[يقول] القرآن الكريم: {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا
يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ}[فصِّلت: 35].
إنّه من التوفيق الإلهي أن تقف أمام التحدّيات والكلمات القاسية التي تُوجّه إليك،
وأمام الوضع الشّديد الذي تعيشه في مواجهة خصومك، أن تضبط أعصابك، وتمنح نفسك فرصةً
للتّفكير وللهدوء، وتحاول أن تبرّد كلَّ كيانك، وأن تتعامل مع الآخر بالكلمة
الطيّبة والأسلوب الطيّب والجوّ الطيّب، ولتفكّر بالأسلوب الأفضل لتحويل هذا
الإنسان الخصم إلى صديق.
وهذا من التّوجيهات الإسلاميّة الّتي لو وَعَاها المسلمون في حياتهم السياسيّة
والاجتماعيّة والدينيّة وغيرها، لاستطاعوا أن يحوِّلوا العالم كلّه إلى أصدقاء
لقضاياهم ومشاكلهم، ولكنّهم لا يملكون الصّبر الذي يستطيعون من خلاله أن يواجهوا
ويعيشوا هذا الأسلوب.
وقد حرص الإسلام في توجيه الإنسان ألَّا يخلق خصوماً لقضيّته، ولذا، يقول سبحانه: {وَقُل
لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ
بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوّاً مُّبِيناً}[الإسراء:
53].
عندما تتكلَّم في البيت مع زوجتك وأولادك، أو في المنطقة التي تعيش فيها، مع جيرانك،
أو في الدّائرة التي تعمل فيها مع الموظّفين الذين معك، أو في المدرسة التي تعلّم
فيها، أو في كلِّ مجال من مجالات الحياة... عندما تريد أن تتكلّم، فإنّ للكلام
وجهَيْن؛ هناك وجه للكلام يمكن أن يثير الحساسيّات والمشاكل والخصومات والتحدّيات
للآخرين، وهناك وجهٌ آخر للكلام يُعطي الفكر ويُوصل الرِّسالة من دون أن يُثير
الحساسيّات والمشاكل، وذلك بشكلٍ هادئ طيِّب، يُثمِر نتائجَ إيجابيّة وطيّبة على
صعيد العلاقة مع الآخرين.
إذاً: {وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}، ادرسوا عقليَّة
النّاس الذين تخاطبونهم، ادرسوا تفكيرهم، واختاروا ما يناسب عقولهم وأفكارهم، مع
التّغاضي عن الحساسيّات التي تثير المشاكل، لأنّكم إذا تركتم القول الأحسن، ولجأتم
إلى الكلام الأسوأ، فإنَّ الشّيطان سوف يتدخّل ليثير الحساسيّات ويخلق الفتن، {إِنَّ
الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوّاً
مُّبِيناً}.
فعندما تريد أن تتحدَّث، لا تتحدَّث على مزاجك، ولكن عليك مراعاة مزاج الجوّ الّذي
تعيش فيه، ولكن ليس معنى ذلك أن تتنازل عن فكرك، ولكن أن تراقب الحساسيّات من حولك،
بحيث لا تثيرها مهما كانت الظّروف والنّتائج.
وفي الجانب التطبيقي لهذه المسألة، نطلُّ على ما جاء في سيرة النبيّ (ص)، وعلى لسان
الأئمّة الطاهرين (ع). فالنبيُّ (ص) عندما كان يواجِه الكافرين، ومنهم مَنْ هو
مُلحِد، ومنهم مَن هو مُشرِك بالله، ومنهم مَن يؤمنون بالله، ولكنّهم ينحرفون عن
الخطّ وهم أهل الكتاب، كيف كان يواجههم؟ إنّه (ص) كان يوظِّف الأسلوب القرآنيّ في
المواجهة: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ}[سبأ:
24]. السؤال: هل كان النبيّ (ص) شاكّاً في أنّه على الهدى وأنّهم على ضلال؟ هل يمكن
أن يكون شاكّاً والله تعالى يقول عنه: {وَالَّذِي جَاء بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ
أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ}[الزمر: 33]، فهو الذي يحمل شعار الصِّدق ويعيش
الصِّدق في نفسه ويُصدِّق به، وكان (ص) يؤمن بأنّه على الحقّ وأنّهم على الباطل؟!
بالطّبع لا، وهو لو قال لهم أنتم على ضلال وأنا على هدى، لانسدّ الطريق على الحوار،
ولم يكن هناك مجالٌ للحوار.. فالنبيُّ (ص) كان يريد أن يصل إلى إقناعهم، وكان من
رسالته أن يبحث عن أفضل الطرق ليصل إلى فكرهم وعقليّتهم، ولذا، أراد أن يجعلهم
يُثيرون الاحتمال المضادّ أمام عقيدتهم. ومن هنا، فإنّه (ص) استعمل الأسلوب الأحسن،
وهو أنّه يمكن أن أكون أنا على هدًى وأنتم على ضلال، أو أنا على ضلال وأنتم على هدى.
وبهذا، فإنّه يدفعهم إلى الحوار معه، وبذلك يجعلهم يهتزّون بقناعاتهم..
{وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ}. وهذا الأسلوب
نحتاجه في كلِّ مجالات حياتنا، فنحتاج عندما نختلف ألّا نُشعِر الطّرف الآخر بأنّنا
قد حكمنا عليه مسبقاً، بل علينا أن نُشعِره بأنّنا نحترم فكره كما نطلب منه أن
يحترم فكرنا، وذلك ضمن الطريقة التالية: "رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ
يحتمل الصّواب".
*من كتاب "خطاب العقل والرّوح".