تفسير
25/01/2024

s-2-a-163-164

s-2-a-163-164

‏ ‏

‏ معاني المفردات‏

{و اِخْتِلافِ اللّيْلِ و النّهارِ} : بالذّهاب والمجي‏ء، والزِّيادة والنُّقصان. ‏

{ و الْفُلْكِ } : السّفينة والسُّفن، تُطلق على المفرد والجمع. ‏

{ و بثّ } : نشر وفرّق فيها. ‏

{ دابّةٍ } : كلُّ ما دبّ من الحيوان على الأرض. وقد أُطلق على الإنسان‏1‏؛ ولعلّه غير متعارفٍ. وغلب على ما يُحْمل ويُركب عليه. ‏

{و تصْرِيفِ الرِّياحِ} : تقليبها جنوبًا وشمالاً، حارّةً وباردةً، وتوجيهها إلى الجهات المطلوبة. ‏

{و السّحابِ} : الغيم. ‏

{ الْمُسخّرِ } : المذلّل بأمر الله تعالى، يسير إلى حيث شاء الله. ‏

‎ ‎

‏توحيد اللّه الرّحمن الرّحيم ‏

{ و إِلهُكُمْ } ، الّذي خلقكم ورزقكم وأبدع الكون كلّه وأوجده من العدم، ومنحه نظامه البديع في دقّته، المتنوِّع في أشكاله وألوانه وخصائصه وآثاره، وجعل الفطرة الكامنة في وجودكم العقليِّ والرُّوحيِّ دليلاً عليه وعلى وحدانيّته، {إِلهٌ واحِدٌ} ، لا مجال لتعدُّده، في الاثنينيّة الّتي قد يعتقدها البعض، أو في الآلهة الّتي قد يتصوّرها بعضٌ آخر بأنّها الوحدة الّتي لا تقبل التّجزئة ولا يمكن أن تنفتح على حركة العدد في امتداده، بل تنفتح على أعمقِ أعماق معنى الوحدة في العقل والإحساس والوجود. ‏

{لا إِله إِلاّ هُو} ، فهذه هي الحقيقة التّفصيليّة للتّوحيد الّتي لا بُدّ لكلِّ مؤمنٍ من أن يختزنها في وجدانه الإيمانيِّ، من أجل نفي الألوهيّة عن كلِّ ما يعتبره النّاس إلهًا، أو ما يمكن أن يمنحوه هذه الصِّفة في المستقبل، كاستغراقهم في خصائص الموجودات الذّاتيّة ممّا تمثّل فيها من عناصر العظمة الّتي توحي إليهم بالاعتقاد المنحرف، والتّصوُّر المشرك، وإثبات الألوهيّة لله وحده في تعيُّنه في ذاته، بحيث تنفي وحدتُه غيره من دون حاجةٍ إلى نفي الغير بطريقةٍ خارجيّةٍ. ‏

{الرّحْمنُ الرّحِيمُ} الّذي أوجدكم برحمته، وأنعم عليكم بنعمه، وهداكم إلى الحقِّ بهدايته، ووعدكم برضوانه وجنّته على امتداد الوجود كلِّه. ‏

‏وهذا هو التّصوُّر الإنسانيُّ للتّوحيد، في مضمونه الذّاتيِّ، في معنى الله، وفي حركته العامّة في مواجهة الآلهة المدّعاة معه، أو من دونه، للدُّخول في عمليّة مقارنةٍ بين الله وبين الآخرين، للوصول إلى النّتيجة الطّبيعيّة في احتقارهم في حجم وجودهم، وفي قدراتهم الذّاتيّة، وفي كلِّ ما يتمثّل فيهم، أمام عظمة الله المطلقة، فيتخفّف الإنسان من الشُّعور بأيّة علاقةٍ كبيرةٍ بهم، من خلال المعرفة العقليّة والشُّعوريّة بأنّهم مجرّد موجوداتٍ عاديّةٍ لا تملك لنفسها نفعًا ولا ضرًّا إلاّ بالله، وهذا ما جعل شهادة التّوحيد ممثّلةً بكلمة «لا إله إلاّ الله» دون غيرها من الكلمات. ‏

‏إنّ الآية تطرح الحقيقة الإلهيّة ببساطةٍ وعفويّةٍ، لا مجال فيها للتّكلُّف والتّعقيد، فها هي وحدانيّة الله تبرز واضحةً جليّةً لكلِّ من كان له فكرٌ ونظرٌ، عندما يدرس وحدة النِّظام الكونيِّ وتناسقه ووحدة الرِّسالات السّماويّة وارتكازها على قاعدةٍ واحدةٍ، وضعف القوى المنتشرة في الكون وسيرها إلى الفناء، ما لا يجعل لأيّة قوّةٍ مجالاً للاستعلاء الّذي يرتفع إلى مستوى الألوهيّة. ‏

‏أمّا رحمته تعالى، فإنّها تنساب في كلِّ مظهرٍ من مظاهر النِّعمة والرِّعاية والعناية بالإنسان، وفي كلِّ ما يحيط به من أوضاع تتّصل بحياته ومماته، ويقظته ومنامه، وأكله وشربه، وملبسه وملذّاته. وهكذا، فإنّها تعطي الصُّورة الواضحة على انطلاق الخلق كلِّه من موقع الرّحمة الّتي تريد أن تبني الإنسان على أساس الرّحمة، ليعمل النّاس على الوصول إلى هذا الهدف الكبير في نهاية المطاف. ‏

‏ القرآن والمنهج الفكريُّ للإنسان‏

‏وتأتي الآية الثّانية حاملةً دعوةً إلى العقل لأن يتحرّك في أجواء الكون، ليكتشف الله من خلال اكتشافه لأسرار خلقه، وتأكيدًا على أنّ قضيّة الإيمان هي قضيّة عقلٍ وفكرٍ لا قضيّة مزاجٍ وعاطفةٍ، وإشارةٌ ذكيّةٌ موحيةٌ بأنّ غفلة النّاس عن الله وابتعادهم عن سبيله ينطلقان من تعطيل العقل عن الحركة في اتِّجاه المعرفة، بالابتعاد عن الأجواء والوسائل الطّبيعيّة للمعرفة والإيمان، ولا يرتبطان بواقعيّة الفكرة المضادّة وقابليّتها للامتداد في وجدان الإنسان كحقيقةٍ فكريّةٍ حاسمةٍ. ‏

‏ونلاحظ في تفسير هذه الآية عدّة ملاحظات: ‏

‏1- حركة العقيدة في الظّواهر الطّبيعيّة:‏‏ ‏

‏إنّ الملحوظ في مفردات القضايا والظّواهر الّتي أثارتها الآية الكريمة أمام الإنسان هو أنّها تواجه النّاس في حياتهم اليوميّة، فتلفت أنظارهم بشكلٍ طبيعيٍّ، إلى أنّ الطّريق إلى معرفة الله لا يتوقّف على الاستغراق في الأجواء الفلسفيّة المجرّدة الّتي تبتعد بالإنسان عن حياته، ليضيع في متاهات الفرضيّات المتنوِّعة والأساليب المتضادّة، ولا يخضع للانطلاق إلى أجواء بعيدةٍ عن أجوائه الطّبيعيّة المادِّيّة، بل كلُّ ما هناك هو الالتفات الواعي إلى ما حوله من ظواهر الطّبيعة ومفردات الحياة الّتي تحيط به. ‏

{إِنّ فِي خلْقِ السّماواتِ} الّتي ترتفع فوقه، بكلِّ ما فيها من كواكب ونجوم خاضعةٍ لنظامٍ دقيقٍ محكمٍ رائعٍ، يدركه النّاظر إليه بعفويّةٍ في ما يشاهده من نتائجه وظواهره المتّصلة بحياته في نظام الشّمس والقمر وغيرهما من الكواكب، ويعرفه المتأمِّل الباحث الّذي يعرف ما وراء هذه الظّواهر من قوانين طبيعيّةٍ حكيمةٍ تضع كلّ شي‏ءٍ في موضعه، وتعطي كلّ قضيّة أسبابها. ‏

{ و الْأرْضِ } الّتي يعيش الإنسان عليها في ما يتمثّل فوقها من أسباب الحياة، وفي ما يكمن في أعماقها من الطّاقات الّتي تساهم في نموِّ الحياة واستمرارها، في ما تحشده من شروط الحياة للإنسان، في نظامٍ دقيقٍ يعيش الإنسان عظمته من خلال مشاهداته ومعاناته وإحساساته العميقة الّتي تقتحم عليه كيانه لتوحي له بعظمة الخالق الّذي يصنع ذلك كلّه. ‏

{و اِخْتِلافِ اللّيْلِ و النّهارِ} في الزِّيادة والنُّقصان، {و الْفُلْكِ الّتِي تجْرِي فِي الْبحْرِ بِما ينْفعُ النّاس} ، والقوانين الّتي تحكم مسيرة هذه الفُلك في البحر، وهي الّتي تحمل ما ينتفع به النّاس في معاشهم، أو تحملهم لتنقلهم من مكانٍ إلى آخر. {و ما أنْزل اللّهُ مِن السّماءِ مِنْ ماءٍ فأحْيا بِهِ الْأرْض بعْد موْتِها} ، عندما ترتوي به الأرض من خلال ما يتساقط عليها، وما يختزن في أعماقها ممّا تتفجّر منه الأنهار والينابيع. {و بثّ فِيها} أي: في الأرض، {مِنْ كُلِّ دابّةٍ} ، مع اختلاف أنواعها وأدوارها ومنافعها، {و تصْرِيفِ الرِّياحِ و السّحابِ الْمُسخّرِ بيْن السّماءِ و الْأرْضِ} . أمّا تصريف الرِّياح فهو تحريكها وتفريقها في الجهات بين حارّةٍ وباردةٍ، وليِّنةٍ وعاصفةٍ، وعقيمةٍ ولاقحةٍ؛ تبعًا للحكمة الإلهيّة الّتي تحرِّكها من خلال مصلحة النِّظام الكونيِّ في حاجات الأرض والإنسان والحيوان والنّبات والبحار والأنهار؛ وأمّا حركة السّحاب المسخّر بين السّماء والأرض، فإنّ لها أكثر من سرٍّ ومنفعةٍ في النِّظام العامِّ للحياة، سواءً من خلال ما تختزنه من مياه تنزل بالأمطار الّتي تروي الأرض، ممّا يحتاجه النّبات والحيوان والإنسان، أو من خلال ما تنشره من الظِّلِّ الّذي يقي من حرارة الشّمس، ويلطِّف الأجواء، وما إلى ذلك ممّا ينفتح عليه علم الإنسان واكتشافه من أسرار الخلق. ‏

‏وهكذا نجد أنّ في هذه الظّواهر الكونيّة {لآياتٍ لِقوْمٍ يعْقِلُون} ، من خلال ما يدركه العقل من دلالتها على الله. فكأنّ الآية تريد أن تقول لنا: إنّ بإمكانكم اكتشاف‏‎ ‎‏الله في ما تشاهدونه من آياته الّتي لو فكّرتم بها بما أوتيتم من عقل، لوصلتم إلى النّتيجة الحاسمة وهي الإيمان بالله. ‏

‏إنّ التّفكير بالله والوصول إليه لا يكلِّفكم جهدًا في السّفر والتّنقيب في الأرض أو النُّزول إلى أعماق البحار، أو الصُّعود إلى آفاق الفضاء، بل يكفيكم التّعامل مع حياتكم اليوميّة، لتفكِّروا في ما يمرُّ أو يحيط بكم، لتكتشفوا الله الّذي يطلُّ عليكم من خلال ذلك، بحكمته ورحمته وعظمته، حيث يقودكم الفكر العميق إلى أنّ الصُّدفة لا يمكن أن تصنع نظامًا، وأنّ القوّة العمياء الجامدة لا يمكن أن تخلق عقلاً ورؤيةً وامتدادًا، وأنّ الموت الرّاقد في أعماق العدم لا يفجِّر الحياة، بل لا بُدّ من العقل المنظّم القادر الحكيم الّذي يبعث ذلك كلّه في قدرته الّتي لا يعجزها شي‏ءٌ مهما كان عظيمًا. ‏

‏2- الأسلوب التّربوي للدّعوة: ‏

‏إنّنا نستطيع أن نأخذ من الآية أسلوبًا عمليًّا في التّربية، وخلاصته أن ينطلق الدُّعاة إلى الله في دعوة النّاس إلى التّفكير من خلال حياتهم العامّة في كلِّ تفاصيلها اليوميّة لجعلهم يفكِّرون به في كلِّ نعمةٍ يعيشونها، أو ظاهرةٍ يشاهدونها، أو قانونٍ طبيعيٍّ أو حياتيٍّ يلمسونه في حياتهم، فذلك هو السّبيل الأمثل للوصول إلى قناعاتهم الفكريّة والرُّوحيّة بواقعيّةٍ وعمقٍ وصفاءٍ، بعيدًا عن كلِّ الحذلقات الفلسفيّة المعقّدة؛ لأنّ الإنسان يحبُّ أن يتعامل مع الأشياء الحسِّيّة الّتي تحيط به أو تكون قريبةً من حياته. ‏

‏ولعلّ قيمة هذا الأسلوب تتمثّل في فكرتين: ‏

‏ الأولى: أنّنا نربط وجود الله بكلِّ ما يحيط بنا، فيكون كلُّ شي‏ءٍ في الكون دليلاً على وجوده. ‏

‏ الثّانية: أنّنا لا نشعر بابتعاد الله عنّا، فنحسُّ بالجوِّ الحميم الّذي يغمرنا بروح الله؛ والسِّرُّ في ذلك أنّك عندما تريد إثبات وجود الله من خلال أشياء بعيدةٍ عن حسِّ الإنسان ووعيه وحياته، فكأنّك توحي له بأنّ الله حقيقةٌ لا تُدرك، ولا يمكن أن تقترب من حياته، ككلِّ شي‏ءٍ عظيمٍ عميقٍ مقدّسٍ يحوطه الغموض من كلِّ جوانبه، فلا تشعر به إلاّ كما تشعر بالأشياء البعيدة في الأُفُق الغارق في الضّباب، أمّا إذا ربطته بالفكرة من خلال حياته اليوميّة، فإنّه سيشعر بوجوده معه في كلِّ التّفاصيل الّتي تمرُّ به. وبهذا، لا تقتصر النّتائج على حصول الإيمان بالله كعقيدةٍ تعيش في الوجدان، بل هناك الشُّعور بحضور الله في حياته. وهذا ما يهدف إليه الإسلام في ما نعتقد، أن لا يبقى وجود الله مجرّد فكرةٍ كامنةٍ في وعي الإنسان، أو إيمانٍ ساذجٍ مستقرٍّ في قلبه، بل يتحوّل إلى فكرةٍ في العقل، وإحساسٍ في المشاعر، وحضورٍ قويٍّ مهيمنٍ في الحياة والوجدان. ‏

‏3- الآية لا تفرض فكرًا بل تبيِّن المنهج: ‏

‏إنّ هذه الآية تمثِّل خطًّا واضحًا في المنهج الفكريِّ الّذي يريد الإسلام أن يصنعه للإنسان في محاولته الدّائمة للوصول إلى الحقيقة، فقد لا نجد في القرآن الكريم الكثير من التّحليل والتّفصيل لأسرار الكون وقوانين الخلق، الّتي تضع فكر الإنسان في قوالب جاهزةٍ من الفكر العلميِّ، في أسلوبٍ يعتمد على التّلقين الجامد الّذي لا يحرِّك الفكر إلاّ بمقدار ما يطوف بالفكرة المطروحة، بل كلُّ ما نجده، في الغالب من آياته، أنّه يدعو إلى التّفكير والتّدبُّر والتّأمُّل واستثارة الطّاقات الحسِّيّة والعقليّة من أجل أن تسير في الاتِّجاه السّليم الّذي يصنع للمعرفة ظروفها الطّبيعيّة، وآفاقها الواسعة، ووسائلها الصّحيحة، لتقود الإنسان إلى تحصيل الحقائق التّفصيليّة للحياة بنفسه، في ضمن أفكار متعدِّدة، ونظريّات متنوِّعة، تتحفّز للصِّراع في مجال البحث، لتكون النّتيجة للفكرة الّتي تملك الحجّة الأقوى. ‏

‏وبهذا استطاع الإسلام أن يبني للإنسان فكره على أساسٍ من الاستقلال والحرِّيّة، والثِّقة بقدرته على الإبداع والاكتشاف والامتداد، فأوحى له أنّ المساحات الّتي يمكنه التّحرُّك فيها لا تنحصر في حدود ضيِّقة، بل تتّسع لكلِّ جوانب الحياة، في ظواهرها الكونيّة والإنسانيّة والحياتيّة، وليس عليه إلاّ أن يعرف كيف يسير على المنهج الإسلاميِّ المتكامل الّذي لا يطرح أمام الإنسان إلاّ شعار التّفكير الّذي يعيش مسؤوليّة المعرفة بالتزامٍ وإيمان. ‏

‏4- هل نشأت الأديان من جهل الإنسان؟ ‏

‏إنّ بعض الباحثين في تاريخ نشأة الأديان، يحاولون أن يرجعوا بتاريخها إلى بدايات وجود الإنسان، ويعودوا بأسبابها إلى الجهل بقانون السّببيّة في الكون، الّذي يُرجع كلّ ظاهرةٍ إلى أسبابها الطّبيعيّة، ما دعا الإنسان الأوّل إلى أن يخترع - في وهمه - وجود قوًى غير منظورةٍ خارج نطاق الطّبيعة، فيعتبرها السّبب الأعمق لوجود الكون. وأدّى هذا الاتِّجاه إلى اعتبار القوى الخفيّة أساسًا لكلِّ ظاهرةٍ من الظّواهر. ‏

‏وخلاصة هذه الفكرة: أنّ فكرة الله انطلقت من الجهل بالأسباب الطّبيعيّة للكون، ويرون، من خلال ذلك، أنّ الاكتشافات الّتي توصّل إليها الإنسان، فاستطاع أن يعرف من خلالها القوانين الطّبيعيّة الّتي تحكم الأشياء، تُلغي مبدأ الحاجة إلى هذه الفكرة؛ لأنّها أجابت على كثيرٍ من الأسئلة الغامضة الّتي كانت تشغل تفكير الإنسان وتدعوه إلى فرضيّات ما وراء الطّبيعة، فلا حاجة إلى جواب الغيب بعد أن حصل الإنسان على جواب الحسِّ والواقع. ‏

‏ولكن: ما صحّة هذه النّظريّة؟ ‏

‏إنّنا نرى خطأ هذه النّظريّة؛ وذلك من خلال زوايا ثلاث، تشكِّل بمجموعها العناصر الفكريّة الّتي تدحض هذه النّظريّة: ‏

‏أ‏‏ - النّاحية التّاريخيّة: ‏

‏إذا درسنا تاريخ الأديان، فإنّنا نجد الوحدانيّة الّتي تتمثّل في عقيدة التّوحيد سابقةً على الوثنيّة، في ما يوحيه تاريخ الدِّيانات من جهة، وفي ما يراه بعض الباحثين في نشأة الدِّين من جهةٍ أخرى. ونلاحظ في هذا المجال: أنّ الإنسان في مراحله المتقدِّمة تاريخيًّا كان لا يجهل كلّ أسرار الكون، بل كان يعرف بعضها في ما استطاع أن يخوضه من تجارب عمليّةٍ وأفكارٍ عقليّةٍ، فلم يمنعه ذلك من الإيمان بالله، أو السّير بعيدًا في خطى هذا الإيمان. ثمّ نلاحظ مراحل نموِّ المعرفة الإنسانيّة، وازدهار عصر الفلسفة، وتقدُّم الفكر الإنسانيِّ في مجالات الحياة، فنجد أنّ قضيّة الإيمان كانت تتقدّم تبعًا لتقدُّم الفكر وتطوُّر المعرفة، وهو ما يعني أنّ القضيّة لا تتعامل مع الجهل، بل تتحرّك في مواكب العلم. ـ ‏

‏وجاء عصر الاكتشافات العلميّة الّتي استطاعت أن تضع أقدام الإنسان على سطح الكواكب، وبقي الإيمان يفرض نفسه على تفكير كثير من هؤلاء العلماء الّذين سجّلوا الكثير من الاكتشافات العلميّة، أو ساعدت نظريّاتهم على هذه الاكتشافات، ما يعني أنّ اتِّساع نطاق التّجربة، وسعة أُفق المعرفة، لا يغلق على الفكر باب الإيمان، بل يفتحه على أوسع آفاقه، لدرجةٍ نستطيع معها تقرير فكرةٍ حاسمةٍ محدّدةٍ، وهي أنّ تحوُّل الجهل إلى علم، قد يرفع قيمة الإيمان ومستواه وإمكانيّاته لدى العلماء؛ لأنّه يمنحهم وسائل جديدةً وأدواتٍ جديدةً للتّجربة الحيّة والفكر الواسع. ‏

‏ب‏‏- الأسس الفكريّة للإيمان بالله: ‏

‏إنّنا نلاحظ - هنا - أنّ الإلهيِّين‏‏2‏ الّذين قالوا بوجود قوّةٍ وراء الطّبيعة، انطلقوا من الأدلّة العقليّة القطعيّة المرتكزة على أساس أنّ الأسباب الطّبيعيّة للوجود لا يمكن أن تكون نهائيّةً، بل لا بُدّ من أن تنتهي إلى السّبب الأعمق؛ لأنّها لا تحمل بذور الحتميّة في داخلها، بل تتصارع فيها قابليّة الوجود والعدم، من دون وجود مرجِّحٍ ذاتيٍّ لأحدهما على الآخر، الأمر الّذي يجعلها بحاجةٍ إلى علّةٍ خارجةٍ عنها من أجل أن ترجِّح جانب الوجود على العدم. ويظلُّ عنصر الحاجة هو الأساس الّذي يحكم قانون تسلسل العلل والمعلولات حتّى ينتهي إلى العلّة الّتي تحمل بذور الحتميّة في الدّاخل، وهي الّتي نعبِّر عنها بـ- «واجب الوجود». ‏

‏وفي ضوء ذلك، نفهم أنّ العلماء الّذين آمنوا بالألوهيّة، في ما وراء الطّبيعة، لم يغفلوا عن قانون السّببيّة في الكون، ولم يجهلوا طبيعة الأسباب المباشرة الّتي تستند إليها الأشياء، ولكنّهم كانوا يتساءلون عن السّبب الأوّل الّذي أعطى للأشياء المباشرة قوّة السّببيّة، فلم تكن القضيّة لديهم منطلقةً من مشاهداتٍ ساذجةٍ، أو حالات جهلٍ بسيطٍ، أو انفعالاتٍ طارئةٍ، بل انطلقت من دراسةٍ فكريّةٍ عميقةٍ وتأمُّلاتٍ ذاتيّةٍ دقيقةٍ. ‏

‏ ‏‏ج‏‏- أسلوب القرآن في معالجة الإيمان: ‏

‏إنّ القرآن الكريم، في حديثه عن ظواهر الكون، ينسب الفعل إلى الله، ولا يُغفِل دور الإنسان في النِّسبة في ما يتعلّق بالأفعال الّتي تتّصل بإرادته بشكلٍ مباشرٍ، وذلك بالتّعبير نفسه، كما في قوله تعالى: {و اللّهُ خلقكُمْ و ما تعْملُون} [الصّافات: 96]، فقد أسند العمل إلينا بالأسلوب نفسه الّذي أسند فيه الخلق إلى ذاته المقدّسة، فنحن الّذين قمنا بالعمل، وبذلك صحّت نسبة العمل إلينا؛ أمّا نسبته إلى الله فلأنّه أعطانا الحياة والقوّة والأدوات الّتي يحتاجها العمل، ومنحنا الإرادة الّتي تتحرّك نحو العمل بشكلٍ مباشرٍ؛ للإيحاء بأنّه السّبب الأعمق الّذي تنتهي إليه الأشياء في سلسلة الأسباب. وهذا ما نستوحيه من قوله تعالى: {فلمْ تقْتُلُوهُمْ و لكِنّ اللّه قتلهُمْ و ما رميْت إِذْ رميْت و لكِنّ اللّه رمى‏ و لِيُبْلِي الْمُؤْمِنِين مِنْهُ بلاءً حسناً إِنّ اللّه سمِيعٌ علِيمٌ} [الأنفال: 17]، فهو ينفي عن الإنسان استقلاله بالفعل بالمستوى الّذي يرجع إليه كلُّ شي‏ءٍ، ولا ينفي عنه قيامه بالفعل. ‏

‏وهكذا تتنوّع الآيات القرآنيّة الّتي تتحدّث عن الأفعال والظّواهر الطّبيعيّة في الكون، وفي حركة الحياة والإنسان، ليتحدّث بأسلوبٍ واحدٍ عن السّبب المباشر والأعمق الّذي يوحي للإنسان بالمنهج الحقِّ للمعرفة الّتي تواجه الأسباب المباشرة الّتي تعطينا الأُسس للنِّظام الكونيِّ، وتربطنا بالله في النِّطاق الغيبيِّ لوجوده. ‏

‏ومن خلال هذه النِّقاط الثّلاث، نستطيع التّعرُّف على خطأ الفكرة الّتي تربط الإيمان بجهل الإنسان بالأُسس الطّبيعيّة الّتي يرتكز عليها نظام الكون، ليكون الإلحاد منطلقًا من وعي الكائن للطّبيعة، ونصل إلى النّتيجة الصّحيحة، وهي أنّ القضيّة ليست قضيّة خوفٍ يجعل الإنسان يتعلّق بأيِّ شي‏ءٍ، ولكنّها قضيّة فكرٍ يحاول أن يواجه الظّواهر والمشاكل والقضايا بالفكر، الّذي يتساءل ويفتِّش عن جوابٍ للسُّؤال حتّى يصل إلى السُّؤال الّذي لا يحتاج إلى سؤالٍ مثله. ولهذا نذهب إلى أنّ قضيّة الإيمان لا تنفصل عن السّببيّة المودعة في الكون، وعن تطوُّر العلم وتقدُّمه، بل إنّنا نرى في كلِّ اكتشافٍ علميٍّ جديدٍ دليلاً جديدًا على وجود الله؛ لأنّ العلم لا يكتشف شيئًا إلاّ ليكتشف وراءه حكمةً ونظامًا وقانونًا يتّصل بالظّواهر الأخرى للكون، ويوحي لنا بوحدته الّتي نكتشف من خلالها حكمة الخالق ووحدته؛ لأنّها، وإن اختلفت في مظاهرها وأشكالها، إلاّ أنّها تتّحد في قوانينها الأساسيّة الّتي تحكم الكون كلّه. وهذا ما تثيره أمامنا هذه الآيات الكريمة، لتخطِّط لنا المنهج التّأمُّليّ للعقيدة والإيمان، كما توحي به الآية الكريمة في قوله تعالى: {سنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ و فِي أنْفُسِهِمْ حتّى يتبيّن لهُمْ أنّهُ الْحقُّ أ و لمْ يكْفِ بِربِّك أنّهُ على‏ كُلِّ شيْ‏ءٍ شهِيدٌ} [فصِّلت: 53]. ‏

‏جاء في تفسير (الكاشف): «إنّ في السّماء من النُّجوم ما يفوق على حبّات الرّمل عددًا، وإنّ أصغر نجمٍ لهو أكبر حجمًا من الأرض بأكثر من مليون مرّة، وإنّ كلّ مجموعةٍ من النُّجوم تؤلِّف مدينةً عظمى، اسمها المجرّة، تضمُّ أكثر من مئة مليون نجمة، وإنّ عدد هذه المدن أكثر من مليونيِّ مدينةٍ تبعد الواحدة عن الأخرى مسافة رسالةٍ لاسلكيّةٍ تصل بعد ثلاثة ملايين من السِّنين، أي أنّ نسبة هذه المدن بمجموعها إلى الفضاء الخالي، تمامًا كنسبة ذبابةٍ تائهةٍ في الكرة الأرضيّة، وكلُّ هذه النُّجوم والمجرّات تسير بتوازنٍ وانتظامٍ». ‏

‏أمّا الأرض، فهي «كرةٌ معلّقةٌ في الهواء تدور حول نفسها مرّةً واحدةً كلّ 24 ساعة، فيكون تعاقب اللّيل والنّهار، وتسبحُ حول الشّمس مرّةً كلّ عامٍ، فيكون تعاقب الفصول الأربعة. ويحيط بالأرض غلافٌ غازيٌّ يشتمل على الغازات اللاّزمة للحياة، ويحفظ هذا الغلاف من الغازات درجة الحرارة المناسبة للحياة، ويحمل بخار الماء من المحيطات إلى مسافاتٍ بعيدةٍ داخل القارّات حيث يتكاثف المطر. ‏

‏ثمّ لو كان قطر الأرض أصغر ممّا هو عليه، لعجزت عن الاحتفاظ بالتّوازن، ولصارت درجة الحرارة بالغةً حدّ الموت، ولو كان قطرها أكبر ممّا هو لزادت جاذبيّتها للأجسام، وتؤثِّر هذه الزِّيادة أبلغ الأثر في الحياة على سطح الأرض. ولو بعُدت الأرض عن الشّمس أكثر من المسافة الحاليّة لنقصت كميّة الحرارة الّتي تتلقّاها من الشّمس، ولو قربت منها أكثر ممّا هي الآن لزادت الحرارة، وفي كلتا الحالتين تتعذّر الحياة على الأرض. ‏

‏فكُرويّة الأرض، والفراغ الّذي يحيط بها، ودورانها حول الشّمس، وإحاطتها بالغلاف الجويِّ، ووضعها في مكانها الخاص، وكون قطرها بهذا المقدار الخاص، كلُّ أولئك تُهيِّئ للإنسان أسباب الحياة على الأرض، ولو فُقِد وصفٌ واحدٌ من هذه الأوصاف، كما لو كانت الأرض مسطّحةً، أو أصغر، أو أكبر، أو أبعد أو أقرب إلى الشّمس، أو فُقد الغلاف، لاستحال أن يكون الإنسان ابن الأرض بشهادة العلماء»‏3‏ . ‏

‎ ‎

‎ ‎

‎ ‎

‎ ‎

‏1.‏‏كما قيل في تفسير قوله تعالى: {و لِلّهِ يسْجُدُ ما فِي السّماواتِ و ما فِي الْأرْضِ مِنْ دابّةٍ و الْملائِكةُ و هُمْ لا يسْتكْبِرُون} [النّحل: 49]، على أساس ظهور الآية في أنّها في مقام بيان سجود الكائنات جميعًا لله، والّتي لا شكّ أنّ الإنسان منها، وليس فيها إلاّ عنوان الدّابّة ممّا يمكن أن يكون داخلاً تحته، على أساس أنّه ممّا يدبُّ على الأرض. وكذا قيل في تأويل قوله تعالى: {و إِذا وقع الْقوْلُ عليْهِمْ أخْرجْنا لهُمْ دابّةً مِن الْأرْضِ تُكلِّمُهُمْ أنّ النّاس كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُون} [النّمل: 82]، في أنّ من يكلِّمهم يومئذٍ هو أمير المؤمنين عليُّ بن أبي طالب عليه السلام ؛ انظر: القمِّي، تفسير القمِّي، م. س، ج 2، ص 130 - 131. الشّيخ الطّبرسي، مجمع البيان، م. س، ج 7، ص‏404.‏

‏2.‏‏المقصود بمصطلح «الإلهيِّ»، الّذي يعتقد بأنّ وراء هذا العالم المادِّيِّ، خالقًا ومدبِّرًا عاقلاً وحكيمًا، أمّا «المادِّيُّ» فهو الّذي يقتصر في نظرته إلى المادّة نفسها من غير أن يعتقد بخالقٍ وراءها.‏

‏3.‏‏الشّيخ مغنيّة، محمد جواد (ت 1400 هـ-)، التّفسير الكاشف، ط 1، مؤسسة دار الكتاب الإسلامي، 1424 هـ- - 2003 م، ج 1، ص 251 - 252.‏

‎ ‎

‏ ‏

‏ معاني المفردات‏

{و اِخْتِلافِ اللّيْلِ و النّهارِ} : بالذّهاب والمجي‏ء، والزِّيادة والنُّقصان. ‏

{ و الْفُلْكِ } : السّفينة والسُّفن، تُطلق على المفرد والجمع. ‏

{ و بثّ } : نشر وفرّق فيها. ‏

{ دابّةٍ } : كلُّ ما دبّ من الحيوان على الأرض. وقد أُطلق على الإنسان‏1‏؛ ولعلّه غير متعارفٍ. وغلب على ما يُحْمل ويُركب عليه. ‏

{و تصْرِيفِ الرِّياحِ} : تقليبها جنوبًا وشمالاً، حارّةً وباردةً، وتوجيهها إلى الجهات المطلوبة. ‏

{و السّحابِ} : الغيم. ‏

{ الْمُسخّرِ } : المذلّل بأمر الله تعالى، يسير إلى حيث شاء الله. ‏

‎ ‎

‏توحيد اللّه الرّحمن الرّحيم ‏

{ و إِلهُكُمْ } ، الّذي خلقكم ورزقكم وأبدع الكون كلّه وأوجده من العدم، ومنحه نظامه البديع في دقّته، المتنوِّع في أشكاله وألوانه وخصائصه وآثاره، وجعل الفطرة الكامنة في وجودكم العقليِّ والرُّوحيِّ دليلاً عليه وعلى وحدانيّته، {إِلهٌ واحِدٌ} ، لا مجال لتعدُّده، في الاثنينيّة الّتي قد يعتقدها البعض، أو في الآلهة الّتي قد يتصوّرها بعضٌ آخر بأنّها الوحدة الّتي لا تقبل التّجزئة ولا يمكن أن تنفتح على حركة العدد في امتداده، بل تنفتح على أعمقِ أعماق معنى الوحدة في العقل والإحساس والوجود. ‏

{لا إِله إِلاّ هُو} ، فهذه هي الحقيقة التّفصيليّة للتّوحيد الّتي لا بُدّ لكلِّ مؤمنٍ من أن يختزنها في وجدانه الإيمانيِّ، من أجل نفي الألوهيّة عن كلِّ ما يعتبره النّاس إلهًا، أو ما يمكن أن يمنحوه هذه الصِّفة في المستقبل، كاستغراقهم في خصائص الموجودات الذّاتيّة ممّا تمثّل فيها من عناصر العظمة الّتي توحي إليهم بالاعتقاد المنحرف، والتّصوُّر المشرك، وإثبات الألوهيّة لله وحده في تعيُّنه في ذاته، بحيث تنفي وحدتُه غيره من دون حاجةٍ إلى نفي الغير بطريقةٍ خارجيّةٍ. ‏

{الرّحْمنُ الرّحِيمُ} الّذي أوجدكم برحمته، وأنعم عليكم بنعمه، وهداكم إلى الحقِّ بهدايته، ووعدكم برضوانه وجنّته على امتداد الوجود كلِّه. ‏

‏وهذا هو التّصوُّر الإنسانيُّ للتّوحيد، في مضمونه الذّاتيِّ، في معنى الله، وفي حركته العامّة في مواجهة الآلهة المدّعاة معه، أو من دونه، للدُّخول في عمليّة مقارنةٍ بين الله وبين الآخرين، للوصول إلى النّتيجة الطّبيعيّة في احتقارهم في حجم وجودهم، وفي قدراتهم الذّاتيّة، وفي كلِّ ما يتمثّل فيهم، أمام عظمة الله المطلقة، فيتخفّف الإنسان من الشُّعور بأيّة علاقةٍ كبيرةٍ بهم، من خلال المعرفة العقليّة والشُّعوريّة بأنّهم مجرّد موجوداتٍ عاديّةٍ لا تملك لنفسها نفعًا ولا ضرًّا إلاّ بالله، وهذا ما جعل شهادة التّوحيد ممثّلةً بكلمة «لا إله إلاّ الله» دون غيرها من الكلمات. ‏

‏إنّ الآية تطرح الحقيقة الإلهيّة ببساطةٍ وعفويّةٍ، لا مجال فيها للتّكلُّف والتّعقيد، فها هي وحدانيّة الله تبرز واضحةً جليّةً لكلِّ من كان له فكرٌ ونظرٌ، عندما يدرس وحدة النِّظام الكونيِّ وتناسقه ووحدة الرِّسالات السّماويّة وارتكازها على قاعدةٍ واحدةٍ، وضعف القوى المنتشرة في الكون وسيرها إلى الفناء، ما لا يجعل لأيّة قوّةٍ مجالاً للاستعلاء الّذي يرتفع إلى مستوى الألوهيّة. ‏

‏أمّا رحمته تعالى، فإنّها تنساب في كلِّ مظهرٍ من مظاهر النِّعمة والرِّعاية والعناية بالإنسان، وفي كلِّ ما يحيط به من أوضاع تتّصل بحياته ومماته، ويقظته ومنامه، وأكله وشربه، وملبسه وملذّاته. وهكذا، فإنّها تعطي الصُّورة الواضحة على انطلاق الخلق كلِّه من موقع الرّحمة الّتي تريد أن تبني الإنسان على أساس الرّحمة، ليعمل النّاس على الوصول إلى هذا الهدف الكبير في نهاية المطاف. ‏

‏ القرآن والمنهج الفكريُّ للإنسان‏

‏وتأتي الآية الثّانية حاملةً دعوةً إلى العقل لأن يتحرّك في أجواء الكون، ليكتشف الله من خلال اكتشافه لأسرار خلقه، وتأكيدًا على أنّ قضيّة الإيمان هي قضيّة عقلٍ وفكرٍ لا قضيّة مزاجٍ وعاطفةٍ، وإشارةٌ ذكيّةٌ موحيةٌ بأنّ غفلة النّاس عن الله وابتعادهم عن سبيله ينطلقان من تعطيل العقل عن الحركة في اتِّجاه المعرفة، بالابتعاد عن الأجواء والوسائل الطّبيعيّة للمعرفة والإيمان، ولا يرتبطان بواقعيّة الفكرة المضادّة وقابليّتها للامتداد في وجدان الإنسان كحقيقةٍ فكريّةٍ حاسمةٍ. ‏

‏ونلاحظ في تفسير هذه الآية عدّة ملاحظات: ‏

‏1- حركة العقيدة في الظّواهر الطّبيعيّة:‏‏ ‏

‏إنّ الملحوظ في مفردات القضايا والظّواهر الّتي أثارتها الآية الكريمة أمام الإنسان هو أنّها تواجه النّاس في حياتهم اليوميّة، فتلفت أنظارهم بشكلٍ طبيعيٍّ، إلى أنّ الطّريق إلى معرفة الله لا يتوقّف على الاستغراق في الأجواء الفلسفيّة المجرّدة الّتي تبتعد بالإنسان عن حياته، ليضيع في متاهات الفرضيّات المتنوِّعة والأساليب المتضادّة، ولا يخضع للانطلاق إلى أجواء بعيدةٍ عن أجوائه الطّبيعيّة المادِّيّة، بل كلُّ ما هناك هو الالتفات الواعي إلى ما حوله من ظواهر الطّبيعة ومفردات الحياة الّتي تحيط به. ‏

{إِنّ فِي خلْقِ السّماواتِ} الّتي ترتفع فوقه، بكلِّ ما فيها من كواكب ونجوم خاضعةٍ لنظامٍ دقيقٍ محكمٍ رائعٍ، يدركه النّاظر إليه بعفويّةٍ في ما يشاهده من نتائجه وظواهره المتّصلة بحياته في نظام الشّمس والقمر وغيرهما من الكواكب، ويعرفه المتأمِّل الباحث الّذي يعرف ما وراء هذه الظّواهر من قوانين طبيعيّةٍ حكيمةٍ تضع كلّ شي‏ءٍ في موضعه، وتعطي كلّ قضيّة أسبابها. ‏

{ و الْأرْضِ } الّتي يعيش الإنسان عليها في ما يتمثّل فوقها من أسباب الحياة، وفي ما يكمن في أعماقها من الطّاقات الّتي تساهم في نموِّ الحياة واستمرارها، في ما تحشده من شروط الحياة للإنسان، في نظامٍ دقيقٍ يعيش الإنسان عظمته من خلال مشاهداته ومعاناته وإحساساته العميقة الّتي تقتحم عليه كيانه لتوحي له بعظمة الخالق الّذي يصنع ذلك كلّه. ‏

{و اِخْتِلافِ اللّيْلِ و النّهارِ} في الزِّيادة والنُّقصان، {و الْفُلْكِ الّتِي تجْرِي فِي الْبحْرِ بِما ينْفعُ النّاس} ، والقوانين الّتي تحكم مسيرة هذه الفُلك في البحر، وهي الّتي تحمل ما ينتفع به النّاس في معاشهم، أو تحملهم لتنقلهم من مكانٍ إلى آخر. {و ما أنْزل اللّهُ مِن السّماءِ مِنْ ماءٍ فأحْيا بِهِ الْأرْض بعْد موْتِها} ، عندما ترتوي به الأرض من خلال ما يتساقط عليها، وما يختزن في أعماقها ممّا تتفجّر منه الأنهار والينابيع. {و بثّ فِيها} أي: في الأرض، {مِنْ كُلِّ دابّةٍ} ، مع اختلاف أنواعها وأدوارها ومنافعها، {و تصْرِيفِ الرِّياحِ و السّحابِ الْمُسخّرِ بيْن السّماءِ و الْأرْضِ} . أمّا تصريف الرِّياح فهو تحريكها وتفريقها في الجهات بين حارّةٍ وباردةٍ، وليِّنةٍ وعاصفةٍ، وعقيمةٍ ولاقحةٍ؛ تبعًا للحكمة الإلهيّة الّتي تحرِّكها من خلال مصلحة النِّظام الكونيِّ في حاجات الأرض والإنسان والحيوان والنّبات والبحار والأنهار؛ وأمّا حركة السّحاب المسخّر بين السّماء والأرض، فإنّ لها أكثر من سرٍّ ومنفعةٍ في النِّظام العامِّ للحياة، سواءً من خلال ما تختزنه من مياه تنزل بالأمطار الّتي تروي الأرض، ممّا يحتاجه النّبات والحيوان والإنسان، أو من خلال ما تنشره من الظِّلِّ الّذي يقي من حرارة الشّمس، ويلطِّف الأجواء، وما إلى ذلك ممّا ينفتح عليه علم الإنسان واكتشافه من أسرار الخلق. ‏

‏وهكذا نجد أنّ في هذه الظّواهر الكونيّة {لآياتٍ لِقوْمٍ يعْقِلُون} ، من خلال ما يدركه العقل من دلالتها على الله. فكأنّ الآية تريد أن تقول لنا: إنّ بإمكانكم اكتشاف‏‎ ‎‏الله في ما تشاهدونه من آياته الّتي لو فكّرتم بها بما أوتيتم من عقل، لوصلتم إلى النّتيجة الحاسمة وهي الإيمان بالله. ‏

‏إنّ التّفكير بالله والوصول إليه لا يكلِّفكم جهدًا في السّفر والتّنقيب في الأرض أو النُّزول إلى أعماق البحار، أو الصُّعود إلى آفاق الفضاء، بل يكفيكم التّعامل مع حياتكم اليوميّة، لتفكِّروا في ما يمرُّ أو يحيط بكم، لتكتشفوا الله الّذي يطلُّ عليكم من خلال ذلك، بحكمته ورحمته وعظمته، حيث يقودكم الفكر العميق إلى أنّ الصُّدفة لا يمكن أن تصنع نظامًا، وأنّ القوّة العمياء الجامدة لا يمكن أن تخلق عقلاً ورؤيةً وامتدادًا، وأنّ الموت الرّاقد في أعماق العدم لا يفجِّر الحياة، بل لا بُدّ من العقل المنظّم القادر الحكيم الّذي يبعث ذلك كلّه في قدرته الّتي لا يعجزها شي‏ءٌ مهما كان عظيمًا. ‏

‏2- الأسلوب التّربوي للدّعوة: ‏

‏إنّنا نستطيع أن نأخذ من الآية أسلوبًا عمليًّا في التّربية، وخلاصته أن ينطلق الدُّعاة إلى الله في دعوة النّاس إلى التّفكير من خلال حياتهم العامّة في كلِّ تفاصيلها اليوميّة لجعلهم يفكِّرون به في كلِّ نعمةٍ يعيشونها، أو ظاهرةٍ يشاهدونها، أو قانونٍ طبيعيٍّ أو حياتيٍّ يلمسونه في حياتهم، فذلك هو السّبيل الأمثل للوصول إلى قناعاتهم الفكريّة والرُّوحيّة بواقعيّةٍ وعمقٍ وصفاءٍ، بعيدًا عن كلِّ الحذلقات الفلسفيّة المعقّدة؛ لأنّ الإنسان يحبُّ أن يتعامل مع الأشياء الحسِّيّة الّتي تحيط به أو تكون قريبةً من حياته. ‏

‏ولعلّ قيمة هذا الأسلوب تتمثّل في فكرتين: ‏

‏ الأولى: أنّنا نربط وجود الله بكلِّ ما يحيط بنا، فيكون كلُّ شي‏ءٍ في الكون دليلاً على وجوده. ‏

‏ الثّانية: أنّنا لا نشعر بابتعاد الله عنّا، فنحسُّ بالجوِّ الحميم الّذي يغمرنا بروح الله؛ والسِّرُّ في ذلك أنّك عندما تريد إثبات وجود الله من خلال أشياء بعيدةٍ عن حسِّ الإنسان ووعيه وحياته، فكأنّك توحي له بأنّ الله حقيقةٌ لا تُدرك، ولا يمكن أن تقترب من حياته، ككلِّ شي‏ءٍ عظيمٍ عميقٍ مقدّسٍ يحوطه الغموض من كلِّ جوانبه، فلا تشعر به إلاّ كما تشعر بالأشياء البعيدة في الأُفُق الغارق في الضّباب، أمّا إذا ربطته بالفكرة من خلال حياته اليوميّة، فإنّه سيشعر بوجوده معه في كلِّ التّفاصيل الّتي تمرُّ به. وبهذا، لا تقتصر النّتائج على حصول الإيمان بالله كعقيدةٍ تعيش في الوجدان، بل هناك الشُّعور بحضور الله في حياته. وهذا ما يهدف إليه الإسلام في ما نعتقد، أن لا يبقى وجود الله مجرّد فكرةٍ كامنةٍ في وعي الإنسان، أو إيمانٍ ساذجٍ مستقرٍّ في قلبه، بل يتحوّل إلى فكرةٍ في العقل، وإحساسٍ في المشاعر، وحضورٍ قويٍّ مهيمنٍ في الحياة والوجدان. ‏

‏3- الآية لا تفرض فكرًا بل تبيِّن المنهج: ‏

‏إنّ هذه الآية تمثِّل خطًّا واضحًا في المنهج الفكريِّ الّذي يريد الإسلام أن يصنعه للإنسان في محاولته الدّائمة للوصول إلى الحقيقة، فقد لا نجد في القرآن الكريم الكثير من التّحليل والتّفصيل لأسرار الكون وقوانين الخلق، الّتي تضع فكر الإنسان في قوالب جاهزةٍ من الفكر العلميِّ، في أسلوبٍ يعتمد على التّلقين الجامد الّذي لا يحرِّك الفكر إلاّ بمقدار ما يطوف بالفكرة المطروحة، بل كلُّ ما نجده، في الغالب من آياته، أنّه يدعو إلى التّفكير والتّدبُّر والتّأمُّل واستثارة الطّاقات الحسِّيّة والعقليّة من أجل أن تسير في الاتِّجاه السّليم الّذي يصنع للمعرفة ظروفها الطّبيعيّة، وآفاقها الواسعة، ووسائلها الصّحيحة، لتقود الإنسان إلى تحصيل الحقائق التّفصيليّة للحياة بنفسه، في ضمن أفكار متعدِّدة، ونظريّات متنوِّعة، تتحفّز للصِّراع في مجال البحث، لتكون النّتيجة للفكرة الّتي تملك الحجّة الأقوى. ‏

‏وبهذا استطاع الإسلام أن يبني للإنسان فكره على أساسٍ من الاستقلال والحرِّيّة، والثِّقة بقدرته على الإبداع والاكتشاف والامتداد، فأوحى له أنّ المساحات الّتي يمكنه التّحرُّك فيها لا تنحصر في حدود ضيِّقة، بل تتّسع لكلِّ جوانب الحياة، في ظواهرها الكونيّة والإنسانيّة والحياتيّة، وليس عليه إلاّ أن يعرف كيف يسير على المنهج الإسلاميِّ المتكامل الّذي لا يطرح أمام الإنسان إلاّ شعار التّفكير الّذي يعيش مسؤوليّة المعرفة بالتزامٍ وإيمان. ‏

‏4- هل نشأت الأديان من جهل الإنسان؟ ‏

‏إنّ بعض الباحثين في تاريخ نشأة الأديان، يحاولون أن يرجعوا بتاريخها إلى بدايات وجود الإنسان، ويعودوا بأسبابها إلى الجهل بقانون السّببيّة في الكون، الّذي يُرجع كلّ ظاهرةٍ إلى أسبابها الطّبيعيّة، ما دعا الإنسان الأوّل إلى أن يخترع - في وهمه - وجود قوًى غير منظورةٍ خارج نطاق الطّبيعة، فيعتبرها السّبب الأعمق لوجود الكون. وأدّى هذا الاتِّجاه إلى اعتبار القوى الخفيّة أساسًا لكلِّ ظاهرةٍ من الظّواهر. ‏

‏وخلاصة هذه الفكرة: أنّ فكرة الله انطلقت من الجهل بالأسباب الطّبيعيّة للكون، ويرون، من خلال ذلك، أنّ الاكتشافات الّتي توصّل إليها الإنسان، فاستطاع أن يعرف من خلالها القوانين الطّبيعيّة الّتي تحكم الأشياء، تُلغي مبدأ الحاجة إلى هذه الفكرة؛ لأنّها أجابت على كثيرٍ من الأسئلة الغامضة الّتي كانت تشغل تفكير الإنسان وتدعوه إلى فرضيّات ما وراء الطّبيعة، فلا حاجة إلى جواب الغيب بعد أن حصل الإنسان على جواب الحسِّ والواقع. ‏

‏ولكن: ما صحّة هذه النّظريّة؟ ‏

‏إنّنا نرى خطأ هذه النّظريّة؛ وذلك من خلال زوايا ثلاث، تشكِّل بمجموعها العناصر الفكريّة الّتي تدحض هذه النّظريّة: ‏

‏أ‏‏ - النّاحية التّاريخيّة: ‏

‏إذا درسنا تاريخ الأديان، فإنّنا نجد الوحدانيّة الّتي تتمثّل في عقيدة التّوحيد سابقةً على الوثنيّة، في ما يوحيه تاريخ الدِّيانات من جهة، وفي ما يراه بعض الباحثين في نشأة الدِّين من جهةٍ أخرى. ونلاحظ في هذا المجال: أنّ الإنسان في مراحله المتقدِّمة تاريخيًّا كان لا يجهل كلّ أسرار الكون، بل كان يعرف بعضها في ما استطاع أن يخوضه من تجارب عمليّةٍ وأفكارٍ عقليّةٍ، فلم يمنعه ذلك من الإيمان بالله، أو السّير بعيدًا في خطى هذا الإيمان. ثمّ نلاحظ مراحل نموِّ المعرفة الإنسانيّة، وازدهار عصر الفلسفة، وتقدُّم الفكر الإنسانيِّ في مجالات الحياة، فنجد أنّ قضيّة الإيمان كانت تتقدّم تبعًا لتقدُّم الفكر وتطوُّر المعرفة، وهو ما يعني أنّ القضيّة لا تتعامل مع الجهل، بل تتحرّك في مواكب العلم. ـ ‏

‏وجاء عصر الاكتشافات العلميّة الّتي استطاعت أن تضع أقدام الإنسان على سطح الكواكب، وبقي الإيمان يفرض نفسه على تفكير كثير من هؤلاء العلماء الّذين سجّلوا الكثير من الاكتشافات العلميّة، أو ساعدت نظريّاتهم على هذه الاكتشافات، ما يعني أنّ اتِّساع نطاق التّجربة، وسعة أُفق المعرفة، لا يغلق على الفكر باب الإيمان، بل يفتحه على أوسع آفاقه، لدرجةٍ نستطيع معها تقرير فكرةٍ حاسمةٍ محدّدةٍ، وهي أنّ تحوُّل الجهل إلى علم، قد يرفع قيمة الإيمان ومستواه وإمكانيّاته لدى العلماء؛ لأنّه يمنحهم وسائل جديدةً وأدواتٍ جديدةً للتّجربة الحيّة والفكر الواسع. ‏

‏ب‏‏- الأسس الفكريّة للإيمان بالله: ‏

‏إنّنا نلاحظ - هنا - أنّ الإلهيِّين‏‏2‏ الّذين قالوا بوجود قوّةٍ وراء الطّبيعة، انطلقوا من الأدلّة العقليّة القطعيّة المرتكزة على أساس أنّ الأسباب الطّبيعيّة للوجود لا يمكن أن تكون نهائيّةً، بل لا بُدّ من أن تنتهي إلى السّبب الأعمق؛ لأنّها لا تحمل بذور الحتميّة في داخلها، بل تتصارع فيها قابليّة الوجود والعدم، من دون وجود مرجِّحٍ ذاتيٍّ لأحدهما على الآخر، الأمر الّذي يجعلها بحاجةٍ إلى علّةٍ خارجةٍ عنها من أجل أن ترجِّح جانب الوجود على العدم. ويظلُّ عنصر الحاجة هو الأساس الّذي يحكم قانون تسلسل العلل والمعلولات حتّى ينتهي إلى العلّة الّتي تحمل بذور الحتميّة في الدّاخل، وهي الّتي نعبِّر عنها بـ- «واجب الوجود». ‏

‏وفي ضوء ذلك، نفهم أنّ العلماء الّذين آمنوا بالألوهيّة، في ما وراء الطّبيعة، لم يغفلوا عن قانون السّببيّة في الكون، ولم يجهلوا طبيعة الأسباب المباشرة الّتي تستند إليها الأشياء، ولكنّهم كانوا يتساءلون عن السّبب الأوّل الّذي أعطى للأشياء المباشرة قوّة السّببيّة، فلم تكن القضيّة لديهم منطلقةً من مشاهداتٍ ساذجةٍ، أو حالات جهلٍ بسيطٍ، أو انفعالاتٍ طارئةٍ، بل انطلقت من دراسةٍ فكريّةٍ عميقةٍ وتأمُّلاتٍ ذاتيّةٍ دقيقةٍ. ‏

‏ ‏‏ج‏‏- أسلوب القرآن في معالجة الإيمان: ‏

‏إنّ القرآن الكريم، في حديثه عن ظواهر الكون، ينسب الفعل إلى الله، ولا يُغفِل دور الإنسان في النِّسبة في ما يتعلّق بالأفعال الّتي تتّصل بإرادته بشكلٍ مباشرٍ، وذلك بالتّعبير نفسه، كما في قوله تعالى: {و اللّهُ خلقكُمْ و ما تعْملُون} [الصّافات: 96]، فقد أسند العمل إلينا بالأسلوب نفسه الّذي أسند فيه الخلق إلى ذاته المقدّسة، فنحن الّذين قمنا بالعمل، وبذلك صحّت نسبة العمل إلينا؛ أمّا نسبته إلى الله فلأنّه أعطانا الحياة والقوّة والأدوات الّتي يحتاجها العمل، ومنحنا الإرادة الّتي تتحرّك نحو العمل بشكلٍ مباشرٍ؛ للإيحاء بأنّه السّبب الأعمق الّذي تنتهي إليه الأشياء في سلسلة الأسباب. وهذا ما نستوحيه من قوله تعالى: {فلمْ تقْتُلُوهُمْ و لكِنّ اللّه قتلهُمْ و ما رميْت إِذْ رميْت و لكِنّ اللّه رمى‏ و لِيُبْلِي الْمُؤْمِنِين مِنْهُ بلاءً حسناً إِنّ اللّه سمِيعٌ علِيمٌ} [الأنفال: 17]، فهو ينفي عن الإنسان استقلاله بالفعل بالمستوى الّذي يرجع إليه كلُّ شي‏ءٍ، ولا ينفي عنه قيامه بالفعل. ‏

‏وهكذا تتنوّع الآيات القرآنيّة الّتي تتحدّث عن الأفعال والظّواهر الطّبيعيّة في الكون، وفي حركة الحياة والإنسان، ليتحدّث بأسلوبٍ واحدٍ عن السّبب المباشر والأعمق الّذي يوحي للإنسان بالمنهج الحقِّ للمعرفة الّتي تواجه الأسباب المباشرة الّتي تعطينا الأُسس للنِّظام الكونيِّ، وتربطنا بالله في النِّطاق الغيبيِّ لوجوده. ‏

‏ومن خلال هذه النِّقاط الثّلاث، نستطيع التّعرُّف على خطأ الفكرة الّتي تربط الإيمان بجهل الإنسان بالأُسس الطّبيعيّة الّتي يرتكز عليها نظام الكون، ليكون الإلحاد منطلقًا من وعي الكائن للطّبيعة، ونصل إلى النّتيجة الصّحيحة، وهي أنّ القضيّة ليست قضيّة خوفٍ يجعل الإنسان يتعلّق بأيِّ شي‏ءٍ، ولكنّها قضيّة فكرٍ يحاول أن يواجه الظّواهر والمشاكل والقضايا بالفكر، الّذي يتساءل ويفتِّش عن جوابٍ للسُّؤال حتّى يصل إلى السُّؤال الّذي لا يحتاج إلى سؤالٍ مثله. ولهذا نذهب إلى أنّ قضيّة الإيمان لا تنفصل عن السّببيّة المودعة في الكون، وعن تطوُّر العلم وتقدُّمه، بل إنّنا نرى في كلِّ اكتشافٍ علميٍّ جديدٍ دليلاً جديدًا على وجود الله؛ لأنّ العلم لا يكتشف شيئًا إلاّ ليكتشف وراءه حكمةً ونظامًا وقانونًا يتّصل بالظّواهر الأخرى للكون، ويوحي لنا بوحدته الّتي نكتشف من خلالها حكمة الخالق ووحدته؛ لأنّها، وإن اختلفت في مظاهرها وأشكالها، إلاّ أنّها تتّحد في قوانينها الأساسيّة الّتي تحكم الكون كلّه. وهذا ما تثيره أمامنا هذه الآيات الكريمة، لتخطِّط لنا المنهج التّأمُّليّ للعقيدة والإيمان، كما توحي به الآية الكريمة في قوله تعالى: {سنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ و فِي أنْفُسِهِمْ حتّى يتبيّن لهُمْ أنّهُ الْحقُّ أ و لمْ يكْفِ بِربِّك أنّهُ على‏ كُلِّ شيْ‏ءٍ شهِيدٌ} [فصِّلت: 53]. ‏

‏جاء في تفسير (الكاشف): «إنّ في السّماء من النُّجوم ما يفوق على حبّات الرّمل عددًا، وإنّ أصغر نجمٍ لهو أكبر حجمًا من الأرض بأكثر من مليون مرّة، وإنّ كلّ مجموعةٍ من النُّجوم تؤلِّف مدينةً عظمى، اسمها المجرّة، تضمُّ أكثر من مئة مليون نجمة، وإنّ عدد هذه المدن أكثر من مليونيِّ مدينةٍ تبعد الواحدة عن الأخرى مسافة رسالةٍ لاسلكيّةٍ تصل بعد ثلاثة ملايين من السِّنين، أي أنّ نسبة هذه المدن بمجموعها إلى الفضاء الخالي، تمامًا كنسبة ذبابةٍ تائهةٍ في الكرة الأرضيّة، وكلُّ هذه النُّجوم والمجرّات تسير بتوازنٍ وانتظامٍ». ‏

‏أمّا الأرض، فهي «كرةٌ معلّقةٌ في الهواء تدور حول نفسها مرّةً واحدةً كلّ 24 ساعة، فيكون تعاقب اللّيل والنّهار، وتسبحُ حول الشّمس مرّةً كلّ عامٍ، فيكون تعاقب الفصول الأربعة. ويحيط بالأرض غلافٌ غازيٌّ يشتمل على الغازات اللاّزمة للحياة، ويحفظ هذا الغلاف من الغازات درجة الحرارة المناسبة للحياة، ويحمل بخار الماء من المحيطات إلى مسافاتٍ بعيدةٍ داخل القارّات حيث يتكاثف المطر. ‏

‏ثمّ لو كان قطر الأرض أصغر ممّا هو عليه، لعجزت عن الاحتفاظ بالتّوازن، ولصارت درجة الحرارة بالغةً حدّ الموت، ولو كان قطرها أكبر ممّا هو لزادت جاذبيّتها للأجسام، وتؤثِّر هذه الزِّيادة أبلغ الأثر في الحياة على سطح الأرض. ولو بعُدت الأرض عن الشّمس أكثر من المسافة الحاليّة لنقصت كميّة الحرارة الّتي تتلقّاها من الشّمس، ولو قربت منها أكثر ممّا هي الآن لزادت الحرارة، وفي كلتا الحالتين تتعذّر الحياة على الأرض. ‏

‏فكُرويّة الأرض، والفراغ الّذي يحيط بها، ودورانها حول الشّمس، وإحاطتها بالغلاف الجويِّ، ووضعها في مكانها الخاص، وكون قطرها بهذا المقدار الخاص، كلُّ أولئك تُهيِّئ للإنسان أسباب الحياة على الأرض، ولو فُقِد وصفٌ واحدٌ من هذه الأوصاف، كما لو كانت الأرض مسطّحةً، أو أصغر، أو أكبر، أو أبعد أو أقرب إلى الشّمس، أو فُقد الغلاف، لاستحال أن يكون الإنسان ابن الأرض بشهادة العلماء»‏3‏ . ‏

‎ ‎

‎ ‎

‎ ‎

‎ ‎

‏1.‏‏كما قيل في تفسير قوله تعالى: {و لِلّهِ يسْجُدُ ما فِي السّماواتِ و ما فِي الْأرْضِ مِنْ دابّةٍ و الْملائِكةُ و هُمْ لا يسْتكْبِرُون} [النّحل: 49]، على أساس ظهور الآية في أنّها في مقام بيان سجود الكائنات جميعًا لله، والّتي لا شكّ أنّ الإنسان منها، وليس فيها إلاّ عنوان الدّابّة ممّا يمكن أن يكون داخلاً تحته، على أساس أنّه ممّا يدبُّ على الأرض. وكذا قيل في تأويل قوله تعالى: {و إِذا وقع الْقوْلُ عليْهِمْ أخْرجْنا لهُمْ دابّةً مِن الْأرْضِ تُكلِّمُهُمْ أنّ النّاس كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُون} [النّمل: 82]، في أنّ من يكلِّمهم يومئذٍ هو أمير المؤمنين عليُّ بن أبي طالب عليه السلام ؛ انظر: القمِّي، تفسير القمِّي، م. س، ج 2، ص 130 - 131. الشّيخ الطّبرسي، مجمع البيان، م. س، ج 7، ص‏404.‏

‏2.‏‏المقصود بمصطلح «الإلهيِّ»، الّذي يعتقد بأنّ وراء هذا العالم المادِّيِّ، خالقًا ومدبِّرًا عاقلاً وحكيمًا، أمّا «المادِّيُّ» فهو الّذي يقتصر في نظرته إلى المادّة نفسها من غير أن يعتقد بخالقٍ وراءها.‏

‏3.‏‏الشّيخ مغنيّة، محمد جواد (ت 1400 هـ-)، التّفسير الكاشف، ط 1، مؤسسة دار الكتاب الإسلامي، 1424 هـ- - 2003 م، ج 1، ص 251 - 252.‏

‎ ‎

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية