يقول الإمام زين العابدين(ع) في دعاء من أدعية الصحيفة السجاديّة: "فاجْبُرْ
فَاقَتَنَا بِوُسْعِكَ، ولاَ تَقْطَعْ رَجَاءَنا بِمَنْعِكَ، فَتَكُونَ قَدْ
أشْقَيْتَ مَنِ اسْتَسْعَدَ بِكَ، وحَرَمْتَ مَنْ اسْتَرْفَدَ فضْلَكَ،
وَإلى مَنْ حِينَئِذٍ مُنْقَلَبُنَا عَنْكَ، وإلى أيْنَ مَذْهَبُنَا عَنْ
بَابِكَ؟ سُبْحَانَكَ نَحْنُ المُضْطَرُّونَ الَّذِينَ أوْجَبْتَ
إجَابَتَهُمْ، وأهْلُ السُّوءِ الَّذِينَ وَعَدْتَ الكَشْفَ عَنْهُمْ.
وَأشْبَهُ الأشْيَاءِ بِمَشِيَّتِكَ، وَأوْلى الأمُورِ فِي عَظَمَتِكَ،
رَحْمَةُ مَن اسْتَرْحَمَكَ، وغَوْثُ مَن اسْتَغاثَ بِكَ، فَارْحَمْ
تَضَرُّعَنَا إلَيْكَ، وَأغْنِنَا إذا طَرَحْنَا أنْفُسَنَا بَيْنَ يَدَيْكَ".
* * *
اللّهمّ أنت الرجاء وبك السّعادة:
يا ربّ، أعطنا من رزقك الواسع رزقاً يسدّ كل ثغرات حياتنا، ويطرد تهاويل
الفاقة من أوضاعنا، ولا تمنعنا من عطائك فتقطع رجاءنا إليك، فإننا نحيا
بالأمل الكبير بك وننفتح على آفاق اللطف منك.
إننا ـ يا ربّ ـ نحسُّ بالسعادة في كلّ مشاعرنا التي تهفو إليك، لأنك الذي
تهب لنا كلّ عمق الإحساس بها في ما تغمرنا به من عطاياك، فإذا منعتنا ذلك،
فإننا نعيش الحرمان من فضلك، ونلتقي بالشقاء النفسي في لحظات هذا الحرمان
القاسي الذي يبتعد بنا عن آفاق الخير التي تفتح لنا أبواب الحياة بكلّ
سعتها وامتدادها. لقد أردنا السعادة هبةً من كرمك، فلا تحرمنا إيّاها،
واسترفدنا من فضلك الكثير من حاجاتنا الحيويّة، فلا تمنعنا منها، لأنك الربّ
الذي ينقلب الفقراء من عباده إليك، ويقفون على بابه، فإذا طردهم عن بابه،
فإلى مَن يذهبون؟ وإذا أبعدهم من جنابه، فإلى مَن ينقلبون؟
* * *
سُبْحَانَكَ نَحْنُ المُضْطَرُّونَ الَّذِينَ أوْجَبْتَ إجَابَتَهُمْ،
وأهْلُ السُّوءِ الَّذِينَ وَعَدْتَ الكَشْفَ عَنْهُمْ.
* * *
يا كاشف السوء عن المضطرّ:
{أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ}[النمل:
62]. هذه هي الكلمات التي يشرق من خلالها نور الأمل في عيوننا عندما يطبق
ظلام اليأس عليها، وتنفتح أفكار الفرج في حياتنا عندما تهجم الشّدائد علينا
من كل جانب، فقد وعدت المضطرّ الذي ضاقت به سُبُل الحياة، أن تستجيب له
دعاءه إذا دعاك، ولا تخيّب رجاءه فيك إذا رجاك، فتكشف ما به من السوء،
وترفع ما ألمّ به من الضرّ.
وها نحن ـ يا ربّ ـ عبادك المضطرّون الذين حاصرتهم المشاكل من كل جانب، فلم
يجدوا لهم منها منفذاً، وأطبق عليهم البلاء، فلم يملكوا منه مهرباً، فعاشوا
الحياة حرماناً، وسقطوا تحت ضغوطها اضطراراً، وتحرّك السوء في مواقعهم، فلم
يخرجوا من سوءٍ إلا ليلتقوا بسوءٍ أكبر منه.
وقد تصغر المشكلة عندما تكون خسارةً في مال، أو فشلاً في مشروع، أو هزيمة
في معركة.
ولكنها تكبر وتكبر عندما تكون سقوطاً في خطيئة، أو بُعداً عن طاعة، أو
حرماناً من جهاد في سبيلك، فإنّه الاضطرار الذي لا خطورة فوق خطورته،
والسوء الذي لا يعلوه سوء، لأنه يتحرك في نطاق البُعد عن رحمتك، والسقوط في
دائرة غضبك.
***
وَأشْبَهُ الأشْيَاءِ بِمَشِيَّتِكَ، وَأوْلى الأمُورِ فِي عَظَمَتِكَ،
رَحْمَةُ مَن اسْتَرْحَمَكَ، وغَوْثُ مَن اسْتَغاثَ بِكَ، فَارْحَمْ
تَضَرُّعَنَا إلَيْكَ، وَأغْنِنَا إذا طَرَحْنَا أنْفُسَنَا بَيْنَ يَدَيْك.
ارحم تضرّعنا:
إننا عندما نفكّر في ذلك كله، فكيف تكون الصورة لدينا في ما نتصوَّره من
مقام الربوبية لديك في انفتاحك على عبادك في مواقع مشيّتك، أو في ما
نستوحيه من آفاق العظمة المطلقة في ذاتك في إطلالتها على الوجود كلّه؟!
إننا نفكّر ـ يا ربّ ـ أنّ مشيئتك أعطت كلّ شيء خلقه وهدايته، وأفاضت على
الوجود كله الخير كله، وأنّ عظمتك تتعالى عن كلّ شيء، فلا يقترب إليها أيّ
فعلٍ أو وضع من حقارات الموجودات العاصية أو اللاهية العابثة، بل يتبخَّر
ذلك في الهواء كأية تفاهةٍ من تفاهات الوجود.
إنّك الربّ العظيم الّذي لا يصل المخلوقون إلى شيء من كنه عظمته، ولا
يعرفون أبعاد مشيّته، ولهذا فإننا نعتقد أنّ أشبه الأشياء بمشيّتك التي
أفاضت الرّحمة على الوجود كله، وأولى الأمور بك في عظمتك التي تتسامى عن
معاملة العباد بالمثل ثأراً وانتقاماً، ولكنها تفعل ما تفعله من ذلك على
أساس الحكمة، هي رحمة المضطرّين من عبادك، الذين يتطلّعون إلى رحمتك في كل
أمورهم، وغوث المستغيثين بك في التخفيف من الضغوط المتنوعة التي تضغط عليهم،
فإنك أرحم الراحمين وغياث المستغيثين. وها نحن نتضرّع إليك ـ من كلّ قلوبنا
ـ أن تزيل عنا الضرّ وتكشف ما بنا من السوء، فارحم تضرّعنا إليك وتقبّل
منّا بقبولٍ حسن.
وها نحن نستغيث بك، بكلّ كلماتنا وصرخاتنا، ومن كلّ العمق الكامن في
مشاعرنا وأحاسيسنا، أن تنقذنا من سيّئات أعمالنا ومن آلام مشاكلنا، فأغثنا
في موقفنا المنسحق تحت تأثير عبوديتنا لك، فقد طرحنا أنفسنا بين يديك في
سجودنا الخاشع الذي يعبّر عن كلّ معاني الاستسلام المطلق إليك، فهل ترحم
تضرّعنا، وتغيث صرختنا، وترضى عنا؟ إننا بالانتظار في آفاق الرجاء الكبير
والأمل القريب.
*من كتاب "آفاق الروح"، ج1، ص 219- 221.