... ها نحن نطلُّ على شهر رمضان، ومن خلال دراستنا لما كان النبيّ(ص) يعمله في توعية أصحابه بمعنى شهر رمضان، وبالبرنامج الذي ينبغي للإنسان أن يتّخذه في هذا الشّهر، وبالآفاق الروحيّة الّتي لا بدَّ له من أن يطوف بها، وبالحركة الاجتماعيّة الّتي تمثّل حركيّة الإنسان في علاقاته بالنّاس، يبدو من خلال ذلك أنَّ الإسلام يريد للإنسان المؤمن أن يعدَّ نفسه إعداداً روحيّاً إنسانيّاً ثقافيّاً، قبل أن يدخل هذا الشّهر، ليدخله بقلب مفتوح على الله تعالى، وعلى الخير وعلى العدل كلّه، وعلى الإنسان كلّه والحياة كلّها.
ونلاحظ أنَّ الأئمَّة من أهل البيت(ع) ساروا على مثل هذا الخطِّ في التَّوجيه، فلقد كانوا يتحدَّثون مع الناس في آخر جمعة من شهر شعبان، من أجل أن يحرّكوا كلّ وعيهم في اتجاه الانفتاح على هذا الشَّهر الكريم.
خطبة النبيّ(ص) في استقباله
فنحن هنا من أجل أن ننفتح على توجيه رسول الله(ص) للنّاس في هذا الشّهر قبل أن يقبل هذا الشّهر الفضيل، ففي الرّواية، أنّ رسول الله(ص) خطب المسلمين في آخر جمعة من شعبان، فقال:
"يا أيّها النّاس، إنّه قد أقبل إليكم شهر الله". وكلمة "شهر الله" توحي بمعنى يجعل الزّمن هنا زمناً إلهيّاً يحمل العنوان الإلهيّ في كلّ ساعاته وأيامه ولياليه، لأنّنا نعرف أنّ الشهور كلّها من عند الله، فهو الذي خلق الزمن وقسّمه من خلال الظاهرة الكونية التي تحدّد الزمن في شهوره، كما تحدّده في أيّامه ولياليه: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ}([1]). فالشّهور كلّها من عند الله، وهي خلق الله، ولكنَّ الله اختصّ هذا الشّهر بأن نسبه إليه، على ما جاء في حديث الرسول(ص) ليقول لنا: أيّها الناس، إنّ عليكم أن تحركوا كلّ هذا الزّمن في آفاق الله، لتكون ثوانيه ودقائقه وساعاته وأيّامه ولياليه انفتاحاً على الله.
فليكن عقلك عندما تفكِّر عقلاً منفتحاً على الله في الحقّ والخير، وعندما تحرّك عاطفتك في قلبك، باعتبار أنَّ القلب هو مخزن العاطفة، فإنَّ عليك أن تجعل عاطفتك عاطفة منسجمة مع الخطّ الذي يرضاه الله، بأن تحبّ في الله وتبغض في الله، وأن توالي أولياء الله وتعادي أعداء الله، وعندما تتحرّك، فلتكن حركتك إلهيّة سائرة في الخطّ المستقيم الّذي يريد الله للنّاس أن يسيروا عليه، وفي الأجواء الخيّرة الّتي يريد الله للنّاس أن يتنفّسوها، وفي كلّ حركة يمكن للإنسان أن يركِّز فيها حقّاً أو يقيم عدلاً، أو ينفتح فيها على كلّ ما للإنسان فيه معرفة واستقامة.
شهر رحمة الله
"قد أقبل إليكم شهر الله"، محمَّلاً "بالبركة والرّحمة والمغفرة"، فهو موقع البركة في أعماركم وأرزاقكم وفي كلّ طاقاتكم، وهو مخزن الرّحمة التي يرحم الله فيها عباده بكلّ مواقعها وآثارها وبكلّ فيوضاتها. وإذا عرفنا أنّ وجودنا هو مظهر لرحمة الله، وأنَّ النّعم التي يغدقها الله علينا هي مظهر رحمة الله فينا، وأنَّ طاقاتنا التي أودعها الله في كياننا هي مظهر رحمة الله، وأنَّ كلّ ما يحيط بنا، وكلّ من يحيط بنا ممّا يتّصل بحياتنا ويغنيها هو مظهر رحمة الله، فكم هي هذه الرّحمة الرمضانية التي تختصر رحمة السّنة كلّها بالبركة والمغفرة؟!
