كيف يعيش المؤمن إحساسه بالله، عندما تتحرّك حاجاته في حياته، وتشتدّ أزماته في
أوضاعه، وتنطلق ألوان البلاء في حركة الواقع عنده؟
هل يوزّع تطلّعاته وأمنياته بين الله وبين عباده، فيلجأ إلى الله في بعض أموره،
ويستعين بعباده في البعض الآخر، فيغفل عن مقام ربّه، ليستغرق في مظاهر القوّة عند
خلقه؟
هل يفزع إلى الله عند اشتداد الخوف، وتعاظم المشاكل، أو ينسى ربّه فيفزع إلى بعض
النّاس من حوله ليمنحوه العزّ بعد الذلّ، والرفعة بعد الاتضاع، والثّروة بعد
الفقر؟...
إنّ الإيمان بالله لا بدَّ أن ينطلق من عمق المعرفة به، فلا قيمة للإيمان بعد
المعرفة، وربما كان من أوّليّات المعرفة الإيمانيّة، هو معرفة الله في مواقع عظمته
ومجالات نعمته في صفاته العليا، وأسمائه الحسنى مقارنةً بالمعرفة لعباده، لتكون
النتيجة في ذلك كلّه، أنّ العبد، مهما عظمت قوّته، وكثرت نعمته، وارتفع قدره، فإنّه
محدود بالحدود التي وضعها الله له، فهو لا يملك نفسه، ولا يملك ما حوله وما يتّصل
به إلا من خلال ما ملّكه الله من ذلك، وهو القادر على أن يزيله عنه في كلّ وقت، من
دون أن يستطيع دفعاً لذلك.
وإنَّ الله هو كليّ القدرة والعلم والرحمة واللطف، وغير ذلك من صفاته الكمالية
والجمالية، وهو الكافي من كلّ شيء ولا يكفي منه شيء، وهو مالك الملك، يؤتي الملك من
يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، ويعزّ من يشاء، ويذلّ من يشاء، وهو على كلّ شيء قدير،
وهو الذي يرزق من يشاء من عباده بغير حساب، وهو الذي يعطي الرفعة لمن يشاء له ذلك،
فلا يملك أحد أن يضعه بعد ذلك، وهو الذي يقضي بالضّعة لمن يشاء، فلا يستطيع أحدٌ أن
يرفعه بعد ذلك.
وهكذا ينطلق الوعي الإيماني بالإنسان إلى أن ينقطع إلى الله من موقع الإخلاص له،
ويقبل بكلّ جوانحه وجوارحه عليه، ويصرف وجهه عن كلّ إنسان لا يعيش الحاجة إلى الله
في تكوين وجوده، ويبتعد بمسألته عن كلّ من استغنى عن الله وفضله في كلّ شيء، فإنّ
ذلك هو الذي يمثّل الحقيقة في سرّ ارتباط المخلوق بخالقه، وحاجته إليه، وفقره
المطلق لغناه المطلق.
هذا من الناحية الفكرية في معنى الإيمان المنفتح على سرّ الله في خلقه. أمَّا من
الناحية الواقعية المتحركة في خطّ التجربة الواقعية، فهناك الناس الذين يطلبون
الرفعة في الدرجات الاجتماعية أو السياسية تخلّصاً من الضّعة التي يتخبّطون في
وحولها، وهناك الناس الذين يعيشون مرارة الفقر في حياتهم، فيطلبون الحصول على
الثّروة في ساحاتهم، فيلهثون وراء هذا العزيز، فيبيعونه أنفسهم ليمنحهم من عزّته
شيئاً، ويندفعون خلف هذا الرّفيع، فيتنازلون له عن دينهم ليعطيهم من رفعته شيئاً،
وينطلقون في خدمة هذا الغني، فيتواضعون له، ويقدّمون بين يديه مواقفهم قرباناً له،
ليقدّم لهم من ثروته شيئاً، فتكون النتيجة أنّهم يزدادون بذلك ذلاً وضعة وفقراً،
فيخسرون بذلك أنفسهم ودينهم ومواقفهم، ولا يحصلون من أحلامهم على شيء.
وفي ضوء ذلك، كانت الفكرة الإيمانية المشرقة والتجربة الحيّة الواعية، تمثّلان
مفتاح الوعي الروحي للإنسان المؤمن الذي اكتشف خطأ مثل هؤلاء الناس في كلّ أوضاعهم
العملية، من دراسته لكلّ خطواتهم المنحرفة عن الخطّ، فانطلق اختباره في طريق
الصواب، وعرف كيف يأخذ من تجارب الآخرين درساً ينفتح من خلاله على تجاربه
المستقبليّة بطريقة وبأخرى... وهكذا اتجه إلى الله ليوحِّده في كلّ شيء، فلا يسأل
غيره في ما يريد سؤاله، ولا يطلب حاجته من غيره، ولا يدعو أحداً سواه، ولا يشرك
أحداً معه في رجائه، ولا يتّفق أحد معه في دعائه، فهو المدعوّ في وحدانية الدعاء،
وهو الغني عن عباده والغالب على أمرهم، والقويّ في كلّ معاني القوّة، والأعلى الذي
ليس فوقه شيء. أما الآخرون؛ كلّ الآخرين، فهم الفقراء في إمكاناتهم، المغلوبون على
أمرهم، المقهورون على شأنهم، المتغيّرون في أحوالهم، المختلفون في أوضاعهم، فسبحان
الله الذي لا إله إلا هو الذي لا يماثله شيء، ولا يضادّه شيء.
وهكذا نجد في هذا الدّعاء الصّغير، الكثير من الإيحاءات الإيمانيّة والإيماءات
الروحيّة، والتجارب الواقعيّة، والآفاق الإلهيّة، والضعف الإنساني، لينطلق الإنسان
- معه - في مناجاة الله، من كلّ أعماقه، ليستغرق في معنى الألوهيّة في سرّ
ربوبيّته، ومعنى العبوديّة في سرّ إنسانيّته، فيخرج من ذلك كلّه بالنتائج
الإيجابيّة في الإخلاص بالانقطاع إليه، والإقبال بكلّه عليه، والإحساس بالغنى عن
غيره، أيّاً كان في موقع قوّته وعزّته وغناه، والشّعور بالفقر في كلّ شيء، لأنّه
وليّ كلّ شيء ممن خلق ومما خلق، ومنه الإنسان الذي ينفتح على الحقيقة بعقله، وينجذب
إليها بقلبه.
*من كتاب "آفاق الروح"، ج2.

كيف يعيش المؤمن إحساسه بالله، عندما تتحرّك حاجاته في حياته، وتشتدّ أزماته في
أوضاعه، وتنطلق ألوان البلاء في حركة الواقع عنده؟
هل يوزّع تطلّعاته وأمنياته بين الله وبين عباده، فيلجأ إلى الله في بعض أموره،
ويستعين بعباده في البعض الآخر، فيغفل عن مقام ربّه، ليستغرق في مظاهر القوّة عند
خلقه؟
هل يفزع إلى الله عند اشتداد الخوف، وتعاظم المشاكل، أو ينسى ربّه فيفزع إلى بعض
النّاس من حوله ليمنحوه العزّ بعد الذلّ، والرفعة بعد الاتضاع، والثّروة بعد
الفقر؟...
إنّ الإيمان بالله لا بدَّ أن ينطلق من عمق المعرفة به، فلا قيمة للإيمان بعد
المعرفة، وربما كان من أوّليّات المعرفة الإيمانيّة، هو معرفة الله في مواقع عظمته
ومجالات نعمته في صفاته العليا، وأسمائه الحسنى مقارنةً بالمعرفة لعباده، لتكون
النتيجة في ذلك كلّه، أنّ العبد، مهما عظمت قوّته، وكثرت نعمته، وارتفع قدره، فإنّه
محدود بالحدود التي وضعها الله له، فهو لا يملك نفسه، ولا يملك ما حوله وما يتّصل
به إلا من خلال ما ملّكه الله من ذلك، وهو القادر على أن يزيله عنه في كلّ وقت، من
دون أن يستطيع دفعاً لذلك.
وإنَّ الله هو كليّ القدرة والعلم والرحمة واللطف، وغير ذلك من صفاته الكمالية
والجمالية، وهو الكافي من كلّ شيء ولا يكفي منه شيء، وهو مالك الملك، يؤتي الملك من
يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، ويعزّ من يشاء، ويذلّ من يشاء، وهو على كلّ شيء قدير،
وهو الذي يرزق من يشاء من عباده بغير حساب، وهو الذي يعطي الرفعة لمن يشاء له ذلك،
فلا يملك أحد أن يضعه بعد ذلك، وهو الذي يقضي بالضّعة لمن يشاء، فلا يستطيع أحدٌ أن
يرفعه بعد ذلك.
وهكذا ينطلق الوعي الإيماني بالإنسان إلى أن ينقطع إلى الله من موقع الإخلاص له،
ويقبل بكلّ جوانحه وجوارحه عليه، ويصرف وجهه عن كلّ إنسان لا يعيش الحاجة إلى الله
في تكوين وجوده، ويبتعد بمسألته عن كلّ من استغنى عن الله وفضله في كلّ شيء، فإنّ
ذلك هو الذي يمثّل الحقيقة في سرّ ارتباط المخلوق بخالقه، وحاجته إليه، وفقره
المطلق لغناه المطلق.
هذا من الناحية الفكرية في معنى الإيمان المنفتح على سرّ الله في خلقه. أمَّا من
الناحية الواقعية المتحركة في خطّ التجربة الواقعية، فهناك الناس الذين يطلبون
الرفعة في الدرجات الاجتماعية أو السياسية تخلّصاً من الضّعة التي يتخبّطون في
وحولها، وهناك الناس الذين يعيشون مرارة الفقر في حياتهم، فيطلبون الحصول على
الثّروة في ساحاتهم، فيلهثون وراء هذا العزيز، فيبيعونه أنفسهم ليمنحهم من عزّته
شيئاً، ويندفعون خلف هذا الرّفيع، فيتنازلون له عن دينهم ليعطيهم من رفعته شيئاً،
وينطلقون في خدمة هذا الغني، فيتواضعون له، ويقدّمون بين يديه مواقفهم قرباناً له،
ليقدّم لهم من ثروته شيئاً، فتكون النتيجة أنّهم يزدادون بذلك ذلاً وضعة وفقراً،
فيخسرون بذلك أنفسهم ودينهم ومواقفهم، ولا يحصلون من أحلامهم على شيء.
وفي ضوء ذلك، كانت الفكرة الإيمانية المشرقة والتجربة الحيّة الواعية، تمثّلان
مفتاح الوعي الروحي للإنسان المؤمن الذي اكتشف خطأ مثل هؤلاء الناس في كلّ أوضاعهم
العملية، من دراسته لكلّ خطواتهم المنحرفة عن الخطّ، فانطلق اختباره في طريق
الصواب، وعرف كيف يأخذ من تجارب الآخرين درساً ينفتح من خلاله على تجاربه
المستقبليّة بطريقة وبأخرى... وهكذا اتجه إلى الله ليوحِّده في كلّ شيء، فلا يسأل
غيره في ما يريد سؤاله، ولا يطلب حاجته من غيره، ولا يدعو أحداً سواه، ولا يشرك
أحداً معه في رجائه، ولا يتّفق أحد معه في دعائه، فهو المدعوّ في وحدانية الدعاء،
وهو الغني عن عباده والغالب على أمرهم، والقويّ في كلّ معاني القوّة، والأعلى الذي
ليس فوقه شيء. أما الآخرون؛ كلّ الآخرين، فهم الفقراء في إمكاناتهم، المغلوبون على
أمرهم، المقهورون على شأنهم، المتغيّرون في أحوالهم، المختلفون في أوضاعهم، فسبحان
الله الذي لا إله إلا هو الذي لا يماثله شيء، ولا يضادّه شيء.
وهكذا نجد في هذا الدّعاء الصّغير، الكثير من الإيحاءات الإيمانيّة والإيماءات
الروحيّة، والتجارب الواقعيّة، والآفاق الإلهيّة، والضعف الإنساني، لينطلق الإنسان
- معه - في مناجاة الله، من كلّ أعماقه، ليستغرق في معنى الألوهيّة في سرّ
ربوبيّته، ومعنى العبوديّة في سرّ إنسانيّته، فيخرج من ذلك كلّه بالنتائج
الإيجابيّة في الإخلاص بالانقطاع إليه، والإقبال بكلّه عليه، والإحساس بالغنى عن
غيره، أيّاً كان في موقع قوّته وعزّته وغناه، والشّعور بالفقر في كلّ شيء، لأنّه
وليّ كلّ شيء ممن خلق ومما خلق، ومنه الإنسان الذي ينفتح على الحقيقة بعقله، وينجذب
إليها بقلبه.
*من كتاب "آفاق الروح"، ج2.