لا نزال مع وصيَّة الإمام الكاظم(ع) لهشام بن الحكم؛ هذه الوصيّة الّتي تمثِّل وثيقةً فكريّةً ثقافيّةً اجتماعيّة، كما هي وثيقة روحيّة، تلامس القلب، وتنفتح على الحياة، على مستوى ما يفكِّر فيه الإنسان لنفسه في رحلته من الدّنيا إلى الآخرة، أو في ما يعيشه الإنسان في علاقاته الإنسانيّة مع الآخرين.
يقول(ع): "يا هشام، أفضل ما تقرّب به العبد إلى الله بعد المعرفة به: الصَّلاة، وبرّ الوالدين، وترك الحسد والعجب والفخر".
من وسائل التقرّب إلى الله
في البداية، اعتبر الإمام(ع) أنَّ أعلى الحالات الرّوحيّة الّتي يمكن أن يعيشها الإنسان في علاقة العقل والقلب، هي المعرفة بالله؛ لأنَّ المعرفة بالله تعالى تطوف بالإنسان على الكون كلّه، ذلك أنّك عندما تعرف الله تعالى في مواقع عظمته، فلا بدَّ من أن تقوم بجولة علميَّة على كلِّ أسرار العظمة في الخلق، لأنّه هو الخالق، وإذا كنت تعرف أنَّ الله هو المنعم، والجواد، والكريم، والرّحمن، والرّحيم، فلا بدَّ لك من أن تطلّ على كلّ مواقع النّعمة الَّتي أفاضها الله تعالى على الإنسان وسائر المخلوقات. وقد جاء في الحديث الشَّريف: "تخلّقوا بأخلاق الله"[1]، أيْ أنّك عندما تذكر الله تعالى برحمته وجوده وكرمه وقوَّته، وكلّ صفاته الحسنى، فإنَّ عليك أن لا تذكرها في مقام الاستغراق الفكريّ في عظمة الله في صفاته فحسب، بل عليك أن تستوحي صفات الله لنفسك؛ فإذا كان الله هو الجواد الكريم، فعليك أن تستوحي كيف تكون كريماً، وإذا كان الله رحماناً رحيماً، فعليك أن تستوحي كيف تكون رحيماً، وإذا كان الله هو القويّ، فعليك استيحاء معنى القوَّة في حياتك، وإذا كان الله سبحانه وتعالى هو العليم الَّذي لا حدّ لعلمه، فعليك أن تعمل على أن تأخذ بأسباب العلم بكلِّ ما تستطيعه، مما يسهِّل الله تعالى لك أمره. وهكذا عندما تكون عزيزاً، فعليك أن تأخذ بأسباب العزَّة في كلِّ المجالات. فأنت عندما تذكر الله بصفاته، فإنَّ عليك أن تستوحي هذه الصِّفات، لتبلغ مستوًى من الكمال، لأنَّنا لا نستطيع أن نبلغ صفات الله الّتي هي المطلق، لأنَّه لا حدَّ لها، ولكنَّنا نستوحي ذلك لنأخذ منه ما يربّي لنا إنسانيّتنا.
ومن هنا، نعرف قيمة الأدعية الَّتي تشتمل على صفات الله تعالى، مثل دعاء الجوشن الكبير، أو دعاء أبي حمزة الثّمالي، أو غيرهما، فإنّنا نجد في كلِّ مفرداتها الكثير من صفات الله سبحانه وتعالى، في تعامله مع عباده، وفي فيوضاته مع كلِّ خلقه. وبهذا، تمثّل الأدعية وسيلةً لتنمية الروحيّة في كياننا، كما تمثّل وسيلة ثقافيّة لنستوحي الله سبحانه وتعالى في ذلك كلّه، وهذه هي قيمة المعرفة. ولذلك، ذُكرت المعرفة في أنها أفضلُ ما تقرَّب به العبد إلى ربّه، لأنك كلَّما عرفت الله أكثر، انفتحت عليه أكثر، وعبدته أكثر، وأخلصت له أكثر، وأطعته أكثر، لأنه لا يمكن لإنسان يعرف ربّه بما يستطيع من المعرفة، إلا ويخشع لعظمته، ويخضع لها.
الصّلاة بعد المعرفة
ثمّ تأتي الصَّلاة في الدرجة التالية للمعرفة. والصّلاة تمثِّل العبادة التي يحلّق الإنسان من خلالها ليعرج بروحه إلى الله سبحانه وتعالى، باعتبار أنّ المصلّي يتكلَّم مع الله، ويخشع بين يديه، ويخضع له، ويناجيه، ويذكر آياته، حيث يشعر الإنسان هنا بأنّه يرتبط بالله بشكل مباشر، من دون حواجز أو وسائط. وهذه هي العقيدة التوحيديّة الخالصة الحقيقيّة، لأنَّ الله سبحانه وتعالى أرادنا أن نخاطبه، وأن نعبده بشكلٍ مباشر، قال تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ * وَأَنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ}[2]، أو كما في قوله تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً}[3]. كذلك قوله تعالى: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}[4]، {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي}[5].
نعم، ثمّة وسائط في الهداية، حيث جعل الله سبحانه الأنبياء والأولياء وسائط الهداية الَّذين يهدوننا إلى الله، من خلال ما أنزله من وحيٍ عليهم، ومن خلال ما حملوه من خطوط هذا الوحي، وأكرمهم بالشَّفاعة، من خلال البرنامج الَّذي وضعه لها، إذ ليست الشّفاعة عند الله سبحانه حالةً شخصيّةً تشبه شفاعة النّاس لبعضهم البعض، بل تنطلق من خلال قوله تعالى: {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى}[6]، {وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ}[7]، ومعنى ذلك، أنَّ الله تعالى جعل للأنبياء وللأولياء برنامجاً للشَّفاعة لا يتعدَّونه. وليس معناه أنَّ الله حدَّد لهم أسماء الَّذين تنالهم الشّفاعة، لتكون صورةً شكليّةً كما نسبه إلينا البعض تقويلاً لنا بما لا نقوله.
والصَّلاة تربّي في الإنسان الشّعور بعظمة الله سبحانه، ففي الأذان، يُقال (الله أكبر) أربع مرّات في بدايته، واثنتين في نهايته، وفي الإقامة مرّتين في البداية، ومرّتين في النّهاية، ثم تبدأ الصَّلاة بالتّكبير، وبالتّكبير، ينتقل المصلّي من عملٍ إلى عمل آخر. ولعلّه من هنا، تفترق الصَّلاة عن سائر العبادات؛ حيث إنّها لا تُترَك بحال، فإذا لم يقدر الإنسان على الصَّلاة قائماً، صلّى جالساً، وإلا فمستلقياً، وإذا لم يقدر على تحريك أعضائه، أومأ إلى الركوع والسّجود، بينما نجد أنَّ الصَّوم يُترَك إذا لم يقدر عليه، ليُقضى في وقت آخر، وكذلك الحجّ؛ لأنَّ الصَّلاة مرتبطة بحركيّة التّوحيد في حياة الإنسان اليوميَّة، مما لا يُمكن للإنسان أن يعيش الغفلة عنه أبداً.
البرّ بالوالدين
"وبرّ الوالدين"، برّ الوالدين يرتبط بجانب العلاقة الإنسانيّة في عمقها الإنساني، على أساس قوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً}[8]، حيث تستحضر في نفسك كلَّ التربية التي قام بها الوالدان حتّى أصبحت كبيراً، وأصبحت تعيش في كلِّ ما أنت فيه، فلا تشعر بالعنفوان أمام والديك. إنَّ الله سبحانه يريد للإنسان المؤمن أن يكون عزيزاً، ويعيش العنفوان من دون تكبّر، ولكن أمام والديك، كنْ ذليلاً، لا الذلّ الّذي تُسقط فيه إنسانيّتك، ولكن ذلّ الرّحمة، بأن تستشعر السّقوط أمامهما رحمةً بهما. ولذلك، ارتبط برُّ الوالدين بعنوان الإحسان. قال تعالى: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً}، وقال تعالى: {هَلْ جَزَاء الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ}[9]، لأنَّ الإحسان يجتذب منك إحساناً في مقابله. وعلى هذا الأساس، نستطيع أن نستوحي من ذلك، أنَّ على الإنسان أن يعيش البرَّ لكلّ من أحسن إليه في التربية والمساعدة والإعانة، وما إلى ذلك.
ترك الحسد والعجب
"وترك الحسد". وهذا أيضاً مما يتقرَّب به الإنسان إلى الله سبحانه وتعالى، لأنَّ الحسد ـ عندما ندرسه ـ فيه جانب عدوانيّ، والحسد هو أن تتمنّى أن يزيل الله أيَّ نعمة تجدها لدى غيرك. وهذا ينطلق من عقدةٍ نفسيّة ضدَّ ما يملك الإنسان الآخر من فرصٍ يمكن أن تنمّي شخصيّته، أو تسدّ حاجته، أو تؤكّد أصالته الإنسانيّة. وإضافةً إلى ذلك، يستبطن الحسد الاعتراض على الله تعالى، لأنّك عندما تتمنّى زوال النّعمة عن غيرك، فكأنّك تقول: يا ربي، لماذا أعطيته؟ ولماذا لم تعطني أنا؟ مثل قول إبليس: {أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ}[10]، وقد انطلق في ذلك من جانب الحسد. وكأنّك تقول له إذا أردتَ أن تصحِّح الأمر في ذلك، فلا بدَّ من أن تعطيني ما أعطيته، وتسلب النِّعمة عنه، وهذا ينافي عبوديّتك لله، وخضوعك له، واستسلامك له، ورضاك بقضائه وقدره.
ولذلك، نجد أنَّ الإسلام قد جعل الغبطة مقابلَ الحسد، بحيث تطلب من الله سبحانه أن يعطيك مثل ما عند الآخرين، من دون أن يسلبهم ذلك. وهذا يشتمل على خاصّيّتين: الأولى أنَّ فيه جانباً إنسانيّاً؛ لأنَّك تدعو الله تعالى أن يبقي لهذا الإنسان نعمته، وفي الوقت نفسه، تطلب من الله، من خلال جوده وكرمه ورحمته، أن يعطيك كما أعطاه، والثَّانية: أنَّك تعيش عبوديّتك أمام الله، فتطلب منه أن يرزقك كما رزق هذا الإنسان. وبذلك، تكون الغبطة منسجمةً مع خطِّ العقيدة، سواء من خلال علاقتك بالإنسان الآخر، أو من خلال علاقتك بالله سبحانه وتعالى.
على أنَّ مسألة الحسد، ليست كما يعتقد البعض من النّاس، وهي أنَّ هناك قوّة خفيّة في عين الحاسد، تصيب الآخرين بالضَّرر. ونحن نسأل الّذين يعتقدون بمثل هذه المعتقدات: لماذا لا نجد ما يتحدَّث عنه الناس من أمر الحسد إلا لدى البسطاء والفقراء من الناس؟ ولماذا لا يتوجّه ذلك النّوع من الحسد إلى كلّ الّذين يصنعون للإنسان مأساته، من الطّغاة والجبابرة والظّالمين؟
إنَّ الحسد ـ في النظرة الإسلاميَّة ـ ينطلق من خلال الحالة النفسيّة العدوانيّة الّتي تدفع نحو البغي والاعتداء على المحسود، لكي يسقط ذلك الإنسان بأيِّ طريقة. ولذا ورد في الحديث: "إذا حسدت فلا تبغ"[11]، يعني، لا تعتدِ على مَن حسدته، لتعمل على إسقاط نفسه وشخصيّته بمختلف الوسائل. ولذلك، نحن نفسّر قوله تعالى: {وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ}[12]، أنّه ليس المقصود شرّ عين الحسود، وإنما من شرّه الّذي يمكن أن يوجّهه للمحسود في العدوان عليه.
"العجب". كذلك، فإنّ من الأمور التي تقرّب من الله، ترك إعجاب الإنسان بنفسه. وقد ورد في الحديث: "إعجاب المرء بنفسه، دليل على ضعف عقله"[13]، لأنَّ الإعجاب هو تعاظم الإحساس بما لدى الإنسان من بعض الصّفات، أو بعض الملكات، أو بعض الأعمال، وهذه المسألة تنشأُ من عدم وعي الإنسان لطبيعة العمل، لأنَّ العمل، أيَّ عمل، ولا سيَّما العمل العباديّ، يحتِّم أن ينظر الإنسان دائماً إلى الجانب الإيجابيّ منه، مقارَناً بالجانب السّلبيّ. مثاله: عندما يكون لديك علم، فلا تنتفخ شخصيَّتك من خلال علمك، ولكن فكِّر فيما لا تملك من العلم، وبعبارةٍ أخرى: قارنْ بين ما تملك من العلم، وما لا تملكه منه، مما قد يملكه الآخرون. وهكذا، عندما يكون لديك القوَّة، فعليك أن تعرف أنَّك لم تأخذ القوّة بأسبابها، بل أخذت ببعضها، مما قد يملك الآخرون أكثر منها.
وفي دعاء مكارم الأخلاق المرويّ عن الإمام زين العابدين(ع): "وعبِّدني لك، ولا تفسد عبادتي بالعجب"[14]، وقد ورد أيضاً: "لا تخرجنّ نفسك من حدِّ التَّقصير في عبادة الله"[15]، بمعنى أنّك كلّما عبدت الله أكثر، تصوَّر نِعَمَ الله عليك أكثر، وتصوَّر أنَّك مهما عبدت الله، فإنّك لا تستطيع شكر نعمة واحدة من نعمه، وهذا المعنى نجده في الدّعاء الّذي رواه أبو حمزة الثّمالي عن الإمام زين العابدين(ع)، حيث يقول: "وأيّ جهلٍ يا ربّ لا يسعُه جودُك؟ وأيّ زمانٍ أطول من أناتك؟ وما قدر أعمالنا في جنب نعمك؟ وكيف نستكثر أعمالاً نقابل بها كرمك؟"[16]. ثمّ إنَّ العجب يعطّل عمليّة النموّ في الإنسان، لأنّك عندما تعجب بعبادتك، وتقول: مَن مثلي في العبادة؟ أو تعجب بعلمك، وتقول: مَن مثلي في العلم؟ فإنّك تجمد على الدَّرجة الّتي حصلت عليها، ولا تحاول أن ترتفع إلى درجة أعلى وأرفع منها، وهذا يعطّل عمليّة النّموّ، وعمليّة الارتفاع إلى الدّرجات العليا الَّتي تعلو على ما أنت عليه الآن.
"والفخر"، إنَّ قضيَّة الفخر تتأتَّى من خلال قضيَّة العجب، ولكنَّها قد تمتدّ إلى فخر الإنسان بآبائه، وهذا ما نقرأه في دواوين الحماسة العربيَّة، حيث إنَّ أغلب الشّعراء يتحدّثون عن الفخر بالآباء والأجداد، ينشدون بذلك محاسنهم وصفاتهم وما إلى ذلك، ولكن ماذا أنت؟ ينبغي أن لا تكون مشاعرك وأحاسيسك، مشاعر الإنسان الَّذي يفخر بما عنده، بل عليه أن يعمل على تنمية ما عنده، وأن ينظر في نقاط الضّعف فيما عنده، وأن يقارن ما عنده بما لدى الآخرين، وقد ورد في دعاء مكارم الأخلاق: "واعصمني من الفخر"[17]، أي لا تجعلني أعيش الفخر بما أملكه من بعض الصِّفات، أو بما أقوم به من بعض الأعمال، بل اجعلني أتوازن في نظرتي إلى ما عندي. ولعلَّنا نستوحي ذلك في عالم معالجة هذه الحالات النفسيَّة التي تمثِّل حالة الضَّعف في الإنسان: "اللّهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد، ولا ترفعني في النّاس درجةً إلا حططتني عند نفسي مثلها، ولا تحدث لي عزّاً ظاهراً، إلا أحدثت لي ذلّةً باطنةً عند نفسي بقدرها"[18]، فعلى الإنسان أن يحاول دائماً أن يقارن بين نقاط القوّة عنده ونقاط الضّعف، أن يقارن بين الدّاخل والخارج، حتى تتوازن شخصيَّته، وحتى تتوازن نفسه في ذلك.
"يا هشام، أصلح أيَّامك الَّذي هو أمامك"، يعني عليك أن تهتمّ بالمستقبل، لأنَّ الماضي، سواء كان ماضياً مشرقاً أو مظلماً، قد مضى وانتهى، لا علاقة له بك، ولا علاقة لك به، وعليك ـ من الناحية الدينيّة ـ أن تستغفر الله مما أذنبته في الماضي، وإذا كنت قد عملت خيراً، فاشكر الله على ذلك، واطلب منه الزّيادة من ذلك. وعندما تحاول أن تدرس أخطاء الماضي وسلبيّاته، فعليك أن تأخذ من الماضي درساً للحاضر وللمستقبل، لأنَّ الهمَّ الأساس لا بدَّ من أن يكون في ما يُصلح لك مستقبلك، لأنه هو الذي يمثِّل حركتك في مسألة المصير، لأنَّ الماضي مات كزمنٍ، ومات كعملٍ، أمّا ما أنت فيه، فهو الأيّام الّتي تستقبلها، لأنها هي الّتي يمكن لها أن تؤصِّل مصيرك في خطِّ الخير الّذي تعمل له وتقبل عليه.
ثمّ يتابع(ع): "فانظر أيّ يوم هو؟"، كيف يكون هذا اليوم بما تملأه من أعمال الخير وانطلاقات المعرفة، "وأعدَّ له الجواب"، لأنّك ستسأل عمَّا صنعته في هذا اليوم، "فإنَّك موقوف ومسؤول" أمام الله، كما قال تعالى: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ}[19]، "وخذ موعظتك من الدّهر وأهلِه"، أيْ ادرس التّاريخ، وادرس كلَّ حركة الدّهر، منذ أن بدأ الزّمن وبدأ النّاس يعيشون فيه، دراسة الإنسان الَّذي يعظه التّاريخ، لا دراسة الإنسان الذي يلهو بالتّاريخ، أو الّذي يحاول أن يعيش التّاريخ كمفرداتٍ لا تمنحه شيئاً من الوعي لما يريد أن يصنعه من تاريخ جديد. "فإنَّ الدّهر" في أيامه، "طويلة قصيرة"، يعني أنَّ أيّامه طويلة في امتدادها، وقصيرة في ما تتضمَّنه أو في ما تتحرّك فيه في عمرك الَّذي سوف ينتهي في مدًى معيَّن. "فاعمل كأنَّك ترى ثواب عملك"، كأنَّك تنتظر جائزةً بعد عملك مباشرة، "لتكون أطمع في ذلك"، حتى تتشجَّع، "واعقل عن الله"، يعني اعقل عن الله آياته ومواعظه ونصائحه، وما إلى ذلك، "وانظر في تصرّف الدَّهر وأحواله"، أي انظر كيف تتقلَّب شؤون الدَّهر، كيف يكون خيراً في هذا اليوم، ويكون شرّاً في الغد، كيف تكون اليوم هزيمة، وغداً يكون انتصار، وما إلى ذلك، "فإنَّ ما هو آتٍ في الدّنيا كما ولّى منها، فاعتبر بها"[20]، يقول لك الإمام(ع): حاول أن تقيس الحاضر بالماضي، وتقيس المستقبل بالحاضر والماضي، باعتبار أنَّ القانون الأساس الَّذي وضعه الله سبحانه وتعالى لحركة الإنسان، قد تختلف مفرداته، ولكنَّ خطوطه العامَّة لا تختلف، ولذلك قيل: إنَّ التّاريخ يعيد نفسه، وهو يختلف ـ بطبيعة الحال ـ في أشخاصه، وفي بعض أوضاعه، ولكنَّ القانون الإلهيّ الَّذي وضعه الله سبحانه وتعالى للسّنن التاريخيّة للإنسان، كما هي السنن الكونيّة للإنسان، لا يتغيَّر.
ويبقى لنا أن نتحدّث أيضاً عن بقيّة الوصيَّة، إن شاء الله.
*ندوة الشّام الأسبوعيّة، فكر وثقافة
[1] بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج 58، ص 130.
[2] (يس: 60، 61).
[3] (الجنّ: 18).
[4] (غافر: 60).
[5] (البقرة: 186).
[6] (الأنبياء: 28).
[7] (سبأ: 23).
[8] (الإسراء: 23، 24).
[9] (الرّحمن: 60).
[10] (ص: 76).
[11] بحار الأنوار، ج 55، ص 320.
[12] (الفلق: 5).
[13] الكافي، الشيخ الكليني، ج 1، ص 28.
[14] الصحيفة السجادية، الإمام زين العابدين(ع)، دعاؤه في مكارم الأخلاق ومرضي الأفعال.
[15] وسائل الشيعة، الحرّ العاملي، ج 1، ص 95.
[16] الصحيفة السجادية، الإمام زين العابدين، دعاؤه في سحر كلّ ليلة من شهر رمضان.
[17] المصدر نفسه، دعاؤه في مكارم الأخلاق ومرضي الأفعال.
[18] المصدر نفسه، دعاؤه في مكارم الأخلاق ومرضي الأفعال.
[19] (الصافات: 2).
[20] تحف العقول، ابن شعبة الحراني، ص 391.