فماذا تنتظر ذنوبنا الّتي أثقلت ظهورنا وإحساسنا ومشاعرنا، وجعلتنا نتحرّك في أجواء الحياء من الله أنّنا عصيناه وهو يغدق علينا نعمه؟! كما عبّر عن ذلك الإمام عليّ بن الحسين زين العابدين(ع) في دعائه: "تتحبَّب إلينا بالنِّعَمْ ونُعارِضُك بالذّنوب، خيرُك إلينا نازِل، وشرّنا إليك صاعد، ولم يَزَلْ ولا يزال مَلَكٌ كريم يأتيك عنَّا في كلّ يوم بعملٍ قبيح، فلا يمنعك ذلك من أن تحوطنا بِنِعَمِك، وتتفضّل علينا بآلائك، فسبحانك ما أحْلَمَكْ وأعظَمَك وأكرمك مبدئاً ومعيداً!"([2]). قد أقبل إلينا وهو يحمل لنا المغفرة لذنوبنا.
خصوصيّة الشَّهر
أيّها الأحبّة، ولله خصائص في الزَّمان وفي المكان: "شهرٌ هو عند الله أفضل الشّهور، وأيّامه أفضل الأيّام، ولياليه أفضل اللّيالي، وساعاته أفضل السّاعات"، ونحن ضيوف الله في هذا الزّمن كلّه، فالله عندما أوجدنا، دعانا إلى أن نعيش الضّيافة في نعمه الّتي تفيض علينا صباحاً ومساءً، ولكنّ ضيافة شهر رمضان هي ضيافة خاصّة، يختصّ الله فيها عباده بالبركة والرّحمة والمغفرة، وإنّ لله في كلّ ليلة في هذا الشّهر عتقاء من النّار.
"هو شهر دعيتم فيه إلى ضيافة الله، وجعلتم فيه من أهل كرامة الله"، فعندما تدخلون الشّهر، تدخلونه ولكم كلّ كرامة الله في إيمانكم وإسلامكم وتقواكم وعملكم الصّالح. فانظروا كيف هي هذه الكرامة، وكيف هي هذه الرّحمة، فأنت تتنفَّس، لأنَّ ضرورة حياتك تقضي أن تتنفَّس، ولكنّك تتنفّس في شهر رمضان لتهبط أنفاسك أو تصعد، فإنّ "أنفاسكم فيه تسبيح"، فأنت تسبّح وأنفاسك أيضاً تسبّح، وذلك عندما يسبّح عقلك، وعندما يسبّح قلبك ومشاعرك وعيناك في الكون، وعندما تسبِّح أذناك وهي تسمع فرح الأشجار والشّلالات والأنهار والطّيور، وكلّ هذه الموسيقى الإلهيّة الّتي جعلها الله في هذا الكون، من أجل أن تدخل الفرح في قلبك، موسيقى لا إشكال فيها، لأنّها الموسيقى الإلهيّة الّتي لم تتلوّث بغرائز البشر ولا المعاني الأخرى.
"ونومكم فيه عبادة"، وأنتم إذ تنامون لترتاحوا، فإنَّ الله يجعل نومكم عبادة، لأنَّ الإنسان الذي يشغل نفسه بعبادة الله، فإنَّ نومه يكون عبادة، فبالنّوم يقوى على العبادة ويتجدّد نشاطه، ولذلك فإنّ نومه هو نوم عباديّ في معناه، وفي منطقة اللاشعور التي يخرج فيها الإنسان أثناء نومه من دائرة الحسّ، ليعيش عالماً جديداً يلتقي فيه النّاس، وينفتح على الأكوان، ويختصر المسافات.
أجواء طيّبة
"وعملكم فيه مقبول، ودعاؤكم فيه مستجاب". هذا هو جوُّ رمضان، فماذا نصنع بهذا الجوّ؟ وكيف نتحرَّك فيه؟
"فسلوا الله ربّكم بنيّاتٍ صادقة". والنيَّة هي روح العمل، ففي الحديث الشَّريف: "إنَّ الله يحشر النَّاس على نيَّاتهم يوم القيامة"([3])، ونقرأ في الحديث: "النيَّة روح العمل"([4]). فالعمل المجرّد جماد، والحركة وحدها لا تعني شيئاً، ولكنّك إذا أعطيتها نيّة القربة إلى الله صارت صلاة، وإذا أعطيتها نيّة الإخلاص لله، صارت عملاً صالحاً وصدقة، والله تعالى يريد أن تكونوا الصّادقين في نيّاتكم، فعندما تتحرّك دوافعك، فلتتحرك للخير كلّه وللعدل كلّه وللإنسان كلّه.
"فسلوا الله ربّكم بنيَّاتٍ صادقة"، إذا اطّلع الله على عمقها، يرى منكم الصّدق كلّ الصّدق، وأنتم تناجونه وتعبدونه، "وقلوب طاهرة"، طهّروا قلوبكم من الشرّ والحقد والعداوة والبغضاء، فليكن قلبك في نقاء الثّلج وبياض الصّبح، قلباً مفتوحاً على الله، يحبّ عباد الله ليعمل معهم، ويحبّ الّذين يختلفون معه ليهديهم، ويحبّ الّذين يتَّفقون معه على البرّ والتَّقوى ليتعاون معهم.
"أنْ يوفِّقكم لصيامه". والصِّيام هو هذه الحركة الروحيَّة الّتي تعيشها في عقلك ليصوم عن كلّ أفكار الشرّ، والّتي تعيشها في قلبك ليصوم عن كلّ عاطفة الشرّ، والصّيام الذي تعيشه في جسدك ليصوم عن كلّ حركة الشرّ وأحاسيسه. فالصّيام الّذي يريده الله منّا في شهر رمضان، هو الصيام الصّغير الذي يعدّك إعداداً روحياً وإرادياً من أجل الصّوم الكبير، لأنّ هناك صوماً عن الطعام والشراب وبعض الشّهوات في نهار شهر رمضان، ولكنّ هناك صوم العمر كلّه، في أن تصوم عن الخمر والقمار والزّنا والكذب والسّرقة والظّلم والاستكبار وعن كلّ محرَّم.
لذلك كان شهر رمضان حركة روحيّة تدريبيّة، تتعلّم فيها كيف تواجه سلطان العادة عليك، وكيف تواجه سلطان الغريزة عليك، وسلطان المغريات الّتي تتحرّك من هنا وهناك، والضّغوط التي تطبق عليك، فكيف تتحرّر من ذلك، لتكون حرّاً في جميع أحوالك، فحريتك ليس هي أن يصدر مرسوم يقول لك إنّك حرّ لوجه الله، فأن تكون الحر، يعني أن تكون حرّ الإرادة والعقل والعاطفة، وهي أن تملك نفسك عندما تفكّر، فلا يضغط عليك فكر الآخرين، وأن تملك قلبك عندما ينبغي، فلا تسقطه نبضات قلوب الآخرين، وأن تملك حركتك ومصيرك من خلال إرادتك، وأن تقول (لا) عندما تكون الــ (لا) هي قرارك، وأن تقول (نعم) عندما تكون الــ (نعم) هي قرارك، فأن تكون حرّاً في إرادتك، فتلك هي الحريّة الّتي قد يتّصف بها الإنسان المؤمن، حتى لو كان في أضيق الزنزانات.
"وتلاوة كتابه"، أن تتلو القرآن من حيث إنّك مسلم، فأن تكون مسلماً، يساوي أن تكون قرآنيّاً، وأن يكون القرآن عقلك وقلبك وإحساسك وشعورك وبرنامجك وحركتك في نفسك وفي علاقتك بالحياة وبالإنسان الآخر، وفي كلّ مواقفك وكلّ ما تتحرّك فيه.
إنّ قراءة القرآن في شهر رمضان انطلقت أوّلاً من أنّ هذا الشّهر أخذ قيمته من خلال نزول القرآن فيه، وأخذ القرآن موقعه الزّمني من خلال نزوله في شهر رمضان، فكان هناك تفاعل بين القرآن في كلّ معانيه وروحيّته، وبين شهر رمضان فيما أودعه الله فيه، فكان القرآن رمضانيّاً في كلّ روحانية رمضان، وكان رمضان قرآنيّاً في كلّ روحانيّة القرآن وكلّ معانيه، فنحن بحاجة إلى أن ندخل بين هذين الخطّين؛ بين رمضان والقرآن، لنعيش رمضان في القرآن، ونعيش القرآن في رمضان، نتلوه ونتدبّره {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً}([5])، {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا}([6]). والله سبحانه وتعالى يريدك أن لا تعجل به، فهو يحمي لك وعيك في القرآن وأنت تقرأه، ولقد أنزل الله على رسوله(ص) وهو يستقبل القرآن: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ* إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ* فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ* ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ}([7]). إنّ عليك أن تقرأه قراءة وعي وفكر وتدبّر وروحانيّة، فإنّك كلّما كرّرت القرآن أكثر، اكتشفت معانيه بشكلٍ أوسع وأعمق، لأنّه ليس الكلمات في معاني القاموس، ولكنّه الإيحاء الّذي تشعر فيه بأنّ للقرآن عيناً تبصر، وأذناً تسمع، وحركة في كلّ الواقع، فإذا أردتم أن تعيشوا مع القرآن، فإنَّ عليكم أن تلاحقوه في شوارعكم وفي بيوتكم وفي نواديكم، وفي كلّ ساحات صراعكم، لأنَّ للقرآن كلمةً في ذلك كلّه. وهذا هو الّذي يجعل لتلاوة كتاب الله في شهر رمضان معنى يتَّصل بثقافتك وإحساسك وإيمانك وبحركتك في الحياة. "فإنّ الشقيّ من حرم غفران الله في هذا الشّهر العظيم".
استحضار يوم القيامة
وبعد ذلك، يا رسول الله، نحن نجوع في شهر رمضان ونعطش، ولا سيّما في أيّام الحرّ، فماذا تريدنا أن نستوحي من هذا الشّهر في هذا الخصوص؟!
إنّه يخاطبنا فيقول: "واذكروا بجوعكم وعطشكم فيه جوع يوم القيامة وعطشه"، لأنَّ الله علّم رسوله في القرآن، أنّ اليوم الآخر هو الذي يجعل الإنسان يملك ضميراً روحياً ووعياً مسؤولاً، لأنّك وأنتَ تتحرّك في حياة ليس فيها حساب، لا بدَّ من أن تعمّق معنى الحساب في نفسك. فلا بدَّ وأنت لا ترى الله في حسّك، أن تعمّق ربوبيّة الله في عقلك وموقفك أمام ربّك: {اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً}([8])، {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ}([9])، {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ}([10])، {يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ للهِ}([11])، {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا}([12]).
فالّذين يحسبون حساب موقفهم في يوم القيامة، وحساب جوعهم وعطشهم في ذاك اليوم، هم الّذين تخفَّفوا من أثقال معاصيهم، وهم الّذين انفتحوا على طاعتهم لربّهم، وهذا ما نستوحيه من بعض أدعية الإمام زين العابدين عليّ بن الحسين(ع)، عندما كان يتأوّه ويبكي ويشتاق ويقول: "فوا سوأتاه غداً من الوقوف بين يديك، إذا قيل للمخفّين جوزوا، وللمثقلين حطّوا؛ أمع المخفّين أجوز، أم مع المثقلين أحطّ؟ ويلي كلَّما طال عمري"، وهو يتحدَّث بلسان الإنسان كلّه لا بلسانه الخاصّ، لأنّه كان القمّة في الطّاعة ـــ وهو المعصوم ـــ " كثُرَتْ خطاياي، أمَا آنَ لي أن أستحي من ربّي؟"([13])..
"واذكروا بجوعكم وعطشكم فيه جوع يوم القيامة وعطشه" {يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ* إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}([14])، {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ* وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ* وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ* لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ}([15]). اذكروا ذلك لتخفِّفوا عن أنفسكم قسوة الجوع، فأنتم لا تتحمَّلون جوع يوم ولا عطش يوم، فكيف تحملون جوع وعطش يومٍ مقداره ألف سنة ممّا تعدّون، وأكثر من ذلك كما في آيةٍ أخرى.
واذكروا ـــ بعد ذلك ـــ الفقراء والمساكين والجائعين الّذين لا يشبعون، لا لأنَّ هناك مانعاً شرعيّاً من الشَّبع، بل لأنّهم لا يجدون ما يأكلون أو يشربون.
"وتصدّقوا على فقرائكم ومساكينكم"، فإنَّ الصّدقة تدفع البلاء، ويقول الإمام عليّ(ع): "سوسوا إيمانكم بالصّدقة"([16])، فإنَّ الصّدقة تربّي لكم إيمانكم وتحميه، وليست الصّدقة كما استهلكها النّاس، بأن تحمل ليرةً لتعطيها هذا الشحّاذ أو ذاك، بل أن تدرس ظروف هذه العائلة وتلك وهؤلاء {يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافاً}([17])، أن تتصدَّق بالصّدقة الّتي تحلّ المشكلة للفقير ولو آنيّاً، أو تخفّف من ثقل الفقر عليه.
ثمّ إنَّ هذا المجتمع فيه الكبار والصّغار، فالكبار قد يصادرون الصغار ويحتقرونهم، والصغار قد لا يحترمون الكبار. لذلك، أيّها الصّغار، إذا كان هناك كبار في مجتمعكم، من آبائكم وأمّهاتكم، أو غير آبائكم وأُمّهاتكم، "ووقّروا كباركم". والتوقير ليس أسلوباً شكليّاً، بل أن توقّر عقله الّذي استطاع أن يقوى في التّجربة، وتوقّر تجربته وقِدَمه في الإسلام، وكلّ هذا التّاريخ الذي عاشه وربّما شارك في صنعه.
فيا أيّها الصّغار: لا تنظروا إلى الكبار نظرتكم إلى جيلٍ يتلاشى ولا يملك حيويّتكم وعنفوانكم وأحلامكم وطموحاتكم، لأنّه جيل بدأ يودّع الحياة قليلاً قليلاً، ولكن انظروا إلى الكبار على أنّهم تاريخكم الّذي شاهدتموه والّذي تتحسّسونه، وأنّهم جزء من مسيرة الأمَّة وحركة التّاريخ، وجزء من التّجربة الغنيّة، فربّما تكون جامعيّاً ولا تستطيع أن تحصل على ثقافة هذا الكبير الّذي صنع ثقافته من خلال تجربته، فيما صنعت ثقافتك من خلال تجارب الآخرين.
"وارحموا صغاركم"، لا تعنّفوا الصّغار، ولا تعتبروهم كميّة مهملة أو شيئاً لا فكر له، فقد تجد في صغيرك الكثير من الفطرة الصّافية التي لا تملكها أنت، لأنَّ فطرتك قد تكون تلوّثت بالكثير من وحول الواقع الّذي تعيشه.
"إنَّ قلب الحدث كالأرض الخالية"([18])، إنَّه يستقبل الحياة، ولديه قابليَّات وإمكانيَّات، فارحم نقاط ضعفه ودرجة نموّه، وارحم أحلامه ولا تتعسَّف في إسقاطها، وارحم آلامه وحاجته إلى اللّهو واللّعب، وحاول أن تجنّبه مشاكل اللّهو واللّعب... وارحمه وعلّمه بما يبني شخصيّته.. ارحمه وحاول أن تعطيه من عقلك عقلاً.. فلا تفرض عليه عقلك ولا عاداتك، فلقد قال الإمام عليّ(ع): "لا تقسروا أولادكم على آدابكم، فإنَّهم مخلوقون لزمانٍ غير زمانكم"([19]).
"وصلوا أرحامكم". ثمّ مجتمعك الصّغير، الخليّة الأولى التي تنفتح فيها على المجتمع الكبير، وهو مجتمع أرحامك الّذين أراد الله أن تصلهم ولا تقطعهم، وذلك بأن تعطيهم المحبّة والصّلة حتى ولو آذوك وتعسّفوا معك وقطعوك، لأنّك تتعلّم بذلك أن تصل النّاس من غير أرحامك، إنّها المدرسة الأولى للصّلات المتمثّلة في رحمك.
حصاد الألسنة
"واحفظوا ألسنتكم"، ففي الحديث الشّريف: "إنّما يكبّ النّاس على مناخرهم في النّار يوم القيامة حصائد ألسنتهم"، وقد قال النبيّ(ص) ممّا روي عنه لبعض أصحابه الّذي طلب منه أن يدلّه على طريق يدخل به الجنّة: "احفظ لسانك إلاّ عن خير". ولذلك، لا بدَّ لنا من أن نعرف بأنَّ كلماتنا قد تصنع مشكلة وقد تصنع حلاً، وقد تثير حرباً وقد تصنع سلماً، وقد تحرّك خيراً وقد توقظ شرّاً، فلا بدَّ لنا من أن ندرس كلّ ما نتحدَّث به، وهناك لفتة رائعة للإمام عليّ(ع)، وقد رأى شخصاً يتكلّم دون أن يدقِّق فيما يتكلَّم، فقال له: "يا هذا! إنّك تُملي على كاتبيك كتاباً إلى ربّك، فتكلّم بما يعنيك، ودع ما لا يعنيك"([20])، أتعرف ماذا تصنع؟ إنّك لا تحسّ بمعنى الكلام، وإنَّ هناك كاتبين يكتبان كلّ ما تقول {مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ}([21])، فأنت في كلّ كلمة تقولها، إنّما ترسل رسالةً إلى ربّك، فانظر ماذا تكتب في الرّسالة، وانظر ماذا تحمل الرّسالة إلى ربّك، لأنّك مسؤول عن كلّ كلماتك،ولأنّ رعاية الله لك تنطلق من حساب هذه الكلمات.
"وغضّوا عمّا لا يحلّ النّظر إليه أبصاركم، وعمَّا لا يحلّ الاستماع إليه أسماعكم"، فلا تنظروا إلاّ إلى ما يحلّ {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ* وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ}([22])، ولا بدَّ للإنسان من أن يعيش مسؤوليّة السّمع، لأنّه نافذة تطلّ على العقل، وتحمل إليه الموادّ الخام الّتي تنطلق من الكلمات، فاعرف ماذا تحمل لعقلك؛ هل تحمل إليه كلمات يحبّها الله أو كلمات يبغضها؟!
التَّوبة النّصوح
"وتحنَّنوا على أيتام النّاس يُتحنَّن على أيتامكم". احملوا مسؤوليَّة الأيتام، فقد يكون أولادكم أيتاماً في المستقبل، فإذا كان التحنّن على الأيتام هو طابع المجتمع من خلال حنانك أنت وحنان الآخرين، فسوف تنتقل المسألة إليك، فيتحنَّن النّاس على أيتامك.
"وتوبوا إلى الله من ذنوبكم"، {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ}([23])، وفي آية أخرى: {يُحِبُّ التَّوَّابِينَ}([24])، {تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً}([25]) وقد ورد أنَّ "التائب من الذّنب كمن لا ذنب له"([26])، "يخرج الإنسان بالتّوبة كيوم ولدته أمّه، ويقال له استأنف العمل من جديد".
"وارفعوا إليه أيديكم بالدّعاء في أوقات صلواتكم، فإنّها أفضل السّاعات" لا تشغلوا أنفسكم عن صلاتكم بكلّ فكر، لأنّها معراج روح المؤمن، ولا معنى لأن تعرج روحك إلى الله وهي في جولة سياحيّة حول العالم، أو في جولة اجتماعيّة حول كلّ أوضاع المجتمع، أو في جولة غرائزيّة حول كلّ أحلامك الغرائزيّة وشهواتك. "ينظر الله عزّ وجلّ فيها إلى بالرّحمة إلى عباده، يجيبهم إذا ناجوه، ويلبّيهم إذا نادوه، ويعطيهم إذا سألوه، ويستجيب لهم إذا دعوه".
"أيّها النَّاس، إنَّ أنفسكم مرهونة بأعمالكم"، وأعمالكم هي الّتي تحرّرها من النّار، وتعتقها منها "ففكّوها باستغفاركم"، فلا تتركوا الاستغفار في أيّ موقع "وظهوركم ثقيلة من أوزاركم، فخفّفوا عنها بطول سجودكم، واعلموا ـــ وهذه هي البشارة لكلّ المصلّين والسّاجدين ـــ أنَّ الله أقسم بعزَّته أن لا يعذّب المصلّين والسّاجدين، وأن لا يروّعهم بالنار يوم يقوم الناس لربِّ العالمينg"([27]).
هذا هو الفصل الأوّل من خطبة رسول الله(ص). ونتعلّم منه كيف نملأ هذا الشّهر بكلّ المعاني الروحيّة والإنسانيّة والاجتماعيّ والعباديّة، حتّى يعيش الإنسان مع ربّه ومع الإنسان من حوله ومع نفسه ومع حياة كلّها قيم الحقّ والعدل والخير، وعند ذلك، يقرب من الله، لأنّ الله يحبّ الّذين يدعون إلى الحقّ ويعملون الخير ويسيرون مع خطى العدل في كلّ مجالات الحياة.
التّجربة أمامنا
هذا هو شهر رمضان، فكيف نستقبله، وكيف ندخل إلى رحابه؟ التّجربة أمامنا، وعلى كلّ إنسان أن يعرف كيف يحرّك تجربته في الطّريق الّذي يجعل من رمضانه رمضان خير، ويجعل من يوم عيده أيّام عيد، وهذا ما عبّر عنه أمير المؤمنين(ع)، عندما قال في يوم عيد الفطر: "إنّما هو عيد لمن قبل الله منه صيامه وشكر قيامه، وكلّ يوم لا يعصى الله فيه فهو عيد"([28])، لأنَّ عيد الفطر هو عيد القيام بالمسؤوليَّة، فأيّ زمنٍ تقوم فيه بمسؤوليّتك أمام الله، يمكنك أن تحتفل به كعيد لك كما يحتفل النّاس بأعيادهم، فهذا هو الّذي يعطي الفرح الرّوحيّ، فالعيد ليس أغنية ولا موسيقى ولا لهواً ولا عبثاً، إنّما هو فرحك بعفو ربّك ورحمته، وفرحك بإنسانيّتك وبامتدادها، وبمسؤوليّتك.. هذا هو عيدك الّذي تحصل به على فرح الدّنيا والآخرة.
والحمد لله ربِّ العالمين.
فكر وثقافة، ج3، المحاضرة الأولى، 25 شعبان 1417 هـــ.
([1]) سورة التوبة، 36.
([2]) الصّحيفة السّجاديّة، دعاء الإمام زين العابدين(ع) في سحر كلّ ليلة من شهر رمضان.
([3]) البحار: ج 70، ص 209.
([4]) البحار: ج 70، ص 192.
([5]) سورة النساء، الآية: 82.
([6]) سورة محمد، الآية: 24.
([7]) سورة القيامة، الآيات: 16 ــ 19.
([8]) سورة الإسراء، الآية: 14.
([9]) سورة المطففين، الآية: 6.
([10]) سورة الصافات، الآية: 24.
([11]) سورة الانفطار، الآية: 19.
([12]) سورة النّحل، الآية: 111.
([13]) الصّحيفة السّجاديّة، دعاؤه في السّحر.
([14]) سورة الشعراء، الآية: 88 ــ 89.
([15]) سورة عبس، الآيات: 34 ــ 37.
([16]) نهج البلاغة: باب المختار من حكمه، الحكمة (138).
([17]) سورة البقرة، الآية: 273.
([18]) نهج البلاغة: ص393.
([19]) شرح نهج البلاغة، ج20، ص267.
([20]) البحار: ج5، ص 327.
([21]) سورة ق، الآية: 18.
([22]) سورة النّور، الآيتان: 30 ــ 31.
([23]) سورة الشّورى، الآية: 25.
([24]) سورة البقرة، الآية: 222.
([25]) سورة التّحريم، الآية: 8.
([26]) البحار: ج6، ص 21.
([27]) بحار الأنوار، ج93، ص356.
([28]) نهج البلاغة: ج4، ص100.