تفسير
25/01/2024

s-2-a-106-107-108-109-110

s-2-a-106-107-108-109-110

‏ ‏

‏ معاني المفردات‏‏ ‏

{ ننْسخْ } : نُبدِّل؛ وقيل: نمحو‏1‏ ؛ وقيل: ننقل من حكم آيةٍ إلى غيره «فنبدِّله ونغيِّره... ولا يكون ذلك إلاّ في الأمر والنّهي والحظر والإطلاق والمنع والإباحة، فأمّا الأخبار فلا يكون فيها ناسخٌ ولا منسوخٌ»‏2‏ . ‏

{ آيةٍ } : «الآية: هي العلامة الظّاهرة، وحقيقتُه لكلِّ شي‏ءٍ ظاهرٍ هو ملازمٌ لشي‏ءٍ لا يظهرُ ظهوره، فمتى أدرك مُدركٌ الظّاهر منهما، علم أنّه أدرك الآخر الّذي لم يدركه بذاته، إذ كان حكمُهما سواء، وذلك ظاهرٌ في المحسوسات والمعقولات، فمن علم ملازمة العلمِ للطّريق المنهج، ثمّ وجد العلم، علِم أنّه وجد الطّريق، وكذا إذا علِم شيئًا مصنوعًا، علِم أنّه لا بُدّ له من صانع» - كما جاء في (المفردات) للرّاغب الأصفهانيِ‏‏3‏ ‏‏.‏

‏وقد تُطلق على كلِّ جملةٍ من القرآن دالّةٍ على حكمٍ: آيةٌ، سورةً كانت أو أيّ فصلٍ من فصول السُّورة، وقد تُقال لكلِّ كلامٍ منفصلٍ بفصلٍ لفظيٍّ، وعلى هذا، اعتبار آيات السُّورة الّتي تُعدُّ بها السُّورة. وقد تُطلق على المعجزة وعلى الظّواهر الكونيّة الدّالّة على وجود الله والمعاد وعلى الأشياء البارزة الملفتة للأنظار. ‏

{ نُنْسِها } : «النِّسيان: ترك الإنسان ضبط ما استودع» - كما ذكره الرّاغب‏4‏ -. والنِّسيان خلاف الذِّكر. وقد قيل: إنّ معنى { نُنْسِها } : نؤخِّرها، من النّس‏ء، وهو التّأخير. وقيل: { نُنْسِها } : نتركها‏5‏ ، وقد قيل: إنّ النِّسيان بمعنى التّرك مجازٌ‏6‏ . والله العالم. ‏

{ أمْ } - هنا - منقطعةٌ بمعنى «بل»، في مقابل المتّصلة الّتي لا بُدّ من أن تعادلها الألف، لتكون واردةً في مجال التّسوية بين شيئين. ‏

{ حسداً } : كراهية النِّعمة للغير، وحبِّ زوالها عنه، بخلاف الغبطة الّتي تكون في تمنِّي الإنسان ما عند غيره من نعمةٍ دون أن يتمنّى زوالها عنه. ‏

{فاعْفُوا و اِصْفحُوا} : قال الرّاغب: «العفو هو القصد لتناول الشّي‏ء... وعفوتُ عنه، قصدت إزالة ذنبه صارفًا عنه، فالمفعول في الحقيقة متروكٌ، و«عن» متعلِّق بمضمرٍ، فالعفو هو التّجافي عن الذّنب»‏7‏ . وذُكر في معاني العفو: المحو، وذُكر فيها: الفضل، وأنّ منه قوله تعالى: {خُذِ الْعفْو} [الأعراف: ‏‏199]‏8‏ .‏‏وأمّا الصّفح فهو الجانب من كلِّ شي‏ءٍ. وصفح كمنع: أعرض وترك، وصفح عنه: أعرض عن ذنبه‏‏9‏. فهما في معنًى واحدٍ في اللُّغة. وقال الرّاغب: «الصّفح ترك التّثريب، وهو أبلغ من العفو»‏10‏ . وعليه، فقد يعفو الإنسان ولا يصفح؛ فكأنّ الصّفح يزيل تبعات ذنب الغير معه من نفسه، في حين يعني العفو مجرّد ترك المؤاخذة والاقتصاص. وقال البيضاويُّ: «العفو: ترك عقوبة المذنب، والصّفح: ترك تثريبه»‏11‏ . وقد يؤيِّد أنّ الصّفح أبلغُ من العفو أنّ الآية في مقام بيان مكارم الأخلاق، فالمناسب هو التّرقِّي من الحسن إلى الأحسن، ومن الفضل إلى الأفضل‏‏12‏ . والله العالم. ‏

‏ حقيقة النّسخ ‏

{ما ننْسخْ مِنْ آيةٍ أوْ نُنْسِها نأْتِ بِخيْرٍ مِنْها أوْ مِثْلِها أ لمْ تعْلمْ أنّ اللّه على‏ كُلِّ شيْ‏ءٍ قدِيرٌ} . تدلُّ هذه الآية على أنّ الله عندما يرفع آيةً أو يزيلها، أو عندما ينسيها فلا يتذكّرها النّاس، ليبعدها عن الوجدان الفكريِّ لهم، لانتهاء دورها في المرحلة الجديدة، لأنّ مضمونها كان صالحًا لفترةٍ سابقةٍ على صعيد التّشريع والتّوجيه، فإنّه لا يترك النّاس بدون هدايةٍ جديدةٍ، ولا يفوِّت عليهم ما فيها من فوائد ومصالح، بل يأتي بخيرٍ ممّا رفعه عنهم أو أنساهم إيّاه، أو يأتي بمثلها في ما تنفتح عليه منه فوائد ومصالح؛ لأنّه قادرٌ على كلِّ شي‏ءٍ. ‏

‏ذلك هو المفهوم الحرفيُّ من اللّفظ، ولكن ماذا وراء ذلك؟ وما المناسبة فيه؟ ‏

‏إحتمالات في معنى النّسخ ‏

‏الاحتمال الأول: ‏

‏قد تكون القضيّة واردةً في الأجواء الفكريّة الّتي كان يعيشها اليهود في استنكارهم لنسخ الكتب والشّرائع السّماويّة بكتابٍ جديدٍ أو شريعةٍ جديدةٍ، كما ينادي به أتباع عيسى ومحمّدٍ عليهما السلام ، في ما جاء به عيسى عليه السلام من كتاب، وفي ما جاء به محمّدٌ صلى الله عليه وآله وسلم من كتابٍ وشريعة. وكانوا ينطلقون في ذلك ممّا زعموه أساسًا لاستحالة النّسخ؛ لأنّ ذلك يؤدِّي إلى نسبة عدم الحكمة إلى الله إذا رفع الحكم أو الآية مع بقاء الموضوع على ما هو عليه من المصلحة، أو يؤدِّي إلى نسبة الجهل إليه إذا كان يرى دوام المصلحة فتبيّن عدم دوامها في حالة ارتفاع المصلحة السّابقة. وعلى هذا الأساس، كانوا يستنكرون فكرة النّسخ بشكلٍ كلِّيٍّ، فجاءت هذه الآية لتبيِّن لهم وللمسلمين أنّ الله يمكن أن يُجري التّشريع على مراحل، فيجعل الحكم على أساس مصلحةٍ موقّتةٍ بزمانٍ من دون أن يبيِّن ذلك للنّاس، بل يتركهم لتصوُّرهم ليتخيّلوا استمراره، لحكمةٍ في ذلك، ثمّ تنتهي المصلحة السّابقة لتبدأ مصلحةٌ جديدةٌ بحكمٍ آخر، أو لينزل آيةً أخرى مماثلةً لما سبق في المصلحة أو أفضل منها فيرفع ما كان، وذلك على قاعدة الحكمة البالغة الّتي اقتضت الجعل في البداية والنِّهاية. ‏

‏الاحتمال الثّاني:‏

‏إنّ الآية واردةٌ في نطاق الأجواء الإسلاميّة في نسخ آيات القرآن، بإزالتها حكمًا وتلاوةً - كما يدّعيه البعض - أو تلاوةً لا حكمًا - كما يدّعيه بعضٌ آخر في آيات الرّجم‏‏13‏ - أو حكمًا لا تلاوةً - كما ورد في بعض الآيات الّتي ادُّعِي نسخها في القرآن-. وعلى هذا تكون الآية واردةً في تبرير ذلك، وبيان أنّ الله بيده رفع الآيات ووضعها، وأنّ الّذي أنزل الآية قادرٌ على أن يُنزل مثلها أو أفضل منها. ‏

‏ونحن لا نوافق على نسخ التِّلاوة مع نسخ الحكم أو بدونه؛ لأنّ ذلك يؤدِّي إلى الالتزام بتحريف القرآن ونقصانه، كما أنّ هذا النّوع من النّسخ لم يثبت إلاّ بخبر الواحد الّذي لا يثبت النّسخ به على ما هو رأي جمهور المحقِّقين ممّا هو مذكورٌ في محلِّه. ‏

‏أمّا نسخ حكم الآية فقط، فهو ممكنٌ في ذاته، ولكنّ هناك كلامًا بين العلماء في وقوعه في القرآن وعدمه، وهذا ما يُمكن الوقوف عليه في مواضعه المدّعاة في ما نستقبل من آيات. ‏

‏الاحتمال الثّالث:‏

‏إنّ المراد بالآية هو الآية التّكوينيّة، ممّا يدخل في عداد الظّواهر الكونيّة، أو المعاجز الإلهيّة الّتي يُرسل بها الأنبياء. ‏

‏وربّما يكون ذلك أوفق بمفهوم الآية عرفًا، وأقرب إلى مدلول كلمة «النّسخ»، من حيث تعلُّقها بالذّات بينما هي متعلِّقةٌ بالحكم على المعنى المتقدِّم مع فرض بقاء الآية في موقعها من القرآن، كما أنّها أكثر صلةً بقدرة الله الّتي كانت ختام الآية. وعلى ضوء هذا، يكون مدلول الآية هو أنّ الله قادرٌ على أن يزيل الآيات الّتي يخلقها أو يرسل بها رسوله ويأتي بخيرٍ منها أو مثلها في الكون، أو على يد الرُّسل. وبذلك تكون بعيدةً عن جوِّ النّسخ بمعناه المصطلح. ولكنّ كلمة «نُنسها» - الّتي هي من النِّسيان الّذي هو ضدُّ الذِّكر - قد لا تتناسب كثيرًا مع هذا التّفسير إلاّ ببعض الوجوه البعيدة. والله أعلم بمعاني آياته. ‏

‏الاحتمال الرابع:‏

‏ما ذكره العلاّمة الطّباطبائيُّ في تفسير (الميزان)، من شموليّة الآية للجانب التّشريعيِّ والتّكوينيِّ والإنسانيِّ، قال - ما نصُّه -: ‏

‏«إنّ كون الشّي‏ء آيةً يختلف باختلاف الأشياء والحيثيّات والجهات؛ فالبعض من القرآن آيةٌ لله سبحانه باعتبار عجز البشر عن إتيان مثله، والأحكام والتّكاليف الإلهيّة آياتٌ له تعالى باعتبار حصول التّقوى والقرب بها منه تعالى، والموجودات العينيّة آياتٌ له تعالى باعتبار كشفها بوجودها عن وجود صانعها وبخصوصيّات وجودها عن خصوصيّات صفاته وأسمائه سبحانه، وأنبياء الله وأولياؤه تعالى آياتٌ له تعالى باعتبار دعوتهم إليه بالقول والفعل، وهكذا. ولذلك كانت الآية تقبل الشِّدّة والضّعف. قال الله تعالى: {لقدْ رأى‏ مِنْ آياتِ ربِّهِ الْكُبْرى‏} [النّجم: 18]. ‏

‏ومن جهةٍ أخرى، الآية ربّما كانت في أنّها آيةٌ ذات جهةٍ واحدةٍ، وربّما كانت ذات جهاتٍ كثيرة، ونسخها وإزالتها كما يتصوّر بجهته الواحدة كإهلاكها، كذلك يتصوّر ببعض جهاتها دون بعضٍ إذا كانت ذات جهاتٍ كثيرة، كالآية من القرآن تُنسخ من حيث حكمُها الشّرعيُّ وتبقى من حيث بلاغتها وإعجازها ونحو ذلك. ‏

‏وهذا الّذي استظهرناه من عموم معنى النّسخ هو الّذي يفيده عموم التّعليل ‏

‏المستفاد من قوله تعالى: {أ لمْ تعْلمْ أنّ اللّه على‏ كُلِّ شيْ‏ءٍ قدِيرٌ*`أ لمْ تعْلمْ أنّ اللّه لهُ مُلْكُ السّماواتِ و الْأرْضِ} »‏14‏ . ‏

‏وهذا المعنى طريفٌ في ذاته، ولكنّ إرادته من هذه الآية غير ظاهرةٍ؛ لأنّها واردةٌ في الأشياء الّتي هي في معرض النّسخ والإزالة، ممّا يتعلّق بحياة النّاس بالمستوى الّذي يثير الجدل فيما بينهم، كما جاء الحديث به عن اليهود في حركة التّشريع، أو في تأكيد قدرة الله في خلقه، بحيث لا تجري الحياة على شكلٍ واحدٍ، بل يمكن أن تتغيّر وتتبدّل لتتحرّك ظاهرةٌ في مرحلةٍ معيّنةٍ لتحلّ محلّها ظاهرةٌ أخرى مماثلةٌ لها أو أفضل منها؛ انطلاقًا من قدرة الله. ‏

‏وقد لا نجد مناسبةً للتّعبير عن الأشخاص بالآية من خلال نشاطهم ودعوتهم أو الحديث عنهم وعن موتهم بعنوان النّسخ ونحوه. ‏

‏إنّها - والله العالم - إشارةٌ إلى ما يكون في معرض الثّبات والاستمرار، ليكون النّسخ مفاجئًا للنّاس، فيحتاج إلى إزالة مضمون المفاجأة من أذهانهم؛ لأنّ الله الّذي يملك القدرة على الإيجاد قادرٌ على التّبديل، ولا دلالة في التّعليل على ما ذكره؛ لأنّ الحديث عن قدرة الله يكفي في مناسبته وجود موضوعٍ له في مسألة التّشريع أو التّكوين. ‏

‏علاقة الآية بالعصمة في سهو الأنبياء ‏

‏وقد ثار جدلٌ كلاميٌّ حول الجانب المتعلِّق بالنِّسيان في الآية، بناءً على أنّ المراد النّسخُ المتعلِّق بالقرآن، وليس بالآيات الكونيّة، فتباينت الآراء، بين رأيٍ لا يجوِّز ذلك؛ لأنّه يؤدِّي إلى التّنفير عنه صلى الله عليه وآله وسلم وعدم الثِّقة بكلامه؛ لإثارته الاحتمال في كلِّ ما يبلِّغه للنّاس، فلا يبقى مجالٌ للطُّمأنينة به، وهذا ما ذهب إليه المحقِّق الشّيخ أبو جعفر محمّد بن الحسن الطُّوسيُّ في تفسيره (التِّبيان)‏15‏ ؛ وبين رأيٍ يجوِّز ذلك، وهو رأي جماعةٍ من المحقِّقين، فقد قالوا إنّ من الممكن أن يكون النِّسيان لحكمةٍ، واستدلُّوا عليه بقوله تعالى: {سنُقْرِئُك فلا تنْسى‏*`إِلاّ ما شاء اللّهُ إِنّهُ يعْلمُ الْجهْر و ما يخْفى‏} [الأعلى: 6 - 7]، أي: إلاّ ما شاء الله أن تنساه‏16‏ . وهذا بحثٌ من أبحاث علم الكلام المتّصلة بعصمة النّبيِّ عن الخطأ والسّهو والنِّسيان في الموارد الّتي أُريد له أن يزيلها من التّشريع في حياة النّاس. ونحن لا نريد الخوض في هذا البحث؛ لأنّ له مجالاً آخر. ‏

‏أمّا رأينا، مضافًا إلى أنّ الآية بعيدةٌ عن هذا الموضوع، وأنّ المراد الآية التّكوينيّة، فإنّ النِّسيان واردٌ - هنا - على سبيل الكناية في ما يريد الله أن يزيله من التّشريع بشكلٍ غير مباشر، في مقابل ما يريد إزالته بشكلٍ مباشرٍ عن طريق إبلاغ النّبيِّ بذلك من طريق الوحي. ولهذا فإنّ إنساء الله إيّاه، ليس فيه محذورٌ حتّى على رأي من يرى عصمة النّبيِّ عن السّهو والنِّسيان؛ لأنّه يعتقد ذلك في الموارد الّتي تدخل في نطاق الشّريعة والحياة العامّة الطّبيعيّة، لا في ما يدخل في نطاق الإرادة الإلهيّة الّتي تتدخّل في نسخ الحكم بهذه الطّريقة، ممّا يُعدُّ جزءًا من حركة الرِّسالة وطريقتها في إبلاغ الشّريعة سلبًا أو إيجابًا. ‏

‏وهناك قراءةٌ أخرى: «أو نُنْسئها»، من «الإنساء» وهو التّأجيل والتّأخير إلى أجلٍ معيّنٍ. وهذا ما نستبعده؛ لأنّها واردةٌ في سياق الاستبدال الّذي يعني الإزالة في المبدل منه أساسًا. والله العالم. ‏

‏ الآيات في سياقها التّفسيريِّ ‏

{ما ننْسخْ مِنْ آيةٍ} أي: نزيلها من الكون لتحلّ محلّها ظاهرةٌ أخرى، أو نزيلها من التّشريع؛ باعتبار أنّ تبديل مضمونها من التّداول في حياة النّاس إلى مضمونٍ آخر وحكمٍ آخر يمثِّل إزالةً عمليّةً للآية حتّى لو بقيت في القرآن لفظًا، لأنّها خرجت منه عملاً، لتبقى في مضمونها مجرّد تاريخٍ في التّشريع. أو نزيلها من الوجود كظاهرةٍ كونيّةٍ تتبدّل بظاهرةٍ أخرى، أو معجزةٍ تنتهي لتأتي مكانها معجزةٌ أخرى. ‏

{أوْ نُنْسِها} أي: نهملها من الذّاكرة أو نتركها، فلا يكون لها أيُّ أثرٍ أو اعتبارٍ في الواقع، {نأْتِ بِخيْرٍ مِنْها} في العناصر الّتي قد تمنح النّاس نتائج أكبر من الأولى، على مستوى حياتهم العامّة أو الخاصّة في آثارها الكوني‏ِة، بناءً على أنّ المراد الآية الكونيّة أو المعاجز، وفي التّسهيل أو التّيسير، أو في ملاءمتها للمرحلة الثّانية بشكلٍ أفضل من الآية الأولى الّتي كانت تنسجم مع المرحلة الأولى، بناءً على أنّ المراد الآية في مجال التّشريع، {أوْ مِثْلِها} ، في مستوى العناصر الكامنة في الآية الأولى، وإن اختلفت في طبيعتها من حيث خصائصها، كأيِّ شيئين متماثلين في الدّرجة مختلفين في الخصائص. ‏

‏وبهذا يُجاب عن السُّؤال الّذي يفرض نفسه أمام الكلمة، وهو أنّه إذا كان هناك تماثلٌ بين الحكم النّاسخ والمنسوخ فما فائدة التّغيير؟ بأنّ الخصائص قد تختلف لتكون في زمنٍ أو ظروفٍ منتجةً للغاية الّتي كانت من أجلها، وغير منتجةٍ في زمنٍ آخر أو ظروفٍ أخرى لحاجتها إلى خصائص أخرى؛ لأنّ للزّمن ولتغيُّر الظُّروف دورًا في فعليّة الخصائص مع وحدة الغاية. ‏

{أ لمْ تعْلمْ أنّ اللّه على‏ كُلِّ شيْ‏ءٍ قدِيرٌ} ، فمنْ يخلق الآية ويحرِّكها في الوجود أو في التّشريع الإنسانيِّ لمصلحةٍ معيّنةٍ في فترةٍ معيّنةٍ، ومنْ يُبدع آيةً أخرى في مكانها بعد إزالة الأولى، أو يشرِّع حكمًا تضمّنته الآية بعد نسخ الحكم الأوّل؟ فإنّ الله لا يعجزه شي‏ءٌ في خلقه، فإذا كان قادرًا على الإيجاد، فهو القادر - في الوقت نفسه - على إعدام فعليّة الوجود وتبديله بوجودٍ آخر؛ فإنّ الموجودات خاضعةٌ له في البداية في أصل وجودها، كما هي خاضعةٌ في النِّهاية بعد وجودها، فلا يعطِّل الوجود قدرته. ‏

‏ الحضور الدّائم للّه في حياة الإنسان ‏

{أ لمْ تعْلمْ أنّ اللّه لهُ مُلْكُ السّماواتِ و الْأرْضِ و ما لكُمْ مِنْ دُونِ اللّهِ مِنْ ولِيٍّ و لا نصِيرٍ} . ربّما كانت هذه الآية تأكيدًا للجوِّ الرُّوحيِّ الإيمانيِّ الّذي يريد القرآن مل‏ء الإنسان المؤمن به، في ما جاء في الآية السّابقة من قوله تعالى: {أ لمْ تعْلمْ أنّ اللّه على‏ كُلِّ شيْ‏ءٍ قدِيرٌ} ، فكانت هذه الآية من أجل دفع الإنسان إلى عيش هذه الحقيقة الإيمانيّة، من خلال توجيهه إلى التّفكير في ما حوله وفي ما فوقه من السّماوات والأرض؛ ليعرف أنّها ملك الله الّذي يجب أن يذعن له العباد ويخضعوا له، ويرجعوا إليه في كلِّ أمورهم، ولا يتمرّدوا عليه، ولا ينحرفوا عن سبيله مهما كانت درجة قوّتهم ومهما كانت قوّة الآخرين؛ لأنّهم سوف يواجهون الحقيقة الصّارخة، وهي أنّهم لا يملكون من دون الله وليًّا يرعاهم ويقوم بأمورهم؛ لأنّه - سبحانه - القائم على الخلق كلِّه، ولا يملكون من دونه نصيرًا ينصرهم منه؛ لأنّه خالق القوّة كلِّها، فلا قوّة أمامه مهما بلغت. ‏

‏وهذه طريقةٌ قرآنيّةٌ جديرةٌ بالوعي والتّأمُّل، وهي الإيحاء الدّائم بعظمة الله، بالإفاضة في ذكر صفاته المليئة بأجواء العظمة في كلِّ موردٍ يُذكر فيه اسمه في القرآن، ليظلّ الإنسان مشدودًا إلى عظمته في عمليّة تفكيرٍ وتدبُّرٍ وتأمُّلٍ، وليعيش الحضور الرُّوحيّ الدّائم، فلا ينفصل عنه في أيّة حالةٍ من الحالات. ‏

{أ لمْ تعْلمْ} يا محمّد، أو أيُّها الإنسان المؤمن، {أنّ اللّه لهُ مُلْكُ السّماواتِ و الْأرْضِ} ، من موقع أنّه الخالق لها والمدبِّر لأمورها والمهيمن عليها، فهو -وحده- الّذي يملكها بالخلق والسّيطرة والقدرة المطلقة الّتي تحتويها وتحيط بها من كلِّ جانب وتملك كلّ حركتها وكلّ ما فيها من المخلوقات، فكيف تعصونه، وتعبدون غيره، وتتمرّدون عليه - أيُّها النّاس - ولا تخافون عقابه؛ كأنّ عندكم الوليّ الّذي يتولّى حمايتكم، والنّاصر الّذي ينصركم إذا أراد الله أن يأخذكم أخذ عزيزٍ مقتدر؟! ألم تعلموا - أيُّها النّاس - أنّه ما لكم من إلهٍ إلاّ الله، {و ما لكُمْ مِنْ دُونِ اللّهِ مِنْ ولِيٍّ و لا نصِيرٍ} ؟! ‏

‏ الطّلبات التّعجيزيّة ظاهرةٌ تاريخيّةٌ ‏

{أمْ تُرِيدُون أنْ تسْئلُوا رسُولكُمْ كما سُئِل مُوسى‏ مِنْ قبْلُ و منْ يتبدّلِ الْكُفْر بِالْإِيمانِ فقدْ ضلّ سواء السّبِيلِ}‏.‏‏ ‏

‏تدلُّ الآية على أنّ قوم الرّسول محمّدٍ صلى الله عليه وآله وسلم سألوه شيئًا مشابهًا لما سأله قوم موسى عليه السلام ، ولكنّها تُجْمل طبيعة ذلك الشّي‏ء، فهل هو أن يروا الله جهرةً - كما عن بعضٍ -؛ أم هو أن يجعل لهم إلهًا على صورة آلهة الكُفّار - كما ذكره بعضهم-؛ أم أن يحقِّق لهم بعض الطّلبات التّعجيزيّة الّتي لا تبلغها قدرته الذّاتيّة، أو ممّا يستحيل حدوثه بصفةٍ طبيعيّة‏17‏ - كما حدّثنا الله عن ذلك في بعض الآيات الّتي أفاضت في الحديث عما كان يُقدّم إلى النّبيِّ محمّدٍ صلى الله عليه وآله وسلم من طلباتٍ ‏18‏-؟ ‏

‏ونحن لا نريد أن نسترسل كثيرًا في ما استرسل فيه المفسِّرون من الحديث عن هذا الأمر؛ لأنّنا لا نجد الجانب التّفصيليّ في هذه القضايا موضع أهمِّيّةٍ لاستيحاء الفكرة أو أخذ العبرة، فنجمل ما أجمله الله من القصّة الّتي لم تتحدّث إلاّ عن طبيعة هذا السُّؤال، وعلاقته باستبدال الإيمان بالكفر، ما يوحي بأنّ الطّلبات تتحرّك في اتِّجاهٍ يقترب بهم إلى الكفر، ويُخرجهم من خطِّ الإيمان. ‏

‏فلنأخذ منها هذه الفكرة الّتي يريدنا الله أن نعرفها، لنعرف شدّة معاناة الرّسول من قومه في ما أثاروه من قضايا تدخل في حساب الخطّة الشِّرِّيرة الّتي استهدفت إشغاله عن مهمّته، وتحدِّيهم لشخصه أمام الجاهلين الّذين لا يعرفون موازين الدّور النّبويِّ في حياة النّاس، أو محاولتهم السُّخرية منه بهذه الطّريقة، ولندرك - من خلال ذلك - طبيعة المجتمع الّذي عاش فيه النّبيُّ محمّدٌ صلى الله عليه وآله وسلم كما عاشه الأنبياء من قبله، ومدى الجهد الّذي بذله الأنبياء في تصحيح مسار الفكر، وتقويم منهج التّفكير، وفي رفع مستواهم، ثمّ نعرف مسؤوليّتنا، ونحن نسير في طريق الدّعوة إلى الله، أن نصبر حيث صبروا، وأن نعاني حيث عانوا، وأن نواجه ما واجهوه من أساليب التّعنُّت والتّعصُّب والسُّخرية، بالعقليّة الواعية الّتي تدرس خلفيّات المجتمع الفكريّة والعاطفيّة، لتقف أمامه من موقع هذه المعرفة بالحجّة القويّة، والكلمة الحكيمة، والموقف المرن، كما وقف القرآن أمام ذلك المجتمع. ‏

‏فلم يخاطبهم في هذه الآية بالحكم الّذي يترتّب على العقليّة الّتي أطلقت هذه الأسئلة، بل وضعهم وجهًا لوجه أمام القاعدة الكلِّيّة، وهي أنّ كثيرًا من الخطوات الّتي يسير عليها الإنسان في طريقة التّفكير والممارسة هي خطواتٌ تتحرّك في طريق الكفر، فلا بُدّ له أن يعي جيدًا، وهو يسير في هذا السّبيل، أنّ هذا يعني استبدالاً للكفر بالإيمان، ولا بُدّ له أن يعي أنّ من يتبدّل الكفر بالإيمان - في ما يوحيه كلٌّ منهما أو في ما يحقِّقه للإنسان - فقد انحرف عن الطّريق المستقيم وانطلق يتخبّط خبط عشواء في مجالٍ لا يعرف فيه أين يقف وأين يسير. ‏

{أمْ تُرِيدُون أنْ تسْئلُوا رسُولكُمْ} محمّدًا الأسئلة التّعجيزيّة الّتي لا تمثِّل انفتاحًا على المعرفة، بقدر ما تمثِّل حركةً لإثارة الغبار من حول النّبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم ، أو لجلب الاستهزاء به وبرسالته، أو لإعطاء المبرِّر العلنيِّ للجحود من خلال ما يعلمونه من أنّ النّبيّ لن يجيب على مطالبهم بالإيجاب؛ لأنّ الرّسول لا يملك القدرة الذّاتيّة عليه، ولن يستجيب الله لهم بذلك؛ لأنّه قد يكون محالاً من جهةٍ، وقد يكون نوعًا من العبث من جهةٍ أخرى. {كما سُئِل مُوسى‏ مِنْ قبْلُ} من الأسئلة المتعلِّقة بالمُحال، انطلاقًا من كفرهم وعبثهم به؟! إنّ هذا يمثِّل انفتاحًا على الكفر في إيحاءاته وطروحاته. {و منْ يتبدّلِ الْكُفْر بِالْإِيمانِ} ، فيخرج عن خطِّ الانتماء إلى الإيمان إلى خطِّ الكفر بشكلٍ مباشرٍ أو غير مباشر، {فقدْ ضلّ سواء السّبِيلِ} ، وابتعد عن خطِّ الاستقامة الّذي يؤدِّي إلى النّجاة، ووقع في التِّيه الفكريِّ والعمليِّ الّذي يؤدِّي به إلى الهلاك في الدُّنيا والآخرة. ‏

‏أمّا العبرة من ذلك، فهي أن يدرس المؤمنون المسلمون إيمانهم في خطِّ الإسلام، ليتعرّفوا عمقه وامتداده، وليلتزموا كلّ مفرداته العقيديّة والمنهجيّة والشّرعيّة؛ ليتحرّكوا في كلِّ أوضاعهم من خلال هذا الوعي العميق الواسع، وليحدِّدوا أسئلتهم في حركة المعرفة، بحيث لا تنحرف عن أصول العقيدة الّتي تمثِّل العمق الوجدانيّ في الانتماء، فإذا عرضت لهم شبهةٌ، طرحوها كمشكلةٍ يبحثون عن حلِّها بعيدًا عن حالة التّعنُّت والتّمرُّد والاستهزاء؛ لأنّ ذلك يمثِّل الانتقال العمليّ من الإيمان إلى الكفر، ويبتعد بهم عن صفاء إنسانيّتهم في التّصوُّر والمنهج؛ لأنّ الإنسان الّذي لا يتحرّك من موقع الحاجة إلى المعرفة بطريقةٍ جدِّيّةٍ، هو إنسانٌ لا يحترم معنى الإنسان في ذاته، وطبيعة التّوازن في حياته. ‏

‏ الموقف من حسد أهل الكتاب ‏

{ودّ كثِيرٌ مِنْ أهْلِ الْكِتابِ لوْ يرُدُّونكُمْ مِنْ بعْدِ إِيمانِكُمْ كُفّاراً حسداً مِنْ عِنْدِ أنْفُسِهِمْ مِنْ بعْدِ ما تبيّن لهُمُ الْحقُّ فاعْفُوا و اِصْفحُوا حتّى يأْتِي اللّهُ بِأمْرِهِ إِنّ اللّه على‏ كُلِّ شيْ‏ءٍ قدِيرٌ} . ‏

‏في هذه الآية جانبٌ من التّوعية العمليّة، وجانبٌ من الأسلوب الرِّساليِّ في التّخطيط السّليم لحركة الدّعوة الإسلاميّة في علاقة المسلمين بأهل الكتاب؛ فقد أراد الله لهم أن يفهموا أنّ كثيرًا من أهل الكتاب لم ينطلقوا في معارضتهم لهم من موقع الشُّبهة الفكريّة الّتي تجعلهم يقفون موقف الرّفض للدّعوة الّتي يعتقدون خطأها، أو موقف الحيرة الّتي تجعلهم يتردّدون بين القبول والرّفض، بل كان الدّافع لذلك الحسد القاتل الّذي يتحرّك من موقع المحافظة على الامتيازات الذّاتيّة القديمة الّتي يخافون عليها من الزّوال أمام قوّة الرِّسالة الإسلاميّة وتقدُّمها. ولهذا فإنّهم يودُّون - في داخل أنفسهم - لو يستطيعون إرجاعكم إلى الكفر والشِّرك والوثنيّة، ما يتنافى مع عقيدة التّوحيد الّتي يزعمون الإيمان بها، فلو كانوا منسجمين مع هذه العقيدة، لكان خطُّ الإسلام أقرب إلى خطِّهم في أغلب الأمور الّتي يؤمنون بها. ويؤكِّد القرآن - في هذا المجال - أنّ الحقّ قد تبيّن لهم بأسلوبٍ لا يرقى إليه الشّكُّ، الأمر الّذي يبطل كلّ حجّةٍ مضادّةٍ لديهم في العقيدة. ‏

‏ثمّ أراد الله للمسلمين أن يعفوا ويصفحوا؛ وذلك من موقع التّخطيط العمليِّ الّذي يعتمد على سياسة المراحل في حركة القوّة، فلا يمارس القوّة إلاّ بعد استنفاد الوسائل السِّلميّة الّتي تفتح للكافرين والمعارضين باب الدُّخول في الإيمان والسّير في خطِّ السِّلم، وعرّفهم أنّ عليهم أن لا يتشنّجوا ويستسلموا للانفعال النّفسيِّ المنطلق من الرّغبة في التّدمير على أساس ما يملكون من قوّةٍ؛ فإنّ للقضيّة حدًّا لا بُدّ أن تبلغه، وذلك عندما يأتي الله بأمره في تشريع القتال، سواءٌ في ذلك المشركون وأهل الكتاب، فإنّ الله لا يفوته أحدٌ مهما امتدّ في قوّته وطغيانه؛ لأنّه على كلِّ شي‏ءٍ قديرٌ. ‏

{ودّ كثِيرٌ مِنْ أهْلِ الْكِتابِ} من الّذين لم ينفتحوا على الرِّسالة من موقع الإيمان، ولم يعملوا على مواجهة الوحي بذهنيّة الحوار، ولم يرتاحوا إلى الدِّين الجديد الّذي لا يبقى معه مجالٌ لدينٍ آخر سابقٍ؛ باعتبار أنّه الدِّين الّذي يجمع خلاصة الأديان السّابقة ويزيد عليها، بما يحقِّق للحياة المتجدِّدة الحلّ للمشاكل الطّارئة الّتي اقتضاها تغيُّر الزّمن وتطوُّره، والّذي يضع حلولاً جديدةً للمشاكل السّابقة الّتي لم يعد الحلُّ الموضوع لها متناسبًا مع مرور الزّمن، الأمر الّذي يفرض تغييرها إلى الأفضل. وهذا ما يؤدِّي إلى زوال سلطانهم وتأثيرهم على المجتمعات، باعتبار أنّهم من أهل الكتاب الّذين هم المرجع للنّاس الّذين يلتزمون الدِّين ممّن يؤمنون بالله، ليعودوا إليهم في كلِّ ما يجهلونه من أمور الدِّين الّذي يملك هؤلاء علمه. وهذا ما جعلهم يفكِّرون {لوْ يرُدُّونكُمْ مِنْ بعْدِ إِيمانِكُمْ كُفّاراً} ، لتعودوا إلى الشِّرك الّذي كنتم فيه؛ لأنّ المسألة لديهم لا تنطلق من التزامهم الواقعيِّ بالإيمان بالله وبالرِّسالات وبالرُّسل ممّا يدعو إليه الإسلام ويؤمن به المسلمون، ليكون الإيمان أقرب إليهم في واقع المؤمنين من الشِّرك، بل هي عقدةٌ ذاتيّةٌ تربط الإيمان بهم في كلِّ خصوصيّاته، فمن كان معهم كان خروجه من الشِّرك فضيلةً، ومن لم يكن معهم كان خروجه مشكلةً لا بُدّ أن يواجهوها بالرّفض حتّى لو كانوا مؤمنين من ناحية المبدأ. ‏

{حسداً مِنْ عِنْدِ أنْفُسِهِمْ} ، كأيِّ شخصٍ يجد النِّعمة لدى غيره فيتمنّى أن تكون له، فلا يقبلون أن تنتقل النُّبوّة إلى محمّدٍ صلى الله عليه وآله وسلم ليكون كلُّ مجدها وشرفها وحركيّتها له ولأتباعه. إنّها عقدة الحسد الّذي ينهش قلوبهم فيتحوّلون إلى واقع العداوة، كما نُقل في أسباب النُّزول عن حيي بن أخطب وأخيه أبي ياسر، «وقد دخلا على النّبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم حين قدم المدينة، فلمّا خرجا قيل لحيي: أهو نبيٌّ؟ قال: هو هو. فقيل: فما له عندك؟ قال: العداوة إلى الموت»‏19‏ . وقد تطوّر أمره حتّى أنّه نقض العهد وأثار الحرب يوم الأحزاب. {مِنْ بعْدِ ما تبيّن لهُمُ الْحقُّ} ، ممّا عرفوه من دلائل نبوّته في التّوراة، وكانوا يستظهرون به على الّذين كفروا، فلمّا جاءهم ما عرفوا كفروا به. ‏

{فاعْفُوا و اِصْفحُوا} ، ولا تدخلوا معهم في حرب، بل سالموهم على أساس ما فرضته المعاهدة الّتي دخلتم فيها معهم، ما يلزمكم بالتّغاضي عن كلِّ نيّاتهم السّيِّئة وعقدتهم العدوانيّة، على الرّغم من قوّتكم في المجتمع المسلم المدنيِّ، والّتي تستطيعون من خلالها أن تنتصفوا منهم. والعفو والصّفح ينطلقان من جوٍّ واحدٍ، وإن كان قد يُقال - كما قدّمنا الكلام في معاني المفردات - أنّ الصّفح أبلغ من العفو، وعليه، فقد يعفو الإنسان ولا يصفح، فكأنّ الصّفح يزيل تبعات ذنب الغير معه من نفسه، في حين يعني العفو مجرّد ترك المؤاخذة والاقتصاص. ‏

{حتّى يأْتِي اللّهُ بِأمْرِهِ} عندما تأتي السّاعة الّتي يأذن الله فيها بجهادهم، من خلال نقضهم العهد من النّاحية العمليّة، وإعلانهم العداوة للمسلمين بالتّحالف مع المشركين ضدّكم، لتكون لكم الحجّة عليهم في صعيد الواقع. {إِنّ اللّه على‏ كُلِّ شيْ‏ءٍ قدِيرٌ} ، فهو يمهل عباده، فلا يعجِّل لهم العقوبة ولا يؤاخذهم بالعذاب؛ من خلال أنّه لا يخاف الفوت الّذي يوحي لصاحب الحقِّ بالاستعجال، ولأنّ الحكمة قد تدعو إلى ذلك من خلال المصالح العامّة المترتِّبة على ذلك في واقع التّعايش الطّبيعيِّ بين المسلمين وأهل الكتاب ما داموا سائرين على العهد في خطواتهم العمليّة؛ لأنّ الدّوافع السّيِّئة لا تكون أساسًا للعقاب. ‏

‏ أقيموا الصّلاة وآتوا الزكاة ‏

{و أقِيمُوا الصّلاة و آتُوا الزّكاة و ما تُقدِّمُوا لِأنْفُسِكُمْ مِنْ خيْرٍ تجِدُوهُ عِنْد اللّهِ إِنّ اللّه بِما تعْملُون بصِيرٌ} . ‏

‏في هذه الآية يعقِّب الله على أمره بالعفو والصّفح عن أهل الكتاب، بالأمر بإقامة الصّلاة وإيتاء الزّكاة، وبالوعد الحقِّ بأنّهم سيجدون عند الله كلّ ما يقدِّمونه أمامهم من خيرٍ؛ فإنّه بصيرٌ بما يعملونه، ولا يعزب عن علمه مثقال ذرّةٍ في الأرض ولا في السّماء. ‏

‏وهذه طريقةٌ قرآنيّةٌ تربويّةٌ، في كلِّ موردٍ من الموارد الّتي يوجِّه فيها الله بعض الأوامر أو النّواهي للنّاس، فإنّه يُتْبع ذلك بتكاليف أخرى تؤكِّد جانب الشّخصيّة الإيمانيّة العمليّة في نفس المؤمن، وبالحديث عمّا يلاقيه أمامه من الثّواب الموعود لدى الله؛ من أجل أن يظلّ منفتحًا على أعمال الخير بقوّةٍ روحيّةٍ تندفع إلى تحقيق إرادة الله، من موقع الطّاعة الواعية الّتي تواجه العقبات والمصاعب الدّاخليّة والخارجيّة بروحٍ إسلاميّةٍ تعرف النّتائج سلفًا، فلا تتزعزع ولا تضعف ولا تنهار. ‏

‏وقد لا نحتاج إلى الكثير من الجهد، لنعرف انسجام الصّلاة وإيتاء الزّكاة مع الأمر بالعفو والصّفح؛ فذلك لأنّهما يفتحان قلب المؤمن على الله من نافذة العبادة، وعلى الإنسان من نافذة العطاء، فيحصل له - من هنا وهناك - الجوُّ الرُّوحيُّ الدّاخليُّ الّذي يعرف كيف يعفو ويصفح ويتسامح قربةً إلى الله تعالى. ‏

{و أقِيمُوا الصّلاة} الّتي تقوِّي عنصر الخير وتدفعكم إلى الصّبر، وتفتح عقولكم وقلوبكم على الانقياد لله في ما يأمركم به من العفو والصّفح؛ لأنّ الصّلاة هي معراج روح المؤمن إلى الله، فيلتقي به في روحانيّة العبوديّة الخالصة الّتي تقرِّبه منه، وترتفع به إلى الدّرجات العلى، وتسمو به في آفاق الله حيث يتخفّف من كلِّ المشاعر الذّاتيّة الانفعاليّة، ليعيش التّأمُّل والتّفكير في تركيز العلاقات مع الآخرين على القاعدة الرُّوحيّة الثّابتة. ‏

{و آتُوا الزّكاة} الّتي تعيشون فيها روحيّة العطاء في تأكيد العلاقات المسؤولة بالآخرين، في مواجهة المشاكل الصّعبة الّتي يعانون منها، فتزدادون وعيًا لمتابعة الواقع العامِّ من حولكم في نظرتكم إلى هؤلاء، فلا تتحرّكون من داخل العقدة بل من داخل المصلحة العامّة في مواقع رضا الله. وذلك هو ما تقدِّمونه بين أيديكم لله امتثالاً لأوامره. {و ما تُقدِّمُوا لِأنْفُسِكُمْ مِنْ خيْرٍ} من الطّاعة والإحسان والخير المتحرِّك في الإنسان الآخر، {تجِدُوهُ عِنْد اللّهِ} ، ثوابًا ورضوانًا وجنّةً ونعيمًا. {إِنّ اللّه بِما تعْملُون بصِيرٌ} ؛ لأنّه الّذي يعلم ما تسرُّونه وما تعلنونه من قضايا الخير في الواقع الدّاخليِّ أو الخارجيِّ من ذواتكم، فيمنحكم جزاء ذلك خيرًا وإحسانًا. ‏

‏ ‏

‏ ‏

‏ ‏

‏1.‏‏انظر: ابن أبي حاتم الرّازي، عبد الرّحمن بن محمد بن إدريس (ت 327 هـ-)، تفسير ابن أبي حاتم، تحقيق أسعد محمد الطّيِّب، المكتبة العصريّة، صيدا - لبنان، (د ت)، ج 1، ص 199، ح 1053. وحكاه عن مجاهد.‏

‏2.‏‏الطّبري، جامع البيان، م. س، ج 1، ص 665.‏

‏3.‏‏الرّاغب الأصفهاني، المفردات، م. س، ص 33.‏

‏4.‏‏م. ن، ص 491.‏‎ ‎

‏5.‏‎ ‎‏نظر: ابن أبي حاتم الرّازي، تفسير ابن أبي حاتم، م. س، ج 1، ص 201، ح 1063 - 1064.‏

‏6.‏‏الفخر الرّازي، مفاتيح الغيب، م. س، ج 3، ص 227.‏

‏7.‏‏الرّاغب الأصفهاني، م. ن، ص 339.‏

‏8.‏‏الزُّبيدي، تاج العروس، م. س، ج 19، ص 686 - 687.‏

‏9.‏‏م. ن، ج 4، ص 121.‏

‏10.‏‏الرّاغب الأصفهاني، المفردات، م. س، ص 282.‏

‏11.‏‏البيضاوي، عبدالله بن عمر بن محمد الشِّيرازي الشّافعي (ت 682 هـ-)، أنوار التّنزيل وأسرار التّأويل، دار الفكر، بيروت - لبنان، (د ت)، ج 1، ص 383. ‏

‏12.‏‏أبو هلال العسكري، الحسن بن عبدالله بن سهل (ت بعد 395 هـ-)، معجم الفروق اللُّغوية الحاوي لكتاب أبي هلال العسكري وجزءًا من كتاب السّيِّد نور الدِّين الجزائري، ط 1، تحقيق ونشر مؤسسة النّشر الإسلامي التّابعة لجماعة المدرِّسين بقم المشرّفة، 1412 هـ-، ص 362. ‏

‏13.‏‏ابن الجوزي، نواسخ القرآن، دار الكتب العلميّة، بيروت - لبنان، (د ت)، ص 35 - 38.‏

‏14.‏‏السّيِّد الطّباطبائي، الميزان، م. س، ج 1، ص 250.‏

‏15.‏‏الشّيخ الطُّوسي، التِّبيان، م. س، ج 1، ص 397 - 398.‏

‏16.‏‏انظر: الشّيخ الطّبرسي، مجمع البيان، م. س، ج 1، ص 340.‏

‏17.‏‏انظر: الطّبري، جامع البيان، م. س، ج 1، ص 676 - 677. الشّيخ الطُّوسي، التِّبيان، م. س، ج 1، ص 402. الشّيخ الطّبرسي، مجمع البيان، م. س، ج 1، ص 344 - 345.‏‎ ‎

‏18.‏‏كما حكاه قوله تعالى: {و قالُوا لنْ نُؤْمِن لك حتّى تفْجُر لنا مِن الْأرْضِ ينْبُوعاً*`أوْ تكُون لك جنّةٌ مِنْ نخِيلٍ و عِنبٍ فتُفجِّر الْأنْهار خِلالها تفْجِيراً*`أوْ تُسْقِط السّماء كما زعمْت عليْنا كِسفاً أوْ تأْتِي بِاللّهِ و الْملائِكةِ قبِيلاً‏‏*‏‏أوْ يكُون لك بيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أوْ ترْقى‏ فِي السّماءِ و لنْ نُؤْمِن لِرُقِيِّك حتّى تُنزِّل عليْنا كِتاباً نقْرؤُهُ قُلْ سُبْحان ربِّي هلْ كُنْتُ إِلاّ بشراً رسُولاً} [الإسراء: 90 - 93]. ‏

‏19.‏‏الشّيخ الطّبرسي، مجمع البيان، م. س، ج 1، ص 347.‏

‎ ‎

‏ ‏

‏ معاني المفردات‏‏ ‏

{ ننْسخْ } : نُبدِّل؛ وقيل: نمحو‏1‏ ؛ وقيل: ننقل من حكم آيةٍ إلى غيره «فنبدِّله ونغيِّره... ولا يكون ذلك إلاّ في الأمر والنّهي والحظر والإطلاق والمنع والإباحة، فأمّا الأخبار فلا يكون فيها ناسخٌ ولا منسوخٌ»‏2‏ . ‏

{ آيةٍ } : «الآية: هي العلامة الظّاهرة، وحقيقتُه لكلِّ شي‏ءٍ ظاهرٍ هو ملازمٌ لشي‏ءٍ لا يظهرُ ظهوره، فمتى أدرك مُدركٌ الظّاهر منهما، علم أنّه أدرك الآخر الّذي لم يدركه بذاته، إذ كان حكمُهما سواء، وذلك ظاهرٌ في المحسوسات والمعقولات، فمن علم ملازمة العلمِ للطّريق المنهج، ثمّ وجد العلم، علِم أنّه وجد الطّريق، وكذا إذا علِم شيئًا مصنوعًا، علِم أنّه لا بُدّ له من صانع» - كما جاء في (المفردات) للرّاغب الأصفهانيِ‏‏3‏ ‏‏.‏

‏وقد تُطلق على كلِّ جملةٍ من القرآن دالّةٍ على حكمٍ: آيةٌ، سورةً كانت أو أيّ فصلٍ من فصول السُّورة، وقد تُقال لكلِّ كلامٍ منفصلٍ بفصلٍ لفظيٍّ، وعلى هذا، اعتبار آيات السُّورة الّتي تُعدُّ بها السُّورة. وقد تُطلق على المعجزة وعلى الظّواهر الكونيّة الدّالّة على وجود الله والمعاد وعلى الأشياء البارزة الملفتة للأنظار. ‏

{ نُنْسِها } : «النِّسيان: ترك الإنسان ضبط ما استودع» - كما ذكره الرّاغب‏4‏ -. والنِّسيان خلاف الذِّكر. وقد قيل: إنّ معنى { نُنْسِها } : نؤخِّرها، من النّس‏ء، وهو التّأخير. وقيل: { نُنْسِها } : نتركها‏5‏ ، وقد قيل: إنّ النِّسيان بمعنى التّرك مجازٌ‏6‏ . والله العالم. ‏

{ أمْ } - هنا - منقطعةٌ بمعنى «بل»، في مقابل المتّصلة الّتي لا بُدّ من أن تعادلها الألف، لتكون واردةً في مجال التّسوية بين شيئين. ‏

{ حسداً } : كراهية النِّعمة للغير، وحبِّ زوالها عنه، بخلاف الغبطة الّتي تكون في تمنِّي الإنسان ما عند غيره من نعمةٍ دون أن يتمنّى زوالها عنه. ‏

{فاعْفُوا و اِصْفحُوا} : قال الرّاغب: «العفو هو القصد لتناول الشّي‏ء... وعفوتُ عنه، قصدت إزالة ذنبه صارفًا عنه، فالمفعول في الحقيقة متروكٌ، و«عن» متعلِّق بمضمرٍ، فالعفو هو التّجافي عن الذّنب»‏