على أعتاب شهر رمضان: كيف نربّي أنفسنا على التقوى؟

على أعتاب شهر رمضان: كيف نربّي أنفسنا على التقوى؟

بعد أيام، نستقبل شهر رمضان، وهو شهر الإسلام وشهر الطّهور، كما عبّر عنه الإمام زين العابدين(ع)، وهو "شهر أُمّتي"[1]، كما عبّر عنه رسول الله(ص). وعندما نستقبل هذا الشَّهر الكريم، فإنّنا نحاول أن نكتشف فيه العناصر الّتي تتّصل ببناء الشخصيّة الإسلاميّة، لأنّ هناك نقطة مهمّة لا بدّ لنا من أن نتأمّلها في العبادات كلّها، وهي أنّ الله سبحانه وتعالى جعل للعبادات دائرتين.

الدائرة العباديّة

الدائرة الأولى هي سرّ التعبّد لله، فالإنسان في العبادة يشعر بمعنى العبودية لله، الذي يفرض عليه أن يذوب فيه، وأن يتجاوز المعاني الذاتية في شخصيته، فينحني عقله بين يديه سبحانه، وينحني قلبه أمامه، وينحني جسده بين يديه، راكعاً يعظّم الله في ركوعه، وساجداً يعظّم الله في سجوده، ومسلماً مستسلماً يعظّم الله في قيامه وفي الكلمات كلّها.

وعندما تتعبّد خلايا الإنسان في الصّوم لربها، فإنها تجد العناصر الّتي تجدّد لها حيويّتها خضوعاً لله، بعد أن يعيش الإنسان الصّوم في وعيه كلّه، ليقدّمه لله. وعندما ننفتح على الحجّ، فإنّ الإنسان يُحرم هنا ليصوم في إحرامه عن كثير من الأشياء الّتي تشتهيها نفسه، ويطوف حول البيت ليختصر في طوافه السّاحات التي يحبّها الله، وهي السّاحات الّتي يطوف بها في الحياة، وأن يكون سعيه في طريق الله، وأن يتأمّل هنا وهناك، وأن تكون المواقع كلّها والمواسم كلّها خضوعاً لله، يمارسها الإنسان، وإن لم يفهم سرّها ويعي معناها، ويتمثّل الإنسان في العبادة المعنى الّذي يجعله يسقط ذاته في معنى عناصره الشخصيّة، ليذوب في الله، وليشعر بأنّه ليس شيئاً أمام الله، إلا من خلال ما منحه الله من الإحساس بالشيئيّة في معنى العبوديّة.

الدائرة التربويّة

أمّا الدّائرة الثانية، فهي الدائرة التربويّة الّتي تتمثّل بإيحاءات العبادة لعناصر الشخصيّة الإنسانيّة، فنحن نقرأ ـ مثلاً ـ في القرآن الكريم: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ}[2]، فالإنسان عندما يصلّي ويستجمع عناصر الصلاة كلّها فيما يقرأ وفيما يركع ويسجد ويجلس ويقوم، فإنه ينفتح على عالم يشير إليه بأن يكون الإنسان الذي يعيش معنى أخلاقيّته، ليمتنع عن كلّ ما يتجاوز الحدود، وليبتعد عن كلّ ما ينكره الله وينكره النّاس.

وعندما يصوم الإنسان، فإنَّ المراد من الصّوم أن يربي الإنسان على التقوى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}[3]، فأن تصوم لله وتجسّد عبوديتك له، يعني أن تكون الإنسان الّذي يحركه صومه، ليكون الإنسان الذي يراقب عقله، حتى لا يدخل في عقله إلا الحق، ويراقب قلبه حتى لا يدخل في قلبه إلا الحب، ويراقب حركة جسده حتى لا يتحرك إلا في الخير، فأن تتقي الله، يساوي أن تعيش مواقعك في الحياة، فلا تقدّم رجلاً ولا تؤخّر أخرى حتى تعلم أنَّ في ذلك لله رضا. وبذلك، فإنّ الصّوم يقول لك: كن الإنسان المتوازن في أفكاره وعواطفه ومشاعره وحركته، لأنّك كلّما كنت تقيّاً أكثر، كنت متوازناً أكثر، ولأنّ الانحراف عن التقوى، هو انحراف عن خطّ التوازن في الحياة في كلّ ما تفعل وكلّ ما تترك.

شهر القرآن الكريم

وفي ضوء هذا، يمكننا أن ندخل إلى شهر رمضان من خلال الآيات التي تحدّثت عن الشهر بالذات، حيث يقول تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ}[4]. إننا نلاحظ في هذه الآية، أنّ الله سبحانه وتعالى وهو يتحدّث عن شهر رمضان، ينقلنا من خلال إيحاءات هذا الشّهر إلى القرآن، ليحدّثنا عن أنَّ الله أنزل فيه القرآن، وإذا عرفنا أنّ الله أنزل القرآن من أجل أن نتفهّمه، وأن نستوحيه، وأن نستضيء به، وأن نخرج به من الظّلمات إلى النّور، وأن نعمل به، فإنَّ معنى ذلك أنَّ شهر رمضان ارتبط بحركيَّة القرآن في حياة كلّ إنسان، لأنَّ الله أنزل القرآن فيه من أجل أن يعيش الناس القرآن كلّه في أجواء هذا الشهر.

فقد انطلقت أوّل آية أنزلها الله في أجواء القرآن من خلال هذا الشهر، فاحتضن الشهر القرآن، ودخل فيه دخولاً حيويّاً، كما لو كان القرآن يجري في عروقه، وفي ثوانيه، ودقائقه، وساعاته، وأيامه. وبذلك، تحوّل الزمن إلى روح قرآنيّة يعيش الإنسان فيها وهو يستوحي القرآن، وحيث لم ينزله في شهر رمضان مجرداً، بل عقبه بقوله تعالى: {هُدًى لِّلنَّاسِ}، فقد أنزل الله القرآن في هذا الشّهر، ليهتدي النّاس بمفاهيمه وعقائده وشرائعه ومناهجه وأساليبه وأخلاقياته، ما يعني أنّ عليك وأنت تقرأ القرآن في هذا الشهر، أن تقرأه قراءة الإنسان الذي يبحث عن الهداية في قراءته، لا الإنسان الّذي يستهلك الآيات في عجالته، وأن تقرأه لتكتشف المتاهات التي تتحرّك بها في الحياة، والأضاليل التي وضعتك ظروفك فيها، حتى تتحسَّس حالة الضّياع والحيرة التي تتخبّط فيها هنا وهناك، لتقرأ القرآن، وتبحث عن أيّ هدى تهتدي به عندما يحدّثك القرآن عن الشّريعة إذا انحرفت عنها، وأي هدى تهتدي به في الحياة إذا ضلّت بك الدروب لتكتشف الطريق المستقيم، وأيّ هدى تهتدي به إذا اختلطت بك المفاهيم والأفكار الّتي تختزنها في عقلك، وإذا تنوّعت الأصوات هنا وهناك، فأيّ صوت تسمع. إنَّ عليك أن تسمع صوت الله ولا تسمع أيّ صوت آخر، لأنّك عندما تسمع صوت الله، فإنك تسمع الحق كلّه في كلّ شيء، وتشعر بأنّ بالفراغ يمتلئ بالله، وحتى صوت الرسول هو صوت الله، وحتى صوت الأولياء المعصومين هو صوت الله، فلا تستغرق في ذواتهم، وإن كانت ذواتهم تعيش مع الله، بل استغرق في رسالتهم، فهم التّجسيد العمليّ للرّسالة.

هدى وبيّنات

{هُدًى لِّلنَّاسِ}، وحيث إنك عندما تقرأ القرآن وأنت في حالة من الضّياع والحيرة والتمزّق والتيه، فإنك بعد قراءة القرآن، تشعر بأنك انفتحت على خطّ جديد، وعلى الطمأنينة والسكينة وزيادة الإيمان، {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً}[5]. وإذا دخلت ساحة الصّراع، وقدّم الناس برهاناً هنا وهناك، وقرأت القرآن، فإنك تقرأ في القرآن البيّنات الّتي توضح الحقيقة فتهديك إليها، والبيّنات التي تبيّن لك الخطّ الفاصل بين الحق والباطل، فهي الفرقان الذي يفرق بين هذا وذاك، فلا يختلط الباطل عندك بالحق، ولا يختلط الحق عندك بالباطل، ولا يمتزجان ببعضهما البعض، بل ترى الحق حقاً في القرآن فتتبعه، وترى الباطل باطلاً في القرآن فتجتنبه، فهو يرفع عنك التشابه الذي يوقعك في الحيرة.

والله تعالى في هذه الآيات، يريدنا أن ندخل في عالم القرآن الّذي هو عالم الهدى وعالم البيّنات التي توضح الحقيقة، وتفصل بين الحقّ والباطل، وتوحي إلينا أنّ شهر رمضان لا ينفصل عن القرآن، فالله أنزل القرآن فيه من أجل أن يعيش الناس أبعاده ومعانيه، حتى لا يكون شهر رمضان فارغاً من كلام الله ومن مواعظه ووصاياه ونصائحه وشريعته وما إلى ذلك.

تدريب الإرادة

{فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}[6]، أي أن على من حضره وعاشه أن يصومه، فإنّ الله أراد للإنسان في شهر رمضان، أن يكون إنسان القوّة في الإرادة، والوعي في مضمون الإرادة، فليست المسألة فقط أن تكون إرادتك قويّة، بل أن تكون ذات مضمون ينفتح على الحقّ، وعلى ما يحبّه الله ويرضاه. ولذلك، فإنه سبحانه وتعالى أراد الصّوم تدريباً لإرادتك في خطِّ التقوى، وليس تدريباً لإرادتك لتكون امتيازاً شخصيّاً لك، فتحركها في خطّ الشّرّ، أو خطّ الضّلال، أو أيّ خطّ منحرف آخر، فالله في الوقت الّذي يريد للإنسان أن يكون قويّ الإرادة، يريده أيضاً أن يكون واعي الإرادة، حتى لا تتحرك إرادته في مواقع الاهتزاز في خطوط الشرّ والباطل.

ولذلك، يريد الله لإنسانيّتك أن تكون في عناصرها الحيّة غنيّة بمبادئك، والكثير من الناس يحاولون إغناء شخصيّاتهم بالقوّة والبطولة والصحّة والعافية والموقع، ولكن من دون مضمون ينفتح على المبادئ، حيث يقول الإمام زين العابدين(ع) الذي أطلق عليه بعض الأدباء أنّه (شاعر الله): "واحفظنا من بين أيدينا ومن خلفنا، وعن أيماننا وعن شمائلنا، ومن جميع نواحينا، حفظاً عاصماً من معصيتك، هادياً إلى طاعتك، مستعملاً لمحبّتك"[7]، فلا أريد يا ربّ أن تحفظني حفظاً أستخدمه في معاصيك، أو أتحرّك به على خلاف طاعتك، أو أبتعد به عن مواقع محبّتك، بل أعطني الحفظ الّذي يجعلني الإنسان الّذي ينفتح عليك بمسؤوليّاته كلّها وبمحبّته كلّها. ونقرأ في دعاء يوم الثّلاثاء: "واجعل الحياة زيادة لي في كلّ خير، والوفاة راحة لي من كلّ شرّ"[8]، فإذا أعطيتني ـ يا رب ـ الحياة، فلتكن حياتي في الخطِّ التصاعديّ باتجاه الجنّة، وإذا قضيت عليَّ بالوفاة، فاجعل الوفاة نهاية الشّرور. وفي دعاء (مكارم الأخلاق)، يقول الإمام زين العابدين(ع): "وعمّرني ما كان عمري بذلة في طاعتك"، فعندما يكون عمري مبذولاً في عناصره كلّها في سبيل طاعتك، فامدد في عمري، "وإذا كان عمري مرتعاً للشيطان"، يذهب الشيطان به ويجيء، "فاقبضني إليك"، فأنا لا أحبّ العمر الذي يكون في قبضة الشيطان وأجوائه، بل أحبّ الحياة في خدمتك. أما الحياة التي تكون في خدمة الشّيطان، فهي موت يأخذ معنى الحياة، فلا أريدها، "قبل أن يسبق مقتك إليّ، أو يستحكم غضبك علي"[9].

وفي (دعاء كميل): "لأنه لا يكون إلا عن غضبك وانتقامك وسخطك، وهذا ما لا تقوم له السموات والأرض. يا سيدي، فكيف وأنا عبدك الضّعيف الذليل المسكين المستكين!". ونقرأ كذلك في دعاء أبي حمزة الثّمالي في السحر: "واجعلني ممن أطلت عمره، وحسّنت عمله، وأحييته حياة طيبة في أدوم السرور، وأسبغ الكرامة، وأتم العيش". وقد ورد في الحديث: "لا تتمنّ الموت إلا بشرط وثيق"[10]، أي لا تتمنّاه من خلال أزمة نفسيّة، أو عاطفيّة، أو اقتصاديّة، أو ما أشبه ذلك، بل تمنّاه عندما تستكمل كلّ مسؤوليّاتك في الحياة، وعندما تشعر بأنّك عندما تلاقي وجه الله، فإنك تلاقيه وأنت نقيّ الثوب من كلّ الذنوب.

ومن هنا ـ أيها الأحبة ـ فإنَّ مسألة تربية الصوم للإرادة في مضمونها الإسلامي، هي معنى تقوى الله، وإذا عرفنا أن معنى تقوى الله هي أن لا يراك حيث نهاك، وأن لا يفقدك حيث أمرك، نعرف أن تقوى الله تجمع كلّ مفردات حياتك فيما تأخذ به وفيما تدع.

رأفة الله بعباده

{فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضاً}، يضرّه الصّوم، بسبب مرضه، {أَوْ عَلَى سَفَرٍ}، مهما كان السّفر متعباً أو مجهداً، {فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}، فالله جعل الصوم فريضة على الصحيح جسدياً، وعلى الحاضر في بلده أو المقيم فيه، أما المريض والمسافر، فإنَّ بإمكانهما أن يصوما في أيام أُخَرَ غير شهر رمضان، عندما يصح المريض من مرضه، وعندما يحضر المسافر من سفره. وهنا تأتي اللفتة الإلهية الحنونة الرؤوفة: {يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}[11]، فالله لا يفرض عليكم تكاليفه مما حرّمه وأوجبه من أجل أن يثقل عليكم، بل إنّ الله كلّفكم بما يتيسّر لكم، {يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}، فلا يكلّفكم بالصوم في المرض، لأنه يمثّل عسراً على الصحّة، ولا يكلّفكم بالصّوم في السفر، لأن السفر يمثل حالة عدم الاستقرار. ولذلك، لا يريد لك الله في الحالة التي لا تشعر فيها بالاستقرار، كما تشعر به في بلدك، أن يفرض عليك ما يثقل وضعك.

وهكذا، كانت القاعدة؛ قاعدة اليسر وقاعدة نفي الحرج: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}[12]، وقاعدة لا ضرر ولا ضرار، تمثّل الهيكليّة التشريعيّة الّتي تحدّد كلّ التّكاليف، مما لا يكون فيه حرج، ولا يكون فيه ضرر، ولا يكون فيه عسر. ولهذا، يعرّفنا الله أنه يرحمنا في تشريعه، كما يرحمنا في رزقه وفي عافيته وفي أمنه، ومن خلال ذلك، فالتشريع الإلهي هو رحمة من الله، لأنه تشريع يرتكز على اليسر، ولا يرتكز على العسر. ولذا، ورد في الدعاء الذي ندعو به: {رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا}[13]. والإصر هو الثقل، ولذلك، لم يثقل الله علينا، فلم يكلّفنا ما لا طاقة لنا به، {وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ}، لتصوموا شهر رمضان من أوّله إلى آخره، حتى يكون شهر رمضان صوماً بكلّه، {وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ}، لتقفوا بين يدي الله، وتتصوّروه في مواقع كبريائه وفي مواقع عظمته، وتروا أنه هداكم من خلال ما أودعه في كيانكم من وسائل الهداية التي تهديكم سبل الحياة، ومن خلال ما هداكم لدينه، فأن تكبّروا الله، هو أن تعرفوا عظمة الله في الهداية التكوينيّة التي هداكم بها في وجودكم وفي ما يحيط بكم، والهداية التشريعيّة التي هداكم بها في ما خطّه لكم من سبل حركتكم في الحياة، {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}[14]، عندما تنفتحون على نعم الله الماديّة والروحيّة والمعنويّة، لتزدادوا شكراً لله عندما تتصوّرون الحقيقة، {وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ}[15]، {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا}[16]. {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} من خلال وعيكم لنعم الله سبحانه وتعالى، وليزيدكم الله في شكره.

قيمة تكبير الله

ولا بدّ من أن نختزن في شهر رمضان فكرة أن نكبّر الله دائماً عندما نستشعر هدايته. وقيمة التّكبير لله، أنها تصغر عندك كلّ من عدا الله عندما تقول (الله أكبر)، وأنه ليس هناك مع الله أحد، فلا تدعو مع الله أحداً. ولذلك، علينا أن لا نعطي المخلوق، مهما كان عظيماً في مواقعه، أية صفة من صفات الله التي يختصّ بها، كالخالقية والرازقية والقدرة المطلقة والعمل المطلق وما إلى ذلك. ومن هنا، كانت هذه الكلمة (الله أكبر)، هي بداية الصّلاة، وهي التي تتحرك بها في الصّلاة من فعل إلى فعل، لتشعر بعظمة الله سبحانه وتعالى وكبريائه الّذي لا يدانيه فيها أحد، "عظم الخالق في أنفسهم، فصغر ما دونه في أعينهم"[17]، كما يقول الإمام عليّ(ع) في صفة المتّقين.

ويقول الإمام زين العابدين في دعاء يوم الفطر: "كلّ جليل عندك صغير، وكلّ شريف في جنب شرفك حقير"[18]، ومع أنّ محمداً(ص) سيّد الخلق، فإنّ الله علّمنا أن نقول: "وأشهد أن محمّداً عبده ورسوله"، ليعرّفنا أنّ عظمته تنطلق في خطّين: خطّ عبوديّته لله كأصفى ما تكون العبوديّة، وخطّ رسالته التي حملها من الله سبحانه وتعالى، وأن نتصوّر النبي والأنبياء والأئمّة والأولياء عبيداً لله، {لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ}[19]، وعباد الله الذين اصطفاهم لرسالته، والّذين أكرمهم في مواقعهم، وأن لا نرتفع بهم إلى درجة الألوهية أو إلى شيء من هذا القبيل، بل أن يبقى تصوّرنا لهم في موقع العبوديّة، وآية عظمتهم أنهم ارتفعوا في مواقعهم من خلال عبوديتهم لله، وهذا ما قاله إمامنا أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب(ع)، وهو سيّد الموحّدين بعد رسول الله(ص): "هلك فيَّ رجلان: محبّ غال"، يرفعنا إلى أعلى من درجة العبوديّة، "ومبغض قال"[20]، ينزل بنا إلى أسفل الدّرجات، والنمط الوسط هو التّوازن بين هذا وذاك. ثم جاءت الآية الّتي انطلقت في أجواء شهر رمضان: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ}[21]، كأنَّ الله يريد أن يقول لنا في شهر رمضان وفي غيره: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}[22]، تعالوا إليّ، لا تتصوّروني بعيداً عنكم، إن في عالم الغيب أو عالم المطلق، لا يبلغ كنهي أحد، ولكني قريب برحمتي وبألطافي وبعفوي ومغفرتي ورأفتي، فإني قريب لست بعيداً عن آلامكم، ولست بعيداً عن أحلامكم، ولست بعيداً عن قضاياكم، ولست بعيداً عن مشاكلكم. تعالوا إليّ، فإني قريب: "يا من هو أقرب إليّ من حبل الوريد"[23]، {أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي}. إني أرى هذه الكلمة من أكثر الكلمات حنانا إلهياً، فكأنّ الله سبحانه وتعالى يقول: تعالوا إليّ، ولا تبتعدوا، لماذا أنتم بعيدون عني، وأنا القريب إليكم، أجيب دعوة الداعي إذا دعاني؟ ماذا عندكم من آلام؟ تعالوا إليّ واطلبوا مني أن أزيلها، ماذا عندكم من أحلام؟ تعالوا إليّ واطلبوا مني أن أحقّقها، ماذا عندكم من مشاكل؟ تعالوا إليّ واطلبوا مني أن أحلّها، {أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي}، لماذا أناديكم ولا تجيبونني؟ "والحمد لله الّذي أدعوه ولا أدعو غيره، ولو دعوت غيره لم يستجب لي دعائي، والحمد لله الّذي أرجوه ولا أرجو غيره، ولو رجوت غيره لأخلف رجائي، والحمد لله الّذي وكلني إليه فأكرمني، ولم يكلني إلى النّاس فيهينوني"[24]. وهكذا، يعلّمنا الله أن نستجيب له: {وَلْيُؤْمِنُواْ بِي}، لأني الله الّذي لا إله إلا هو، {لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ}[25]، فإنّ هذا هو طريق الرّشاد.

مفتاح شهر رمضان

أيّها الأحبّة، هذا هو مفتاح شهر رمضان، فلا تستعملوا المفاتيح التي لا تدخلكم إلى شهر رمضان، كالكثيرين الّذين يحوّلون هذا الشهر لهواً ورقصاً ولعباً وغناءً وسكراً وعربدة، كالكثير من الدّول التي تستقدم الفرق الفنية الغنائية الراقصة، حتى تشغل الناس في شهر رمضان عن ربهم وعن أنفسهم، وهم يبرّرون ما يصنعون بالقول: إن الناس متعبون من الصّوم، فلا بدّ لنا من أن نريحهم بهذه البرامج اللاهية. إنّ الصّوم الذي يتعب الناس، لا يحتاج إلى راحة في اللّهو والعبث، ولكنه يحتاج إلى راحة في العروج إلى الله، وفي الحديث إلى الله، وفي الخشوع لله، وفي البكاء بين يدي الله، وفي الفرح بطاعة الله.

أيها الأحبّة، إن لله عتقاء في هذا الشهر، فاطلبوا من الله أن تكونوا من عتقائه، وإن أبواب الجنة في هذا الشهر مفتحات، كما يقول رسول الله(ص)، فاسألوا الله أن لا يغلقها عنكم، وإن أبواب النار في هذا الشهر مغلقات، فاسألوا الله أن لا يفتحها عليكم، ويد الشياطين في هذا الشهر مغلولة، فاسألوا الله أن لا يسلّطها عليكم، فقد دعيتم فيه إلى ضيافة الله، وجعلتهم فيه من أهل كرامته؛ أنفاسكم فيه تسبيح، ونومكم فيه عبادة، وعملكم فيه مقبول، ودعاؤكم فيه مستجاب، فاسألوا الله بنيّات صادقة، وقلوب طاهرة، أن يوفّقكم لصيامه وتلاوة كتابه، فإنّ الشقيّ من حُرم غفران الله في هذا الشّهر العظيم.

*ندوة الشام الأسبوعيّة، فكر وثقافة


[1]  وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج 8، ص 99.

[2]  [العنكبوت: 45].

[3]  [البقرة: 183].

[4]  [البقرة: 185].

[5]  [الأنفال: 2].

[6]  [البقرة: 185].

[7]  الصحيفة السجادية، الإمام زين العابدين(ع)، عند الصباح والمساء.

[8]  المصدر نفسه، في يوم الثلاثاء.

[9]  المصدر نفسه، في مكارم الأخلاق ومرضي الأفعال.

[10]  نهج البلاغة، خطب الإمام علي(ع)، ج 3، ص 129.

[11]  [البقرة: 185].

[12]  [الحج: 78].

[13]  [البقرة: 286].

[14]  [البقرة: 185].

[15]  [النحل: 53].

[16]  [النحل: 18].

[17]  نهج البلاغة، ج 2، ص 161.

[18]  الصحيفة السجادية، دعاؤه لعيد الفطر والجمعة.

[19]  [الأنبياء: 27].

[20]  نهج البلاغة، ج 4، ص 28.

[21]  [البقرة: 186].

[22]  [غافر: 60].

[23]  الصحيفة السجادية، في اليوم التاسع والعشرين منه (شهر رمضان).

[24]  المصدر نفسه، في سحر كلّ ليلة من شهر رمضان.

[25]  [البقرة: 186].


بعد أيام، نستقبل شهر رمضان، وهو شهر الإسلام وشهر الطّهور، كما عبّر عنه الإمام زين العابدين(ع)، وهو "شهر أُمّتي"[1]، كما عبّر عنه رسول الله(ص). وعندما نستقبل هذا الشَّهر الكريم، فإنّنا نحاول أن نكتشف فيه العناصر الّتي تتّصل ببناء الشخصيّة الإسلاميّة، لأنّ هناك نقطة مهمّة لا بدّ لنا من أن نتأمّلها في العبادات كلّها، وهي أنّ الله سبحانه وتعالى جعل للعبادات دائرتين.

الدائرة العباديّة

الدائرة الأولى هي سرّ التعبّد لله، فالإنسان في العبادة يشعر بمعنى العبودية لله، الذي يفرض عليه أن يذوب فيه، وأن يتجاوز المعاني الذاتية في شخصيته، فينحني عقله بين يديه سبحانه، وينحني قلبه أمامه، وينحني جسده بين يديه، راكعاً يعظّم الله في ركوعه، وساجداً يعظّم الله في سجوده، ومسلماً مستسلماً يعظّم الله في قيامه وفي الكلمات كلّها.

وعندما تتعبّد خلايا الإنسان في الصّوم لربها، فإنها تجد العناصر الّتي تجدّد لها حيويّتها خضوعاً لله، بعد أن يعيش الإنسان الصّوم في وعيه كلّه، ليقدّمه لله. وعندما ننفتح على الحجّ، فإنّ الإنسان يُحرم هنا ليصوم في إحرامه عن كثير من الأشياء الّتي تشتهيها نفسه، ويطوف حول البيت ليختصر في طوافه السّاحات التي يحبّها الله، وهي السّاحات الّتي يطوف بها في الحياة، وأن يكون سعيه في طريق الله، وأن يتأمّل هنا وهناك، وأن تكون المواقع كلّها والمواسم كلّها خضوعاً لله، يمارسها الإنسان، وإن لم يفهم سرّها ويعي معناها، ويتمثّل الإنسان في العبادة المعنى الّذي يجعله يسقط ذاته في معنى عناصره الشخصيّة، ليذوب في الله، وليشعر بأنّه ليس شيئاً أمام الله، إلا من خلال ما منحه الله من الإحساس بالشيئيّة في معنى العبوديّة.

الدائرة التربويّة

أمّا الدّائرة الثانية، فهي الدائرة التربويّة الّتي تتمثّل بإيحاءات العبادة لعناصر الشخصيّة الإنسانيّة، فنحن نقرأ ـ مثلاً ـ في القرآن الكريم: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ}[2]، فالإنسان عندما يصلّي ويستجمع عناصر الصلاة كلّها فيما يقرأ وفيما يركع ويسجد ويجلس ويقوم، فإنه ينفتح على عالم يشير إليه بأن يكون الإنسان الذي يعيش معنى أخلاقيّته، ليمتنع عن كلّ ما يتجاوز الحدود، وليبتعد عن كلّ ما ينكره الله وينكره النّاس.

وعندما يصوم الإنسان، فإنَّ المراد من الصّوم أن يربي الإنسان على التقوى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}[3]، فأن تصوم لله وتجسّد عبوديتك له، يعني أن تكون الإنسان الّذي يحركه صومه، ليكون الإنسان الذي يراقب عقله، حتى لا يدخل في عقله إلا الحق، ويراقب قلبه حتى لا يدخل في قلبه إلا الحب، ويراقب حركة جسده حتى لا يتحرك إلا في الخير، فأن تتقي الله، يساوي أن تعيش مواقعك في الحياة، فلا تقدّم رجلاً ولا تؤخّر أخرى حتى تعلم أنَّ في ذلك لله رضا. وبذلك، فإنّ الصّوم يقول لك: كن الإنسان المتوازن في أفكاره وعواطفه ومشاعره وحركته، لأنّك كلّما كنت تقيّاً أكثر، كنت متوازناً أكثر، ولأنّ الانحراف عن التقوى، هو انحراف عن خطّ التوازن في الحياة في كلّ ما تفعل وكلّ ما تترك.

شهر القرآن الكريم

وفي ضوء هذا، يمكننا أن ندخل إلى شهر رمضان من خلال الآيات التي تحدّثت عن الشهر بالذات، حيث يقول تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ}[4]. إننا نلاحظ في هذه الآية، أنّ الله سبحانه وتعالى وهو يتحدّث عن شهر رمضان، ينقلنا من خلال إيحاءات هذا الشّهر إلى القرآن، ليحدّثنا عن أنَّ الله أنزل فيه القرآن، وإذا عرفنا أنّ الله أنزل القرآن من أجل أن نتفهّمه، وأن نستوحيه، وأن نستضيء به، وأن نخرج به من الظّلمات إلى النّور، وأن نعمل به، فإنَّ معنى ذلك أنَّ شهر رمضان ارتبط بحركيَّة القرآن في حياة كلّ إنسان، لأنَّ الله أنزل القرآن فيه من أجل أن يعيش الناس القرآن كلّه في أجواء هذا الشهر.

فقد انطلقت أوّل آية أنزلها الله في أجواء القرآن من خلال هذا الشهر، فاحتضن الشهر القرآن، ودخل فيه دخولاً حيويّاً، كما لو كان القرآن يجري في عروقه، وفي ثوانيه، ودقائقه، وساعاته، وأيامه. وبذلك، تحوّل الزمن إلى روح قرآنيّة يعيش الإنسان فيها وهو يستوحي القرآن، وحيث لم ينزله في شهر رمضان مجرداً، بل عقبه بقوله تعالى: {هُدًى لِّلنَّاسِ}، فقد أنزل الله القرآن في هذا الشّهر، ليهتدي النّاس بمفاهيمه وعقائده وشرائعه ومناهجه وأساليبه وأخلاقياته، ما يعني أنّ عليك وأنت تقرأ القرآن في هذا الشهر، أن تقرأه قراءة الإنسان الذي يبحث عن الهداية في قراءته، لا الإنسان الّذي يستهلك الآيات في عجالته، وأن تقرأه لتكتشف المتاهات التي تتحرّك بها في الحياة، والأضاليل التي وضعتك ظروفك فيها، حتى تتحسَّس حالة الضّياع والحيرة التي تتخبّط فيها هنا وهناك، لتقرأ القرآن، وتبحث عن أيّ هدى تهتدي به عندما يحدّثك القرآن عن الشّريعة إذا انحرفت عنها، وأي هدى تهتدي به في الحياة إذا ضلّت بك الدروب لتكتشف الطريق المستقيم، وأيّ هدى تهتدي به إذا اختلطت بك المفاهيم والأفكار الّتي تختزنها في عقلك، وإذا تنوّعت الأصوات هنا وهناك، فأيّ صوت تسمع. إنَّ عليك أن تسمع صوت الله ولا تسمع أيّ صوت آخر، لأنّك عندما تسمع صوت الله، فإنك تسمع الحق كلّه في كلّ شيء، وتشعر بأنّ بالفراغ يمتلئ بالله، وحتى صوت الرسول هو صوت الله، وحتى صوت الأولياء المعصومين هو صوت الله، فلا تستغرق في ذواتهم، وإن كانت ذواتهم تعيش مع الله، بل استغرق في رسالتهم، فهم التّجسيد العمليّ للرّسالة.

هدى وبيّنات

{هُدًى لِّلنَّاسِ}، وحيث إنك عندما تقرأ القرآن وأنت في حالة من الضّياع والحيرة والتمزّق والتيه، فإنك بعد قراءة القرآن، تشعر بأنك انفتحت على خطّ جديد، وعلى الطمأنينة والسكينة وزيادة الإيمان، {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً}[5]. وإذا دخلت ساحة الصّراع، وقدّم الناس برهاناً هنا وهناك، وقرأت القرآن، فإنك تقرأ في القرآن البيّنات الّتي توضح الحقيقة فتهديك إليها، والبيّنات التي تبيّن لك الخطّ الفاصل بين الحق والباطل، فهي الفرقان الذي يفرق بين هذا وذاك، فلا يختلط الباطل عندك بالحق، ولا يختلط الحق عندك بالباطل، ولا يمتزجان ببعضهما البعض، بل ترى الحق حقاً في القرآن فتتبعه، وترى الباطل باطلاً في القرآن فتجتنبه، فهو يرفع عنك التشابه الذي يوقعك في الحيرة.

والله تعالى في هذه الآيات، يريدنا أن ندخل في عالم القرآن الّذي هو عالم الهدى وعالم البيّنات التي توضح الحقيقة، وتفصل بين الحقّ والباطل، وتوحي إلينا أنّ شهر رمضان لا ينفصل عن القرآن، فالله أنزل القرآن فيه من أجل أن يعيش الناس أبعاده ومعانيه، حتى لا يكون شهر رمضان فارغاً من كلام الله ومن مواعظه ووصاياه ونصائحه وشريعته وما إلى ذلك.

تدريب الإرادة

{فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}[6]، أي أن على من حضره وعاشه أن يصومه، فإنّ الله أراد للإنسان في شهر رمضان، أن يكون إنسان القوّة في الإرادة، والوعي في مضمون الإرادة، فليست المسألة فقط أن تكون إرادتك قويّة، بل أن تكون ذات مضمون ينفتح على الحقّ، وعلى ما يحبّه الله ويرضاه. ولذلك، فإنه سبحانه وتعالى أراد الصّوم تدريباً لإرادتك في خطِّ التقوى، وليس تدريباً لإرادتك لتكون امتيازاً شخصيّاً لك، فتحركها في خطّ الشّرّ، أو خطّ الضّلال، أو أيّ خطّ منحرف آخر، فالله في الوقت الّذي يريد للإنسان أن يكون قويّ الإرادة، يريده أيضاً أن يكون واعي الإرادة، حتى لا تتحرك إرادته في مواقع الاهتزاز في خطوط الشرّ والباطل.

ولذلك، يريد الله لإنسانيّتك أن تكون في عناصرها الحيّة غنيّة بمبادئك، والكثير من الناس يحاولون إغناء شخصيّاتهم بالقوّة والبطولة والصحّة والعافية والموقع، ولكن من دون مضمون ينفتح على المبادئ، حيث يقول الإمام زين العابدين(ع) الذي أطلق عليه بعض الأدباء أنّه (شاعر الله): "واحفظنا من بين أيدينا ومن خلفنا، وعن أيماننا وعن شمائلنا، ومن جميع نواحينا، حفظاً عاصماً من معصيتك، هادياً إلى طاعتك، مستعملاً لمحبّتك"[7]، فلا أريد يا ربّ أن تحفظني حفظاً أستخدمه في معاصيك، أو أتحرّك به على خلاف طاعتك، أو أبتعد به عن مواقع محبّتك، بل أعطني الحفظ الّذي يجعلني الإنسان الّذي ينفتح عليك بمسؤوليّاته كلّها وبمحبّته كلّها. ونقرأ في دعاء يوم الثّلاثاء: "واجعل الحياة زيادة لي في كلّ خير، والوفاة راحة لي من كلّ شرّ"[8]، فإذا أعطيتني ـ يا رب ـ الحياة، فلتكن حياتي في الخطِّ التصاعديّ باتجاه الجنّة، وإذا قضيت عليَّ بالوفاة، فاجعل الوفاة نهاية الشّرور. وفي دعاء (مكارم الأخلاق)، يقول الإمام زين العابدين(ع): "وعمّرني ما كان عمري بذلة في طاعتك"، فعندما يكون عمري مبذولاً في عناصره كلّها في سبيل طاعتك، فامدد في عمري، "وإذا كان عمري مرتعاً للشيطان"، يذهب الشيطان به ويجيء، "فاقبضني إليك"، فأنا لا أحبّ العمر الذي يكون في قبضة الشيطان وأجوائه، بل أحبّ الحياة في خدمتك. أما الحياة التي تكون في خدمة الشّيطان، فهي موت يأخذ معنى الحياة، فلا أريدها، "قبل أن يسبق مقتك إليّ، أو يستحكم غضبك علي"[9].

وفي (دعاء كميل): "لأنه لا يكون إلا عن غضبك وانتقامك وسخطك، وهذا ما لا تقوم له السموات والأرض. يا سيدي، فكيف وأنا عبدك الضّعيف الذليل المسكين المستكين!". ونقرأ كذلك في دعاء أبي حمزة الثّمالي في السحر: "واجعلني ممن أطلت عمره، وحسّنت عمله، وأحييته حياة طيبة في أدوم السرور، وأسبغ الكرامة، وأتم العيش". وقد ورد في الحديث: "لا تتمنّ الموت إلا بشرط وثيق"[10]، أي لا تتمنّاه من خلال أزمة نفسيّة، أو عاطفيّة، أو اقتصاديّة، أو ما أشبه ذلك، بل تمنّاه عندما تستكمل كلّ مسؤوليّاتك في الحياة، وعندما تشعر بأنّك عندما تلاقي وجه الله، فإنك تلاقيه وأنت نقيّ الثوب من كلّ الذنوب.

ومن هنا ـ أيها الأحبة ـ فإنَّ مسألة تربية الصوم للإرادة في مضمونها الإسلامي، هي معنى تقوى الله، وإذا عرفنا أن معنى تقوى الله هي أن لا يراك حيث نهاك، وأن لا يفقدك حيث أمرك، نعرف أن تقوى الله تجمع كلّ مفردات حياتك فيما تأخذ به وفيما تدع.

رأفة الله بعباده

{فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضاً}، يضرّه الصّوم، بسبب مرضه، {أَوْ عَلَى سَفَرٍ}، مهما كان السّفر متعباً أو مجهداً، {فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}، فالله جعل الصوم فريضة على الصحيح جسدياً، وعلى الحاضر في بلده أو المقيم فيه، أما المريض والمسافر، فإنَّ بإمكانهما أن يصوما في أيام أُخَرَ غير شهر رمضان، عندما يصح المريض من مرضه، وعندما يحضر المسافر من سفره. وهنا تأتي اللفتة الإلهية الحنونة الرؤوفة: {يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}[11]، فالله لا يفرض عليكم تكاليفه مما حرّمه وأوجبه من أجل أن يثقل عليكم، بل إنّ الله كلّفكم بما يتيسّر لكم، {يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}، فلا يكلّفكم بالصوم في المرض، لأنه يمثّل عسراً على الصحّة، ولا يكلّفكم بالصّوم في السفر، لأن السفر يمثل حالة عدم الاستقرار. ولذلك، لا يريد لك الله في الحالة التي لا تشعر فيها بالاستقرار، كما تشعر به في بلدك، أن يفرض عليك ما يثقل وضعك.

وهكذا، كانت القاعدة؛ قاعدة اليسر وقاعدة نفي الحرج: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}[12]، وقاعدة لا ضرر ولا ضرار، تمثّل الهيكليّة التشريعيّة الّتي تحدّد كلّ التّكاليف، مما لا يكون فيه حرج، ولا يكون فيه ضرر، ولا يكون فيه عسر. ولهذا، يعرّفنا الله أنه يرحمنا في تشريعه، كما يرحمنا في رزقه وفي عافيته وفي أمنه، ومن خلال ذلك، فالتشريع الإلهي هو رحمة من الله، لأنه تشريع يرتكز على اليسر، ولا يرتكز على العسر. ولذا، ورد في الدعاء الذي ندعو به: {رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا}[13]. والإصر هو الثقل، ولذلك، لم يثقل الله علينا، فلم يكلّفنا ما لا طاقة لنا به، {وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ}، لتصوموا شهر رمضان من أوّله إلى آخره، حتى يكون شهر رمضان صوماً بكلّه، {وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ}، لتقفوا بين يدي الله، وتتصوّروه في مواقع كبريائه وفي مواقع عظمته، وتروا أنه هداكم من خلال ما أودعه في كيانكم من وسائل الهداية التي تهديكم سبل الحياة، ومن خلال ما هداكم لدينه، فأن تكبّروا الله، هو أن تعرفوا عظمة الله في الهداية التكوينيّة التي هداكم بها في وجودكم وفي ما يحيط بكم، والهداية التشريعيّة التي هداكم بها في ما خطّه لكم من سبل حركتكم في الحياة، {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}[14]، عندما تنفتحون على نعم الله الماديّة والروحيّة والمعنويّة، لتزدادوا شكراً لله عندما تتصوّرون الحقيقة، {وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ}[15]، {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا}[16]. {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} من خلال وعيكم لنعم الله سبحانه وتعالى، وليزيدكم الله في شكره.

قيمة تكبير الله

ولا بدّ من أن نختزن في شهر رمضان فكرة أن نكبّر الله دائماً عندما نستشعر هدايته. وقيمة التّكبير لله، أنها تصغر عندك كلّ من عدا الله عندما تقول (الله أكبر)، وأنه ليس هناك مع الله أحد، فلا تدعو مع الله أحداً. ولذلك، علينا أن لا نعطي المخلوق، مهما كان عظيماً في مواقعه، أية صفة من صفات الله التي يختصّ بها، كالخالقية والرازقية والقدرة المطلقة والعمل المطلق وما إلى ذلك. ومن هنا، كانت هذه الكلمة (الله أكبر)، هي بداية الصّلاة، وهي التي تتحرك بها في الصّلاة من فعل إلى فعل، لتشعر بعظمة الله سبحانه وتعالى وكبريائه الّذي لا يدانيه فيها أحد، "عظم الخالق في أنفسهم، فصغر ما دونه في أعينهم"[17]، كما يقول الإمام عليّ(ع) في صفة المتّقين.

ويقول الإمام زين العابدين في دعاء يوم الفطر: "كلّ جليل عندك صغير، وكلّ شريف في جنب شرفك حقير"[18]، ومع أنّ محمداً(ص) سيّد الخلق، فإنّ الله علّمنا أن نقول: "وأشهد أن محمّداً عبده ورسوله"، ليعرّفنا أنّ عظمته تنطلق في خطّين: خطّ عبوديّته لله كأصفى ما تكون العبوديّة، وخطّ رسالته التي حملها من الله سبحانه وتعالى، وأن نتصوّر النبي والأنبياء والأئمّة والأولياء عبيداً لله، {لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ}[19]، وعباد الله الذين اصطفاهم لرسالته، والّذين أكرمهم في مواقعهم، وأن لا نرتفع بهم إلى درجة الألوهية أو إلى شيء من هذا القبيل، بل أن يبقى تصوّرنا لهم في موقع العبوديّة، وآية عظمتهم أنهم ارتفعوا في مواقعهم من خلال عبوديتهم لله، وهذا ما قاله إمامنا أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب(ع)، وهو سيّد الموحّدين بعد رسول الله(ص): "هلك فيَّ رجلان: محبّ غال"، يرفعنا إلى أعلى من درجة العبوديّة، "ومبغض قال"[20]، ينزل بنا إلى أسفل الدّرجات، والنمط الوسط هو التّوازن بين هذا وذاك. ثم جاءت الآية الّتي انطلقت في أجواء شهر رمضان: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ}[21]، كأنَّ الله يريد أن يقول لنا في شهر رمضان وفي غيره: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}[22]، تعالوا إليّ، لا تتصوّروني بعيداً عنكم، إن في عالم الغيب أو عالم المطلق، لا يبلغ كنهي أحد، ولكني قريب برحمتي وبألطافي وبعفوي ومغفرتي ورأفتي، فإني قريب لست بعيداً عن آلامكم، ولست بعيداً عن أحلامكم، ولست بعيداً عن قضاياكم، ولست بعيداً عن مشاكلكم. تعالوا إليّ، فإني قريب: "يا من هو أقرب إليّ من حبل الوريد"[23]، {أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي}. إني أرى هذه الكلمة من أكثر الكلمات حنانا إلهياً، فكأنّ الله سبحانه وتعالى يقول: تعالوا إليّ، ولا تبتعدوا، لماذا أنتم بعيدون عني، وأنا القريب إليكم، أجيب دعوة الداعي إذا دعاني؟ ماذا عندكم من آلام؟ تعالوا إليّ واطلبوا مني أن أزيلها، ماذا عندكم من أحلام؟ تعالوا إليّ واطلبوا مني أن أحقّقها، ماذا عندكم من مشاكل؟ تعالوا إليّ واطلبوا مني أن أحلّها، {أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي}، لماذا أناديكم ولا تجيبونني؟ "والحمد لله الّذي أدعوه ولا أدعو غيره، ولو دعوت غيره لم يستجب لي دعائي، والحمد لله الّذي أرجوه ولا أرجو غيره، ولو رجوت غيره لأخلف رجائي، والحمد لله الّذي وكلني إليه فأكرمني، ولم يكلني إلى النّاس فيهينوني"[24]. وهكذا، يعلّمنا الله أن نستجيب له: {وَلْيُؤْمِنُواْ بِي}، لأني الله الّذي لا إله إلا هو، {لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ}[25]، فإنّ هذا هو طريق الرّشاد.

مفتاح شهر رمضان

أيّها الأحبّة، هذا هو مفتاح شهر رمضان، فلا تستعملوا المفاتيح التي لا تدخلكم إلى شهر رمضان، كالكثيرين الّذين يحوّلون هذا الشهر لهواً ورقصاً ولعباً وغناءً وسكراً وعربدة، كالكثير من الدّول التي تستقدم الفرق الفنية الغنائية الراقصة، حتى تشغل الناس في شهر رمضان عن ربهم وعن أنفسهم، وهم يبرّرون ما يصنعون بالقول: إن الناس متعبون من الصّوم، فلا بدّ لنا من أن نريحهم بهذه البرامج اللاهية. إنّ الصّوم الذي يتعب الناس، لا يحتاج إلى راحة في اللّهو والعبث، ولكنه يحتاج إلى راحة في العروج إلى الله، وفي الحديث إلى الله، وفي الخشوع لله، وفي البكاء بين يدي الله، وفي الفرح بطاعة الله.

أيها الأحبّة، إن لله عتقاء في هذا الشهر، فاطلبوا من الله أن تكونوا من عتقائه، وإن أبواب الجنة في هذا الشهر مفتحات، كما يقول رسول الله(ص)، فاسألوا الله أن لا يغلقها عنكم، وإن أبواب النار في هذا الشهر مغلقات، فاسألوا الله أن لا يفتحها عليكم، ويد الشياطين في هذا الشهر مغلولة، فاسألوا الله أن لا يسلّطها عليكم، فقد دعيتم فيه إلى ضيافة الله، وجعلتهم فيه من أهل كرامته؛ أنفاسكم فيه تسبيح، ونومكم فيه عبادة، وعملكم فيه مقبول، ودعاؤكم فيه مستجاب، فاسألوا الله بنيّات صادقة، وقلوب طاهرة، أن يوفّقكم لصيامه وتلاوة كتابه، فإنّ الشقيّ من حُرم غفران الله في هذا الشّهر العظيم.

*ندوة الشام الأسبوعيّة، فكر وثقافة


[1]  وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج 8، ص 99.

[2]  [العنكبوت: 45].

[3]  [البقرة: 183].

[4]  [البقرة: 185].

[5]  [الأنفال: 2].

[6]  [البقرة: 185].

[7]  الصحيفة السجادية، الإمام زين العابدين(ع)، عند الصباح والمساء.

[8]  المصدر نفسه، في يوم الثلاثاء.

[9]  المصدر نفسه، في مكارم الأخلاق ومرضي الأفعال.

[10]  نهج البلاغة، خطب الإمام علي(ع)، ج 3، ص 129.

[11]  [البقرة: 185].

[12]  [الحج: 78].

[13]  [البقرة: 286].

[14]  [البقرة: 185].

[15]  [النحل: 53].

[16]  [النحل: 18].

[17]  نهج البلاغة، ج 2، ص 161.

[18]  الصحيفة السجادية، دعاؤه لعيد الفطر والجمعة.

[19]  [الأنبياء: 27].

[20]  نهج البلاغة، ج 4، ص 28.

[21]  [البقرة: 186].

[22]  [غافر: 60].

[23]  الصحيفة السجادية، في اليوم التاسع والعشرين منه (شهر رمضان).

[24]  المصدر نفسه، في سحر كلّ ليلة من شهر رمضان.

[25]  [البقرة: 186].

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية