مختارات
15/12/2015

ماذا فقدت النَّجف برحيل العلامة محمّد حسين فضل الله؟

ماذا فقدت النَّجف برحيل العلامة محمّد حسين فضل الله؟

أبرز ما كان يُميّز الطَّرح الفقهيّ لدى العلامة محمد حسين فضل الله، هو ذلك الاهتمام بأن تكون علوم الدّين موقفاً مسؤولاً في تحدّيات الواقع الدنيويّ. والتّفكير في الإيمان العمليّ كان مرحلة مخاض لتاريخ العراق والنّجف والدّول العربيّة، في حِراك اجتماعيّ صارت فيه العقلانيّة الدينيّة قوّة ذات مدخليَّة في صناعة التاريخ وظهور مشهد مختلف، لذا لا يمكن المعرفة الكاملة بالاستجابات الاجتماعيّة للنّجف، من تطوّرات الدولة وظهور مجلات وإصدارات الفكر الجديد، بدون استيعاب محطّات الأضواء والإنارة لحركات الإصلاح الفقهيّ التي كانت تجهد أن لا تُكرّر الحوزة موقف الأزهر المغازلة للسّلطة السياسيّة في هجائها لروّاد الإصلاح، أمثال الأفغاني ومحمد عبدُه والسيّد الخميني.

فتوسعات العلوم وتقارب الجغرافيات يُحتِّم توسعة فقهيَّة، إن لم تحصل، فستحوّل الفكر الدينيّ إلى مجرّد تكديس كتبٍ وضجيجٍ صوتيّ، إن لم يكن تقويض الدّين كُلّه، وبالتأكيد، كان السيّد فضل الله من جيلٍ يرى ما حصل من انقلابٍ دنيويٍّ ضد الدّين في تُركيا والدول العربية، الأمر الّذي كان له تأثير هائل في ضرورة تطوير الفقه في مسائل المُستجدّ الاجتماعيّ وقضيّة الدّولة، حيث لم تعد المسألة اختياريَّة، فإما أن يأكُل الفقه الانعطاف السياسي، أو أنّ الانعطاف السّياسيّ هو من يأكُل الفقه. وهو تشنّجٌ كبير يُحتِّم تعميق عقلنة النّشاطاتِ الدينيّة، والإصرار على ترسيخ فقه الحوار والمشاركة، الّتي تضمن واقعيّة الإيمان وليس لفظيّة الفتاوى. ولعلّه هنا سنفهم كلمة الأسف العميقة للسيّد الشّهيد محمد باقر الصدر لمغادرة العلامة فضل الله إلى لبنان: "كلُّ مَن خرجَ من النّجف خسِرَ النجف، إلا فضلُ الله خسرته النّجف"، وهي كلمة عميقة يمكننا اليوم لمس مجموعة الآلام والجراح الّتي اشتغل محمد حُسين فضلُ الله على التَّحذير منها أو تطبيبها منذ منتصف القرن العشرين، من قبيل:

1 - إنّ فقه التّعايش لم يتعمَّق، وانكفأت النجف على نماذج احترابيَّة وتصادمات ومنافسات شرخت العُمق الإيماني والأخلاقي بين المؤمنين.

2 - وإذا كان فضل الله استطاع أن يبني لوحده نهضة مشاريع اقتصاديّة للفقراء والأيتام ودعم الدراسات والتعليم، فإنّ هذا العمل لن يظهر في النّجف إلا بعد مرحلة متأخّرة، ولا زال حتى الآن يحمل تشوّهات شخصنة الأمور، وليس عملاً مؤسَّساتيّاً مستقلاً عن الأفراد، كما استطاع العلامة فضلُ أن يُنجزه بنجاحٍ لافت، ولا زال معين خيره لم ينضب حتى بعد رحيل فقيه الحوار والعقلانيَّة، رحمه الله.

3 - وحتى بعد تلقّي النّجف ضربات سياسيَّة عديدة، فإنَّ فقه التّعايش لم يتعمَّق كالَّذي طرحه السيّد فضل الله، وكان له صدى لبنانيّ وعربيّ وعالميّ كبير، حيث بقي مُنجز فضل الله له ريادة في الكمّ والكيف حتى ساعتنا هذه.

4 - استطاع فضل الله أن يكون سبّاقاً إلى نقد الحركاتِ الإسلاميّة واستشراف عوائقها، وهو أمر لم يتحقَّق في النجف، لندخل في ورطة العمل السياسيّ غير المنقود، وبالتالي تداعيات جُملة من الأمراض الّتي تطرَّق السيّد محمد حسين فضل الله إلى أغلبها، وكان يُمكن أن نستفيد منها قبل الدّخول في نفق الاستحواذ السّلطويّ.

5 - لعلَّ محمد حسين فضل الله من النَّماذج النّادرة التي جمعت جمال العِبارة ورعاية الأخلاق ومحبّة النّاس، لينسجم البُعد الاجتماعيّ مع المعرفي، والفرديّ مع الجماعيّ، ويكون للفقه دور حقيقيّ في صنع واقع تاريخيّ مختلف.

