يتواصل الحديث القرآنيّ عن سوء عاقبة المعرضين عن ذكر الله، الَّذين أغلقوا قلوبهم عن مواطن الرَّحمة والمحبَّة، فأصبحت مغلقةً مغلَّفةً بغلافٍ يمنعها من سماع الحقِّ واتّباع طريقه: {وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ}[البقرة: 88]، وأغلقوا عقولهم، فلم يفتحوها أو يحركوها في طريق التّفكير السَّليم والصَّحيح الّذي يرفع من مستوى حضورهم في الحياة، فيغنيها بالمعرفة النّافعة الّتي تفتح آفاق الإنسان على الإبداع والعطاء والخير.
أمَّا المقبلون بكليَّتهم على الله تعالى، فهم المؤمنون حقّاً، الَّذين فتحوا مشاعرهم وقلوبهم وعقولهم وكلَّ مداركهم على كلام الله وتعاليمه ومواطن عظمته ورحمته، فأيقنوا أنَّ الله تعالى هو الخير كلّ الخير، وهو الرّحمة كلّ الرّحمة، وهو الحقّ كلّ الحقّ، فعملوا ما بوسعهم، وبكلّ طاقاتهم وجوارحهم التي أعطاهم الله إيّاها، للوصول إلى طاعته، وأداء شكره وحقوقه على الوجه الكامل، فالرّبُّ الّذي يُعبَد هو الله تعالى، والربّ الّذي يُشكَر هو الله، والربّ الّذي يُحمَد هو الله تعالى.
ويظنّ البعض من المعرضين أنّه باتّباعه لشهواته وأهوائه، والسّعي لإشباع أطماعه وحساباته الضيّقة، ونسيانه لربِّه، وعدم شكره إيَّاه، قد حقَّق نفسه ووصل إلى غايته النهائيّة، وهو في الواقع يعيش قمّة الخسارة للذّات، وبالتّالي، يحيا ضيق الأفق والمحدوديّة، ولا يرتوي من دنياه، ويخسر الدّنيا كما يخسر المصير والآخرة.
وفي معرض تفسيره للآية المباركة من سورة طه: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى}، يقول العلامة المرجع السيّد محمد حسين فضل الله: "{وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي}، الّذي أنزلته عليه، فلم يحاول أن يتفهَّمه ويعيه ويلتزمه كخطٍّ للحياة، ولم يحسب حساب الله في كلِّ صغيرةٍ وكبيرةٍ من عمله، بل حسب حساب هواه وشيطانه الّذي يغويه ويضلّه.. {فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً}، أي ضيِّقة، لأنّه لا يحصل على شيءٍ منها إلا وتطلَّعت نفسه إلى شيءٍ آخر، فيشعر بالقلق والحسرة إذا لم يحصل عليه، فإذ تحقَّق له ذلك، انتقل إلى شيءٍ آخر، فو محاصَر بحاجاته وتمنّياته في ما يخلد فيه إلى الأرض، فلا يتجاوزها إلى الآفاق الرّحبة الّتي ينطلق فيها إلى الله سبحانه، ولذلك، فإنّه يبقى مختنقاً بالآفاق الضيّقة".
إنَّ مصير الإنسان يصنعه بنفسه، والمُعرِض عن ذكر ربّه عاقبته وخيمة بما جنت يداه، وبما كسب من السيِّئات والآثام، ولا يُبصر يوم القيامة أمامه نتيجة ثقل السيّئات، بما أبعد نفسه عن مواقع رحمة الله.
ويصوِّر لنا القرآن الكريم هذه العاقبة بقوله تعالى: "{وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى}[طه: 124]، لا يهتدي الطَّريق إلى الجنَّة، لأنَّ الطّريق مسدود أمامه بما وضعه من حواجز أمام نفسه في طريق الوصول إليها من خلال أعماله. {قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً}، ربما يظهر من هذه الآية أنَّ العمى هنا هو عمى الحسّ، بدليل مقارنة الإنسان له بالبصر في الدّنيا، فيأتي بذلك الاعتراض بأنَّ الظَّاهر من الآيات التي تتحدَّث عن يوم القيامة، كقوله تعالى: {رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا}[السجدة: 12]، وقوله تعالى: {اقْرَأْ كَتَابَكَ}[الإسراء: 14]، أنَّ هناك بصراً في يوم القيامة، ثم كيف يأتي هذا الكلام من الإنسان الَّذي كان بصيراً في الدّنيا؟ وربما يوجّه ذلك بأنَّ من الظَّاهر المسلّم به من الكتاب والسنَّة، أنَّ النّظام الحاكم في الآخرة غير النّظام الحاكم لها في الدّنيا الّذي تألفه في الطّبيعة".
ويتابع سماحته(رض): "أمَّا ما نرجِّحه في المسألة، فهو أنَّ التّعبير وارد على سبيل المجاز من ناحية العمى والبصر القلبيّين اللّذين يتَّصلان بمنطقة الوعي الفكريّ للإنسان، لا بمنطقة الرّؤية الحسيّة، وليس هذا التّعبير بعيداً عن الأسلوب القرآني، فقد جاء في قوله تعالى: {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}[الحج: 46]، ما يوحي بأنَّ العمى الفكريّ والرّوحيّ ملحوظ في القرآن، بل هو الأبرز في أجواء الحديث عن الكافرين الَّذي يعتبرهم لا ينفتحون على الطاقات الحسّيّة من السّمع والبصر بشكلٍ واعٍ، فإنَّ لهم عيوناً لا يبصرون بها، ولهم آذان لا يسمعون بها، كما أنهم لا ينفتحون على الطاقة الفكريّة التي يملكونها، فإنَّ لهم قلوباً لا يعقلون بها".
مما تقدَّم، يتبيّن صورة الحشر للإنسان المُعرِض عن ربِّه، بحيث يحصد ما يزرع في دنياه، فكما يكون في دنياه أعمى البصيرة، لا يتحرَّك وعيه وعقله وقلبه بذكر الله، ويستغرق في هامش الحياة وزخارفها، يكون مصيره أن يحُشَر أعمى البصيرة، فلا يحصل على الفوز بنعيم الله ورضوانه ورحمته، ويكون مطروداً ومنبوذاً في كلِّ ذلك.
من هنا، تأتي أهميّة أن يفتح المؤمنون بصائرهم ووعيهم على كلِّ خير، وعلى كلِّ ما من شأنه أن يُعمِّق علاقتهم بالله، ويركِّزها على أسسٍ متينةٍ وصالحة، كي يحصدوا الجزاء الأوفى في الفوز يوم الحشر، حيث تكون بصائرهم مفتوحةً على رضوان الله تعالى.
ويضيف المرجع فضل الله: "{قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا}، في ما يعنيه النِّسيان من غفلةٍ عنها، ومن بعدٍ عن الصّورة الحقيقيّة للمضمون الفكريّ لهذه الآيات، لأنّه لا يملك الرّؤية السّليمة الّتي تجعله يبصر مواقع الهدى في كلمات الله، أو لأنَّه أهمل التركيز عليها من خلال أجواء اللامبالاة الّتي يمارسها تجاه الدَّعوة الإلهيَّة.
{وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى}[طه: 126]، ولهذا كان جزاء ذلك هو إهماله يوم القيامة، ونسيانه العمليّ من قبل الله، بحيث لم يفتح الله له قلبه للأجواء الرّوحيَّة المنفتحة على السَّعادة والطَّمأنينة الرّوحيّين، كما لم يفتح قلبه لله في دار الدّنيا، فكان العمى في الآخرة نتيجةً للعمى في الدّنيا، كما كان نسيانه لله هناك سبباً في نسيان الله له هنا، من ناحية عمليَّة، والله العالم بحقائق آياته".[تفسير من وحي القرآن، ج 15، ص 168 ـ 171].
فلنحذر من أن نكون من أهل الإعراض عن ذكر الله تعالى، ولنعمل كي نكون من أهل الإقبال على ذكره وشكره، والإخلاص له، ولنراجع أنفسنا وأحوالنا ومواقفنا ومدى قربنا من الله، كي نتزوَّد من التّقوى والعمل الصّالح النّافع الَّذي يكفل لنا سلامتنا وسعادتنا في الدّنيا، ويضمن سلامتنا ومصيرنا في الآخرة، فنحشر في عالم الرّضوان والرّحمة، ونكون من أهل البصيرة المفتوحة على نعيم الله تعالى.
*إنَّ الآراء الواردة في هذا المقال، لا تعبِّر بالضَّرورة عن رأي الموقع، وإنَّما عن وجهة نظر صاحبها.