أن يعيش المرء رحابة الصَّدر، وسعة القلب والأفق، ورقّة المشاعر، فهذا شيء يبرز أصالة الذّات وحيويَّتها وجدارتها لتحمُّل الدّور والمسؤوليّات الملقاة على عاتقها، والتأثير في الحياة بالشكل الّذي يترك أثراً إيجابياً فيها، يعود بكلّ نفعٍ وخير على الوجود كلّه...
هذه الشَّخصيّة الَّتي تتميَّز بتلك الخصائص، تنطلق بكلّ مرونة وسهولة للدّعوة إلى الله تعالى، وتجتذب حولها كلّ النّاس، مهما كانت طباعهم وخلفيّاتهم، بالكلمة الطيّبة، والقلب الرقيق الكبير، الّذي لا يصدر عنه سوى اللطف والمحبّة الّتي تتّسع لكلّ الطّباع، مهما كانت، لتليّنها وتعطيها كلّ عاطفة ورحمة رقيقة تمنحها الحياة، وتفتح آفاقها على كلّ خير.
هكذا كان رسول الرحمة محمّد(ص)؛ كان صاحب القلب الرقيق الّذي استوعب كلّ الطّباع، ورفد الواقع كلّه بالمحبّة والعطف والخلق الرفيق، الّذي ينزع كلّ قلق وتوتّر وغلٍّ من الصّدور الضيّقة والعقول المقفلة.
إنّ صاحب القلب اللّيِّن، يكون الأقرب تواصلاً واتصالاً بالله تعالى، حيث يعيش الصّفاء والنقاء والطَّهارة، وحيث الرحمة تسكن فيه، وتنطلق لتعمَّ كلّ الخلائق، وتتدفّق فيوضاتها عليهم، فالرحمة ليست شعوراً مجرداً، بل حركة في الواقع تعطيه ما يلزم من أجل سلامه وأمنه، وتتّجه لتفتح القلوب والعقول، وتواجه كلّ عصبية وغلّ وجهل.
وكما جاء في الحديث القدسي: "إذا أردتم رحمتي، فارحموا خلقي". في المقابل، فإنّ قساوة القلب لا تجلب إلا المشاكل والتّعقيدات والسيّئات، وإرباك العلاقات بين الناس، لذا، لا يمكن أن يتّصف بها الإنسان المؤمن الّذي يواجه كلّ أذى ويرفضه.
يقول الباري عزَّ وجلَّ في كتاب العزيز: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ}[آل عمران: 159].. وفي تفسيرها، يقول المرجع السيد محمد حسين فضل الله(رض): "...الصّورة المشرقة المتمثّلة في رسول الله(ص)، في قلبه الكبير الرحيم الرقيق الَّذي يتّسع لكلّ مشاكل المسلمين وأخطائهم، فلا يتعقّد، ولا يتشنّج، ولا يضيق، ولا يقسو، بل ينفتح، ويتّسع، ويرقّ، ويلين، وفي أسلوبه الرقيق الّذي يتفايض بالأحاسيس الطيبة، والمشاعر الطاهرة، والنبضات الرحيمة، فلا تتحرك كلماته من موقع قسوة لتؤذي المشاعر، ولا تنطلق من حالة فظاظة لتدمي الإحساس، بل هو اللين والرحمة واللطف والعاطفة الحميمة، التي تدخل إلى القلوب بكلّ عفوية وبساطة ومحبّة.
وتلك هي شخصيّة الإنسان الرساليّ، في ما يريده الإسلام للرّسالة من سمات في حركة الرسول والداعية، فقد ينبغي أن نتعلّم من شخصيّة رسول الله(ص) في خطواته العمليّة في أسلوبه في الدعوة، أنَّ علينا التوقّف أمام حقيقة إنسانيَّة إسلاميَّة، وهي أنَّ أخلاقية الرسول أساسيَّة في حركة الرسالة، فلا يكفي في نجاحه أو نجاحها، أن يملك الفكر العميق الّذي يستطيع من خلاله أن يقنع الآخرين بالحجَّة والبرهان، أو يملك القوّة العظيمة التي يسيطر بها على خصومه بالوسائل العنيفة القاسية، بل يجب أن يتصف بالأخلاق العالية الّتي لا تعيش في خارج ذاته بطريقة تمثيليّة ظاهريّة، بل تتعمّق في داخل الذات رحمةً، ومحبةً، وانفتاحاً على الناس، ووعياً للظروف الموضوعيّة المحيطة بهم..
{فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ}، أي بسبب الرحمة الّتي رحم الله بها المسلمين الَّذين اتبعوك وآمنوا بك، مما أودعه في شخصيّتك الرساليّة في محبّتها لهم، وانفتاحها على قضاياهم.. {لِنتَ لَهُمْ}، فكنت الرقيق في أسلوبك وكلامك معهم وخطابك لهم، والرقيق في نبضات قلبك أمام آلامهم وأحلامهم ومشاكلهم، والمتسامح معهم إذا أخطأوا، والمتساهل معهم إذا خالفوا تعاليمك.. وذلك هو سرّ العظمة في أخلاقه النبويّة وروحيّته الإنسانيّة وسلوكيّاته الإسلاميّة.. {وَلَوْ كُنتَ فَظّاً}، أي فظّ اللسان والطباع، خشن المعاملة، سيّئ الخلق.. {غَلِيظَ الْقَلْبِ}، في قسوة الإحساس الداخلي في خفقاته ونبضاته بالطريقة السلبيّة.. {لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ}، أي لتفرَّقوا عنك، لأنَّ الناس يبتعدون عن أيّ شخص يغلق قلبه عنهم، ويقسو في المعاملة معهم، ويضغط بالخلق السيّئ على مشاعرهم، لأنّ النفس مجبولة على النّفور ممن يسيء إليها، كما هي مجبولة على حبّ من أحسن إليها..
وهكذا كنت ـ يا محمد ـ تمثِّل الرسول القائد الَّذي ينطلق بروحيّة الرسالة وعفويّة الإنسانيّة، لاحتضان الناس الذي اتبعوه وعاشوا معه، كوسيلة من وسائل تأكيد قوة الرسالة في جمهورها، والتزام جمهورها بقيادتهم الحكيمة الحميمة".. [تفسير من وحي القرآن، ج6، ص339ـ 342].
لن يستطيع المرء التأثير في الآخرين، ما لم يكن يعيش الأخلاق، ومن ذلك الرحمة، والقلب الطاهر النظيف، والسّلوك الحي والعملي في الحياة، إذ لا يعقل أن يدعو الغير إلى الخير، في وقت يعيش ظلام القلب، وجهالة العقل، وانسداد الأفق، وخشونة الأخلاق، وغلاظة المشاعر والسلوكيات.
وفي أجواء ولادة الرسول الأكرم محمد(ص)، الّذي امتدحه الله تعالى بقوله: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ}[القلم: 4]، هلا ننفتح على خلق رسول الله(ص)، لنأخذ منه ونقتدي به!؟ وهلا ننفتح على قلبه الرّحيم الرقيق، فنأخذ منه رحمةً نلطّف بها واقعنا المأزوم المثقل بالخشونة والقساوة على الصّعد كافة...