6 - لقد كان ظهور فقيه العقلانيّة والحوار جزءاً من إرهاصات صدمة صراع المدّ القوميّ ضدّ التراث، وتكوين الأحزاب الدينية، وتعرض سقراط الثاني محمد باقر الصدر لحملات التّشويه ثم التّصفية الجسدية، وهو تاريخ له مدخليّته الكبيرة في تحقّق انعطافة في التفكير الدينيّ ومكانة الفقيه. لذا، جعل فضل الله من السياق التاريخي عنصراً من عناصر فهم النصوص وتحديد الموقف الفقهيّ الجديد، كما صنع ـ رحمه الله ـ بالنّسبة إلى إرث المرأة من الرّجل، ورفضه تحليل الأسهم في البنوك الربويّة التي حلَّلها السيد الخوئي، ورفضه لمسائل الحيل الشّرعيّة، فقال العلامة فضل الله بعدم صحَّة زواج الصّغيرة لغرض إمكانيّة النظر إلى أمّها، و[تحدّث عن] مسألة حقّ الدخول في السلطة، وغير ذلك من مسائل لم تتطوَّر وتختلف لولا إدخال عنصر التاريخ فيها، لذا لا بدّ من النزول إلى التاريخ كي يكون الفقه واقعيّاً مُمكن التّأثير والامتثال.

7 - وبالتالي، تبرز أفكار السيِّد محمد حسين فضل الله، لو وضعناها في سياقٍ تاريخيّ من ثورة العشرين، وثورة تموز، وأزمة صعود البعثيّين، وظهور السيد الخميني، وبالتّالي، آن للنجف أن تستفيد من ثمرتها اليانعة في مكانة فقه التّعايش وأهميّة الدّور الأخلاقي والحركي للفقيه، الّذي يتغلَّب على غول التشوّه المالي والسياسيّ، ولا يرضخ لتبعية الجُهال ودكتاتورية الضغط الاجتماعي للعوام، حفاظاً على مبدأ رجوع الجاهلِ إلى العالِم وليس العكس، وهو ما يحتاجه واقع المسلمين اليوم، بما يتجاوز حيل شعاراتهِم.

شُكراً للسيِّد محمد حسين فضلُ الله)رض) الّذي علّمنا أنَّ الجروحَ صوتُ غُفران، وأنَّ طاقة الإيمان يمكن أن تصنع أملاً تاريخيّاً كبيراً أفضلَ مما كان، فينهزم غول التخلُّفِ وغول الفسادِ وغول التوحّشِ، وينتصِرُ الإنسان.

*إنَّ الآراء الواردة في هذا المقال، لا تعبّر بالضَّرورة عن رأي الموقع، وإنما عن وجهة نظر صاحبها.

أبرز ما كان يُميّز الطَّرح الفقهيّ لدى العلامة محمد حسين فضل الله، هو ذلك الاهتمام بأن تكون علوم الدّين موقفاً مسؤولاً في تحدّيات الواقع الدنيويّ. والتّفكير في الإيمان العمليّ كان مرحلة مخاض لتاريخ العراق والنّجف والدّول العربيّة، في حِراك اجتماعيّ صارت فيه العقلانيّة الدينيّة قوّة ذات مدخليَّة في صناعة التاريخ وظهور مشهد مختلف، لذا لا يمكن المعرفة الكاملة بالاستجابات الاجتماعيّة للنّجف، من تطوّرات الدولة وظهور مجلات وإصدارات الفكر الجديد، بدون استيعاب محطّات الأضواء والإنارة لحركات الإصلاح الفقهيّ التي كانت تجهد أن لا تُكرّر الحوزة موقف الأزهر المغازلة للسّلطة السياسيّة في هجائها لروّاد الإصلاح، أمثال الأفغاني ومحمد عبدُه والسيّد الخميني.

فتوسعات العلوم وتقارب الجغرافيات يُحتِّم توسعة فقهيَّة، إن لم تحصل، فستحوّل الفكر الدينيّ إلى مجرّد تكديس كتبٍ وضجيجٍ صوتيّ، إن لم يكن تقويض الدّين كُلّه، وبالتأكيد، كان السيّد فضل الله من جيلٍ يرى ما حصل من انقلابٍ دنيويٍّ ضد الدّين في تُركيا والدول العربية، الأمر الّذي كان له تأثير هائل في ضرورة تطوير الفقه في مسائل المُستجدّ الاجتماعيّ وقضيّة الدّولة، حيث لم تعد المسألة اختياريَّة، فإما أن يأكُل الفقه الانعطاف السياسي، أو أنّ الانعطاف السّياسيّ هو من يأكُل الفقه. وهو تشنّجٌ كبير يُحتِّم تعميق عقلنة النّشاطاتِ الدينيّة، والإصرار على ترسيخ فقه الحوار والمشاركة، الّتي تضمن واقعيّة الإيمان وليس لفظيّة الفتاوى. ولعلّه هنا سنفهم كلمة الأسف العميقة للسيّد الشّهيد محمد باقر الصدر لمغادرة العلامة فضل الله إلى لبنان: "كلُّ مَن خرجَ من النّجف خسِرَ النجف، إلا فضلُ الله خسرته النّجف"، وهي كلمة عميقة يمكننا اليوم لمس مجموعة الآلام والجراح الّتي اشتغل محمد حُسين فضلُ الله على التَّحذير منها أو تطبيبها منذ منتصف القرن العشرين، من قبيل:

1 - إنّ فقه التّعايش لم يتعمَّق، وانكفأت النجف على نماذج احترابيَّة وتصادمات ومنافسات شرخت العُمق الإيماني والأخلاقي بين المؤمنين.

2 - وإذا كان فضل الله استطاع أن يبني لوحده نهضة مشاريع اقتصاديّة للفقراء والأيتام ودعم الدراسات والتعليم، فإنّ هذا العمل لن يظهر في النّجف إلا بعد مرحلة متأخّرة، ولا زال حتى الآن يحمل تشوّهات شخصنة الأمور، وليس عملاً مؤسَّساتيّاً مستقلاً عن الأفراد، كما استطاع العلامة فضلُ أن يُنجزه بنجاحٍ لافت، ولا زال معين خيره لم ينضب حتى بعد رحيل فقيه الحوار والعقلانيَّة، رحمه الله.

3 - وحتى بعد تلقّي النّجف ضربات سياسيَّة عديدة، فإنَّ فقه التّعايش لم يتعمَّق كالَّذي طرحه السيّد فضل الله، وكان له صدى لبنانيّ وعربيّ وعالميّ كبير، حيث بقي مُنجز فضل الله له ريادة في الكمّ والكيف حتى ساعتنا هذه.

4 - استطاع فضل الله أن يكون سبّاقاً إلى نقد الحركاتِ الإسلاميّة واستشراف عوائقها، وهو أمر لم يتحقَّق في النجف، لندخل في ورطة العمل السياسيّ غير المنقود، وبالتالي تداعيات جُملة من الأمراض الّتي تطرَّق السيّد محمد حسين فضل الله إلى أغلبها، وكان يُمكن أن نستفيد منها قبل الدّخول في نفق الاستحواذ السّلطويّ.

5 - لعلَّ محمد حسين فضل الله من النَّماذج النّادرة التي جمعت جمال العِبارة ورعاية الأخلاق ومحبّة النّاس، لينسجم البُعد الاجتماعيّ مع المعرفي، والفرديّ مع الجماعيّ، ويكون للفقه دور حقيقيّ في صنع واقع تاريخيّ مختلف.

6 - لقد كان ظهور فقيه العقلانيّة والحوار جزءاً من إرهاصات صدمة صراع المدّ القوميّ ضدّ التراث، وتكوين الأحزاب الدينية، وتعرض سقراط الثاني محمد باقر الصدر لحملات التّشويه ثم التّصفية الجسدية، وهو تاريخ له مدخليّته الكبيرة في تحقّق انعطافة في التفكير الدينيّ ومكانة الفقيه. لذا، جعل فضل الله من السياق التاريخي عنصراً من عناصر فهم النصوص وتحديد الموقف الفقهيّ الجديد، كما صنع ـ رحمه الله ـ بالنّسبة إلى إرث المرأة من الرّجل، ورفضه تحليل الأسهم في البنوك الربويّة التي حلَّلها السيد الخوئي، ورفضه لمسائل الحيل الشّرعيّة، فقال العلامة فضل الله بعدم صحَّة زواج الصّغيرة لغرض إمكانيّة النظر إلى أمّها، و[تحدّث عن] مسألة حقّ الدخول في السلطة، وغير ذلك من مسائل لم تتطوَّر وتختلف لولا إدخال عنصر التاريخ فيها، لذا لا بدّ من النزول إلى التاريخ كي يكون الفقه واقعيّاً مُمكن التّأثير والامتثال.

7 - وبالتالي، تبرز أفكار السيِّد محمد حسين فضل الله، لو وضعناها في سياقٍ تاريخيّ من ثورة العشرين، وثورة تموز، وأزمة صعود البعثيّين، وظهور السيد الخميني، وبالتّالي، آن للنجف أن تستفيد من ثمرتها اليانعة في مكانة فقه التّعايش وأهميّة الدّور الأخلاقي والحركي للفقيه، الّذي يتغلَّب على غول التشوّه المالي والسياسيّ، ولا يرضخ لتبعية الجُهال ودكتاتورية الضغط الاجتماعي للعوام، حفاظاً على مبدأ رجوع الجاهلِ إلى العالِم وليس العكس، وهو ما يحتاجه واقع المسلمين اليوم، بما يتجاوز حيل شعاراتهِم.

شُكراً للسيِّد محمد حسين فضلُ الله)رض) الّذي علّمنا أنَّ الجروحَ صوتُ غُفران، وأنَّ طاقة الإيمان يمكن أن تصنع أملاً تاريخيّاً كبيراً أفضلَ مما كان، فينهزم غول التخلُّفِ وغول الفسادِ وغول التوحّشِ، وينتصِرُ الإنسان.

*إنَّ الآراء الواردة في هذا المقال، لا تعبّر بالضَّرورة عن رأي الموقع، وإنما عن وجهة نظر صاحبها.

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية