لماذا فرض الله الصّوم؟ وما هي الحكمة من تشريعه؟
سؤال لايزال يعيش في أذهاننا كلّما جاء شهر رمضان، وكلَّما أردنا الحديث عن الصّوم.
وليس هذا السؤال بغريب عن حياتنا الدينيّة، فلم يكن جديداً عليها، وإنَّما انطلق في صدر الدّعوة الإسلاميَّة، على لسان الكثير من المسلمين الذين يحاولون أن يضيفوا إلى إيمانهم واقتناعهم بانطلاق كلّ تشريع من قِبَل الله تعالى عن مصلحة أساسيّة، وعياً تفصيلياً إلى هذه الحقيقة، وإحاطة بأسرار التشريع وفوائده. وهكذا وجدنا الكثير من هذه الأحاديث التي تتناول بيان حكمة تشريع الصّوم.
ففي حديث، أنّ هشام بن الحكم سأل الإمام الصادق (ع) عن علّة الصيام، فقال: إنَّما فرض الله الصيام ليستوي به الغنيّ والفقير. وذلك أنّ الغني لم يكن ليجد مسَّ الجوع فيرحم الفقير، لأنَّ الغني كلّما أراد شيئاً قدر عليه، فأراد الله تعالى أن يسوِّي بين خلقه، وأن يذيق الغنيّ من الجوع والألم ليرقّ على الضّعيف ويرحم الجائع".
وفي حديثٍ آخر، ذكر في جواب بعض المسائل التي كتبها محمّد بن سنان إلى الإمام الرّضا (ع): "علّة الصّوم لعرفان مسّ الجوع والعطش، ليكون العبد ذليلاً مستكيناً مأجوراً محتسباً صابراً، ويكون ذلك دليلاً على شدائد الآخرة، مع ما فيه من الانكسار له عن الشّهوات، واعظاً له في العاجل، دليلاً على الآجل، ليعلم شدَّة مبلغ ذلك من أهل الفقر والمسكنة في الدّنيا والآخرة."
وعن الإمام الرّضا (ع) أيضاً ـ قال: "إنَّما امروا بالصّوم لكي يعرفوا ألم الجوع فيستدلُّوا على فقر الآخرة، وليكون الصّائم خاشعاً ذليلاً مستكيناً مأجوراً محتسباً عارفاً صابراً من الجوع والعطش، فيستوجب الثّواب مع ما فيه من الإمساك والشّهوات، ويكون ذلك واعظاً لهم في العاجل، ورائضاً لهم على أداء ما كلّفهم، ودليلاً لهم في الآجل، وليعرفوا شدّة مبلغ ذلك على أهل الفقر والمسكنة في الدّنيا، فيؤدّوا إليهم ما افترض الله لهم في أموالهم".
وقبل هذا كلّه، كان الحديث النبويّ المشهور: "صوموا تصحّوا".
وبدأنا نتعرَّف مع تقدّم العلم وتطوّر البحث، إلى الفوائد الصحيّة والاجتماعية والنفسية التي يجنيها الصائم من صومه، وبدأ الحديث عن الصّوم يرافق الحديث عن تقوية الإرادة وتربيتها، وعن الشّعور بالمساواة، والمشاركة الوجدانيّة، والتخلّص، والوقاية من بعض الأمراض الجسميّة، وترويض النفس وتزكيتها من الدّرن، ثمّ.. الالتقاء والاتّصال بالله سبحانه في عبادة روحيّة صامتة.
وهكذا نشأت لدى الدارسين للصّوم والقارئين لأحاديثه من وراء هذا التّساؤل وهذا التطلُّع، ثقافة شاملة عن أسرار هذا التّشريع وحكمته، بما لا يدع مجالاً لقائل ـ حسب تعبير الأقدمين ـ .
إنَّما عرضت هذا، لأخلص إلى ما أُريده من التعليق على حديث نقل في العدد الأوّل من هذه المجلّة صفحة (16)، فقد رأيت في ظاهره مفهوماً لا نستطيع أن نعترف به، وتعليلاً لا نفهم له وجهاً ولا نعقل له تأويلا.. الأمر الذي يفرض علينا التعليق عليه حرصاً على كرامة التشريع الإسلامي من أن تخضع لمثل هذه التعليلات، التي لا نستطيع ـ بوجهٍ من الوجوه ـ أن نؤمن بصحّة نسبتها إلى الإمام الحسن (ع)، ولا سيّما بعد أن وضع لنا الأئمّة (ع) مقياس العرض على الكتاب والسُنّة، أساساً لقبول الأحاديث الواردة عنهم أو طرحها.
أمّا الحديث، فقد نقلته المجلّة على النحو الآتي (دون أن تشير إلى سنده): "روي عن الحسن بن عليّ بن أبي طالب (ع) أنّه قال: جاء نفر من اليهود إلى رسول الله (ص)، فسأله أعلمهم عن مسائل، فكان فيما سأله أنّه قال له: لأيّ شيءٍ فَرَضَ الله عزّ وجلّ الصّوم على أُمّتك بالنّهار ثلاثين يوماً، وفَرَضَ الله على الأُمم أكثر من ذلك؟ فقال النبيّ (ص): إنَّ آدم لمَّا أكل من الشجرة، بقي في بطنه ثلاثين يوماً، ففَرَضَ الله على ذرّيته ثلاثين يوماً الجوع والعطش، والذي يأكلونه باللّيل تفضل من الله عزّ وجلَّ عليهم، وكذلك كان على آدم (ع) ففَرَضَ الله ذلك على أُمّتي، ثمّ تلا هذه الآية: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ* أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ}[البقرة : 183 ـ 184]. قال اليهودي: صدقت يا محمّد، فما جزاء مَن صامها؟ فقال النبيّ (ص): ما من مؤمنٍ يصوم شهر رمضان احتساباً، إلاَّ أوجب الله تبارك وتعالى له سبع خصال: أوّلها؛ يذوب الحرام في جسده. الثانية؛ يقرب من رحمة الله عزَّ وجلّ. الثالثة؛ يكون قد كفَّر عن خطيئة آدم أبيه... إلى آخر الحديث..
هذا هو الحديث.. فماذا هي الصّورة التي يخرج بها القارئ من خلال قراءته له؟
إنّه سوف يخرج بنتيجة واحدة، هي أنّ قضية الصوم ليست مرتبطة ـ في تشريعها ـ بالمصالح النفسيّة والاجتماعيّة والصحيّة والروحيّة التي تكمن في الصّوم وتنطلق منه، وإنّما هي مرتبطة بخطيئة آدم ومعصيته، فهي عقوبة على هذه المعصية، وتكفير عن هذه الخطيئة.. ولكنّها عقوبة لم يتحمّلها آدم وحده، بل تحمّلتها ذريّته، وتكفير لم يفرض على المذنب وحده، وإنّما فرض على أولاده من بعده إلى أن تقوم القيامة، لا لذنب جنوه، ولا لخطيئة ارتكبوها.
ولمّا كانت الكفّارة عن الذّنب تقتضي الاتحاد في الكمّ والكيف بينها وبين الذّنب ـ كما يفرض الحديث ـ فقد كان لا بدَّ للبشر انسجاماً مع هذا الواقع، أن يصلوا اللّيل بالنهار مادام الطّعام قد بقي في جوف آدم ثلاثين يوماً ليلاً ونهاراً.
كان لا بدّ لهم من ذلك، لولا أنّ الله تفضّل عليهم، وخفَّف عنهم، فجعلهم في سعة من أن يأكلوا في اللّيل.
تلك هي الصورة التي نخرج بها عند قراءتنا لهذا الحديث؛ صورة التشريع الذي يستهدف عقوبة البشر في الدنيا على ذنب لم يجنوه، وإلزامهم بالتّكفير عن خطيئة لم يرتكبوها، وإنَّما ارتكبها أبوهم الأوّل آدم (ع).
أمَّا الآن، فلا بأس أن نعرض هذا الحديث على المفاهيم الصّحيحة التي نؤمن بها ونعتمد عليها، لنرى مدى ملاءمته لها وانسجامه معها.
أوّلاً: لا تلتزم الإماميّة بصدور المعصية عن الأنبياء مطلقاً، ومنهم آدم (ع). أمّا ما ذكره القرآن عنهم، فلا يرونه من قبيل المعصية، وإنّما يوجّهونه بتوجيهات تبعده عن ذلك.
ثانياً: إنّ القرآن يقرّر في الآية الكريمة {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى...}[الأنعام : 164]، أنَّ الإنسان وحده يتحمّل مسؤوليّة عمله، فلا يحاسب أيّ إنسان على ما ارتكبه الآخرون من أعمال، ولا يؤاخذ إنسان بما فعله آخر، وإنَّما يعاقب ويؤاخذ بما فعله وما ارتكبه فحسب.
فهل نستطيع مع هذا أن نؤمن بما جاء في هذا الحديث من تحمّل البشر لوزر خطيئة آدم، بعد أن كان الدافع لهذا التشريع ـ كما يفرض الحديث ـ هو التّكفير عن خطيئة آدم لا غير؟!
ثالثاً: مادام الغرض من التشريع هو التكفير، فلماذا خصّ بذلك أُمّة النبيّ محمّد (ص) ولم يكن شاملاً لجميع البشر؟!
ثمّ إنّ الملحوظ أنّ النبيّ لم يجب عن الشقّ الآخر من السؤال الذي سأله اليهودي عن السرّ في زيادة فريضة الصّوم في سائر الأمم على الفريضة التي فرضت على المسلمين؟
هذا، وقد كنّا نود أن نطّلع على سندها لنناقش رجاله، فوجدنا الشيخ الصدوق قد رواها مرسلة، وبهذا يضاف مأخذ جديد إلى المآخذ التي قرّرنا.
وأخيراً، قد يقول قائل: وما هو الأثر الذي يترتّب على هذا الحديث؟ إنّه ليس حكماً شرعياً ليترتّب على صدقه وكذبه أثر مهم يتعلَّق بحياة الناس، وإنَّما هو حديث يتعرَّض لما وراء الأحكام من علل وأسرار، وسواء أصحّت هذه العلل أم لم تصحّ، فإنّها لا تغيّر من الواقع شيئاً.. وهو أنّ علينا أن نؤدّي هذه الفريضة بكلّ أمانة وإخلاص، فإنَّنا لا نعتمد في امتثال فرائضنا الدينيّة على ما يذكر من الحكم والتعليلات، وإنَّما نعتمد على الأوامر الصّادرة من قِبَل الله تعالى، والتي يجب علينا أن نمتثلها تعبُّداً، من دون حاجة إلى أن نفهم أسرارها ودوافعها؟!
قد يقول ذلك قائل. وقد قيل ذلك عمليّاً ـ إنْ صحَّ التعبير ـ عندما اتّجه الباحثون إلى الأحاديث المتعلِّقة بالأحكام الشرعيّة، فنقَّحوها ومحَّصوها، وعزلوا الصّحيح منها عن الفاسد، وميَّزوا المضطرب من المستقيم، حتّى بدأ الفقيه يطمئنّ إلى ما لديه من أحاديث، ويسكن إلى ما يستنبطه منها من أحكام.
أمّا ما لا يتعلَّق بذلك، أمّا الأخبار التي تتضمّن مفهوماً إسلاميّاً في الحياة، وفي السّلوك، وفي النفس، وفي الاجتماع، وفي أسرار التّشريع وحكمته... أمّا كلّ ذلك، فقد بقي دون تمحيص وتنقيح، استناداً إلى عدم وجود أثر يترتَّب على صدقه وكذبه مادام العمل لا يتوقَّف عليه.
ولكنّهم يخطئون عندما يزعمون هذا الزّعم ويقولون هذا القول، فإنَّ الصّورة العامّة للإسلام لا تكتمل إذا لم تتّضح المفاهيم الإسلامية العامّة في جميع نواحي الحياة، ولم تبرز بصورتها الوضيئة الناصعة.
ولن تتّضح تلك المفاهيم أبداً إذا لم نحاول غربلة ما وصل إلينا من أحاديث، وتنقية الصّحيح والفاسد على حسب الموازين والمقاييس التي وضعها لنا الأئمَّة من أهل البيت (ع(.
أمّا ارتباط وضوح هذه الصّورة العامّة للإسلام بحياتنا، فنستطيع أن نعرفه إذا عشنا هذا القلق والارتباك والتّشويش الذي يعانيه الإنسان المسلم في حياتنا المعاصرة، نتيجة فقدانه الصورة الكاملة عن الإسلام ونظرته إلى الحياة، الأمر الذي يجعله نهباً للمفاهيم الغريبة عنه، دون أن يعرف مدى موافقتها لدينه ومخالفتها له.
*من كتاب "آفاق إسلاميّة".