مختارات
15/10/2015

دروس الهجرتين

دروس الهجرتين

تشكّل السّنة الهجريَّة الجديدة مناسبةً للتفكّر والتأمّل على أعتاب عامٍ يطلّ وآخر ينقضي في حياة العالم الإسلاميّ، حيث تشكِّل الهجرة النبويَّة الشَّريفة عنواناً لهذا التَّاريخ الإسلاميّ المنفتح على كلِّ الذّكريات الإسلاميَّة التي نحتاج إلى استحضارها في هذه المناسبة.

فالهجرة محطَّة مفصليَّة في تاريخ الإسلام، لأنَّها مرحلة تأسيسٍ وتمكينٍ بعد أن عاش المسلمون في مكَّة ثلاثة عشر عاماً من الظّلم والأذى، فكانت الهجرة إلى المدينة المنوَّرة مرحلةً جديدةً في حياة الرّسالة، وهجرةً من واقع الضّعف إلى واقع القوَّة، ومن دائرة الصَّبر والتحمّل إلى دائرة الفعل والمبادرة، والتي أسَّست لانطلاقة الإسلام من الفضاء المحلّيّ في الجزيرة العربيَّة، إلى الفضاء العالميّ الأوسع، حيث استطاع المسلمون بعد سنين قليلة، بفعل هذه الاندفاعة الرّساليَّة بقيادة رسول الله(ص)، أن يسودوا قوّتين عالميّتين عُظمَيين في ذلك الزَّمن، هما الرّوم والفرس، فتفوَّق المسلمون الّذين انطلقوا من صحراء الجزيرة العربيّة على هاتين القوّتين الإمبراطوريّتين اللَّتين امتلكتا كلّ وسائل القوّة والمنعة.

كما تلتقي هجرة الرّسول(ص) بهجرة الإمام الحسين(ع)، الّتي جاءت بعد عشرات السّنين من هجرة جدّه(ص)، ففي حين كانت هجرة الرّسول من أجل إطلاق الرّسالة إلى العالم، جاءت هجرة الحسين من مكَّة إلى كربلاء(ع) من أجل استعادة الإسلام الَّذي خطفه طاغيةٌ نَصَّب نفسه خليفةً للمسلمين، فخرج الحسين(ع) من أجل طلب الإصلاح في أمَّة جدِّه رسول الله، يريد أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، كما عبّر سيِّد(ع). فهذه الرّسالة السَّمحاء التي انطلقت بالشَّكل الَّذي يعبّر عن عالميَّة الإسلام، واجهت بعد سنوات قليلة تحدّياً كبيراً تمثَّل في تحريفها من خلال الحاكم الظّالم الَّذي أراد أن يحكم العباد ويستبدّ بهم باسم الدِّين، ما وضع الإسلام أمام خطر التَّشويه والزّوال، فكانت الثَّورة الحسينيَّة ثورة إصلاحٍ من أجل تصويب المسار ومواجهة الانحراف، حتى لا يستشري ويدمِّر الدّين من الدّاخل.

ومن هنا، يمكن لنا أن نفهم هذا الدَّور الإصلاحيّ الكبير للإمام الحسين وثورته في حفظ رسالة رسول الله(ع) ومنع إسقاطها، كما يمكن أن نفهم حديث رسول الله(ص): "حسين منّي وأنا من حسين"، الَّذي يفسِّره سماحة العلامة المرجع السيّد محمد حسين فضل الله(رض)، باعتباره يمثّل الاندماج بين الرَّسول والحسين، الَّذي "لم يكن اندماجاً نَسَبيّاً، بل كان اندماجاً رساليّاً، لأنَّ الحسين تحوَّل إلى تجسيدٍ لرسالة الرّسول، ورسول الله(ص) هو التَّجسيد الحيّ للرّسالة، لذلك، فإنَّ هناك رسالةً اندمجت في رسالة، فالحسين منه(ص)، باعتباره انطلق من رسالة رسول الله في وجوده الرّساليّ، و"أنا من حسين"، لأنَّ رسول الله انطلق من الرّسالة التي تجسَّدت بالحسين في مرحلته".

فالتحدّي الَّذي واجه الإسلام في انطلاقته، كان تحدّياً مزدوجاً، تمثَّل في البداية في مواجهة قوى الاستكبار الّتي كانت تطمح إلى القضاء على هذا الدِّين، ثم تحوَّلت إلى تحدٍّ داخليٍّ تمثَّل في مواجهة قوى الانحراف والطّغيان الّتي أرادت تشويه الدّين وتحويله عن مساره بعد سنواتٍ قليلةٍ من الهجرة المحمديَّة.

وإذا نظرنا إلى واقعنا اليوم في محاولةٍ للاستفادة من تاريخنا وذكرياتنا الإسلاميَّة لاستقاء الدّروس والعبر التي تنفعنا في حاضرنا ومستقبلنا، في مرحلةٍ من أصعب المراحل الّتي يمرّ بها المسلمون على مدى تاريخهم.. فإنَّنا سنجد أيضاً أنَّ التحدّي لا يتمثَّل في تحدّي العدوّ الخارجيّ فقط، وهو الاحتلال الصّهيونيّ والاستكبار العالميّ الراعي له، بل يتمثَّل أيضاً في العدوّ الداخليّ، وهو الجماعات التكفيريّة الَّتي أمعنت في القتل وسفك الدّماء وإثارة الفتن بين المسلمين، بما يشتِّت صفوفهم، ولا يخدم إلا مشاريع أعدائهم.

كما أنَّ هذه الذّكرى تعيد تذكيرنا في غمرة انغماسنا في واقعنا الدَّاخليّ، بمسؤوليَّة عالميَّة الإسلام، ومسؤوليَّتنا عن تقديمه إلى البشريَّة جمعاء، ما يفرض علينا إعادة إنتاج خطابنا ليكون خطاباً إنسانيّاً عالميّاً يقدِّم صورةً مختلفةً عن الإسلام، بعد التَّشويه الهائل الّذي ألحقه الفكر التّكفيريّ المتخلّف بهذا الدّين، حتى بات يطغى على صورته الحقيقيَّة، فدمغته صور القتل، وقطع الرّؤوس، وسبي النّساء، وتدمير الأماكن الأثريّة، عدا عن تدمير البشر والحجر، واستخراج أبشع ما في التّاريخ الإسلاميّ من انحرافات، وتقديمها على أساس أنها تمثِّل صورة الدّين وحقيقته، وذلك في خضمّ عصرنا الّذي انتشرت فيه وسائل الإعلام الإلكترونيّة ووسائل التّواصل الاجتماعيّ، الَّتي ألغت المسافات، واخترقت الحدود، وجعلت العالم بمثابة "قرية كونيّة".

إنَّ الواقع الصَّعب الَّذي نغرق فيه، يجب أن لا يغلق علينا أبواب الأمل، فإذا كان المسلمون في التّاريخ قد استطاعوا في سنواتٍ قليلةٍ أن يتحوَّلوا من قوَّةٍ قليلةٍ مستضعفةٍ إلى قوَّة عالميَّة تفرض نفسها على العالم كلِّه بقيادة رسول الله(ص)، فهذا يعطينا الأمل بأن نغيّر واقعنا إن عدنا إلى رسول الله(ص) واستلهمناه في خضمّ كلّ هذه الصّعوبات، لننطلق من جديدٍ في هجرة إسلاميَّة إنسانيَّة إلى مستقبلٍ أفضل، نعيد فيه للإسلام ريادته، وللمسلمين دورهم في نشر الرّسالة وإعمار الأرض.

*إنَّ الآراء الواردة في هذا المقال، لا تعبِّر بالضَّرورة عن رأي الموقع، وإنَّما عن وجهة نظر صاحبها.

تشكّل السّنة الهجريَّة الجديدة مناسبةً للتفكّر والتأمّل على أعتاب عامٍ يطلّ وآخر ينقضي في حياة العالم الإسلاميّ، حيث تشكِّل الهجرة النبويَّة الشَّريفة عنواناً لهذا التَّاريخ الإسلاميّ المنفتح على كلِّ الذّكريات الإسلاميَّة التي نحتاج إلى استحضارها في هذه المناسبة.

فالهجرة محطَّة مفصليَّة في تاريخ الإسلام، لأنَّها مرحلة تأسيسٍ وتمكينٍ بعد أن عاش المسلمون في مكَّة ثلاثة عشر عاماً من الظّلم والأذى، فكانت الهجرة إلى المدينة المنوَّرة مرحلةً جديدةً في حياة الرّسالة، وهجرةً من واقع الضّعف إلى واقع القوَّة، ومن دائرة الصَّبر والتحمّل إلى دائرة الفعل والمبادرة، والتي أسَّست لانطلاقة الإسلام من الفضاء المحلّيّ في الجزيرة العربيَّة، إلى الفضاء العالميّ الأوسع، حيث استطاع المسلمون بعد سنين قليلة، بفعل هذه الاندفاعة الرّساليَّة بقيادة رسول الله(ص)، أن يسودوا قوّتين عالميّتين عُظمَيين في ذلك الزَّمن، هما الرّوم والفرس، فتفوَّق المسلمون الّذين انطلقوا من صحراء الجزيرة العربيّة على هاتين القوّتين الإمبراطوريّتين اللَّتين امتلكتا كلّ وسائل القوّة والمنعة.

كما تلتقي هجرة الرّسول(ص) بهجرة الإمام الحسين(ع)، الّتي جاءت بعد عشرات السّنين من هجرة جدّه(ص)، ففي حين كانت هجرة الرّسول من أجل إطلاق الرّسالة إلى العالم، جاءت هجرة الحسين من مكَّة إلى كربلاء(ع) من أجل استعادة الإسلام الَّذي خطفه طاغيةٌ نَصَّب نفسه خليفةً للمسلمين، فخرج الحسين(ع) من أجل طلب الإصلاح في أمَّة جدِّه رسول الله، يريد أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، كما عبّر سيِّد(ع). فهذه الرّسالة السَّمحاء التي انطلقت بالشَّكل الَّذي يعبّر عن عالميَّة الإسلام، واجهت بعد سنوات قليلة تحدّياً كبيراً تمثَّل في تحريفها من خلال الحاكم الظّالم الَّذي أراد أن يحكم العباد ويستبدّ بهم باسم الدِّين، ما وضع الإسلام أمام خطر التَّشويه والزّوال، فكانت الثَّورة الحسينيَّة ثورة إصلاحٍ من أجل تصويب المسار ومواجهة الانحراف، حتى لا يستشري ويدمِّر الدّين من الدّاخل.

ومن هنا، يمكن لنا أن نفهم هذا الدَّور الإصلاحيّ الكبير للإمام الحسين وثورته في حفظ رسالة رسول الله(ع) ومنع إسقاطها، كما يمكن أن نفهم حديث رسول الله(ص): "حسين منّي وأنا من حسين"، الَّذي يفسِّره سماحة العلامة المرجع السيّد محمد حسين فضل الله(رض)، باعتباره يمثّل الاندماج بين الرَّسول والحسين، الَّذي "لم يكن اندماجاً نَسَبيّاً، بل كان اندماجاً رساليّاً، لأنَّ الحسين تحوَّل إلى تجسيدٍ لرسالة الرّسول، ورسول الله(ص) هو التَّجسيد الحيّ للرّسالة، لذلك، فإنَّ هناك رسالةً اندمجت في رسالة، فالحسين منه(ص)، باعتباره انطلق من رسالة رسول الله في وجوده الرّساليّ، و"أنا من حسين"، لأنَّ رسول الله انطلق من الرّسالة التي تجسَّدت بالحسين في مرحلته".

فالتحدّي الَّذي واجه الإسلام في انطلاقته، كان تحدّياً مزدوجاً، تمثَّل في البداية في مواجهة قوى الاستكبار الّتي كانت تطمح إلى القضاء على هذا الدِّين، ثم تحوَّلت إلى تحدٍّ داخليٍّ تمثَّل في مواجهة قوى الانحراف والطّغيان الّتي أرادت تشويه الدّين وتحويله عن مساره بعد سنواتٍ قليلةٍ من الهجرة المحمديَّة.

وإذا نظرنا إلى واقعنا اليوم في محاولةٍ للاستفادة من تاريخنا وذكرياتنا الإسلاميَّة لاستقاء الدّروس والعبر التي تنفعنا في حاضرنا ومستقبلنا، في مرحلةٍ من أصعب المراحل الّتي يمرّ بها المسلمون على مدى تاريخهم.. فإنَّنا سنجد أيضاً أنَّ التحدّي لا يتمثَّل في تحدّي العدوّ الخارجيّ فقط، وهو الاحتلال الصّهيونيّ والاستكبار العالميّ الراعي له، بل يتمثَّل أيضاً في العدوّ الداخليّ، وهو الجماعات التكفيريّة الَّتي أمعنت في القتل وسفك الدّماء وإثارة الفتن بين المسلمين، بما يشتِّت صفوفهم، ولا يخدم إلا مشاريع أعدائهم.

كما أنَّ هذه الذّكرى تعيد تذكيرنا في غمرة انغماسنا في واقعنا الدَّاخليّ، بمسؤوليَّة عالميَّة الإسلام، ومسؤوليَّتنا عن تقديمه إلى البشريَّة جمعاء، ما يفرض علينا إعادة إنتاج خطابنا ليكون خطاباً إنسانيّاً عالميّاً يقدِّم صورةً مختلفةً عن الإسلام، بعد التَّشويه الهائل الّذي ألحقه الفكر التّكفيريّ المتخلّف بهذا الدّين، حتى بات يطغى على صورته الحقيقيَّة، فدمغته صور القتل، وقطع الرّؤوس، وسبي النّساء، وتدمير الأماكن الأثريّة، عدا عن تدمير البشر والحجر، واستخراج أبشع ما في التّاريخ الإسلاميّ من انحرافات، وتقديمها على أساس أنها تمثِّل صورة الدّين وحقيقته، وذلك في خضمّ عصرنا الّذي انتشرت فيه وسائل الإعلام الإلكترونيّة ووسائل التّواصل الاجتماعيّ، الَّتي ألغت المسافات، واخترقت الحدود، وجعلت العالم بمثابة "قرية كونيّة".

إنَّ الواقع الصَّعب الَّذي نغرق فيه، يجب أن لا يغلق علينا أبواب الأمل، فإذا كان المسلمون في التّاريخ قد استطاعوا في سنواتٍ قليلةٍ أن يتحوَّلوا من قوَّةٍ قليلةٍ مستضعفةٍ إلى قوَّة عالميَّة تفرض نفسها على العالم كلِّه بقيادة رسول الله(ص)، فهذا يعطينا الأمل بأن نغيّر واقعنا إن عدنا إلى رسول الله(ص) واستلهمناه في خضمّ كلّ هذه الصّعوبات، لننطلق من جديدٍ في هجرة إسلاميَّة إنسانيَّة إلى مستقبلٍ أفضل، نعيد فيه للإسلام ريادته، وللمسلمين دورهم في نشر الرّسالة وإعمار الأرض.

*إنَّ الآراء الواردة في هذا المقال، لا تعبِّر بالضَّرورة عن رأي الموقع، وإنَّما عن وجهة نظر صاحبها.

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية