تفسير
25/01/2024

s-2-a-174-175-176

s-2-a-174-175-176

‏ ‏

‏معاني المفردات ‏

{ بُطُونِهِمْ }: البطن : خلاف الظّهر في الإنسان أو الحيوان. وهو المقصود في الآية؛ لأنّه المناسب للأكل، ولو كان التّعبير به مجازيًّا. والبطن : الغامض من الأرض. والبطن من العرب : دون القبيلة. ‏

{ اِخْتلفُوا }: الاختلاف : الذّهاب على جهة التّفرُّق في الجهات، وأصله من اختلاف الطّريق، ثمّ استُعمل في الاختلاف في المذاهب تشبيهًا بالاختلاف في الطّريق؛ من حيث إنّ كلّ واحدٍ منها على نقيض فاعليّة الآخر من الاعتقاد. ‏

{ شِقاقٍ }: الشِّقاق والمُشاقّة : انحياز كلِّ واحدٍ عن شقِّ صاحبه للعداوة له، وهو طلب كلِّ واحدٍ منهما ما يشقُّ على الآخر لأجل العداوة. ‏

‏كتمان الوحي والاتِّجار بالدِّين ‏

‏أفاض القرآن الكريم الحديث عن كتمان الوحي، وإخفاء الحقائق الإلهيّة، والاتِّجار بالدِّين، واستغلال جهل الجاهلين، وشدّد على استحقاق هؤلاء الّذين يمارسون هذه الأمور عقابًا أليمًا؛ لأنّهم لا يُسيئون بذلك إلى أنفسهم فقط، بل يسيئون إلى الحياة وإلى النّاس كافّة؛ لأنّ الحقيقة إذا انطلقت في الحياة فكرًا وممارسةً، فسوف تفتح للنّاس أبواب الخير والتّقدُّم، وتدفع الحياة إلى النُّموِّ والازدهار، وتُخرجها من الظُّلمات إلى النُّور. ‏

‏وهذا ما نلمحه في هذه الآيات الّتي تتحدّث عن الّذين يكتمون وحي الله، ويتاجرون به بطريقةٍ تحريفيّةٍ، فتتوعدهم بأنّ هذا الّذي يأكلونه ثمنًا للتّحريف سوف يتحوّل إلى نارٍ تحرق أجسامهم وبطونهم، وسوف يقفون يوم القيامة موقف الخزي عندما يواجهون إعراض الله عنهم المتمثِّل في عدم التفاتهِ إليهم بالكلام، وعدم تزكيته لهم بالرّحمة والرِّضوان واللُّطف العميم، وفي إردائهم في العذاب الأليم. ‏

‏ثمّ تثير انحرافهم عن الخطِّ المستقيم الّذي يسير عليه النّاس في مواجهتهم لقضايا المصير في حسابات الرِّبح والخسارة، انطلاقًا من الشُّعور الدّاخليِّ بالحاجة إلى النّجاة من كلِّ العواقب الوخيمة الّتي تعرِّض الإنسان للهلاك والعذاب. فقد واجه هؤلاء قضيّة الهدى والضّلال كخطّين متعاكسين في الحياة، وكان بإمكانهم اختيار خطِّ الهدى الّذي يجلب لهم الخير والنُّور والفلاح، ولكنّهم استبدلوا به الضّلالة الّتي توقعهم في الشّرِّ والظّلام والخسران. كما أنّهم واجهوا قضيّة أسباب العذاب وأسباب المغفرة، وكان من الممكن أن يأخذوا بأسباب المغفرة في طاعة الله ومحبّته، ويتركوا الأخذ بأسباب العذاب في معصية الله وسخطه، ولكنّهم فضّلوا العذاب على المغفرة. ‏

‏ثمّ يتعجّب - في معرض الإيحاء بأنّهم لا يطيقون ذلك - : { فما أصْبرهُمْ على النّارِ}؛ كأنّه يريد أن يوحي بأنّ الّذي يختار هذا المصير هو الّذي يملك الطّاقة الكبرى من الصّبر على حرارة النّار وعذابها، مع أنّهم لا يملكون مثل ذلك، فكيف اختاروا لأنفسهم هذا المصير؟ ‏

‏ثمّ تختم الآية الأخيرة هذا الجوّ بتوضيح صورة الضّلال الّذي يتخبّط فيه هؤلاء أمام الهدى الّذي يمثِّله خطُّ الرِّسالات، فقد أنزل الله الكتاب بالحقِّ الواضح الّذي لا لبس فيه ولا اختلاف؛ أمّا هؤلاء الّذين اختلفوا في الكتاب في ألفاظه ومعانيه وفي طبيعة المسير الّذي تتحرّك فيه مفاهيمه في خطوط الحياة، فإنّهم في شقاقٍ بعيدٍ، لا يملك أحدٌ فيه العوامل الإيجابيّة الّتي تقرِّب وجهات النّظر وتجمعها في مسارٍ واحدٍ؛ لأنّ القضيّة ليست قضيّة فكرٍ يبحث عن الحقِّ أين يجده، بل هي قضيّة أطماعٍ وشهواتٍ وامتيازاتٍ تبحث عن نفسها في الخلافات المتحرِّكة في المواقع والأشخاص في كلِّ اتِّجاهٍ، ولذلك فإنّها لا تقترب إلاّ لتبتعد، ولا تهدأ إلاّ لتثور من جديدٍ؛ لأنّها لا تلتقي بالقاعدة الصّلبة للِّقاء أو للهدوء، بل تظلُّ مع الرِّمال المتحرِّكة الّتي تجرُّ الخطى إلى أعماق الهاوية، وذلك هو الضّلال البعيد، والخسران المبين. ‏

‏جزاء كتمان الدِّين والمتاجرة به ‏

{ إِنّ الّذِين يكْتُمُون ما أنْزل اللّهُ }، وهم أهل الكتاب من اليهود، أو جماعةٌ منهم، ممّن كانوا يبشِّرون النّاس بالنّبيِّ صلى الله عليه و آله و سلم ، باعتباره الرّسول المرتقب الّذي بشّرت به التّوراة وحدّدت صفاته؛ أملاً في أن يكون منهم، فلمّا جاء النّبيُّ صلى الله عليه و آله و سلم وعرفوا أنّه من غيرهم، تراجعوا عن كلِّ ما قالوه وغيّروه وبدّلوه، وبدؤوا يتحرّكون على أساس كتمان الحقيقة الّتي عرفوها، لئلاّ يكون ذلك حجّةً عليهم من قِبل المسلمين. ‏

‏وإذا صحّ نزول الآية في هذه الجماعة، فإنّ الآية مطلقةٌ لكلِّ الّذين يكتمون الحقّ الموجود في الكتاب المنزل، توراةً أو إنجيلاً أو قرآنًا، في ما تضمّنه من الحقائق المتّصلة بالعقائد أو الشّرائع أو مناهج الحياة؛ لأنّ الكتاب يمثِّل رسالة الله المتحرِّكة في خطِّ النُّبوّات، وهو ينطلق من وحدةٍ على مستوى القضايا الكلِّيّة في موقع القاعدة مع تنوُّع التّفاصيل، فلا يريد الله لأهله أن يكتموه عن النّاس، بل يريد لهم أن يبلِّغوه بالمبادرة تارةً على مستوى الدّعوة والتّبليغ، وأخرى بالجواب عن السُّؤال على مستوى الاستجابة لعلامات الاستفهام لدى النّاس. ‏

{و يشْترُون بِهِ ثمناً قلِيلاً}‎ ‎‏أي : يعملون على الاتِّجار به وتحويله الى سلعةٍ للتِّجارة، فيحتكرونه لأنفسهم، ولا ينشرونه بين النّاس؛ ليحصلوا على الثّمن الّذي يدفعه الآخرون المحتاجون إليه في مقابله، ممّا لا يتّفق مع الحقيقة المنزلة، بل ينطلق في خطِّ التّحريف. ولكنّهم مهما حصلوا عليه من المال، كبدلٍ للكتاب، فإنّه لا يمثِّل إلاّ ثمنًا قليلاً؛ لأنّ الكتاب أكبر من كلِّ ثمنٍ، فلا يساويه أيُّ شي‏ءٍ ممّا يتداوله النّاس من الأثمان. ولو أنّهم أخلصوا لله في حفظ كتابه وإظهاره لعباده، لحصلوا من ذلك على خير كبيرٍ لا يُقاس به هذا العرض الزّائل من تجارتهم الخاسرة. ‏

{ أُولئِك ما يأْكُلُون فِي بُطُونِهِمْ إِلاّ النّار و لا يُكلِّمُهُمُ اللّهُ يوْم الْقِيامةِ }، فما حصلوا عليه واكتسبوه بالإثم واشتروا به طيِّبات الحياة وشهواتها من كلِّ ما يستطيبونه ويستلذُّونه ويأكلونه، سوف يتحوّل إلى نارٍ تحرقهم في عذاب الله في جهنّم، وسيفقدون رعاية الله، حيث يُبعدهم الله عن رحمته، فلا يكلِّمهم كما يكلِّم المؤمنين، ولا يخاطبهم بالرّحمة واللُّطف والرِّضوان كما يخاطبهم. ولا ريب أنّ في ذلك إشارةً إلى أنّ من مظاهر رحمة الله تعالى في الآخرة هي التفاته إلى المؤمنين بالكلام معهم، ما يعبِّر عن إظهارٍ خاصٍّ لرعايته وعنايته واهتمامه بهم، في حين أنّه يحرم غير المؤمنين من هذه الرّحمة. { و لا يُزكِّيهِمْ }، بالثّناء عليهم وامتداحهم كما يُثني على عباده المؤمنين، أو : لا يزكِّيهم، من التّزكية بمعنى الطّهارة، أي : لا يطهِّرهم من القذارات المعنويّة بالمغفرة، بل أكثر من ذلك {و لهُمْ عذابٌ ألِيمٌ}، موجعٌ مؤلمٌ، بما تمرّدوا على الله في انحرافهم عن الحقِّ، موقفًا وإظهارًا وإعلانًا؛ بكفرهم بالرّسول، وكتمانهم لدلائل رسالته. ‏

{ أُولئِك الّذِين اِشْتروُا الضّلالة بِالْهُدى‏ }، عندما استبدلوا بالإيمان بالنّبيِّ محمّدٍ صلى الله عليه و آله و سلم أو بالحقائق الإلهيّة الكفر به أو بها، فانطلقوا في خطِّ الضّلال بدلاً من خطِّ الهدى، {و الْعذاب بِالْمغْفِرةِ}، فأخذوا العذاب الّذي يترتّب على الكفر، وتركوا المغفرة الّتي تتأتّى من الإيمان، فاستحقُّوا النّار، { فما أصْبرهُمْ على النّارِ }، أي : ما أجرأهم على النّار الّتي لا يمكن أن يجرؤ على اقتحامها أو التّسبيب للوقوع بها أيُّ عاقل، ما يوحي بجهلهم بالنّتائج على مستوى وعي الأعمال الّتي قدّموها أمامهم من معاصي الله، وسفاهتهم الذِّهنيّة والعمليّة. وهذا ما يوحي بالتّعجُّب من هؤلاء في حركتهم السّائرة إلى الهلاك الأبديِّ في نار جهنّم، كيف ارتضوا لأنفسهم هذا المصير الأسود!! ‏

{ ذلِك }‎ ‎‏العذاب الّذي أنزله الله بهم لا ينطلق من غير سببٍ يوجبه، بل يتحرّك من قاعدةٍ ثابتةٍ في الخطِّ الإلهيِّ في مجازاته لعباده على أعمالهم في الدُّنيا، { بِأنّ اللّه نزّل الْكِتاب بِالْحقِّ }، فقد أراد للحقِّ الكتابيِّ أن يكون القاعدة للحركة الإنسانيّة في الحياة، ليتكامل الإنسان - في ذلك - مع الكون الّذي أقامه الله على أساس الحقِّ؛ فقد خلق الله السّماوات والأرض بالحقِّ، ومن الطّبيعيِّ أنّ ذلك لن يتحقّق إلاّ إذا بلّغ الكتاب أهلُه، ليقرأه النّاس، وليفهموه، ويعرفوا حقائقه، وليتحرّكوا من خلاله؛ فإذا كتمه أهلُه وحرّفوه، واشتروا به ثمنًا قليلاً، فلا يمكن للنّاس أن يلتقوا بالحقِّ، وهو ما يؤدِّي إلى الوقوع في الباطل والابتعاد عن الله، وبالتّالي إلى الإساءة للحياة، والإنسان، وتوازن العلاقة بين الكون والإنسان من جهةٍ، وبين الله من جهةٍ أخرى، وهذه جريمةٌ كبيرةٌ متعدِّدة الأبعاد. ‏

{و إِنّ الّذِين اِخْتلفُوا فِي الْكِتابِ}، في تحريفه وتأويله وتحريكه في الواقع تبعًا لأهوائهم الّتي لا تنطلق بهم من موقع وحدةٍ، ولا تسير بهم إلى قاعدةٍ من اللِّقاء، { لفِي شِقاقٍ بعِيدٍ }، فهم قد يلتقون على إخفاء الحقِّ، وكتمان الحقيقة، والكفر بالنّبيِّ صلى الله عليه و آله و سلم وبرسالته، ولكنّهم، في داخلهم، في حالة نزاعٍ وشقاقٍ بعيدٍ، لا يقترب بهم إلى الحقِّ؛ لأنّ لكلٍّ منهم هوًى يتحرّك في خدمة أطماعه وشهواته، وخطًّا يسير به إلى مصالحه بعيدًا عن خطِّ الآخر، الأمر الّذي يجعل حياتهم مفتوحةً على أكثر من نزاعٍ أو خلافٍ يبتعد بهم عن الخطِّ المستقيم. ‏

‏الآية وتجسُّم الأعمال ‏

‏وقد جاء في تفسير (الميزان) أنّ «في الآية من الدّلالة على تجسُّم الأعمال وتحقُّق نتائجها ما لا يخفى؛ فإنّه تعالى ذكر أوّلاً أنّ اختيارهم الثّمن القليل على ما أنزل الله هو أكل النّار في بطونهم، ثمّ بدل اختيار الكتمان وأخذ الثّمن على بيان ما أنزل الله في الآية التّالية، من اختيار الضّلالة على الهدى، ثمّ من اختيار العذاب على المغفرة، ثمّ ختمها بقوله : { فما أصْبرهُمْ على النّارِ }، والّذي كان منهم ظاهرًا هو الإدامة للكتمان والبقاء عليها. فافهم»‏1‏. ‏

‏ونلاحظ على ذلك : أنّ هذه الدّلالة الّتي لاحظها العلاّمة الطّباطبائيُّ ارتكزت على استنطاق المدلول الحرفيِّ للكلمة، بعيدًا عن الأساليب البلاغيّة في الاستعارة والكناية، الّتي قد تعبِّر عن أكل النّار في بطونهم، تعبيرًا عن استحقاقهم الدُّخول في النّار والسُّقوط في عذابها، جزاءً على عصيانهم وكفرهم، تمامًا كما لو كانوا يأكلونها في بطونهم. والله العالم.‏

‎ ‎

‎ ‎

‏ ‏

‏ ‏

‏1.‏‏السّيِّد الطّباطبائي، محمّد حسين (ت 1412 هـ-)، الميزان في تفسير القرآن، منشورات جماعة المدرِّسين في الحوزة العلميّة في قم المقدّسة، قم - إيران، (د ت)، ج 1، ص 426. ‏

‏ ‏

‏معاني المفردات ‏

{ بُطُونِهِمْ }: البطن : خلاف الظّهر في الإنسان أو الحيوان. وهو المقصود في الآية؛ لأنّه المناسب للأكل، ولو كان التّعبير به مجازيًّا. والبطن : الغامض من الأرض. والبطن من العرب : دون القبيلة. ‏

{ اِخْتلفُوا }: الاختلاف : الذّهاب على جهة التّفرُّق في الجهات، وأصله من اختلاف الطّريق، ثمّ استُعمل في الاختلاف في المذاهب تشبيهًا بالاختلاف في الطّريق؛ من حيث إنّ كلّ واحدٍ منها على نقيض فاعليّة الآخر من الاعتقاد. ‏

{ شِقاقٍ }: الشِّقاق والمُشاقّة : انحياز كلِّ واحدٍ عن شقِّ صاحبه للعداوة له، وهو طلب كلِّ واحدٍ منهما ما يشقُّ على الآخر لأجل العداوة. ‏

‏كتمان الوحي والاتِّجار بالدِّين ‏

‏أفاض القرآن الكريم الحديث عن كتمان الوحي، وإخفاء الحقائق الإلهيّة، والاتِّجار بالدِّين، واستغلال جهل الجاهلين، وشدّد على استحقاق هؤلاء الّذين يمارسون هذه الأمور عقابًا أليمًا؛ لأنّهم لا يُسيئون بذلك إلى أنفسهم فقط، بل يسيئون إلى الحياة وإلى النّاس كافّة؛ لأنّ الحقيقة إذا انطلقت في الحياة فكرًا وممارسةً، فسوف تفتح للنّاس أبواب الخير والتّقدُّم، وتدفع الحياة إلى النُّموِّ والازدهار، وتُخرجها من الظُّلمات إلى النُّور. ‏

‏وهذا ما نلمحه في هذه الآيات الّتي تتحدّث عن الّذين يكتمون وحي الله، ويتاجرون به بطريقةٍ تحريفيّةٍ، فتتوعدهم بأنّ هذا الّذي يأكلونه ثمنًا للتّحريف سوف يتحوّل إلى نارٍ تحرق أجسامهم وبطونهم، وسوف يقفون يوم القيامة موقف الخزي عندما يواجهون إعراض الله عنهم المتمثِّل في عدم التفاتهِ إليهم بالكلام، وعدم تزكيته لهم بالرّحمة والرِّضوان واللُّطف العميم، وفي إردائهم في العذاب الأليم. ‏

‏ثمّ تثير انحرافهم عن الخطِّ المستقيم الّذي يسير عليه النّاس في مواجهتهم لقضايا المصير في حسابات الرِّبح والخسارة، انطلاقًا من الشُّعور الدّاخليِّ بالحاجة إلى النّجاة من كلِّ العواقب الوخيمة الّتي تعرِّض الإنسان للهلاك والعذاب. فقد واجه هؤلاء قضيّة الهدى والضّلال كخطّين متعاكسين في الحياة، وكان بإمكانهم اختيار خطِّ الهدى الّذي يجلب لهم الخير والنُّور والفلاح، ولكنّهم استبدلوا به الضّلالة الّتي توقعهم في الشّرِّ والظّلام والخسران. كما أنّهم واجهوا قضيّة أسباب العذاب وأسباب المغفرة، وكان من الممكن أن يأخذوا بأسباب المغفرة في طاعة الله ومحبّته، ويتركوا الأخذ بأسباب العذاب في معصية الله وسخطه، ولكنّهم فضّلوا العذاب على المغفرة. ‏

‏ثمّ يتعجّب - في معرض الإيحاء بأنّهم لا يطيقون ذلك - : { فما أصْبرهُمْ على النّارِ}؛ كأنّه يريد أن يوحي بأنّ الّذي يختار هذا المصير هو الّذي يملك الطّاقة الكبرى من الصّبر على حرارة النّار وعذابها، مع أنّهم لا يملكون مثل ذلك، فكيف اختاروا لأنفسهم هذا المصير؟ ‏

‏ثمّ تختم الآية الأخيرة هذا الجوّ بتوضيح صورة الضّلال الّذي يتخبّط فيه هؤلاء أمام الهدى الّذي يمثِّله خطُّ الرِّسالات، فقد أنزل الله الكتاب بالحقِّ الواضح الّذي لا لبس فيه ولا اختلاف؛ أمّا هؤلاء الّذين اختلفوا في الكتاب في ألفاظه ومعانيه وفي طبيعة المسير الّذي تتحرّك فيه مفاهيمه في خطوط الحياة، فإنّهم في شقاقٍ بعيدٍ، لا يملك أحدٌ فيه العوامل الإيجابيّة الّتي تقرِّب وجهات النّظر وتجمعها في مسارٍ واحدٍ؛ لأنّ القضيّة ليست قضيّة فكرٍ يبحث عن الحقِّ أين يجده، بل هي قضيّة أطماعٍ وشهواتٍ وامتيازاتٍ تبحث عن نفسها في الخلافات المتحرِّكة في المواقع والأشخاص في كلِّ اتِّجاهٍ، ولذلك فإنّها لا تقترب إلاّ لتبتعد، ولا تهدأ إلاّ لتثور من جديدٍ؛ لأنّها لا تلتقي بالقاعدة الصّلبة للِّقاء أو للهدوء، بل تظلُّ مع الرِّمال المتحرِّكة الّتي تجرُّ الخطى إلى أعماق الهاوية، وذلك هو الضّلال البعيد، والخسران المبين. ‏

‏جزاء كتمان الدِّين والمتاجرة به ‏

{ إِنّ الّذِين يكْتُمُون ما أنْزل اللّهُ }، وهم أهل الكتاب من اليهود، أو جماعةٌ منهم، ممّن كانوا يبشِّرون النّاس بالنّبيِّ صلى الله عليه و آله و سلم ، باعتباره الرّسول المرتقب الّذي بشّرت به التّوراة وحدّدت صفاته؛ أملاً في أن يكون منهم، فلمّا جاء النّبيُّ صلى الله عليه و آله و سلم وعرفوا أنّه من غيرهم، تراجعوا عن كلِّ ما قالوه وغيّروه وبدّلوه، وبدؤوا يتحرّكون على أساس كتمان الحقيقة الّتي عرفوها، لئلاّ يكون ذلك حجّةً عليهم من قِبل المسلمين. ‏

‏وإذا صحّ نزول الآية في هذه الجماعة، فإنّ الآية مطلقةٌ لكلِّ الّذين يكتمون الحقّ الموجود في الكتاب المنزل، توراةً أو إنجيلاً أو قرآنًا، في ما تضمّنه من الحقائق المتّصلة بالعقائد أو الشّرائع أو مناهج الحياة؛ لأنّ الكتاب يمثِّل رسالة الله المتحرِّكة في خطِّ النُّبوّات، وهو ينطلق من وحدةٍ على مستوى القضايا الكلِّيّة في موقع القاعدة مع تنوُّع التّفاصيل، فلا يريد الله لأهله أن يكتموه عن النّاس، بل يريد لهم أن يبلِّغوه بالمبادرة تارةً على مستوى الدّعوة والتّبليغ، وأخرى بالجواب عن السُّؤال على مستوى الاستجابة لعلامات الاستفهام لدى النّاس. ‏

{و يشْترُون بِهِ ثمناً قلِيلاً}‎ ‎‏أي : يعملون على الاتِّجار به وتحويله الى سلعةٍ للتِّجارة، فيحتكرونه لأنفسهم، ولا ينشرونه بين النّاس؛ ليحصلوا على الثّمن الّذي يدفعه الآخرون المحتاجون إليه في مقابله، ممّا لا يتّفق مع الحقيقة المنزلة، بل ينطلق في خطِّ التّحريف. ولكنّهم مهما حصلوا عليه من المال، كبدلٍ للكتاب، فإنّه لا يمثِّل إلاّ ثمنًا قليلاً؛ لأنّ الكتاب أكبر من كلِّ ثمنٍ، فلا يساويه أيُّ شي‏ءٍ ممّا يتداوله النّاس من الأثمان. ولو أنّهم أخلصوا لله في حفظ كتابه وإظهاره لعباده، لحصلوا من ذلك على خير كبيرٍ لا يُقاس به هذا العرض الزّائل من تجارتهم الخاسرة. ‏

{ أُولئِك ما يأْكُلُون فِي بُطُونِهِمْ إِلاّ النّار و لا يُكلِّمُهُمُ اللّهُ يوْم الْقِيامةِ }، فما حصلوا عليه واكتسبوه بالإثم واشتروا به طيِّبات الحياة وشهواتها من كلِّ ما يستطيبونه ويستلذُّونه ويأكلونه، سوف يتحوّل إلى نارٍ تحرقهم في عذاب الله في جهنّم، وسيفقدون رعاية الله، حيث يُبعدهم الله عن رحمته، فلا يكلِّمهم كما يكلِّم المؤمنين، ولا يخاطبهم بالرّحمة واللُّطف والرِّضوان كما يخاطبهم. ولا ريب أنّ في ذلك إشارةً إلى أنّ من مظاهر رحمة الله تعالى في الآخرة هي التفاته إلى المؤمنين بالكلام معهم، ما يعبِّر عن إظهارٍ خاصٍّ لرعايته وعنايته واهتمامه بهم، في حين أنّه يحرم غير المؤمنين من هذه الرّحمة. { و لا يُزكِّيهِمْ }، بالثّناء عليهم وامتداحهم كما يُثني على عباده المؤمنين، أو : لا يزكِّيهم، من التّزكية بمعنى الطّهارة، أي : لا يطهِّرهم من القذارات المعنويّة بالمغفرة، بل أكثر من ذلك {و لهُمْ عذابٌ ألِيمٌ}، موجعٌ مؤلمٌ، بما تمرّدوا على الله في انحرافهم عن الحقِّ، موقفًا وإظهارًا وإعلانًا؛ بكفرهم بالرّسول، وكتمانهم لدلائل رسالته. ‏

{ أُولئِك الّذِين اِشْتروُا الضّلالة بِالْهُدى‏ }، عندما استبدلوا بالإيمان بالنّبيِّ محمّدٍ صلى الله عليه و آله و سلم أو بالحقائق الإلهيّة الكفر به أو بها، فانطلقوا في خطِّ الضّلال بدلاً من خطِّ الهدى، {و الْعذاب بِالْمغْفِرةِ}، فأخذوا العذاب الّذي يترتّب على الكفر، وتركوا المغفرة الّتي تتأتّى من الإيمان، فاستحقُّوا النّار، { فما أصْبرهُمْ على النّارِ }، أي : ما أجرأهم على النّار الّتي لا يمكن أن يجرؤ على اقتحامها أو التّسبيب للوقوع بها أيُّ عاقل، ما يوحي بجهلهم بالنّتائج على مستوى وعي الأعمال الّتي قدّموها أمامهم من معاصي الله، وسفاهتهم الذِّهنيّة والعمليّة. وهذا ما يوحي بالتّعجُّب من هؤلاء في حركتهم السّائرة إلى الهلاك الأبديِّ في نار جهنّم، كيف ارتضوا لأنفسهم هذا المصير الأسود!! ‏

{ ذلِك }‎ ‎‏العذاب الّذي أنزله الله بهم لا ينطلق من غير سببٍ يوجبه، بل يتحرّك من قاعدةٍ ثابتةٍ في الخطِّ الإلهيِّ في مجازاته لعباده على أعمالهم في الدُّنيا، { بِأنّ اللّه نزّل الْكِتاب بِالْحقِّ }، فقد أراد للحقِّ الكتابيِّ أن يكون القاعدة للحركة الإنسانيّة في الحياة، ليتكامل الإنسان - في ذلك - مع الكون الّذي أقامه الله على أساس الحقِّ؛ فقد خلق الله السّماوات والأرض بالحقِّ، ومن الطّبيعيِّ أنّ ذلك لن يتحقّق إلاّ إذا بلّغ الكتاب أهلُه، ليقرأه النّاس، وليفهموه، ويعرفوا حقائقه، وليتحرّكوا من خلاله؛ فإذا كتمه أهلُه وحرّفوه، واشتروا به ثمنًا قليلاً، فلا يمكن للنّاس أن يلتقوا بالحقِّ، وهو ما يؤدِّي إلى الوقوع في الباطل والابتعاد عن الله، وبالتّالي إلى الإساءة للحياة، والإنسان، وتوازن العلاقة بين الكون والإنسان من جهةٍ، وبين الله من جهةٍ أخرى، وهذه جريمةٌ كبيرةٌ متعدِّدة الأبعاد. ‏

{و إِنّ الّذِين اِخْتلفُوا فِي الْكِتابِ}، في تحريفه وتأويله وتحريكه في الواقع تبعًا لأهوائهم الّتي لا تنطلق بهم من موقع وحدةٍ، ولا تسير بهم إلى قاعدةٍ من اللِّقاء، { لفِي شِقاقٍ بعِيدٍ }، فهم قد يلتقون على إخفاء الحقِّ، وكتمان الحقيقة، والكفر بالنّبيِّ صلى الله عليه و آله و سلم وبرسالته، ولكنّهم، في داخلهم، في حالة نزاعٍ وشقاقٍ بعيدٍ، لا يقترب بهم إلى الحقِّ؛ لأنّ لكلٍّ منهم هوًى يتحرّك في خدمة أطماعه وشهواته، وخطًّا يسير به إلى مصالحه بعيدًا عن خطِّ الآخر، الأمر الّذي يجعل حياتهم مفتوحةً على أكثر من نزاعٍ أو خلافٍ يبتعد بهم عن الخطِّ المستقيم. ‏

‏الآية وتجسُّم الأعمال ‏

‏وقد جاء في تفسير (الميزان) أنّ «في الآية من الدّلالة على تجسُّم الأعمال وتحقُّق نتائجها ما لا يخفى؛ فإنّه تعالى ذكر أوّلاً أنّ اختيارهم الثّمن القليل على ما أنزل الله هو أكل النّار في بطونهم، ثمّ بدل اختيار الكتمان وأخذ الثّمن على بيان ما أنزل الله في الآية التّالية، من اختيار الضّلالة على الهدى، ثمّ من اختيار العذاب على المغفرة، ثمّ ختمها بقوله : { فما أصْبرهُمْ على النّارِ }، والّذي كان منهم ظاهرًا هو الإدامة للكتمان والبقاء عليها. فافهم»‏1‏. ‏

‏ونلاحظ على ذلك : أنّ هذه الدّلالة الّتي لاحظها العلاّمة الطّباطبائيُّ ارتكزت على استنطاق المدلول الحرفيِّ للكلمة، بعيدًا عن الأساليب البلاغيّة في الاستعارة والكناية، الّتي قد تعبِّر عن أكل النّار في بطونهم، تعبيرًا عن استحقاقهم الدُّخول في النّار والسُّقوط في عذابها، جزاءً على عصيانهم وكفرهم، تمامًا كما لو كانوا يأكلونها في بطونهم. والله العالم.‏

‎ ‎

‎ ‎

‏ ‏

‏ ‏

‏1.‏‏السّيِّد الطّباطبائي، محمّد حسين (ت 1412 هـ-)، الميزان في تفسير القرآن، منشورات جماعة المدرِّسين في الحوزة العلميّة في قم المقدّسة، قم - إيران، (د ت)، ج 1، ص 426. ‏

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية