أمامنا في هذا الأسبوع عنوانان من خلال مناسبتين:
العنوان الأوّل: "رجب"، وقد جعله الله سبحانه وتعالى أحد الأشهر الحرم.
قال تعالى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ الله اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ الله يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ}[1].
أشهر السَّلام
وعنوان الأشهر الحرم في الإسلام، وهي: "ذو القعدة، وذو الحجَّة، ومحرَّم، ورجب"، إنّما يرتبط بفكرة أنَّ الإسلام انطلق من وحي الله تعالى، من عهد إبراهيم(ع) حتى محمّد(ص)، وتميَّز بدعوته إلى السَّلام بين الناس عن كلّ اتجاهٍ إنساني معاصر.
فالله سبحانه وتعالى جعل في الزَّمن واحة سلام، كما جعل في الأرض واحة سلام، فأراد للنّاس أن يعيشوا السَّلام في ثلث السّنة في الأشهر الحرم، فالقتال فيها حرام، حتى إنَّ الإنسان قد يقف في الأشهر الحرم أمام قاتل أبيه فلا يقتله، احتراماً لحرمة هذه الأشهر. وقد كان الجاهليّون يعظّمون هذه الأشهر انطلاقاً مما بقي لديهم من تراث إبراهيم(ع)، وكانوا يتلاعبون في بعض الحالات، فيقومون بحيلة غير شرعيَّة، فإذا اضطرّوا إلى أن يدخلوا في حرب، أو في قتال مع بعض النّاس، كانوا يؤخِّرون محرَّم إلى صفر، فيعتبرون "صفر" بدلاً من محرَّم، ليتاح لهم القتال في محرَّم.
وعلى هذا الأساس، نزلت الآية: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُحِلِّونَهُ عَاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عَاماً لِّيُوَاطِؤُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللهُ}[2].
والفكرة في الأشهر الحرم، هي أن يعيش الناس في ثلث السّنة روح السَّلام، من خلال ما يختزنونه من معنى الالتزام الدّينيّ بالمسألة، ومن خلال ما يمارسونه في حياتهم العامَّة.
والهدف من ذلك، هو أن يتحسَّس الناس في هذه الأشهر نتائج الحرب في كلّ سلبيّاتها، من خلال نتائج السَّلام في كلِّ إيجابيّاته، ليدفعهم ذلك إلى أن يتدبّروا أمورهم فيما لديهم من منازعات ومن حروب، ليدخلوا في مفاوضات حولها، لتكون هدية الأشهر الحرم سلاماً لأشهر الحلّ، إذا صحَّ التّعبير.
إنها واحة سلام في الزَّمن، وقد رخَّص الله للمسلمين أن يدخلوا حرباً وقائيّةً أو حرباً دفاعيّةً عندما يخرق الآخرون الشَّهر الحرام. قال تعالى: {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ ـ من اخترق حرمتك فمن حقّك أن تخرق حرمته ـ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ}[3].
شرعيَّة قتال العدوّ
ومن الطّبيعي أنّه عندما يقاتل المجاهدون منّا، ولا سيَّما في "فلسطين" وفي "لبنان"، العدوّ الصّهيونيّ في الأشهر الحرم، فإنَّ قتالهم شرعيّ، لأنهم يقفون موقف الدّفاع، حتى لو لم يطلق اليهود رصاصةً واحدةً، لأنهم اعتدوا باحتلال الأرض، وبإخراج أهلها منها، وبمحاصرة النّاس الموجودين في داخل فلسطين وفي "جبل عامل" و"البقاع الغربي" في لبنان. ومن هنا، فإنَّ احتلاله يمثّل العدوان المستمرّ، وإصراره على عدم رجوع الفلسطينيّين إلى بلادهم الّتي كانوا فيها ليعيشوا فيها، يمثِّل عدواناً آخر. وبذلك، فإنّ حركة المقاومة المجاهدة في داخل فلسطين وفي لبنان تأخذ شرعيّةً إسلاميّةً، باعتبار عنوان الدِّفاع ممّا جاء في الآية المتقدّمة.
وإذا كنّا نعيش هذا الشَّهر الحرام، إضافةً إلى ما عشناه من الأشهر الحرم، فإنَّ علينا أن نعيش في أنفسنا روحيَّة السّلام للنّاس الّذين يسالموننا، وللنّاس الذين يفتحون قلوبهم لنا، والّذين نلتقي معهم في أكثر من موقعٍ حتى لو اختلفنا في الآراء، لأنَّ السَّلام روحيّة تنطلق منها الممارسة، فإذا كنت لا تعيش محبّة النّاس، ولا تحترم إنسانيّتهم، ولا تتحسَّس في نفسك مسؤوليَّتك عن حياتهم، فإنّك لا يمكن أن تكون إنسان السَّلام.
السّلام فكرة في العقل، والسّلام عاطفة في القلب، والسّلام نبضة في الإحساس، والسّلام بعد ذلك حركة في الواقع، لذلك، لا بدّ من أن نربي أنفسنا على أساس أن تكون لنا عقليّة السّلام، وعاطفة السّلام، ومشاعر السّلام، إلى أن يتحوّل السّلام إلى حركة في الطريق. ومن الطبيعي أنّ السّلام في مفهومنا هو السّلام الذي يترافق مع العدل في الحياة، لأنه لا سلام مع الظلم، فمن ظلمك، فإنّ عليك أن تردَّ ظلمه بكلِّ ما تملكه من وسائل، أمّا من يعدل معك، فاعدل معه وسانده، وهذا هو قول الله تعالى لنا حتى بالنسبة إلى الكافرين المسالمين: {لَا يَنْهَاكُمُ الله عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ الله يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ الله عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}[4].
فالإسلام يعتبر أنّ حقّ من يسالمك أن تعدل معه، وكذلك من لا يقاتلك في دين، ولا يخرجك من ديارك، ومن لا يعاون الآخرين على إخراجك من ديارك. أمَّا من قاتلك في الدِّين، ومن أخرجك من دارك وشرَّدك، ومن عاون في إخراجك، فإنّه لا يمكن لك أن تتولاّه، لأنك بالتبرّي منه تضعف الظّلم.
عطاء رجب الحرام
فلنعش روحيَّة السلام، ولا سيَّما أنّنا كمسلمين تحيّتنا هي السّلام، وهذا هو الّذي يجعل الإنسان المسلم في حركة دائبة لتوعية الناس بالسلام من خلال التحية.
وقد أراد لنا الله أن نتدرَّب على هذا السَّلام بالتّحيّة، لنعيش في الجنَّة ونحن على الأرض، حتى إذا دخلناها ندخلها بروحية السَّلام: {وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ}[5]، {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ}[6]، {وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ * سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ}[7].
ذلك هو عطاء رجب الحرام. ومن الطبيعي أنّنا لن نحصل على عمق الإحساس بالسّلام للناس الطيّبين إلا بالانفتاح على الله سبحانه وتعالى: {الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ}[8]، فنحن كلّما أحببنا الله أكثر، أحببنا عباده أكثر، وكلّما ابتهلنا وتقرّبنا إلى الله أكثر، تقرّبنا إلى القيم الّتي يريدها أن تتحرّك في الحياة وفي حركة الإنسان المسلم على جميع الأصعدة. ومنطقة السّلام العامّة في الجغرافيا هي "حرم مكّة"؛ هذه التي جعلها الله بيتاً آمناً للنّاس، فهي منطقة سلام في الزّمن، ومنطقة سلام في الجغرافيا، من أجل أن نتعلَّم معنى السَّلام فيما بيننا، ونحرّك السّلام في حياتنا.
هيبة الهادي(ع)
العنوان الثاني: هو ذكرى الإمام الهادي(ع)، والإمام الهادي(ع) هو العاشر من أئمّة أهل البيت(ع)، ويذكر تاريخه، بالرّغم من قلَّة مفردات هذا التاريخ، أنه كان شخصيّةً ممتدةً في حركة العلم في المدينة، فقد روى العلم عنه جماعةٌ كثيرةٌ، كما أنّه كان منفتحاً على النّاس بأخلاقه النبويّة، بحيث كان الناس يعيشون معه، إلى جانب اعتقادهم به وبإمامته، وكانوا يعيشون المحبّة له، حتى إنَّ التاريخ يذكر أنّه عندما أرسل "المتوكّل" رسوله ليجلب الإمام إلى العراق، وعرف النّاس بذلك، ثارت ضجّةٌ عظيمةٌ في المدينة، وكاد النّاس أن يقوموا بثورة، لولا أنَّ عاملها أخبرهم بأنّه لن يعامله بسوء.
وينقل عن هيبته، أنّه كان ذاهباً إلى بعض الأماكن، وقد وقف النّاس وترجَّلوا له، وقال شخص هناك: إنَّ هذا الفتى ليس أكبرنا سناً، وليس أغنانا، فلماذا نترجَّل له؟! فقال له أحدهم: سيخرج وسترى بنفسك أنّك لن تثبت على كلامك. وفعلاً، عندما خرج الإمام، كان هذا القائل أوَّل المترجّلين أمامه بشكلٍ لا شعوريّ، وعندما سئل قال: إنّنا عندما رأيناه لم نملك أنفسنا إلا وترجّلنا له.
كان يملك هيبةً تنطلق من عناصر شخصيَّته ومن روحانيّةٍ تشعّ في وجهه، بحيث يشعر الناس بالهالة الروحانية التي يعيشها الأئمة(ع) فيما يختزنونه من إشعاعات الروح. وعندما طلب منه "المتوكّل"، وقد دخل مجلسه، أن ينشده شعراً، اختار الأبيات الّتي تمثّل تحدّياً للمتوكّل فيما كان يعيشه من جبروت ومن استكبار وطغيان، وأنشده هذه الأبيات:
باتوا على قلل الأجبال تحرسهم غلب الرّجال فلم تنفعهم القُلَلُ
إلى آخر الأبيات المشهورة، حتى بكى المتوكِّل، وعاش روحيَّة الإمام الّذي نقله من أجواء الدّعة إلى أجواء الموت والقبر والآخرة.
حركيّة الإمام(ع)
وعندما ندرس الإمام الهادي(ع) في تنظيمه لوكلائه، وفي حركته في الواقع، نشعر بالرّغم من عدم وجود مفردات كثيرة، أنّه كان يعيش حركيّة الإمامة في المدينة، حتى خاف المتوكّل من ذلك، فجاءه من يخبره بأنّ الهادي يدعو إلى نفسه، ومن الممكن أن يهدِّد نفوذ الخلافة، وجاءت الرسالة للمتوكِّل: إن كان لك حاجة بالحرمين، فأخرج عليّ الهادي منهما، لأنّ الناس قد شغفوا به. وعندما تقرأ رسالة المتوكّل إلى الإمام الهادي(ع)، تجد الرّسالة مفعمةً بالاحترام والتقدير، ما يدلُّ على امتلاء نفسه بعظمة الإمام وخوفه منه.
إنَّ التزامنا بأئمَّة أهل البيت(ع) هو الالتزام بالإسلام النّقي الصَّافي، وعسى أن تكون ولايتنا لهم ولاية موقف لا ولاية عاطفة، لأنهم انطلقوا من خلال الإسلام، فمن تحرَّك في خطِّ الإسلام فهو معهم. ومن لم يتحرَّك في خطِّ الإسلام فليس معهم، وقد جاء عن الإمام الباقر(ع): "من كان لله مطيعاً فهو لنا وليّ، ومن كان لله عاصياً فهو لنا عدوّ، وما تنال ولايتنا إلا بالعمل والورع"[9]، بأن يسير الإنسان في حياته بتقوى الله والانفتاح عليه.
*ندوة الشّام الأسبوعيّة، فكر وثقافة، بتاريخ: 3/7/1416هـ/ الموافق: 25/11/1995م.
[1] (التوبة: 36).
[2] (التوبة: 37).
[3] (البقرة: 194).
[4] (الممتحنة: 8، 9).
[5] (يونس: 10).
[6] (الأعراف: 43).
[7] (الرعد: 23، 24).
[8] (الحشر: 23).
[9] الكافي، الشيخ الكليني، ج 2، ص 75.