النَّجوى في القرآن

النَّجوى في القرآن

هناك في القرآن عنوان تحدّث عنه الله تعالى في أكثر من آية، وهو عنوان النجوى، والنجوى تعبّر عن الكلام السرّي الذي يدور بين شخصين أو عدّة أشخاص، لأنّ الموضوع الذي يريدون أن يتحدّثوا به، قد تكون له أهميّة، وقد تكون له خطورة بالنّسبة إليهم، وربّما تكون النجوى في الخير إذا أرادوا أن يتحدّثوا عن الخير سراً، حذراً من أن يعطّل الآخرون خطة الخير إذا عرفوها مسبقاً، وقد يكون التناجي شرّاً إذا كانوا يخطّطون لبعض السوء المتعلّق بالأشخاص وبالأوضاع وبالقضايا.

النّجوى غالباً ما توحي للإنسان بالحريّة في الحديث، لأنّ الإنسان يتحفَّظ عادة في أحاديثه إذا كان هناك من يخشى أن يسمعه، أمّا إذا كان الذي يسمعه محلّ ثقة لديه، انطلاقاً من وحدة الحال أو وحدة الموقف أو وحدة الخطّة، فإنّه يشعر بالحريّة. ولذلك فقد تكون النّجوى أقرب إلى الشرّ منها إلى الخير، لأنّ الخير قليلاً ما يخاف الإنسان علانيته، بينما الشرّ يخاف الإنسان العلانية فيه فيحاول إخفاءه.

حديث القرآن عن التّناجي

لقد انطلق القرآن الكريم ليؤكّد لنا الخطّ فيما نتناجى به، وليشرح لنا طبيعته الروحيّة التي كان المنافقون يجيّرون فيها النجوى للإساءة إلى المؤمنين، ثم يعطينا الخطّ العام والقاعدة العامة في موضوعات النجوى. ففي البداية، يقول الله سبحانه وتعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ}  وتحدّثتم بحديث في السرّ، بحيث لا يطّلع عليه أحد {فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ} بما يغضب الله، {وَالْعُدْوَانِ}، بما يشكّل خطّةً للاعتداء على الآخرين أفراداً أو جماعات، بحيث تحاولون أن تخفوها عن النّاس لتنفّذوها بطريقتكم الخاصّة {وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ}[1]، لأنّ الآية كانت آنذاك في زمن الرّسول(ص)، ويمكن أن نمتدّ بها إلى زماننا هذا، لأنَّ معصية الرّسول لا تتحدّد فقط في تعليماته اليومية، ولكنها تشمل تعليماته العامّة على مستوى الخطوط المتصلة بالواقع الإسلامي كلّه، سواء على صعيد المفاهيم أو على صعيد الواقع. كما أنّنا عندما نسمع كلمة "معصية الرّسول"، فإنّ القضيّة لا تتّصل به شخصيّاً وحسب، ولكنّها تتّصل به موقعاً ودوراً وقيادة، فإذا كان للمسلمين قيادة تتحرّك في خطّ الرّسول على مستوى الإمامة، أو على المستوى الّذي يمتدّ من خلال الإمامة، فإنَّ من الممكن أن تشملها كلمة "معصية الرسول"، لأنَّ الله يريد أن يطاع أولياؤه، كما يريد أن يطاع أنبياؤه، فالأمر ليس خصوصيّة الرسول في صفته الذاتيّة، بل و خصوصية الرسول في صفته الرسالية التي تتحرّك مع الوليّ، وتتحرّك مع القيادة الشرعيّة، مع ما هناك من فرق بين شخصية الرسول في عصمته، وشخصيّة القيادات الأخرى الّتي لا تملك عصمة في حركيّتها، ولكن تبقى طاعة القيادة الشرعيّة هي الخطّ الذي يريد الله للناس أنْ يتّبعوه. هذا هو الجانب السلبي.  

{وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى}، أي بالخير الذي تريدون أن تقدّموه للنّاس، سواء كان خيراً في مستوى حاجات الناس المادية، أو كان خيراً في مستوى حاجات النّاس الروحية والاجتماعية والسياسية والأمنية والثقافية، لأنّ كلّ ما يرفع مستوى الناس، وكلّ ما يقدّم الخير للنّاس، فهو من البرّ والتّقوى، فالمطلوب هو أن تتناجوا في كيفيّة تحريك التّقوى في أنفسكم، من خلال عناصرها التي تنطلق على أساس العقيدة والانضباط والالتزام، أو التقوى في حركة الإنسان كلّه، وأن تدرسوا كيف يمكن أن نخطِّط للتقوى الاجتماعيّة، وكيف يمكن أن نخطِّط للتقوى السياسيّة، وكيف يمكن أن نخطِّط للتقوى الأمنيّة والثقافيّة وما إلى ذلك.

خطوط التّقوى في الحياة

لكلّ خطّ في الحياة تقواه، والله تعالى يريد للإنسان في كلّ خطّ أن يقف عند حدوده، فلا يتجاوزها إلى غيرها {وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا الله الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ}[2]. اتّقوه عندما تتحدّثون همساً، وعندما تتحدّثون جهراً، واتّقوه في مضمون ما تتحدَّثون، واتّقوه في تطلّعاتكم، اتّقوه في الوسيلة واتّقوه في الهدف، اتّقوه لأنّكم ستحشرون إليه {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ* ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ }[3].

ثمّ يحدِّثنا الله عن تجربة النّجوى في الواقع الإسلامي في مجتمع المنافقين {إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا}. كان المنافقون يجتمعون، وإذا رأوا المؤمنين، تهامسوا فيما بينهم، في طريقة إيحائيّة كما لو كانوا يدبّرون لهم شيئاً، وكما لو كانوا يخطّطون ليملأوا قلوب المؤمنين بالحزن والقلق، كما يفعل الكثير من الناس عندما يجدون شخصاً يريدون أن يثيروا القلق والخوف في نفسه، فإنّهم يتهامسون أمامه، ويشيرون إليه، حتى يفقد استقراره النفسي، {وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئاً إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ}، فأن يضرّ الإنسان إنساناً، أو أن ينفع إنساناً، فإنَّ ذلك ينطلق من حركة الإنسان في المطلق، فينسى أنَّ هناك إذن الله في الظّروف المحيطة بالأشياء وفي الأوضاع التي تتحرّك في الدّاخل، وفي القوانين التي رسمها الله في قضائه وقدره{وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئاً إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ}.

دعوا القلق فالله كافيكم

أيّها المؤمنون، لا تدعوا القلق يدمِّر نفسيّاتكم، ولا تدعوا الخوف يأكل أمنكم، لا تعيشوا حالة الضّياع والتردّد والقلق، إنَّ لكم إلهاً يرعاكم، وإنَّ لكم ربّاً يدبّركم، وإنّ لكم مولى يحميكم.

اعملوا كلّ ما عندكم من وسائل الأمن وتوكَّلوا على الله {وَعلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ}[4]. ويقول الله في آيةٍ أخرى: {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللهَ بَالِغُ أَمْرِهِ}، ولا يبلغ أمره أحد، {قَدْ جَعَلَ الله لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً}[5] نظاماً وتوازناً في كلّ حركة الواقع، وفي كلّ حركة الإنسان، وفي كلّ حركة التّاريخ {أَلَيْسَ الله بِكَافٍ عَبْدَهُ}،  {وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ وَمَن يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ}[6]. وإذا كان الله يكفيك، فمن ذا الّذي يخوفّك، ومن ذا الّذي يقلقك. كن الإنسان المطمئنّ، كن صاحب النّفس المطمئنّة بالله، فإنَّ مَن عاش الطمأنينة بالله فلن يخاف أحداً، ولن يحزن في الدنيا قبل الآخرة، لأنَّ الثقة بالله هي التي تعمِّق الثقة بالنّفس وبالخطّ وبالحياة.

وتبقى آية أخرى وأخيرة في مسألة النجوى، وهي الآية التي ختم الله بها الفصل الّذي تحدّثنا عنه في الآيات الّتي جاءت لتبرئة اليهودي ممّا اتّهم به، ولتأكيد التهمة على المسلم السّارق.

إنّ الله سبحانه بعد أن يتحدَّث لنا عن ذلك كلّه، يلتفت إلى المجتمع وإلى كلّ النجاوى التي تدور بين النّاس، ليقول: {لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ}، لا خير فيها، لأنَّ النجوى تختزن ـــ في الغالب ـــ الأجواء السريّة الّتي يشعر الناس فيها بحريّة أن يتكلّموا من دون ضوابط، وأن يُخطِّطوا من دون تقوى. إذاً {لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ}، والصدقة تعني العطاء في كلّ ما يريد الله للإنسان أنْ يعطيه، فالمتبادر من الصدقة أنها صدقة المال، ولكنّ هناك صدقة العلم، وهناك صدقة الرأي، وهناك صدقة القوّة وصدقة السلطة... فلكلّ شيء صدقة، ولكلّ شيء زكاة. وقد ورد في بعض الآثار: "إنَّ الله فرض عليكم زكاة جاهكم، كما فرض عليكم زكاة ما مَلَكَتْ أيمانكم". إذاً حاول أن تتصدَّق بقوّتك وبجاهك، وأن تتصدّق بعلمك وبخبرتك وببسمتك وبكلمتك، فإنَّ "الكلمة الطيّبة صدقة".

نجوى الخير

لذلك {إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ}، حتى يركِّز العطاء في واقع النَّاس {أَوْ مَعْرُوفٍ}.  والمعروف يتّسع اتّساع الخير كلّه في الدّنيا في كلّ جوانبها، هناك معروف في العلاقات، ومعروف في الأعمال الفرديّة، ومعروف في السياسة، ومعروف في الاجتماع، ومعروف في الأمن، ومعروف في كلّ ما يعرفه النّاس ممّا يرفع مستواهم، وممّا يخدم التطوّر الإنساني في حياتهم، {أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ} هذه النجاوى الخيّرة التي تخطّط في السرّ لإنجاح صلح بين اثنين أو بين جماعتين، وللإصلاح بين الناس إذا تخاصموا، وتقريبهم إذا تباعدوا.

ولكن يبقى الإصلاح بين النّاس يتحرّك في مستوى المفاهيم ليصلح أمر النَّاس فيما بينهم، من خلال المفاهيم الّتي يلتقون عليها، ومن خلال الأساليب والوسائل التي تقرّب القلوب، والتي تجمع النفوس على الخطِّ الّذي يحبّه الله ويرضاه {وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ الله}، لا يفعله لشيء ذاتي أو لطمعه، بل ابتغاء مرضاة الله، وتلك هي قمَّة الإخلاص وقمَّة وعي المسؤوليَّة في وعي معنى العبوديَّة المطلقة في الإنسان أمام الألوهيَّة المطلقة في الله؛ أن تفعل ابتغاء مرضاة الله ليحبَّك أكثر، وليقرّبك أكثر، وليحتضنك بعطفه وحنانه ولطفه أكثر {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ}[7]، {وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ الله فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً}[8]، وإذا كان الله يعد العاملين من أجل مرضاته بالأجر العظيم، فإنّ ذلك يوحي بالحجم الكبير الّذي لا حدَّ له من ثواب الله ورضوانه.

ويبقى لنا، أيّها الأحبّة، من هذه الدروس القرآنيّة، أن ننطلق في هذا العنوان الكبير "النّجوى"، من أجل أن ندخل إلى أجواء النّجوى بقلوب تقيّة، وعقول تقيّة، وإحساس تقيّ، يتحرّك من أجل أن تكون الأحاسيس السرّية لحماية الخير، ولإزهاق الشرّ، ولإقامة العدل ودحض الباطل. هذا هو الطّريق للإنسان الّذي يريد أن يعيش إسلامه مسؤوليّة في الدنيا، ليلتقي بنتائج المسؤوليّة في الآخرة {وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى الله عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ}[9].

والحمد لله ربِّ العالمين.

فكر وثقافة، الجزء الثّاني، الافتتاحيّة السّابعة عشرة، بتاريخ: 4/10/1996.


[1] [المجادلة: 9].

[2] [المجادلة: 9].

[3] [الغاشية: 25_ 26].

[4] [المجادلة: 10].

[5] [الطلاق: 3].

[6] [الزمر : 36].

[7] [المطففين: 26].

[8] [النساء: 114].

[9] [التّوبة: 105].

هناك في القرآن عنوان تحدّث عنه الله تعالى في أكثر من آية، وهو عنوان النجوى، والنجوى تعبّر عن الكلام السرّي الذي يدور بين شخصين أو عدّة أشخاص، لأنّ الموضوع الذي يريدون أن يتحدّثوا به، قد تكون له أهميّة، وقد تكون له خطورة بالنّسبة إليهم، وربّما تكون النجوى في الخير إذا أرادوا أن يتحدّثوا عن الخير سراً، حذراً من أن يعطّل الآخرون خطة الخير إذا عرفوها مسبقاً، وقد يكون التناجي شرّاً إذا كانوا يخطّطون لبعض السوء المتعلّق بالأشخاص وبالأوضاع وبالقضايا.

النّجوى غالباً ما توحي للإنسان بالحريّة في الحديث، لأنّ الإنسان يتحفَّظ عادة في أحاديثه إذا كان هناك من يخشى أن يسمعه، أمّا إذا كان الذي يسمعه محلّ ثقة لديه، انطلاقاً من وحدة الحال أو وحدة الموقف أو وحدة الخطّة، فإنّه يشعر بالحريّة. ولذلك فقد تكون النّجوى أقرب إلى الشرّ منها إلى الخير، لأنّ الخير قليلاً ما يخاف الإنسان علانيته، بينما الشرّ يخاف الإنسان العلانية فيه فيحاول إخفاءه.

حديث القرآن عن التّناجي

لقد انطلق القرآن الكريم ليؤكّد لنا الخطّ فيما نتناجى به، وليشرح لنا طبيعته الروحيّة التي كان المنافقون يجيّرون فيها النجوى للإساءة إلى المؤمنين، ثم يعطينا الخطّ العام والقاعدة العامة في موضوعات النجوى. ففي البداية، يقول الله سبحانه وتعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ}  وتحدّثتم بحديث في السرّ، بحيث لا يطّلع عليه أحد {فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ} بما يغضب الله، {وَالْعُدْوَانِ}، بما يشكّل خطّةً للاعتداء على الآخرين أفراداً أو جماعات، بحيث تحاولون أن تخفوها عن النّاس لتنفّذوها بطريقتكم الخاصّة {وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ}[1]، لأنّ الآية كانت آنذاك في زمن الرّسول(ص)، ويمكن أن نمتدّ بها إلى زماننا هذا، لأنَّ معصية الرّسول لا تتحدّد فقط في تعليماته اليومية، ولكنها تشمل تعليماته العامّة على مستوى الخطوط المتصلة بالواقع الإسلامي كلّه، سواء على صعيد المفاهيم أو على صعيد الواقع. كما أنّنا عندما نسمع كلمة "معصية الرّسول"، فإنّ القضيّة لا تتّصل به شخصيّاً وحسب، ولكنّها تتّصل به موقعاً ودوراً وقيادة، فإذا كان للمسلمين قيادة تتحرّك في خطّ الرّسول على مستوى الإمامة، أو على المستوى الّذي يمتدّ من خلال الإمامة، فإنَّ من الممكن أن تشملها كلمة "معصية الرسول"، لأنَّ الله يريد أن يطاع أولياؤه، كما يريد أن يطاع أنبياؤه، فالأمر ليس خصوصيّة الرسول في صفته الذاتيّة، بل و خصوصية الرسول في صفته الرسالية التي تتحرّك مع الوليّ، وتتحرّك مع القيادة الشرعيّة، مع ما هناك من فرق بين شخصية الرسول في عصمته، وشخصيّة القيادات الأخرى الّتي لا تملك عصمة في حركيّتها، ولكن تبقى طاعة القيادة الشرعيّة هي الخطّ الذي يريد الله للناس أنْ يتّبعوه. هذا هو الجانب السلبي.  

{وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى}، أي بالخير الذي تريدون أن تقدّموه للنّاس، سواء كان خيراً في مستوى حاجات الناس المادية، أو كان خيراً في مستوى حاجات النّاس الروحية والاجتماعية والسياسية والأمنية والثقافية، لأنّ كلّ ما يرفع مستوى الناس، وكلّ ما يقدّم الخير للنّاس، فهو من البرّ والتّقوى، فالمطلوب هو أن تتناجوا في كيفيّة تحريك التّقوى في أنفسكم، من خلال عناصرها التي تنطلق على أساس العقيدة والانضباط والالتزام، أو التقوى في حركة الإنسان كلّه، وأن تدرسوا كيف يمكن أن نخطِّط للتقوى الاجتماعيّة، وكيف يمكن أن نخطِّط للتقوى السياسيّة، وكيف يمكن أن نخطِّط للتقوى الأمنيّة والثقافيّة وما إلى ذلك.

خطوط التّقوى في الحياة

لكلّ خطّ في الحياة تقواه، والله تعالى يريد للإنسان في كلّ خطّ أن يقف عند حدوده، فلا يتجاوزها إلى غيرها {وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا الله الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ}[2]. اتّقوه عندما تتحدّثون همساً، وعندما تتحدّثون جهراً، واتّقوه في مضمون ما تتحدَّثون، واتّقوه في تطلّعاتكم، اتّقوه في الوسيلة واتّقوه في الهدف، اتّقوه لأنّكم ستحشرون إليه {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ* ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ }[3].

ثمّ يحدِّثنا الله عن تجربة النّجوى في الواقع الإسلامي في مجتمع المنافقين {إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا}. كان المنافقون يجتمعون، وإذا رأوا المؤمنين، تهامسوا فيما بينهم، في طريقة إيحائيّة كما لو كانوا يدبّرون لهم شيئاً، وكما لو كانوا يخطّطون ليملأوا قلوب المؤمنين بالحزن والقلق، كما يفعل الكثير من الناس عندما يجدون شخصاً يريدون أن يثيروا القلق والخوف في نفسه، فإنّهم يتهامسون أمامه، ويشيرون إليه، حتى يفقد استقراره النفسي، {وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئاً إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ}، فأن يضرّ الإنسان إنساناً، أو أن ينفع إنساناً، فإنَّ ذلك ينطلق من حركة الإنسان في المطلق، فينسى أنَّ هناك إذن الله في الظّروف المحيطة بالأشياء وفي الأوضاع التي تتحرّك في الدّاخل، وفي القوانين التي رسمها الله في قضائه وقدره{وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئاً إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ}.

دعوا القلق فالله كافيكم

أيّها المؤمنون، لا تدعوا القلق يدمِّر نفسيّاتكم، ولا تدعوا الخوف يأكل أمنكم، لا تعيشوا حالة الضّياع والتردّد والقلق، إنَّ لكم إلهاً يرعاكم، وإنَّ لكم ربّاً يدبّركم، وإنّ لكم مولى يحميكم.

اعملوا كلّ ما عندكم من وسائل الأمن وتوكَّلوا على الله {وَعلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ}[4]. ويقول الله في آيةٍ أخرى: {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللهَ بَالِغُ أَمْرِهِ}، ولا يبلغ أمره أحد، {قَدْ جَعَلَ الله لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً}[5] نظاماً وتوازناً في كلّ حركة الواقع، وفي كلّ حركة الإنسان، وفي كلّ حركة التّاريخ {أَلَيْسَ الله بِكَافٍ عَبْدَهُ}،  {وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ وَمَن يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ}[6]. وإذا كان الله يكفيك، فمن ذا الّذي يخوفّك، ومن ذا الّذي يقلقك. كن الإنسان المطمئنّ، كن صاحب النّفس المطمئنّة بالله، فإنَّ مَن عاش الطمأنينة بالله فلن يخاف أحداً، ولن يحزن في الدنيا قبل الآخرة، لأنَّ الثقة بالله هي التي تعمِّق الثقة بالنّفس وبالخطّ وبالحياة.

وتبقى آية أخرى وأخيرة في مسألة النجوى، وهي الآية التي ختم الله بها الفصل الّذي تحدّثنا عنه في الآيات الّتي جاءت لتبرئة اليهودي ممّا اتّهم به، ولتأكيد التهمة على المسلم السّارق.

إنّ الله سبحانه بعد أن يتحدَّث لنا عن ذلك كلّه، يلتفت إلى المجتمع وإلى كلّ النجاوى التي تدور بين النّاس، ليقول: {لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ}، لا خير فيها، لأنَّ النجوى تختزن ـــ في الغالب ـــ الأجواء السريّة الّتي يشعر الناس فيها بحريّة أن يتكلّموا من دون ضوابط، وأن يُخطِّطوا من دون تقوى. إذاً {لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ}، والصدقة تعني العطاء في كلّ ما يريد الله للإنسان أنْ يعطيه، فالمتبادر من الصدقة أنها صدقة المال، ولكنّ هناك صدقة العلم، وهناك صدقة الرأي، وهناك صدقة القوّة وصدقة السلطة... فلكلّ شيء صدقة، ولكلّ شيء زكاة. وقد ورد في بعض الآثار: "إنَّ الله فرض عليكم زكاة جاهكم، كما فرض عليكم زكاة ما مَلَكَتْ أيمانكم". إذاً حاول أن تتصدَّق بقوّتك وبجاهك، وأن تتصدّق بعلمك وبخبرتك وببسمتك وبكلمتك، فإنَّ "الكلمة الطيّبة صدقة".

نجوى الخير

لذلك {إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ}، حتى يركِّز العطاء في واقع النَّاس {أَوْ مَعْرُوفٍ}.  والمعروف يتّسع اتّساع الخير كلّه في الدّنيا في كلّ جوانبها، هناك معروف في العلاقات، ومعروف في الأعمال الفرديّة، ومعروف في السياسة، ومعروف في الاجتماع، ومعروف في الأمن، ومعروف في كلّ ما يعرفه النّاس ممّا يرفع مستواهم، وممّا يخدم التطوّر الإنساني في حياتهم، {أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ} هذه النجاوى الخيّرة التي تخطّط في السرّ لإنجاح صلح بين اثنين أو بين جماعتين، وللإصلاح بين الناس إذا تخاصموا، وتقريبهم إذا تباعدوا.

ولكن يبقى الإصلاح بين النّاس يتحرّك في مستوى المفاهيم ليصلح أمر النَّاس فيما بينهم، من خلال المفاهيم الّتي يلتقون عليها، ومن خلال الأساليب والوسائل التي تقرّب القلوب، والتي تجمع النفوس على الخطِّ الّذي يحبّه الله ويرضاه {وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ الله}، لا يفعله لشيء ذاتي أو لطمعه، بل ابتغاء مرضاة الله، وتلك هي قمَّة الإخلاص وقمَّة وعي المسؤوليَّة في وعي معنى العبوديَّة المطلقة في الإنسان أمام الألوهيَّة المطلقة في الله؛ أن تفعل ابتغاء مرضاة الله ليحبَّك أكثر، وليقرّبك أكثر، وليحتضنك بعطفه وحنانه ولطفه أكثر {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ}[7]، {وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ الله فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً}[8]، وإذا كان الله يعد العاملين من أجل مرضاته بالأجر العظيم، فإنّ ذلك يوحي بالحجم الكبير الّذي لا حدَّ له من ثواب الله ورضوانه.

ويبقى لنا، أيّها الأحبّة، من هذه الدروس القرآنيّة، أن ننطلق في هذا العنوان الكبير "النّجوى"، من أجل أن ندخل إلى أجواء النّجوى بقلوب تقيّة، وعقول تقيّة، وإحساس تقيّ، يتحرّك من أجل أن تكون الأحاسيس السرّية لحماية الخير، ولإزهاق الشرّ، ولإقامة العدل ودحض الباطل. هذا هو الطّريق للإنسان الّذي يريد أن يعيش إسلامه مسؤوليّة في الدنيا، ليلتقي بنتائج المسؤوليّة في الآخرة {وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى الله عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ}[9].

والحمد لله ربِّ العالمين.

فكر وثقافة، الجزء الثّاني، الافتتاحيّة السّابعة عشرة، بتاريخ: 4/10/1996.


[1] [المجادلة: 9].

[2] [المجادلة: 9].

[3] [الغاشية: 25_ 26].

[4] [المجادلة: 10].

[5] [الطلاق: 3].

[6] [الزمر : 36].

[7] [المطففين: 26].

[8] [النساء: 114].

[9] [التّوبة: 105].

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية