة الضّعيف. {بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}(الحديد؛ 12).

كما يحدثنا الله عن ذلك في سورة التحريم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَ}، إذا كانت هناك بعض الظلمات في أعمالنا {وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}(التّحريم؛ 8).

الالتفات إلى حركة الواقع

أيها الأحبّة: في هذا الواقع الذي يعيش المؤمنون والمؤمنات والمسلمون والمسلمات التحدّيات، هذا الواقع الذي يواجه الإسلام ـ في المواقع المتقدّمة ـ الكافرين والمستكبرين، ويواجه في داخل مجتمعاته سيطرة الانحراف الفكري والأخلاقي والعملي، نحتاج، إلى أن نجمّد كلّ السلبيّات التي بدأت تأكل إيماننا من الداخل، وتأكل كلّ قوّة الإيمان في الخارج، وأن نجمّد كل الهوامش لننطلق إلى عمق السّاحة، لنرى كيف يعلن الكفر كلّه الحرب على الإسلام كلّه، وكيف يعلن الاستكبار الحرب على المستضعفين كلّهم، لنعرف كيف تتضخّم مسؤوليّاتنا، وكيف ترتفع كلّ هذه المسؤوليّات إلى الآفاق الكبيرة، حتى ينطلق المؤمنون والمؤمنات معاً في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، معاً في مواجهة الطغيان والاستكبار، معاً في الدّعوة إلى الله والعمل في سبيله.

أيّها الأحبّة: إن هذه المرحلة تفرض علينا المسؤوليّة في أعلى درجاتها، وسوف يحاسبنا الله عليها: كيف استرخيتم، وكيف هربتم من السّاحة، وكيف فررتم من الزحف، وكيف بخلتم بطاقتكم عن الإيمان والمؤمنين والإسلام والمسلمين؟!

أكرّر كلامي لكلّ المؤمنين والمؤمنات: "الراحة في هذه المرحلة حرامٌ حرام"، إلا الّتي تريد أن تجدّد فيها نشاطك، أمّا أن تسترخي، وأمّا أن تقول ما لنا وللدّخول بين السلاطين، وأمَّا أن تقول: إنَّ علينا أن نعيش في بيوتنا، ربّنا أعطنا خبزنا كفاف يومنا، فتكون بذلك من الّذين يعيشون الحياد، ومن يعيشون الحياديَّة في وقت احتدام المعركة، هم أعداء الله ورسوله، لأنهم يحجبون قوَّتهم، فيعطون العدوّ قوَّة سلبيَّة، إذا لم يعطوه قوّة إيجابيّة.

فكلّ قوّتنا لا بد أن تكون للإسلام وللمسلمين، وكلّ طاقتنا لا بدّ أن تكون في مواجهة الاستكبار العالميّ، وفي مواجهة اسرائيل ومواجهة أنواع الظّلم وكلّ حالات الانحراف، ويبقى النِّداء نداء الله لنا الّذي صمّت أسماعنا عنه: {وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ}(التّوبة؛ 105).

والحمد لله ربِّ العالمين.

* فكر وثقافة، السنة الثَّانية ـ 23 جمادى الآخرة 1418هـ/25/10/1997م العدد (63).

لانزال نتابع آيات الله في القرآن، في العناصر التي يريد الله للفرد المؤمن أن يتّصف بها، وللمجتمع المؤمن أن يعيشها. ومن بين هذه الآيات، قوله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَـئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}(التّوبة؛ 71). ففي هذه الآية، يتحدث الله عزّ وجلّ عن المجتمع المؤمن كيف يتحرّك في مسؤوليّاته لينصر بعضه بعضه الآخر وليدعمه، وليؤكّد القيم المنفتحة على طاعة الله في الخطّ العام للطاعات، وفي بعض التفاصيل المتصلة بحركة الواقع الإسلامي.

ولاية المؤمنين والمؤمنات

فالفقرة الأولى من الآية تتحدّث عن الولاية بين المؤمنين والمؤمنات الّذين يمثلون فريقين إنسانيين يختلفان في خصائصهما الإنسانية النوعيّة، فلكلّ واحد أو لكلّ فريق منهما خصائص تختلف عن خصائص الفريق الآخر، ولكنهما يتكاملان من أجل أن يجمعا، كلّ بحسب خصوصيّته، وكلّ بحسب موقعه، وكلّ بحسب ساحته، ما يحتاجه الواقع في عمليّة التّغيير {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ}. وكلمة الولاية عندما تتحرَّك في خطِّ الواقع الإسلامي، فإنها تعطي هذا الاندماج الروحي والعقلي والحركي بين فريق وفريق آخر، باعتبار أنّ الولاية لا تكون إلا من خلال شعور بالقاعدة المشتركة وبالوحدة التي تضمّ الطرفين، ليكون كلّ واحد وليّ الآخر، بأن يرعاه وينصره ويساعده ويدافع عنه ويتكامل معه ويتفاعل معه.

نتائج الولاية

هذه هي الولاية في بُعدها الرّوحيّ وفي بُعدها العملي في الواقع، وعندما نستنطق نتائجها، فإننا نجد أنها توحي إلينا بأنّ حركة التّغيير في المجتمع وحركة الانفتاح على الله في المجتمع، وحركة العطاء في المجتمع، وحركة الانضباط في المجتمع، لا بدّ أن تشمل المجتمع كلّه في عمليّة تفاعل، فلا ينعزل أحد عن السّاحة، بل هو مسؤول عن أن يلتقي بالآخر وأن يندمج فيه وأن يعيش معه، إذ ليس للمؤمن أن يعيش وحده، بل لا بدّ له أن يندمج في المجتمع، وليس لمؤمنة أن تعيش وحدها، فلا بد أن تندمج في المجتمع، وفي هذا الإطار، نجد أنّ هذا النص القرآنيّ استطاع أن يعطي للمجتمع الإسلامي الصورة الحركية في خط التغيير وفي خط الطاعة وفي خط الانفتاح على الله والعطاء، بالدرجة التي يجعل فيها المرأة تسير جنباً إلى جنب في هذه الأهداف مع الرجل.

فكما أنّ الله لا يريد للمؤمن أن ينعزل عن الساحة العامّة لتحقيق الأهداف، كذلك لا يريد للمرأة المؤمنة أن تنعزل عن الساحة العامّة في تحقيق الأهداف، بل إنّه يرفع القضيّة إلى المستوى الأرفع، فلا يريد للمؤمنين أن يشتغلوا وحدهم، ولا يريد للمؤمنات أن يشتغلن وحدهنّ، بل أن يندمج المؤمنون والمؤمنات في ساحة الدّعوة وفي ساحة السياسة وفي ساحة الحركة، أن يندمجوا ليتوزّعوا الأدوار وليتكاملوا في أدوارهم، وليعطي كلّ واحد منهم قوّة من دوره للآخر، وليساعد كلّ واحد منهم الآخر، وقد فتحت هذه الآية للنساء المسلمات كلّ الخطّ الحركي في الواقع السياسيّ، عندما يصاب الواقع السياسي ببعض الانحراف أو ببعض الاهتزاز، وهكذا بالنّسبة إلى الواقع الاقتصادي وحتى الواقع الأمني، ومع أنّ الله لم يكلّف المرأة بأن تحمل البندقيّة لتجاهد، ولكنه أراد لها أن تعيش في هذه الأجواء لتقدّم جهداً، وقد لا يكون جهدها مباشراً، بل غير مباشر.

الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر

كيف نستوحي ذلك من هذه الفقرة في الآية {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ}؟ المعروف والمنكر، هاتان الكلمتان تشملان كلّ المواقع الإيجابيّة في الإسلام وكلّ المواقع السلبيّة، ولهذا نجد أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو صفة الأنبياء {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ}، فرسالة النّبيّ في الجانب الحركي منها تقف تحت عنوانين: الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، أمّا قوله تعالى: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ}(الأعراف؛ 157)، فهذه مفردات تمثِّل تفاصيل مهمة المعروف والمنكر ومعناهما في الواقع التفصيلي في الحياة، فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هما العنوانان اللّذان يمثّلان الإسلام كلّه، فالظّلم هو قمَّة المنكر، والعدل هو قمَّة المعروف، وكلّ النشاطات السلبيّة فيما يعتدي به إنسان على إنسان هو المنكر، لذلك {يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ}، فيحملون رسالة الإسلام في خطّ الدّعوة وفي خطّ الحركة وفي خطّ المواجهة وفي ساحة الصّراع، بحيث يدخلون معاً، فيعطي كلّ واحد منهم للآخر فكراً من فكره، وعاطفة من عاطفته، وطاقة من طاقته، وحركة من حركته.

نماذج نسويّة مشرّفة

وهذا ما نلاحظه في بداية الدعوة، فنحن نرى أنّ النساء كُنّ يعملن في خطّ الدعوة تماماً كالرجال، فكما كان الرّجال الذين دخلوا في الإسلام أفراداً يعملون على أساس دعوة من يلتقونهم من المشركين إلى الإسلام، كانت النساء يقمن بالدور نفسه. وينقل التاريخ عن "أمّ سليم" أنّ رجلاً خطبها، فوافقت بشرط أن يكون مهرها إسلامه، وامتنع في البداية، ولكنّها استغلّت ميله إليها حتى أدخلته في الإسلام.

ولاحظنا أيضاً أنّ المسلمات عُذّبن على أيدي المشركين كما تعذّب المسلمون، واستشهدت "سميّة" كما استشهد "ياسر"، وهاجرت النّساء إلى الحبشة كما هاجر الرّجال، وانطلقت النساء اللاتي بقين في مكّة ليهاجرن إلى المدينة فراراً بدينهنّ، ونزلت فيهنّ سورة، كما أنّ الرّجال أيضاً هاجروا فراراً بدينهم.

وهكذا عندما نأتي في بداية الدّعوة إلى رسول الله (ص)، نجد أنّ أمّ المؤمنين "خديجة" تقف إلى جانبه، تعطيه من جهدها ومن مالها ومن موقعها الاجتماعيّ من أجل الدّعوة والحركة الإسلامية، وهكذا وجدنا كيف وقفت فاطمة الزهراء(ع) مع عليّ (ع)، تتكلّم وتدافع وتتحدّث وتنتقل من مكان إلى مكان، باعتبار أنها تريد أن تشاركه في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وهكذا رأينا كيف انطلقت زينب (ع) مع الإمام الحسين لتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر في كربلاء وفي الكوفة وفي الشّام.

الدّور الحركيّ للمرأة

من خلال ذلك نعرف أنّ المسألة الحركيّة للمسلمات كانت مبكرة في بداية الدّعوة وفي امتداد الواقع الإسلاميّ، عندما كان المسلمون والمسلمات يعيشون ساحة الصّراع كأقوى ما يكون، حتى إن تاريخ السيرة ينقل لنا أن رسول الله (ص) كان يُخرج النساء معه في الحرب ليسقين العطشى ويداوين الجرحى، الأمر الّذي نفهم منه أنّ المرأة في مرحلة الدّعوة الأولى ومرحلة حركة الإسلام في المدينة، كانت تعيش في قلب ساحة الصّراع، وكانت تتحرّك في خطّ المسؤوليّة.

وإذا أردنا أن نقارن بين ذلك المجتمع وبين مجتمعنا الآن الّذي تعزل فيه المرأة عن ساحة المجتمع وعن كلّ مواقع الصّراع، فإننا نجد أنّ ذلك المجتمع كان أكثر وعياً وأكثر إحساساً بالمسؤوليّة وأكثر التزاماً بالخطّ القرآني الإسلامي.

مهمّة التّغيير مشتركة

إنّ مسألة تغيير المجتمع لا يمكن أن يقوم بها الرجال وحدهم، لأن الرجال مهما أعطوا، فإنهم لا يستطيعون العطاء الذي يمكن أن يسدّ الثغرة، بل لا بدَّ للمرأة أن تكون كذلك، ومن هنا، فإننا بحاجة إلى مؤمنات مثقّفات متعلّمات يعرفن الإسلام ويعرفن الفقه ويعرفن السياسة ويعرفن كلّ عناصر الواقع الاجتماعي ويعرفن كلّ الأوضاع التي يعيشها المسلمون في السلبيات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية وما إلى ذلك، وإذا كان البعض يتحدّث عن أخلاقيّة المرأة، فإنّ الله أيضاً تحدّث عن أخلاقيّة الرّجل بلا فرق، ذلك أنّ الأخلاق ليست مفروضة على المرأة دون الرّجل، وإذا كان الله يريد للمرأة أن تكون عفيفة، فقد أراد للرّجل أن يكون عفيفاً، وإذا أراد للمرأة أن تقف عند حدود الله سبحانه وتعالى فيما حرَّم، فإنه أراد للرّجل كذلك، فلم يفرّق سبحانه وتعالى بين رجل وامرأة في الجانب الايجابي أو السلبي.

المساواة بين الجنسين

فنحن نقرأ في سورة الأحزاب: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيم}(الأحزاب؛ 35)، فهو لم يفرق في الجانب الأخلاقي بين رجل وامرأة، فما هو مطلوب للرّجل في الجانب الإيجابيّ، وما يعطيه الله للرّجل في انسجامه مع هذه العناوين الأخلاقيّة والعمليّة في الإسلام، أعطاه للمرأة أيضاً، وعندما أراد للإنسان المسلم أن يلتزم، فإنه قال بعد هذه الآية: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ}(الأحزاب؛ 36). وهكذا نرى أنّ الله عندما يتحدَّث عن النّتائج العمليَّة في الآخرة، فإنّه يقول: {لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى}(آل عمران؛ 195)، فلا فرق بينهما في هذا المجال، وعندما تحدَّث عن الجانب السلبيّ، تحدث عن {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ}(النور؛ 2)، وتحدّث عن {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَ}(المائدة؛ 38).

إذاً، لا نلاحظ أن الله سبحانه فرض أخلاقاً على المرأة أكثر مما فرض أخلاقاً على الرّجل، فعندما نتحدّث أنَّ على الرّجل أن يدخل ساحة الصّراع الاجتماعيّ، وأن يدخل ساحة الصّراع السياسي والأمني والاقتصادي والثقافي، فإنّه لا بدّ أن يَدخله بأخلاقية الإسلام.

مثل المرأة في القرآن

وهكذا أراد الله سبحانه وتعالى للمرأة أن تكون كذلك، بأن تدخل الساحة أيضاً بأخلاقيّة الإسلام، وعندما أراد سبحانه وتعالى أن يعطي للنّاس القدوة، وأراد أن يعطي للناس المثل في السلبيات ونتائجها، والمثل في الإيجابيّات ونتائجها، قال {ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ}(التّحريم؛ 10). فقد ضرب الله هاتين المرأتين مثلاً للرّجال والنساء من الكافرين والكافرات، وإنّ أيّة قرابة لأيّ إنسان قريب من الله سبحانه وتعالى لا تجدي نفعاً. فإذاً، المرأة المنحرفة ـ المرأة الخائنة للرّسالة ـ هي مثلٌ سلبيّ للكافرين والكافرات، والمرأة المؤمنة مثل إيجابيّ للنِّساء وللرّجال {وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}(التحريم؛ 11). هذه المرأة التي رفست وداست كلّ النعيم الدنيويّ بقدمها، وانفتحت ورجعت إلى الله طالبةً أن يبدلها بجنّة الأرض جنّة السماء، لأنها تريد رضاه ولا تريد غير رضاه، وضرب هذا المثل للرّجال وللنّساء على أنهم إذا وقفوا بين الدّنيا وهي مقبلة عليهم وبين الآخرة، فإنّ عليهم أن يضحّوا بالدّنيا أمام الآخرة، وأن يبتهلوا إلى الله سبحانه وتعالى بأن يثبتهم على ذلك {وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ}(التحريم؛ 12)، فهي المثل، باعتبار أنَّ العفَّة تأتي في أعلى درجاتها، وهي المثل في أنها صدقت بكلمات ربّها، وهي المثل في أنها صدَّقت بكتب ربها، وهي المثل في أنها كانت من القانتين.

لذلك من يقول: بأن على المرأة أن تنكفئ في البيت، وأن تبتعد عن كلّ ساحات الصّراع على أساس الجانب الأخلاقيّ، فإننا نقول إنّ الجانب الأخلاقي في المرأة هو نفسه الجانب الأخلاقيّ للرّجل، فإذا كانت ساحة الصّراع لا تمنع الرّجل من أن يكون الملتزم أخلاقيّاً، فإنها لا تمنع المرأة من أن تكون الملتزمة أخلاقيّاً.

الحجاب ليس حاجباً

وإذا كانت المرأة ملتزمة بالحجاب، فإنّ الحجاب لم يمنع النساء المسلمات من أن يدخلن ساحة الصّراع في المجتمع، ولم يمنع سيّدة النساء فاطمة (ع) أن تدخل إلى ساحة الصّراع، فتخطب في مسجد رسول الله (ص)، وتتحدّث هنا وهناك بالطريقة التي ترى فيها أنها تبلغ رسالات الله، وأنها تواجه ساحة الباطل وما إلى ذلك.

وهكذا، لم يمنع الحجاب السيّدة زينب (ع) من أن تقف في كربلاء تلك الوقفات البطوليّة الشجاعة المبتهلة إلى الله، وتقف في الكوفة في مجلس ابن زياد، وتخطب في أهل الكوفة، وتقف أيضاً في مجلس يزيد، لم يمنعها حجابها من ذلك، والظاهر أنّ المسلمين كانوا لا يعيشون عقدة في هذا الأمر، وإلا لكان لمعارضيهم أن يقولوا إن هذا يخالف الخطّ الإسلامي في أن على المرأة أن تلتزم بيتها.

أهميّة دور الأمومة

وعندما نتحدّث بأن على المؤمنات أن يكنّ مع المؤمنين جنباً إلى جنب، ليكون كلّ فريق منهم وليّاً للآخر وقوّة له، فإننا لا نتحدث بسلبية عن دور الأمومة ودور الزوجيّة في حياة المرأة، ونحن نعرف أنّ الأمومة تتّصل بجسد المرأة، بينما لا تتّصل بجسد الرّجل، ولكن كما أنّ الأبوّة للرّجل في كلّ تعقيداتها الماديّة لا تمنع الرّجل من أن يتحمل مسؤوليّته عن الإسلام وأهله، فإنها لا تمنع المرأة في ذلك، وربما كان وقت المرأة أضيق من وقت الرّجل، وربما كانت أعباء المرأة أكثر فيما يتّصل بحركيتها الذاتية من جهة أطفالها، ولكن يبقى لها هامش في الواقع تستطيع من خلاله أن تقوم بدورها الإسلاميّ، لتدعو إلى الله، وتواجه الظلم كلّه والانحراف كلّه والشرّ كلّه في الحدود الشرعيّة المرسومة، أي أن لا تكون المرأة شيئاً معزولاً عن ساحة الصّراع.

{وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ}، ينطلقون معاً من أجل إقامة الصّلاة، حتى تنفتح بهم على الله لتزيدهم إيماناً وروحانيّة ولتقوّي دوافعهم ضدّ الكفر، لأنّ الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، {وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} التي تمثّل العطاء الإنساني المؤمن للنّاس الذين يحتاجون إلى العطاء، {وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ}، ثم تنطلق الآية لتمثِّل الخطَّ العامَّ الذي يجعل المؤمنين والمؤمنات في حالة تكامل في طاعة الله ورسوله.

الجزاء والجائزة

{أُوْلَـئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}.

وهكذا تنطلق هذه المسيرة الإيمانيّة إلى الله سبحانه وتعالى، لتتحوّل المسيرة في الدّنيا إلى مسيرة في الآخرة، والله يحدثنا عن ذلك في سورة "الحديد" عن المظاهرة الإيمانيّة التي يتحرّك فيها المؤمنون والمؤمنات في ساحة القيادة، ليتحوّل هذا النور الإيماني ـ الذي كان يشرق في عقولهم وفي قلوبهم وفي حياتهم ـ إلى نور مادّيّ يتحرّك أمامهم في يوم القيامة {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم}، باعتبار أنّ اليمين هو العضو الذي يحرّكه الإنسان بالعطاء والجهاد وكتابة الخير وإعانة الضّعيف. {بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}(الحديد؛ 12).

كما يحدثنا الله عن ذلك في سورة التحريم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَ}، إذا كانت هناك بعض الظلمات في أعمالنا {وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}(التّحريم؛ 8).

الالتفات إلى حركة الواقع

أيها الأحبّة: في هذا الواقع الذي يعيش المؤمنون والمؤمنات والمسلمون والمسلمات التحدّيات، هذا الواقع الذي يواجه الإسلام ـ في المواقع المتقدّمة ـ الكافرين والمستكبرين، ويواجه في داخل مجتمعاته سيطرة الانحراف الفكري والأخلاقي والعملي، نحتاج، إلى أن نجمّد كلّ السلبيّات التي بدأت تأكل إيماننا من الداخل، وتأكل كلّ قوّة الإيمان في الخارج، وأن نجمّد كل الهوامش لننطلق إلى عمق السّاحة، لنرى كيف يعلن الكفر كلّه الحرب على الإسلام كلّه، وكيف يعلن الاستكبار الحرب على المستضعفين كلّهم، لنعرف كيف تتضخّم مسؤوليّاتنا، وكيف ترتفع كلّ هذه المسؤوليّات إلى الآفاق الكبيرة، حتى ينطلق المؤمنون والمؤمنات معاً في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، معاً في مواجهة الطغيان والاستكبار، معاً في الدّعوة إلى الله والعمل في سبيله.

أيّها الأحبّة: إن هذه المرحلة تفرض علينا المسؤوليّة في أعلى درجاتها، وسوف يحاسبنا الله عليها: كيف استرخيتم، وكيف هربتم من السّاحة، وكيف فررتم من الزحف، وكيف بخلتم بطاقتكم عن الإيمان والمؤمنين والإسلام والمسلمين؟!

أكرّر كلامي لكلّ المؤمنين والمؤمنات: "الراحة في هذه المرحلة حرامٌ حرام"، إلا الّتي تريد أن تجدّد فيها نشاطك، أمّا أن تسترخي، وأمّا أن تقول ما لنا وللدّخول بين السلاطين، وأمَّا أن تقول: إنَّ علينا أن نعيش في بيوتنا، ربّنا أعطنا خبزنا كفاف يومنا، فتكون بذلك من الّذين يعيشون الحياد، ومن يعيشون الحياديَّة في وقت احتدام المعركة، هم أعداء الله ورسوله، لأنهم يحجبون قوَّتهم، فيعطون العدوّ قوَّة سلبيَّة، إذا لم يعطوه قوّة إيجابيّة.

فكلّ قوّتنا لا بد أن تكون للإسلام وللمسلمين، وكلّ طاقتنا لا بدّ أن تكون في مواجهة الاستكبار العالميّ، وفي مواجهة اسرائيل ومواجهة أنواع الظّلم وكلّ حالات الانحراف، ويبقى النِّداء نداء الله لنا الّذي صمّت أسماعنا عنه: {وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ}(التّوبة؛ 105).

والحمد لله ربِّ العالمين.

* فكر وثقافة، السنة الثَّانية ـ 23 جمادى الآخرة 1418هـ/25/10/1997م العدد (63).

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية