يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه المجيد: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَىٰ شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ * إِنَّهُمْ لَن يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا ۚ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۖ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ * هَٰذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ * أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ ۚ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ * وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَىٰ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ * أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَىٰ عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ ۚ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ}[الجاثية: 18-23]. صدق الله العليّ العظيم.
في هذه الآيات، يخاطب الله نبيَّه، وإذا خاطب الله نبيَّه من خلال صفته الرّساليَّة، فإنَّه يخاطب النَّاس من خلاله.
معنى العبوديَّة لله
وما يريد الله للنَّاس أن يفهموه، هو أنَّه سبحانه قد وضع للنَّبيّ ولمن اتَّبعه في رسالته، شريعةً من أمره في تخطيطه لمصلحة الإنسان، وهذه الشَّريعة تتضمَّن سلوك الإنسان في نفسه مع نفسه، ومع ربّه، ومع النَّاس من حوله، ومع الحياة كلّها، فللَّه في كلّ قضيَّة حكم، وله في كلّ ساحة شريعة ومنهج، فلا مجال للإنسان أن يجتهد لنفسه، وأن يشعر بحرَّيته فيما يتحرَّك فيه، بل لا بدَّ له أن يوازن كلَّ خطواته وعلاقاته وسلوكيَّاته، على أساس أنَّها هل تتوافق مع ما أراد الله له أن يفعله، وما أراد له أن يتركه؟!
أنت عبد الله، وإذا كنت عبده، فإنَّك لا تملك أمامه شيئاً، ولا حرّيّة لك أمامه. كن حرّاً أمام كلّ النَّاس، فلو طلب النَّاس منك أيَّ شيء أن تفعله مما لا يلزمك الله أن تفعله، أو أن تترك شيئاً لم يلزمك الله أن تتركه، قل بصوت عال أنا حرّ، إنَّكم لا تملكونني، ولا تملكون الضَّغط على إرادتي، أنا حرّ أمامكم، ولكنّي عبدٌ أمام الله، فإذا قال الله فلا قول لك، وإذا حكم الله فلا حكم لك.
وهذا هو قول الله في آيتين؛ الآية الأولى في الحكم: {فَلَا وَرَبِّكَ - فالله يقسم بنفسه في حديثه عن هذا الموضوع، والقسم يعطي تأكيداً للمسألة، فالمسألة ليس فيها مجال للأخذ والرّدّ - لَا يُؤْمِنُونَ – لأنَّ الإيمان ليس كلمة، بل هو موقف واستسلام لحكم الله - حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ - يعني فيما اختلفوا فيه - ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}[النّساء: 65]، فإذا حكم الله، فلا حكم لك، ولست حرّاً في أن تقبل أو لا تقبل.
والآية الثّانية هي: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ}[الأحزاب: 36]. فأمام الله ليس هناك اختيار.
الحكم لله وحده
وفي ضوء هذا، فإنَّنا نفهم أنّ الناس عندما يختلفون في بعض القضايا، ويرجعون إلى الشَّريعة، إلى من يملك القدرة العلميَّة والدّينيَّة لأن يحكم فيما بينهم، فإذا حكم ولم يقبلوا، فإنّهم لا يكونون مؤمنين، فإذا قالوا لا نريد الشّرع بل القانون، أو قالوا نريد قانون العشائر، أو غير ذلك، فإذا فعلوا ذلك، فإنّهم لا يكونون مؤمنين، لأنَّ الإيمان ليس فقط صلاةً وصوماً، بل هو صلاة وصوم واستسلام لله ولأمره وشريعته، واستقامة في هذا الخطّ. {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا}[فصّلت: 30]، {أَنَّ هَٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ ۖ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ}[الأنعام: 153].
وأنا هنا، أيُّها الأحبَّة، على طريقتي معكم، وكما أقول لكم دائماً، أنا لست هنا لأخطب فيكم، بل لنتفاهم، فأنا أحبّ عندما أحدّثكم عن كلام الله، أن تفكّروا معي، وليس فقط أن تسمعوا منّي، فهذا الكلام ليس فيه استهلاك، بل فيه تفسير لقول الله تعالى، وماذا يقول سبحانه لنا. والقضايا الَّتي تتَّصل بعلاقاتنا بالله هي ليست قضايا جانبيَّة، بل تتَّصل بمصيرنا عنده تعالى {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُم}[الغاشية: 25 - 26]، {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ}[العنكبوت: 57]، فإذا كنّا سنرجع إلى الله، فعلينا أن نضبط حساباتنا، وأن نضبط تصوّراتنا ومفاهيمنا وعقائدنا وكلّ خطواتنا، {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ}[المدثر: 38]، فأنت مرهون بأعمالك {وَاخْشَوْا يَوْمًا لَّا يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئًا}[لقمان: 33]. أنت الآن ترى أولادك حولك، وكذلك أهلك وعشيرتك، ولكن هناك {يُبَصَّرُونَهُمۡۚ يَوَدُّ ٱلۡمُجۡرِمُ لَوۡ يَفۡتَدِي مِنۡ عَذَابِ يَوۡمِئِذِۭ بِبَنِيهِ * وَصَٰحِبَتِهِۦ وَأَخِيهِ * وَفَصِيلَتِهِ ٱلَّتِي تُـٔۡوِيهِ * وَمَن فِي ٱلۡأَرۡضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنجِيهِ}[المعارج: 11- 14].
لذلك، هذه المسألة تحتاج إلى تفكير أكثر ممّا نفكّر، فنحن لا نفكّر كثيراً في هذه المسائل. تخيّلوا مثلاً الآن، لو كنتم في سهرة، وجاء من يتكلّم معكم عن الموت ويوم القيامة، فهل تتحمَّلون لنصف ساعة الحديث عن الله وعن الموت؟! ستقولون لا تخرّب مزاجنا وسهرتنا، ولكن يوم القيامة هناك سهرة طويلة {وَإِنَّ يَوْمًا عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ}[الحجّ: 47]، {يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}[الشّعراء: 88 -89].
اتّباع الشَّريعة
{ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَىٰ شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ - لا تتَّبع ما يخطّطه لك الآخرون الَّذين لم ينفتحوا على الله وعلى رسالاته، وإنما انطلقوا مع شهواتهم ولذَّاتهم وأطماعهم، فقنَّنوا القوانين، وخطَّطوا الخطط، ورسموا المناهج على حسب أهوائهم. قد يقول لك أحد ما لك بالشَّريعة والحلال والحرام، فلن يفيدك ذلك - إِنَّهُمْ لَن يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا ۚ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۖ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ – فغداً، عندما تقف بين يدي الله، فمن من هؤلاء سيغني عنك؟ {قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ}[الزّمر: 38]، والله سبحانه يقول: {لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ ۗ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا}[النساء: 123].
فالمسلم الّذي يقول أعمل ما أريد، وغداً يشفع لي عليّ بن أبي طالب (ع) وأدخل الجنَّة، وكأنَّ عليّاً (ع) يمشي على مزاجه، ولكنَّ عليّاً قسيم الجنّة والنّار، ويمشي على القانون الّذي وضعه الله {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَىٰ وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ}[الأنبياء: 28]، فهم يشفعون بحسب الخطّ الَّذي رسمه الله لهم. {يَوْمَئِذٍ لَّا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَٰنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا}[طه: 109].
لذلك، يقول الله سبحانه: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا}[النّساء: 123]، {إِنَّهُمْ لَن يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۖ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ}[الجاثية: 19].
فالظّالمون يتعاون بعضهم مع بعض، ويحمي بعضهم بعضًا، فهناك تحالف شيطانيّ شرّير بين الظَّالمين والمستكبرين أمام مصالحهم الظَّالمة المشتركة، فتراهم يقفون ضدّ المستضعفين والمظلومين، ويرتّبون القوانين على قياسهم، ويرتّبون السياسة والدّولة والمجتمع على قياسهم.. لاحظوا كيف تتحرّك القوانين، فالضَّرائب الآن، أغلبها تطال الطَّبقتين الفقيرة والمتوسّطة، أمَّا الطَّبقة الغنيَّة، فيقال ينبغي أن نخفّف عنهم الضَّرائب، ليشغّلوا رؤوس أموالهم، وليأتي رأس المال، ويتمّ استثماره، فيشتغل النّاس، لكنَّ هذا الضّعيف المسكين الفقير الَّذي لا يتعدّى راتبه الـ 400 ألف، بينما يحتاج في الشَّهر إلى مليوني ليرة، من أين يأتي بالضَّرائب؟! هذا لا أحد يفكّر فيه.
لاحظوا الآن في العالم، كيف يحمي المستكبرون بعضهم بعضاً، وفي الدَّاخل، كيف يتحالف الظَّالمون بعضهم مع بعض؛ يتحالفون في الانتخابات، في الحكومة، وفي الواقع السياسي.
{إِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۖ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ}. فإذا كان الظّالمون بعضهم أولياء بعض، فإنَّ المتَّقين وليّهم الله {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ۖ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ}[البقرة: 257].
{هَٰذَا - هذا الكلام، هذا الخطّ، هذا القرآن - بَصَائِرُ لِلنَّاسِ - يبصر النَّاس فيه ما يصلح أمرهم، وما ينقذهم في الدّنيا والآخرة - وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ}.
اختيار الحقّ
ثمّ يتحدَّث الله عن هؤلاء النَّاس الَّذين يعيشون الحياة في جرائمهم وشرورهم وممارستهم للسيّئات، الّذين أخذوا حرَّيتهم بالكفر والجريمة والمعصية، ثمَّ يقولون إنَّ الجنَّة لنا، سيغفر الله لنا، كما ذلك الّذي يقول: {وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَىٰ رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِّنْهَا مُنقَلَبًا}[الكهف: 36].
يقول تعالى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ ۚ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ}، فالله عادل "ولا يكوننَّ المحسن والمسيء عندك بمنزلة سواء"، {أَفَمَن كَانَ مُؤْمِنًا كَمَن كَانَ فَاسِقًا ۚ لَّا يَسْتَوُونَ}[السّجدة: 18]، {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ}[القلم: 35 - 36]، {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ ۚ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ}.
{وَخَلَقَ ٱللَّهُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضَ بِٱلْحَقِّ - فقد أودع الله في السَّموات والأرض، في كلّ ظاهرة من ظواهرها، قانوناً وسرّاً، ليس هناك فوضى، فكلّ ظاهرة كونيَّة أو تاريخيَّة أو اجتماعيَّة، فيها سرٌّ منطلق من خلال الحكمة، بحيث تسير على أساس قانون لا يتبدَّل. فالله ركَّز الكون كلَّه على الحقّ، ويريدك، أيُّها الإنسان، أن تتحرَّك بالحقّ من موقع اختيارك، فالسماء ركّبها على الحقّ، فهي تتحرَّك به من دون اختيار، والأرض أيضاً. ولكن أنت، أيُّها الإنسان، يقول لك الله أريدك أن تسير على الحقّ من خلال إرادتك واختيارك - وَلِتُجْزَىٰ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ}. {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ}[الزّلزلة: 7 - 8].
اتّباعُ الهوى
ثمَّ يوجّهنا الله إلى بعض النَّاس الَّذين لا ينطلقون من قاعدة ولا من شريعة، وإنما ينطلقون من أهوائهم وشهواتهم ولذَّاتهم ومصالحهم، يقول تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ - هذا الَّذي لا يعرف الله، ولا يريد أن ينفتح عليه، وإنَّما جعل إلهه هواه، فما توجّهه إليه شهواته ولذَّاته، فإنَّه يسير عليها. وليس بالضَّرورة أن يقول هذا إلهي، بل إنّه يتبعه ويطيعه كما يطيع الإنسان الإله - وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَىٰ عِلْمٍ – يعني تركه الله لنفسه فضلّ، وهو لديه العلم، لأنَّ كثيراً من النَّاس يعلم، ولكنَّ شهواته وأهواءه تغلب على عقله فيضلّ بها - وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ – فلا يسمع بوعي – وَقَلْبِهِ – فلا يفكّر باتّزان - وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَاوَةً – فإنَّ نتيجة أن يتحرَّك الإنسان من موقع هواه، أن يغلق على عقله النَّوافذ الَّتي تطلّ على الحقّ، وأن يغلق سمعه عن كلمة الحقّ، وأن يغلق بصرَه عن رؤية الحقّ - فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ - إذا كان الله قد أضلّه، وتركه لنفسه - أَفَلَا تَذَكَّرُونَ}.
هذه خلاصة تفسير هذه الآية.
التَّسليم لله
والآن نريد أن ننطلق، أيُّها الأحبَّة، من خلال ذلك، لنواجه واقعنا في حركتنا في الدّنيا. إذاً نحن ننطلق من الآية الأولى، لنفهم أنَّ الله جعل لنا شريعة الإسلام {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ}[آل عمران: 85].
والإسلام أن تسلم أمرك في كلّ حياتك لربّك، بحيث تكون حركتك منطلقةً من تعاليم ربّك. فإذا كان الأمر كذلك، فينبغي لنا أن نتَّبع الإسلام في حياتنا الفرديَّة والاجتماعيَّة، أن تكون حياتك مع عائلتك إسلاميَّة، فعندما تتزوَّج، فكّر ما هو حكم الإسلام في علاقتي مع زوجتي، وعندما تتزوَّج المرأة، عليها أن تفكّر ما هي تعاليم الإسلام في علاقتها مع زوجها، كذلك عندما تبيع وتشتري، وعندما تعيش مع النّاس، وعندما تختلف معهم أو تتوافق معهم في القضايا الاجتماعيَّة وغيرها، وعندما تؤيّد فلاناً أو ترفضه، أو عندما تمشي مع هذا الخطّ السياسيّ أو ذاك الخطّ السياسي، فما من واقعة إلَّا ولله فيها حكم، بمعنى أن يحدّد لك الدّين خطَّك السياسيّ والاجتماعيّ والفرديّ والاقتصاديّ، أن "لا تقدّم رجلاً ولا تؤخّر أخرى، حتَّى تعلم أنَّ في ذلك لله رضا".
وهذه الكلمات نقولها بسهولة، ولكنَّ حركتها في الواقع كبيرة. وهي، كما قلت لكم قبل قليل، تمثّل مصيرنا، لأنَّنا إذا استقمنا، فإننا سوف نصل إلى الجنَّة وإلى رضوان الله، وإذا لم نستقم، فسنصل إلى الشَّيطان وإلى النَّار، لأنَّ القضيَّة ليست سهلة.
الدَّعوة إلى الإسلام
وعلينا في هذا المجال أن نواجه العالم بالإسلام. ونحن عندما نتحدَّث بالإسلام، نتحدَّث من دون عقدة، فنحن لسنا متعصّبين، ولكنَّنا ملتزمون، وعندما نعيش مع الأديان الأخرى، فقد علَّمنا الله أن نقول: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ}[آل عمران: 64]، وعلَّمنا أن نقول: {آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَٰهُنَا وَإِلَٰهُكُمْ وَاحِدٌ}[العنكبوت: 46]. المسلم ليس متعصّباً ضدّ الآخر، بل إنَّه ينفتح عليه ويحاوره ويعيش معه ولا يلغيه.
لقد مضى على الإسلام أكثر من 14 قرناً، واليهود والنَّصارى موجودون في البلاد الإسلاميَّة، ولم يلغهما الإسلام، والسّلطة كانت للإسلام، ولو كان من الدّين الإسلاميّ أن يلغي الآخر، لما وجدنا يهوديّاً أو نصرانيّاً في مدى هذه القرون في البلاد الإسلاميّة، ونحن نعرف أنّهم موجودون، حتَّى قبل أن توجد الدَّولة اللا شرعيَّة إسرائيل، فقد كان اليهود موجودين في لبنان ومصر وسوريا والعراق وإيران، وفي إيران لهم ممثّل في مجلس الشّورى.
فالإسلام ليس ديناً منغلقاً على نفسه، وليس ديناً يلغي الآخر، بل ينفتح عليه، ولذلك فإنَّ الَّذين يدعون إلى الإسلام، إنما يدعون إلى هذه الرَّحابة الواسعة للإسلام في علاقته بالآخرين.
الاعتدالُ والتطرّف
ولذلك، نحن لا نفهم ما يفرض علينا من مصطلحات التّطرّف والاعتدال. الآن الكثير من النّاس في اللّغة السياسيّة، ونحن نسمعها من رجال الدّين، ومن رجال السياسة، ومن رجال المجتمع، أنَّ هناك مسلمين معتدلين، وهناك مسلمون متطرّفون. نحن لا نفهم هذا الكلام، أنت الآن عندما تتحرَّك بالإسلام من خلال أحكامه، فأنت مسلم، فهل عندما نقول للنّاس: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ}[البقرة: 43]، فهل هذا تطرّف؟ وهل عندما لا نقبل بشرعيَّة الغصب يكون تطرّفاً؟ فإذا احتلَّ أحد بيتي وقلت له اخرج منه، أو احتلّ وطني وقلت له اخرج منه، فهل هذا تطرّف؟! وهل الاعتدال أن يحتلَّ أحد بيتي ويغتصب أرضي، ثمّ أقبّل له يده، وأعتذر منه أنّي عبست في وجهه؟ هل هكذا نفعل؟ أيّ إنسان يقبلها على نفسه؟!
أنا في كثير من الأحيان، كنت أتحدَّث إلى بعض الصحافيّين من ألمانيّين وفرنسيّين وأمريكيّين، وكنت أقول لهم، لو جاءتكم جماعات من أحد البلدان في العالم، وأرادوا إخراجكم من أرضكم، لأنَّ أجدادهم قبل ثلاثة آلاف سنة كانوا فيها، فهل تقبلون؟ قالوا لا. وأقول لهم: فإذا لم يقبلوا بالخروج من أرضكم، ماذا تفعلون؟ قالوا نقاتلهم، قلت لهم وهذا ما نفعله، فلماذا تتَّهموننا بالتطرّف إذا قاتلناهم؟ نحن نقول لهم اخرجوا من أرضنا، فما شأن اليهوديّ الروسيّ والأوروبّيّ والأمريكيّ بفلسطين؟ نحن نقول لهم ارجعوا إلى بلدانكم ونعود كما كنّا، فهل هذا تطرّف؟!
عندما ينادي الفقراء بأنَّهم يريدون حكماً يحلّ لهم مشكلتهم الاقتصاديَّة، فهل هذا تطرّف؟ عندما نقول للاستكبار العالميّ بأننا لا نقبل أن تسيطر أمريكا أو أوروبَّا على ثروات المسلمين في أرضهم، فعلى أيّ أساس يكون هذا تطرّفاً؟ احترم مصالحي وأحترم مصالحك، فكما لا تقبل أن أذهب إلى بلادك وأسيطر على ثرواتك، كذلك أنا لا أقبل أن تأتي إلى بلادي وتسيطر على ثرواتي وأرضي. فأين الاعتدال وأين التطرّف؟!
لذلك، نحن عندما نسمع هذه الكلمات، وعندما نلاحظ معناها، فلا نجد لها معنى. أنا عندما أريد أن أكون مسلماً، أقف مع الحكم الشَّرعيّ، فهل أكون بذلك متطرّفاً؟!
لذلك، هم صنعوا لنا كلمات، وأرادوا لنا أن نحملها، وأن يحارب بعضنا بعضاً فيها، فقد صار هناك قسمان من المسلمين؛ المسلمون المعتدلون، وهم الَّذين يسبّحون بحمد الاستكبار والاستعمار، وبحمد أصحاب الجلالة والسيادة والفخامة، أمَّا الَّذين يقولون إنّهم يريدون أن يقفوا ضدّ كلّ من يظلم النَّاس، ويقولون كما قال الله: {وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ}[هود: 113]، أمّا هؤلاء، فيقال عنهم متطرّفون.
يقولون لكم لماذا تزعجون أمريكا؟ اتركوها تأخذ كلّ ثرواتكم وتعطيكم الفتات، إنّكم بذلك متطرّفون، ولماذا تحملون السّلاح ضدّ إسرائيل، فأنتم بذلك متطرّفون، دعوا إسرائيل تعطكم السَّلام بحسب شروطها. أليس هذا المنطق الموجود حاليّاً؟ وبعض النَّاس يقول لك إنّك إذا دعوت الآخرين إلى الإسلام فأنت متطرّف، ولكنَّ الله يقول: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}[آل عمران: 104]. نعم، الله يقول: {ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ}[النّحل: 125]، فأن أحاور الآخر، وأحاول أن أقنعه ويقنعني، فأين التطرّف في هذا؟!
أنا أقول إنَّ النّبيّ (ص) لو أراد أن يمشي بالمنطق اللّبنانيّ لما دعا أحداً، لأنّه كما هناك وضع لبنانيّ خاصّ، فقد كان هناك وضع مكَّة الخاصّ، فقد كانت لقريش زعامة دينيّة وسياسيّة واجتماعيّة، والنّبيّ أربك لهم كلّ أوضاعهم.
تحريرُ الأرض ليس إرهاباً
هناك منطق بدأوا يسوّقونه، وهو أنَّك عندما تقاتل في سبيل أن تحرّر أرضك، وتقاتل من يغتصب أرضك، فأنت إرهابيّ، ولكن عندما تأتي طائرات إسرائيليَّة تدمّر بلدك، وتقتل النساء والأطفال، فهؤلاء جماعة يدافعون عن سلامهم وأمنهم! هذا هو المنطق المزدوج، ونحن لا نحترم ذلك. نحن نريد أن نكون مسلمين منفتحين، ندعو إلى سبيل ربّنا بالحكمة والموعظة الحسنة، ونجادل النَّاس بالَّتي هي أحسن، وندفع بالَّتي هي أحسن، ونقول الكلمة الَّتي هي أحسن، فإن تولَّوا فقولوا اشهدوا بأنَّا مسلمون. هذا منطق القرآن، وهذا ليس تطرّفاً.
لكنَّ بعض النَّاس يسقطون أمام تأثيرات الآخرين وقوّتهم، والله يقول لنا: {إِنَّهُمْ لَن يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا ۚ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۖ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ}، المهمّ أن نمشي على الخطّ حتَّى نصل إلى الله {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ ۚ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ}.
وأيّ أمّة لا تؤمن بنفسها وبربّها وبرسالتها، ولا تركّز على قاعدة ثابتة، تبقى، كما يقول الإمام (ع) عن بعض النَّاس: "وَهَمَجٌ رَعَاعٌ أَتْبَاعُ كُلِّ نَاعِقٍ، يَمِيلُونَ مَعَ كُلِّ رِيحٍ، لَمْ يَسْتَضِيئُوا بِنُورِ اَلْعِلْمِ، وَلَمْ يَلْجَئُوا إِلَى رُكْنٍ وَثِيقٍ".
ونحن نريد أن نكون قاعدةً، وكما قال الإمام عليّ (ع) لولده محمَّد في حرب الجمل: "تَزُولُ الجِبَالُ وَلاَ تَزُلْ! عَضَّ عَلَى نَاجِذِكَ، أَعِرِ اللهَ جُمجُمَتَكَ، تِدْ في الأَرْضِ قَدَمَكَ، ارْمِ بِبَصَرِكَ أَقْصَى القَوْمِ، وَغُضَّ بَصَرَكَ، وَاعْلَمْ أَنَّ النَّصْرَ مِنْ عِنْدِ اللهِ سُبْحَانَهُ".
هناك كلمة للإمام جعفر الصَّادق (ع) يقول فيها: "إنَّ المؤمن أعزّ من الجبل؛ إنَّ الجبل يستفلّ منه بالمعاول، والمؤمن لا يستفلّ من دينه شيء". فمهما ضغطت على المؤمن، يبقى ثابتاً صلباً أصلب من الجبل.
هكذا يريدنا أئمَّة أهل البيت (ع)، أن نكون الصَّلبين الثَّابتين مهما واجهتنا الضّغوط، ولذا يقول الله: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم ۖ مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّىٰ يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ اللَّهِ ۗ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ}[البقرة: 214].
الثَّبات أمامَ التحدّيات
إذا أردتم أن تدخلوا الجنَّة، فادرسوا تاريخ الَّذين مسَّتهم البأساء والضَّرّاء في أنفسهم وأجسادهم، وزلزلوا من شدَّة الضّغط والتحدّيات، إلى أن يقول الرَّسول والمؤمنون متى نصر الله، فنحن، يا ربّ، جاهدنا وتعبنا وضحّينا، فهم يدعون الله وهم في السَّاحة، ولا يدعونه وهم مرتاحون في بيوتهم ومبتعدون عن ساحة الصّراع.
لاحظوا، لماذا تكثر عندنا دعوات الضّعف والاستضعاف؟ هل تسمعون أيّ دعوة من قبل اليهود في فلسطين المحتلّة ضدّ الجيش الإسرائيليّ الَّذي يعتدي على كلّ المنطقة، كما نسمع نحن دعوات تتحدَّث بشكل سلبيّ عن المقاومة؟! هل هناك صوت يرتفع ضدّ كلّ مخطَّطات إسرائيل؟ بالعكس، الآن عندهم جدل حول مسألة الانسحاب من الجولان أو عدم الانسحاب منه، أو الانسحاب من جنوب لبنان أو عدم الانسحاب منه، هناك أكثريَّة موجودة في داخل المجتمع اليهوديّ ترفض الانسحاب وتريد أن تبقى تقاتل، أمَّا العرب، فهرولوا كلّهم إلى إسرائيل، كما حضروا جنازة المجرم رابين، الَّذي يحمل في عنقه دماء عشرات الألوف من العرب والمسلمين. مع أنَّ اليهود ماذا يمثّلون في العالم؟! ومع ذلك، وقفوا عند باطلهم، وتفرَّقنا عند حقّنا، كانوا كما حدّثنا الله عنهم: {بَأْسُهُم بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ ۚ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّىٰ}[الحشر: 14]، وكنّا {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ}[الفتح: 29]، فانقلبت الآية، صاروا أشدَّاء علينا ورحماء بينهم، وبأسنا بيننا شديد، نقاتل بعضنا بعضاً. عندما تبدَّلت الأخلاق، تبدَّلت المواقع.
يجب أن يكون لدينا ثقة بأنفسنا، بأنَّ هذه التحدّيات السياسيَّة والاقتصاديَّة والعسكريَّة، هي تحدّيات لها ما بعدها، وسوف تطاول أولادنا، كيف يعيشون؛ هل يعيشون أحراراً في بلادهم، أم تحت سيطرة المستكبرين والمحتلّين؟!
خطّة أمريكا للمنطقة
إنَّ أمريكا تريد أن تحوّل المنطقة إلى منطقة أمريكيَّة ليس فيها إلَّا مصالحها، وإذا كنَّا نريد مصالحنا، فلا بدَّ أن تنسجم مع مصالحها. الآن، لماذا تقف أمريكا الآن بقوَّة ضدّ الجمهوريَّة الإسلاميَّة في إيران؟! السبب الأساسي هو أنَّ إيران تريد أن تكون مستقلَّة في اقتصادها وسياستها وأمنها، وتريد أن تنفتح على محيطها، ليكون محيطها الإسلاميّ والعربيّ محيطاً يعيش الاستقلال في سياسته واقتصاده وأمنه، بعيداً من مطامع المستكبرين. هذا هو كلّ ذنب إيران، أنَّها تريد أن تكون مستقلَّة، وأن تتعاون مع الدول الأخرى تعاون القويّ مع القويّ، وليس تعاون الضّعيف مع القويّ، لكنَّ أمريكا تريد لها أن تسقط تحت تأثير سياستها، كما تريد لأيّ دولة أخرى تتحرَّك في هذا الاتجاه.
إنَّ هذه الجمهوريَّة الإسلاميَّة الفتيّة الّتي تهتدي بهدى الإسلام، نسمع مسؤوليها في كلّ يوم يتحدّثون مع محيطهم، مع دول الخليج، أنَّنا نريد علاقات طيّبة وحسنة، ونريد لشعوب الخليج أن تحمي الخليج من كلّ عدوان، لا أن تأتي أمريكا وأوروبّا لتلتزم حماية دول الخليج، لأنّها إنّما تأتي لتبتزّ شعوبها؛ لتبتزَّها اقتصاديّاً وسياسيّاً وأمنيّاً، وهذا ما لاحظناه عندما استغلَّت الواقع الذي تعيشه دول الخليج، ففرضت عليهم كثيراً من الصَّفقات العسكريَّة والاقتصاديَّة الَّتي لا يحتاجون إليها، لأنَّهم يريدون أن يحلّوا مشكلة المواطن الأمريكي والمواطن البريطاني على حساب رخاء المواطن الخليجي. ولذلك، نرى دول الخليج لأوَّل مرّة تعيش عجزاً في الميزانيَّة، وعجزاً عن وفاء الدّيون الّتي عليها. فمتى كانت دول الخليج تعيش هذا الوضع؟! لقد كانت تعيش فيضاناً في الميزانيَّة، وكانت تقرض روسيا وفرنسا ودولاً كبرى، الآن أصبحت هي الَّتي تستقرض من خلال الصَّفقات الَّتي دخلتها بالمليارات... كلّ يوم نسمع عن صفقة العصر لهذه الدَّولة الخليجيَّة أو تلك مع بريطانيا وأمريكا، وهكذا.
لذلك، تريد إيران لشعوب الخليج أن تعيش استقلالها في إدارة سياستها واقتصادها وثرواتها. قبل عدّة أيّام، أتى وزير الدفاع الأمريكي خلال جولته إلى المنطقة، والفكرة الَّتي أراد أن يركّزها في أذهان شعوب الخليج، هي أنَّ عدوّكم إيران، وأنَّ عليكم أن تستعدّوا وتشتروا أحدث الأسلحة لمواجهتها، وأنها – أي أمريكا - مستعدَّة لأن تدخل في معاهدات مع كلّ دولة خليجيَّة، وطبعاً الدّولة الخليجيّة هي الَّتي تدفع ثمن المعاهدة، وثمن كلّ الأسلحة، على أساس أنّها ضدّ إيران.
النّزاع بين الخليج وإيران!
ماذا فعلت إيران لتحارَب؟ يقولون المشكلة في قضيّة الجزر الثلاث، والتي هي محلّ نزاع، فإيران تقول إنها تاريخيّاً لها، ودولة الإمارات تقول إنّها لها، وهذا لا يجعل من إيران عدوّاً، وإلَّا الآن هناك نزاع بين قطر والبحرين حول جزيرة تقول البحرين إنّها جزيرة بحرينيّة، وتقول قطر إنّها قطريّة، فلماذا لا تقف دول مجلس التعاون ضدّ قطر أو البحرين، باعتبار أنَّ هذه أخذت من تلك، وتلك أخذت من هذه؟ وهناك أيضاً مشكلة بين اليمن وإرتريا حول جزيرة حبيش، فاليمن تدّعي أنّها لها، وأريتريا تدَّعي أنّها لها أيضاً، فلا ينبغي أن يقال لليمن أن تجهّز الجيوش وتعتبر إرتريا عدوّاً، أو العكس.
فلماذا مجرَّد هذا النّزاع بين إيران والإمارات، نعتبر أنَّ إيران هي عدوّ للعرب، وهي عدوّ لدول التَّعاون؟ مع أنَّ هذه مسألة خلافيَّة قد تحلّ بمفاوضات ثنائيَّة أو بأيّ طريقة، وبعض القضايا الكبرى تمثّل مصلحة إيران والخليج. فإيران هي أكبر دولة خليجيَّة، وهناك ألف كيلومتر من إيران على الخليج.
نحن لا نريد أن نتعصَّب لإيران، ربما يقول بعض النّاس إنّنا نتعصَّب لإيران لأنّها شيعيّة، ليس الأمر هكذا، وإنّما ندعمها لأنّها تحمل لواء الإسلام، وليس لنا شغل بإيران الفارسيّة، بل بإيران الإسلاميَّة، فما دامت على الإسلام فنحن معها، لأنَّنا مع الإسلام في كلّ مكان، وهي مع الإسلام؛ قيادتها قيادة إسلاميّة، ومسؤولوها أيضاً إسلاميّون، وهم ينفتحون على العالم الإسلاميّ.
دعمٌ مطلق لإسرائيل!
وهكذا، عندنا نواجه أيضاً الواقع الأمريكيّ، عندنا يتحرَّك في تحالف استراتيجيّ ضدَّ الواقع العربيّ. يعني الآن المفاوضات جارية، فماذا تفعل أمريكا؟ في كلّ مرحلة من المراحل، تحاول أن تحصّن إسرائيل بأحدث الأسلحة، في الوقت الَّذي تطوف العالم حتَّى لا تسمح لأيّ دولة بأن تبيع أسلحة للعرب، ولا سيّما لسوريا. لماذا؟ فإذا كان عندكم توازن، وإذا كانت المسألة أنَّ الراعي الأمريكيّ، كما يسمّونه، يقف على أساس عادلٍ متساو بين سوريا وإسرائيل، فلماذا تزوّدون إسرائيل بأحدث الأسلحة، وتحاصرون سوريا حتَّى لا تستورد أيَّ سلاح؟ فإذا كان هناك توازن، فهذه تريد أن تحمي نفسها من الأخرى، وتلك أيضاً تحتاج أن تحمي نفسها...
الآن، تريد أمريكا لإسرائيل أن تكون دولة محصَّنة وقلعة محصَّنة، وأن يكون العالم العربي سوقاً مفتوحة أمامها، فهي تعطي إسرائيل أحدث الأسلحة، وتضغط على العرب حتَّى يرفعوا المقاطعة الاقتصاديَّة عن إسرائيل، وتعمل إسرائيل بالتَّعاون مع أمريكا على أساس أن يكون العالم العربيّ سوقاً مفتوحة لها من جميع الجهات، حتَّى تتطوَّر صناعيّاً على حساب العرب، يعني أن ننتقل من استعمار أمريكيّ وأوروبيّ، إلى استعمار إسرائيليّ اقتصاديّ، وإن لم يكن هناك استعمار سياسيّ أو جغرافيّ. هذه هي المشكلة الَّتي تواجهنا أمام الواقع الأمريكيّ الذي يتحرَّك في هذه الحالة.
سلامٌ لصالحِ العدوّ؟!
الآن، المطلوب في هذا المقام مما يسوَّق له، هو أن يكون هناك سلامٌ مفتوحٌ على كلّ العرب، فإسرائيل تقول إنّنا نريد أن نتقدَّم بالمفاوضات مع سوريا، على أساس أن تضمن سوريا سلام كلّ العرب، بحيث يجلس كلّ العرب على الطّاولة، وليس فقط سوريا ولبنان وإسرائيل، بشرط أن تكون هناك ترتيبات أمنيَّة في سوريا ولبنان، بحيث تحدّد حريَّة كلّ دولة في حركتها على جانبي الحدود، ولم ننس بعد اتّفاق 17 أيَّار الَّذي كان ينصّ على منع الطيران اللّبنانيّ من أن يتحرَّك في الجنوب إلَّا على أساس التَّنسيق مع إسرائيل، حتَّى الطَّيران المدني.
فالمسألة هي مسألة التَّخطيط من خلال ما يسمّونه السَّلام، لتكون إسرائيل القوَّة الكبرى في المنطقة، وتكون الدّول العربيَّة هي القوى الضَّعيفة فيها، حتَّى يمكن لإسرائيل أن تتصرَّف في اقتصاد المنطقة وأمنها وسياستها بحسب مصالحها.
إنَّ أمريكا تهدّد الآن بالوقت، فعندما يتحدَّث وزير الخارجيَّة الأمريكيّ الّذي جاء الآن إلى المنطقة، يتحدَّث عن أنَّ الوقت يحاصِر المفاوضات، ولذلك لا بدَّ أن تتقدَّم المفاوضات، كما يقول، والخطاب موجَّه إلى سوريا ولبنان، وليس موجَّهاً إلى إسرائيل، لأنَّ الأمريكيّين لا يوجّهون أيّ ضغط على إسرائيل، وأنَّ الانتخابات الأمريكيَّة والإسرائيليَّة تحاصر واقع المفاوضات، لأنّ الأمريكيّين والإسرائيليّين سوف ينشغلون بالانتخابات على المفاوضات، ولذلك لا بدَّ أن تسلق المفاوضات، حتَّى إذا جاءت الانتخابات، يكون الجميع مرتاحين في هذا الموضوع. هذه هي المقولة الأمريكيَّة الجديدة في هذا الموضوع.
التّخطيط للمستقبل
لذلك، أيُّها الأحبَّة، لا بدَّ لنا أن ننظر إلى المستقبل بقوّة، القوم يخطّطون لمستقبل يكونون فيه الأقوياء علينا، وعلينا أن نخطّط لمستقبلٍ نملك فيه القوَّة، وإذا كنَّا نعيش بعض نقاط الضّعف الآن، فعلينا أن نعمل على أن نخطّط لننمّي قوَّتنا بطريقة وبأخرى، وذلك بالسَّيطرة على كلّ عوامل الضّعف الَّتي تفتك بمجتمعاتنا وبكلّ أوضاعنا.
إنَّنا عندنا ننظر إلى الكثيرين من هؤلاء الَّذين يحكمون العالم العربي، نجد أنهم قادوا أمَّتهم إلى الهزيمة، فتاريخهم تاريخ الهزائم، وتاريخ العنف الموجَّه ضدَّ شعوبهم، وهم يريدون أن يفرضوا نتائج هذه الهزائم على أجيال المستقبل، ونحن نقول إنَّ من قاد أمَّته إلى هزائمها، كيف يمكن أن يقودها إلى الانتصارات؟! هم لا يفهمون معنى النَّصر، لأنهم أدمنوا الهزيمة، ولذلك فإنهم تحوَّلوا من أن يكونوا قادةً يضغطون على العدوّ الّذي احتلّ الأرض، وسيطر على الواقع، إلى أن يكونوا قادة يحاربون شعوبهم، ويفرضون عليهم قوانين الطَّوارئ، ويفرضون عليهم كلّ الظّلم والحصار الّذي يتحرّكون فيه.
وهذه هي مشكلتنا في هذا الواقع الَّذي نعيشه، إنَّ الكثيرين من الناس يتحدثون عن الأمر الواقع على أساس أنَّه القضاء والقدر، ولذلك يقولون لا بدَّ أن نسلّم، لأنَّ السيّد الأمريكيَّ قادم، ولأنَّ السيّد الإسرائيليَّ قادم، وعلينا أن نكون واقعيّين، لأنَّ هناك قضاءً وقدراً إسرائيليّاً وأمريكيّاً، هناك أناسٌ يسقطون تحت تأثير المستكبرين على أنَّه الاعتدال، ويقفون ضدّ دعاة التَّغيير على أساس أنهم المتطرّفون. هذا هو المنطق الَّذي يحاولون أن يسوّقوه في واقعنا من مواقع دينيَّة وسياسيَّة واجتماعيَّة.
مواجهة الواقع بالصّدق
أيُّها الأحبَّة، إنَّنا عندنا نواجه الواقع في بلدنا وفي المنطقة، فإنّنا نريد لكلمات الصّدق أن تتحرَّك في واقعنا، لأنَّ المشكلة الَّتي نعيشها، أنَّ كثيراً من النَّاس في هذا الجوّ الَّذي نعيشه، يعتبرون أنَّ النّفاق سياسة، وأنَّ اللَّعب على الكلمات دبلوماسيَّة، وأنَّ التكاذب السياسيَّ وفاق وطنيّ، وأنَّ الصَّراحة في المواقف تهديد للوحدة. إنَّ الكثيرين منّا يخافون من الصّدق أن يكون عنوان الواقع، لأنَّ البلد الَّذي بني على الحساسيّات، ويخشى على الحساسيَّات الطَّائفيَّة والمذهبيَّة والعرقيَّة والمذهبيَّة، يخشى من أن يهتزَّ أمام كلمات الصّدق.
نحن نقول إنَّ على النَّاس أن يتحدَّث بعضهم مع بعض بصدق، لأنَّ الصّدق هو الّذي يعرّفنا ما هو الواقع، وكيف ندير خلافاتنا، وكيف نركّز وفاقنا، وكيف نتحرَّك نحو المستقبل.
لماذا تتحوَّل الصَّراحة إلى نذير حرب للواقع؟! نحن نخاف أن يصارح بعضنا بعضاً، ولذلك نحاول أن يكذب بعضنا على بعض، ثمَّ يرجع كلّ واحد منّا إلى جماعته، كما قال الله: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ}[البقرة: 14]، يقولون نحن نجاملهم ونسخر منهم، أليس هذا الواقع الَّذي نعيشه؟ هذا دليل على أنَّنا لا نزال نعيش التخلّف والتكاذب ونخاف من الحقيقة، لأنَّ هناك أكثر من سجَّان للأفكار وللمواقف، ممن لا يريد للحقيقة أن تعبّر عن نفسها.
أيُّها الأحبَّة، إنَّ علينا أن لا نكون كالنَّعامة الَّتي تخفي رأسها في الرمال حتَّى لا ترى الصيَّاد، ولكنَّ الصيَّاد يحدّق بها. إنَّ هناك أكثر من صيَّاد دوليّ وإقليميّ يريد أن يصطاد عزَّتنا وكرامتنا وحرَّيتنا واقتصادنا، فهل نستسلم للصيَّادين الكبار، أم نقف لنحمي أنفسنا من كلّ بنادقهم ومخطَّطاتهم؟!
القوَّة بثبات الموقف
أيُّها الأحبَّة، جمّدوا كلَّ خلافاتكم العائليَّة والحزبيَّة والطائفيَّة والمذهبيَّة، لأنَّ الواقع الَّذي نعيش فيه، والمرحلة الَّتي نقبل عليها، سواء أتمت التسوية أم لم تتمّ، هو واقع تتغيَّر فيه الكثير من الأمور، وتهتزّ فيه الكثير من المواقع، وتسقط فيها الكثير من الرّؤوس. لذلك، لن يبقى إلّا الرأس الذي يفكّر بقوَّة على أساس العدل والحريّة، ولن تبقى إلَّا المواقف والمواقع الَّتي تركّز على ثبات الموقف.
أيُّها الأحبَّة، أيُّها اللّبنانيّون، أيّاً كانت أديانكم، وأيّاً كانت مذاهبكم، وأيّاً كانت سياستكم ومواقعكم، إنَّكم لا تزالون تتحركون على أساس التَّكاذب السياسي والتَّكاذب الاجتماعي، إنَّ عليكم أن تواجهوا استحقاقات المرحلة، لا استحقاقات القضايا الشَّخصيَّة، لأنَّ الرياح العاصفة عندما تأتي، فإنها ستسقط الكثير من الأشجار، إذا لم يكن أصلها ثابتاً وفرعها في السَّماء، وستسقط الكثير من المواقع.
لذلك، صلّبوا مواقفكم، ثبّتوا أرضكم، حدّقوا بالمستقبل، لأنَّكم لا تزالون في لعبة أطفال سياسيَّة واجتماعيَّة، تماماً كما هم الأطفال عندما يتقاتلون على كوخ يبنيه هؤلاء على الشَّاطئ، ويبنيه أولئك على الشَّاطئ، ثمَّ تأتي الموجة، وتذهب كلّ الأكواخ، ولا يبقى هناك شيء. هل هذا هو المستقبل؟!
*خطبة الجماعة لسماحته، بتاريخ: 12/01/1996.
يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه المجيد: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَىٰ شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ * إِنَّهُمْ لَن يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا ۚ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۖ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ * هَٰذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ * أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ ۚ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ * وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَىٰ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ * أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَىٰ عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ ۚ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ}[الجاثية: 18-23]. صدق الله العليّ العظيم.
في هذه الآيات، يخاطب الله نبيَّه، وإذا خاطب الله نبيَّه من خلال صفته الرّساليَّة، فإنَّه يخاطب النَّاس من خلاله.
معنى العبوديَّة لله
وما يريد الله للنَّاس أن يفهموه، هو أنَّه سبحانه قد وضع للنَّبيّ ولمن اتَّبعه في رسالته، شريعةً من أمره في تخطيطه لمصلحة الإنسان، وهذه الشَّريعة تتضمَّن سلوك الإنسان في نفسه مع نفسه، ومع ربّه، ومع النَّاس من حوله، ومع الحياة كلّها، فللَّه في كلّ قضيَّة حكم، وله في كلّ ساحة شريعة ومنهج، فلا مجال للإنسان أن يجتهد لنفسه، وأن يشعر بحرَّيته فيما يتحرَّك فيه، بل لا بدَّ له أن يوازن كلَّ خطواته وعلاقاته وسلوكيَّاته، على أساس أنَّها هل تتوافق مع ما أراد الله له أن يفعله، وما أراد له أن يتركه؟!
أنت عبد الله، وإذا كنت عبده، فإنَّك لا تملك أمامه شيئاً، ولا حرّيّة لك أمامه. كن حرّاً أمام كلّ النَّاس، فلو طلب النَّاس منك أيَّ شيء أن تفعله مما لا يلزمك الله أن تفعله، أو أن تترك شيئاً لم يلزمك الله أن تتركه، قل بصوت عال أنا حرّ، إنَّكم لا تملكونني، ولا تملكون الضَّغط على إرادتي، أنا حرّ أمامكم، ولكنّي عبدٌ أمام الله، فإذا قال الله فلا قول لك، وإذا حكم الله فلا حكم لك.
وهذا هو قول الله في آيتين؛ الآية الأولى في الحكم: {فَلَا وَرَبِّكَ - فالله يقسم بنفسه في حديثه عن هذا الموضوع، والقسم يعطي تأكيداً للمسألة، فالمسألة ليس فيها مجال للأخذ والرّدّ - لَا يُؤْمِنُونَ – لأنَّ الإيمان ليس كلمة، بل هو موقف واستسلام لحكم الله - حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ - يعني فيما اختلفوا فيه - ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}[النّساء: 65]، فإذا حكم الله، فلا حكم لك، ولست حرّاً في أن تقبل أو لا تقبل.
والآية الثّانية هي: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ}[الأحزاب: 36]. فأمام الله ليس هناك اختيار.
الحكم لله وحده
وفي ضوء هذا، فإنَّنا نفهم أنّ الناس عندما يختلفون في بعض القضايا، ويرجعون إلى الشَّريعة، إلى من يملك القدرة العلميَّة والدّينيَّة لأن يحكم فيما بينهم، فإذا حكم ولم يقبلوا، فإنّهم لا يكونون مؤمنين، فإذا قالوا لا نريد الشّرع بل القانون، أو قالوا نريد قانون العشائر، أو غير ذلك، فإذا فعلوا ذلك، فإنّهم لا يكونون مؤمنين، لأنَّ الإيمان ليس فقط صلاةً وصوماً، بل هو صلاة وصوم واستسلام لله ولأمره وشريعته، واستقامة في هذا الخطّ. {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا}[فصّلت: 30]، {أَنَّ هَٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ ۖ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ}[الأنعام: 153].
وأنا هنا، أيُّها الأحبَّة، على طريقتي معكم، وكما أقول لكم دائماً، أنا لست هنا لأخطب فيكم، بل لنتفاهم، فأنا أحبّ عندما أحدّثكم عن كلام الله، أن تفكّروا معي، وليس فقط أن تسمعوا منّي، فهذا الكلام ليس فيه استهلاك، بل فيه تفسير لقول الله تعالى، وماذا يقول سبحانه لنا. والقضايا الَّتي تتَّصل بعلاقاتنا بالله هي ليست قضايا جانبيَّة، بل تتَّصل بمصيرنا عنده تعالى {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُم}[الغاشية: 25 - 26]، {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ}[العنكبوت: 57]، فإذا كنّا سنرجع إلى الله، فعلينا أن نضبط حساباتنا، وأن نضبط تصوّراتنا ومفاهيمنا وعقائدنا وكلّ خطواتنا، {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ}[المدثر: 38]، فأنت مرهون بأعمالك {وَاخْشَوْا يَوْمًا لَّا يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئًا}[لقمان: 33]. أنت الآن ترى أولادك حولك، وكذلك أهلك وعشيرتك، ولكن هناك {يُبَصَّرُونَهُمۡۚ يَوَدُّ ٱلۡمُجۡرِمُ لَوۡ يَفۡتَدِي مِنۡ عَذَابِ يَوۡمِئِذِۭ بِبَنِيهِ * وَصَٰحِبَتِهِۦ وَأَخِيهِ * وَفَصِيلَتِهِ ٱلَّتِي تُـٔۡوِيهِ * وَمَن فِي ٱلۡأَرۡضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنجِيهِ}[المعارج: 11- 14].
لذلك، هذه المسألة تحتاج إلى تفكير أكثر ممّا نفكّر، فنحن لا نفكّر كثيراً في هذه المسائل. تخيّلوا مثلاً الآن، لو كنتم في سهرة، وجاء من يتكلّم معكم عن الموت ويوم القيامة، فهل تتحمَّلون لنصف ساعة الحديث عن الله وعن الموت؟! ستقولون لا تخرّب مزاجنا وسهرتنا، ولكن يوم القيامة هناك سهرة طويلة {وَإِنَّ يَوْمًا عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ}[الحجّ: 47]، {يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}[الشّعراء: 88 -89].
اتّباع الشَّريعة
{ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَىٰ شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ - لا تتَّبع ما يخطّطه لك الآخرون الَّذين لم ينفتحوا على الله وعلى رسالاته، وإنما انطلقوا مع شهواتهم ولذَّاتهم وأطماعهم، فقنَّنوا القوانين، وخطَّطوا الخطط، ورسموا المناهج على حسب أهوائهم. قد يقول لك أحد ما لك بالشَّريعة والحلال والحرام، فلن يفيدك ذلك - إِنَّهُمْ لَن يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا ۚ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۖ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ – فغداً، عندما تقف بين يدي الله، فمن من هؤلاء سيغني عنك؟ {قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ}[الزّمر: 38]، والله سبحانه يقول: {لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ ۗ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا}[النساء: 123].
فالمسلم الّذي يقول أعمل ما أريد، وغداً يشفع لي عليّ بن أبي طالب (ع) وأدخل الجنَّة، وكأنَّ عليّاً (ع) يمشي على مزاجه، ولكنَّ عليّاً قسيم الجنّة والنّار، ويمشي على القانون الّذي وضعه الله {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَىٰ وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ}[الأنبياء: 28]، فهم يشفعون بحسب الخطّ الَّذي رسمه الله لهم. {يَوْمَئِذٍ لَّا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَٰنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا}[طه: 109].
لذلك، يقول الله سبحانه: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا}[النّساء: 123]، {إِنَّهُمْ لَن يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۖ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ}[الجاثية: 19].
فالظّالمون يتعاون بعضهم مع بعض، ويحمي بعضهم بعضًا، فهناك تحالف شيطانيّ شرّير بين الظَّالمين والمستكبرين أمام مصالحهم الظَّالمة المشتركة، فتراهم يقفون ضدّ المستضعفين والمظلومين، ويرتّبون القوانين على قياسهم، ويرتّبون السياسة والدّولة والمجتمع على قياسهم.. لاحظوا كيف تتحرّك القوانين، فالضَّرائب الآن، أغلبها تطال الطَّبقتين الفقيرة والمتوسّطة، أمَّا الطَّبقة الغنيَّة، فيقال ينبغي أن نخفّف عنهم الضَّرائب، ليشغّلوا رؤوس أموالهم، وليأتي رأس المال، ويتمّ استثماره، فيشتغل النّاس، لكنَّ هذا الضّعيف المسكين الفقير الَّذي لا يتعدّى راتبه الـ 400 ألف، بينما يحتاج في الشَّهر إلى مليوني ليرة، من أين يأتي بالضَّرائب؟! هذا لا أحد يفكّر فيه.
لاحظوا الآن في العالم، كيف يحمي المستكبرون بعضهم بعضاً، وفي الدَّاخل، كيف يتحالف الظَّالمون بعضهم مع بعض؛ يتحالفون في الانتخابات، في الحكومة، وفي الواقع السياسي.
{إِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۖ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ}. فإذا كان الظّالمون بعضهم أولياء بعض، فإنَّ المتَّقين وليّهم الله {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ۖ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ}[البقرة: 257].
{هَٰذَا - هذا الكلام، هذا الخطّ، هذا القرآن - بَصَائِرُ لِلنَّاسِ - يبصر النَّاس فيه ما يصلح أمرهم، وما ينقذهم في الدّنيا والآخرة - وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ}.
اختيار الحقّ
ثمّ يتحدَّث الله عن هؤلاء النَّاس الَّذين يعيشون الحياة في جرائمهم وشرورهم وممارستهم للسيّئات، الّذين أخذوا حرَّيتهم بالكفر والجريمة والمعصية، ثمَّ يقولون إنَّ الجنَّة لنا، سيغفر الله لنا، كما ذلك الّذي يقول: {وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَىٰ رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِّنْهَا مُنقَلَبًا}[الكهف: 36].
يقول تعالى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ ۚ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ}، فالله عادل "ولا يكوننَّ المحسن والمسيء عندك بمنزلة سواء"، {أَفَمَن كَانَ مُؤْمِنًا كَمَن كَانَ فَاسِقًا ۚ لَّا يَسْتَوُونَ}[السّجدة: 18]، {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ}[القلم: 35 - 36]، {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ ۚ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ}.
{وَخَلَقَ ٱللَّهُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضَ بِٱلْحَقِّ - فقد أودع الله في السَّموات والأرض، في كلّ ظاهرة من ظواهرها، قانوناً وسرّاً، ليس هناك فوضى، فكلّ ظاهرة كونيَّة أو تاريخيَّة أو اجتماعيَّة، فيها سرٌّ منطلق من خلال الحكمة، بحيث تسير على أساس قانون لا يتبدَّل. فالله ركَّز الكون كلَّه على الحقّ، ويريدك، أيُّها الإنسان، أن تتحرَّك بالحقّ من موقع اختيارك، فالسماء ركّبها على الحقّ، فهي تتحرَّك به من دون اختيار، والأرض أيضاً. ولكن أنت، أيُّها الإنسان، يقول لك الله أريدك أن تسير على الحقّ من خلال إرادتك واختيارك - وَلِتُجْزَىٰ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ}. {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ}[الزّلزلة: 7 - 8].
اتّباعُ الهوى
ثمَّ يوجّهنا الله إلى بعض النَّاس الَّذين لا ينطلقون من قاعدة ولا من شريعة، وإنما ينطلقون من أهوائهم وشهواتهم ولذَّاتهم ومصالحهم، يقول تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ - هذا الَّذي لا يعرف الله، ولا يريد أن ينفتح عليه، وإنَّما جعل إلهه هواه، فما توجّهه إليه شهواته ولذَّاته، فإنَّه يسير عليها. وليس بالضَّرورة أن يقول هذا إلهي، بل إنّه يتبعه ويطيعه كما يطيع الإنسان الإله - وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَىٰ عِلْمٍ – يعني تركه الله لنفسه فضلّ، وهو لديه العلم، لأنَّ كثيراً من النَّاس يعلم، ولكنَّ شهواته وأهواءه تغلب على عقله فيضلّ بها - وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ – فلا يسمع بوعي – وَقَلْبِهِ – فلا يفكّر باتّزان - وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَاوَةً – فإنَّ نتيجة أن يتحرَّك الإنسان من موقع هواه، أن يغلق على عقله النَّوافذ الَّتي تطلّ على الحقّ، وأن يغلق سمعه عن كلمة الحقّ، وأن يغلق بصرَه عن رؤية الحقّ - فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ - إذا كان الله قد أضلّه، وتركه لنفسه - أَفَلَا تَذَكَّرُونَ}.
هذه خلاصة تفسير هذه الآية.
التَّسليم لله
والآن نريد أن ننطلق، أيُّها الأحبَّة، من خلال ذلك، لنواجه واقعنا في حركتنا في الدّنيا. إذاً نحن ننطلق من الآية الأولى، لنفهم أنَّ الله جعل لنا شريعة الإسلام {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ}[آل عمران: 85].
والإسلام أن تسلم أمرك في كلّ حياتك لربّك، بحيث تكون حركتك منطلقةً من تعاليم ربّك. فإذا كان الأمر كذلك، فينبغي لنا أن نتَّبع الإسلام في حياتنا الفرديَّة والاجتماعيَّة، أن تكون حياتك مع عائلتك إسلاميَّة، فعندما تتزوَّج، فكّر ما هو حكم الإسلام في علاقتي مع زوجتي، وعندما تتزوَّج المرأة، عليها أن تفكّر ما هي تعاليم الإسلام في علاقتها مع زوجها، كذلك عندما تبيع وتشتري، وعندما تعيش مع النّاس، وعندما تختلف معهم أو تتوافق معهم في القضايا الاجتماعيَّة وغيرها، وعندما تؤيّد فلاناً أو ترفضه، أو عندما تمشي مع هذا الخطّ السياسيّ أو ذاك الخطّ السياسي، فما من واقعة إلَّا ولله فيها حكم، بمعنى أن يحدّد لك الدّين خطَّك السياسيّ والاجتماعيّ والفرديّ والاقتصاديّ، أن "لا تقدّم رجلاً ولا تؤخّر أخرى، حتَّى تعلم أنَّ في ذلك لله رضا".
وهذه الكلمات نقولها بسهولة، ولكنَّ حركتها في الواقع كبيرة. وهي، كما قلت لكم قبل قليل، تمثّل مصيرنا، لأنَّنا إذا استقمنا، فإننا سوف نصل إلى الجنَّة وإلى رضوان الله، وإذا لم نستقم، فسنصل إلى الشَّيطان وإلى النَّار، لأنَّ القضيَّة ليست سهلة.
الدَّعوة إلى الإسلام
وعلينا في هذا المجال أن نواجه العالم بالإسلام. ونحن عندما نتحدَّث بالإسلام، نتحدَّث من دون عقدة، فنحن لسنا متعصّبين، ولكنَّنا ملتزمون، وعندما نعيش مع الأديان الأخرى، فقد علَّمنا الله أن نقول: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ}[آل عمران: 64]، وعلَّمنا أن نقول: {آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَٰهُنَا وَإِلَٰهُكُمْ وَاحِدٌ}[العنكبوت: 46]. المسلم ليس متعصّباً ضدّ الآخر، بل إنَّه ينفتح عليه ويحاوره ويعيش معه ولا يلغيه.
لقد مضى على الإسلام أكثر من 14 قرناً، واليهود والنَّصارى موجودون في البلاد الإسلاميَّة، ولم يلغهما الإسلام، والسّلطة كانت للإسلام، ولو كان من الدّين الإسلاميّ أن يلغي الآخر، لما وجدنا يهوديّاً أو نصرانيّاً في مدى هذه القرون في البلاد الإسلاميّة، ونحن نعرف أنّهم موجودون، حتَّى قبل أن توجد الدَّولة اللا شرعيَّة إسرائيل، فقد كان اليهود موجودين في لبنان ومصر وسوريا والعراق وإيران، وفي إيران لهم ممثّل في مجلس الشّورى.
فالإسلام ليس ديناً منغلقاً على نفسه، وليس ديناً يلغي الآخر، بل ينفتح عليه، ولذلك فإنَّ الَّذين يدعون إلى الإسلام، إنما يدعون إلى هذه الرَّحابة الواسعة للإسلام في علاقته بالآخرين.
الاعتدالُ والتطرّف
ولذلك، نحن لا نفهم ما يفرض علينا من مصطلحات التّطرّف والاعتدال. الآن الكثير من النّاس في اللّغة السياسيّة، ونحن نسمعها من رجال الدّين، ومن رجال السياسة، ومن رجال المجتمع، أنَّ هناك مسلمين معتدلين، وهناك مسلمون متطرّفون. نحن لا نفهم هذا الكلام، أنت الآن عندما تتحرَّك بالإسلام من خلال أحكامه، فأنت مسلم، فهل عندما نقول للنّاس: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ}[البقرة: 43]، فهل هذا تطرّف؟ وهل عندما لا نقبل بشرعيَّة الغصب يكون تطرّفاً؟ فإذا احتلَّ أحد بيتي وقلت له اخرج منه، أو احتلّ وطني وقلت له اخرج منه، فهل هذا تطرّف؟! وهل الاعتدال أن يحتلَّ أحد بيتي ويغتصب أرضي، ثمّ أقبّل له يده، وأعتذر منه أنّي عبست في وجهه؟ هل هكذا نفعل؟ أيّ إنسان يقبلها على نفسه؟!
أنا في كثير من الأحيان، كنت أتحدَّث إلى بعض الصحافيّين من ألمانيّين وفرنسيّين وأمريكيّين، وكنت أقول لهم، لو جاءتكم جماعات من أحد البلدان في العالم، وأرادوا إخراجكم من أرضكم، لأنَّ أجدادهم قبل ثلاثة آلاف سنة كانوا فيها، فهل تقبلون؟ قالوا لا. وأقول لهم: فإذا لم يقبلوا بالخروج من أرضكم، ماذا تفعلون؟ قالوا نقاتلهم، قلت لهم وهذا ما نفعله، فلماذا تتَّهموننا بالتطرّف إذا قاتلناهم؟ نحن نقول لهم اخرجوا من أرضنا، فما شأن اليهوديّ الروسيّ والأوروبّيّ والأمريكيّ بفلسطين؟ نحن نقول لهم ارجعوا إلى بلدانكم ونعود كما كنّا، فهل هذا تطرّف؟!
عندما ينادي الفقراء بأنَّهم يريدون حكماً يحلّ لهم مشكلتهم الاقتصاديَّة، فهل هذا تطرّف؟ عندما نقول للاستكبار العالميّ بأننا لا نقبل أن تسيطر أمريكا أو أوروبَّا على ثروات المسلمين في أرضهم، فعلى أيّ أساس يكون هذا تطرّفاً؟ احترم مصالحي وأحترم مصالحك، فكما لا تقبل أن أذهب إلى بلادك وأسيطر على ثرواتك، كذلك أنا لا أقبل أن تأتي إلى بلادي وتسيطر على ثرواتي وأرضي. فأين الاعتدال وأين التطرّف؟!
لذلك، نحن عندما نسمع هذه الكلمات، وعندما نلاحظ معناها، فلا نجد لها معنى. أنا عندما أريد أن أكون مسلماً، أقف مع الحكم الشَّرعيّ، فهل أكون بذلك متطرّفاً؟!
لذلك، هم صنعوا لنا كلمات، وأرادوا لنا أن نحملها، وأن يحارب بعضنا بعضاً فيها، فقد صار هناك قسمان من المسلمين؛ المسلمون المعتدلون، وهم الَّذين يسبّحون بحمد الاستكبار والاستعمار، وبحمد أصحاب الجلالة والسيادة والفخامة، أمَّا الَّذين يقولون إنّهم يريدون أن يقفوا ضدّ كلّ من يظلم النَّاس، ويقولون كما قال الله: {وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ}[هود: 113]، أمّا هؤلاء، فيقال عنهم متطرّفون.
يقولون لكم لماذا تزعجون أمريكا؟ اتركوها تأخذ كلّ ثرواتكم وتعطيكم الفتات، إنّكم بذلك متطرّفون، ولماذا تحملون السّلاح ضدّ إسرائيل، فأنتم بذلك متطرّفون، دعوا إسرائيل تعطكم السَّلام بحسب شروطها. أليس هذا المنطق الموجود حاليّاً؟ وبعض النَّاس يقول لك إنّك إذا دعوت الآخرين إلى الإسلام فأنت متطرّف، ولكنَّ الله يقول: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}[آل عمران: 104]. نعم، الله يقول: {ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ}[النّحل: 125]، فأن أحاور الآخر، وأحاول أن أقنعه ويقنعني، فأين التطرّف في هذا؟!
أنا أقول إنَّ النّبيّ (ص) لو أراد أن يمشي بالمنطق اللّبنانيّ لما دعا أحداً، لأنّه كما هناك وضع لبنانيّ خاصّ، فقد كان هناك وضع مكَّة الخاصّ، فقد كانت لقريش زعامة دينيّة وسياسيّة واجتماعيّة، والنّبيّ أربك لهم كلّ أوضاعهم.
تحريرُ الأرض ليس إرهاباً
هناك منطق بدأوا يسوّقونه، وهو أنَّك عندما تقاتل في سبيل أن تحرّر أرضك، وتقاتل من يغتصب أرضك، فأنت إرهابيّ، ولكن عندما تأتي طائرات إسرائيليَّة تدمّر بلدك، وتقتل النساء والأطفال، فهؤلاء جماعة يدافعون عن سلامهم وأمنهم! هذا هو المنطق المزدوج، ونحن لا نحترم ذلك. نحن نريد أن نكون مسلمين منفتحين، ندعو إلى سبيل ربّنا بالحكمة والموعظة الحسنة، ونجادل النَّاس بالَّتي هي أحسن، وندفع بالَّتي هي أحسن، ونقول الكلمة الَّتي هي أحسن، فإن تولَّوا فقولوا اشهدوا بأنَّا مسلمون. هذا منطق القرآن، وهذا ليس تطرّفاً.
لكنَّ بعض النَّاس يسقطون أمام تأثيرات الآخرين وقوّتهم، والله يقول لنا: {إِنَّهُمْ لَن يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا ۚ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۖ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ}، المهمّ أن نمشي على الخطّ حتَّى نصل إلى الله {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ ۚ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ}.
وأيّ أمّة لا تؤمن بنفسها وبربّها وبرسالتها، ولا تركّز على قاعدة ثابتة، تبقى، كما يقول الإمام (ع) عن بعض النَّاس: "وَهَمَجٌ رَعَاعٌ أَتْبَاعُ كُلِّ نَاعِقٍ، يَمِيلُونَ مَعَ كُلِّ رِيحٍ، لَمْ يَسْتَضِيئُوا بِنُورِ اَلْعِلْمِ، وَلَمْ يَلْجَئُوا إِلَى رُكْنٍ وَثِيقٍ".
ونحن نريد أن نكون قاعدةً، وكما قال الإمام عليّ (ع) لولده محمَّد في حرب الجمل: "تَزُولُ الجِبَالُ وَلاَ تَزُلْ! عَضَّ عَلَى نَاجِذِكَ، أَعِرِ اللهَ جُمجُمَتَكَ، تِدْ في الأَرْضِ قَدَمَكَ، ارْمِ بِبَصَرِكَ أَقْصَى القَوْمِ، وَغُضَّ بَصَرَكَ، وَاعْلَمْ أَنَّ النَّصْرَ مِنْ عِنْدِ اللهِ سُبْحَانَهُ".
هناك كلمة للإمام جعفر الصَّادق (ع) يقول فيها: "إنَّ المؤمن أعزّ من الجبل؛ إنَّ الجبل يستفلّ منه بالمعاول، والمؤمن لا يستفلّ من دينه شيء". فمهما ضغطت على المؤمن، يبقى ثابتاً صلباً أصلب من الجبل.
هكذا يريدنا أئمَّة أهل البيت (ع)، أن نكون الصَّلبين الثَّابتين مهما واجهتنا الضّغوط، ولذا يقول الله: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم ۖ مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّىٰ يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ اللَّهِ ۗ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ}[البقرة: 214].
الثَّبات أمامَ التحدّيات
إذا أردتم أن تدخلوا الجنَّة، فادرسوا تاريخ الَّذين مسَّتهم البأساء والضَّرّاء في أنفسهم وأجسادهم، وزلزلوا من شدَّة الضّغط والتحدّيات، إلى أن يقول الرَّسول والمؤمنون متى نصر الله، فنحن، يا ربّ، جاهدنا وتعبنا وضحّينا، فهم يدعون الله وهم في السَّاحة، ولا يدعونه وهم مرتاحون في بيوتهم ومبتعدون عن ساحة الصّراع.
لاحظوا، لماذا تكثر عندنا دعوات الضّعف والاستضعاف؟ هل تسمعون أيّ دعوة من قبل اليهود في فلسطين المحتلّة ضدّ الجيش الإسرائيليّ الَّذي يعتدي على كلّ المنطقة، كما نسمع نحن دعوات تتحدَّث بشكل سلبيّ عن المقاومة؟! هل هناك صوت يرتفع ضدّ كلّ مخطَّطات إسرائيل؟ بالعكس، الآن عندهم جدل حول مسألة الانسحاب من الجولان أو عدم الانسحاب منه، أو الانسحاب من جنوب لبنان أو عدم الانسحاب منه، هناك أكثريَّة موجودة في داخل المجتمع اليهوديّ ترفض الانسحاب وتريد أن تبقى تقاتل، أمَّا العرب، فهرولوا كلّهم إلى إسرائيل، كما حضروا جنازة المجرم رابين، الَّذي يحمل في عنقه دماء عشرات الألوف من العرب والمسلمين. مع أنَّ اليهود ماذا يمثّلون في العالم؟! ومع ذلك، وقفوا عند باطلهم، وتفرَّقنا عند حقّنا، كانوا كما حدّثنا الله عنهم: {بَأْسُهُم بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ ۚ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّىٰ}[الحشر: 14]، وكنّا {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ}[الفتح: 29]، فانقلبت الآية، صاروا أشدَّاء علينا ورحماء بينهم، وبأسنا بيننا شديد، نقاتل بعضنا بعضاً. عندما تبدَّلت الأخلاق، تبدَّلت المواقع.
يجب أن يكون لدينا ثقة بأنفسنا، بأنَّ هذه التحدّيات السياسيَّة والاقتصاديَّة والعسكريَّة، هي تحدّيات لها ما بعدها، وسوف تطاول أولادنا، كيف يعيشون؛ هل يعيشون أحراراً في بلادهم، أم تحت سيطرة المستكبرين والمحتلّين؟!
خطّة أمريكا للمنطقة
إنَّ أمريكا تريد أن تحوّل المنطقة إلى منطقة أمريكيَّة ليس فيها إلَّا مصالحها، وإذا كنَّا نريد مصالحنا، فلا بدَّ أن تنسجم مع مصالحها. الآن، لماذا تقف أمريكا الآن بقوَّة ضدّ الجمهوريَّة الإسلاميَّة في إيران؟! السبب الأساسي هو أنَّ إيران تريد أن تكون مستقلَّة في اقتصادها وسياستها وأمنها، وتريد أن تنفتح على محيطها، ليكون محيطها الإسلاميّ والعربيّ محيطاً يعيش الاستقلال في سياسته واقتصاده وأمنه، بعيداً من مطامع المستكبرين. هذا هو كلّ ذنب إيران، أنَّها تريد أن تكون مستقلَّة، وأن تتعاون مع الدول الأخرى تعاون القويّ مع القويّ، وليس تعاون الضّعيف مع القويّ، لكنَّ أمريكا تريد لها أن تسقط تحت تأثير سياستها، كما تريد لأيّ دولة أخرى تتحرَّك في هذا الاتجاه.
إنَّ هذه الجمهوريَّة الإسلاميَّة الفتيّة الّتي تهتدي بهدى الإسلام، نسمع مسؤوليها في كلّ يوم يتحدّثون مع محيطهم، مع دول الخليج، أنَّنا نريد علاقات طيّبة وحسنة، ونريد لشعوب الخليج أن تحمي الخليج من كلّ عدوان، لا أن تأتي أمريكا وأوروبّا لتلتزم حماية دول الخليج، لأنّها إنّما تأتي لتبتزّ شعوبها؛ لتبتزَّها اقتصاديّاً وسياسيّاً وأمنيّاً، وهذا ما لاحظناه عندما استغلَّت الواقع الذي تعيشه دول الخليج، ففرضت عليهم كثيراً من الصَّفقات العسكريَّة والاقتصاديَّة الَّتي لا يحتاجون إليها، لأنَّهم يريدون أن يحلّوا مشكلة المواطن الأمريكي والمواطن البريطاني على حساب رخاء المواطن الخليجي. ولذلك، نرى دول الخليج لأوَّل مرّة تعيش عجزاً في الميزانيَّة، وعجزاً عن وفاء الدّيون الّتي عليها. فمتى كانت دول الخليج تعيش هذا الوضع؟! لقد كانت تعيش فيضاناً في الميزانيَّة، وكانت تقرض روسيا وفرنسا ودولاً كبرى، الآن أصبحت هي الَّتي تستقرض من خلال الصَّفقات الَّتي دخلتها بالمليارات... كلّ يوم نسمع عن صفقة العصر لهذه الدَّولة الخليجيَّة أو تلك مع بريطانيا وأمريكا، وهكذا.
لذلك، تريد إيران لشعوب الخليج أن تعيش استقلالها في إدارة سياستها واقتصادها وثرواتها. قبل عدّة أيّام، أتى وزير الدفاع الأمريكي خلال جولته إلى المنطقة، والفكرة الَّتي أراد أن يركّزها في أذهان شعوب الخليج، هي أنَّ عدوّكم إيران، وأنَّ عليكم أن تستعدّوا وتشتروا أحدث الأسلحة لمواجهتها، وأنها – أي أمريكا - مستعدَّة لأن تدخل في معاهدات مع كلّ دولة خليجيَّة، وطبعاً الدّولة الخليجيّة هي الَّتي تدفع ثمن المعاهدة، وثمن كلّ الأسلحة، على أساس أنّها ضدّ إيران.
النّزاع بين الخليج وإيران!
ماذا فعلت إيران لتحارَب؟ يقولون المشكلة في قضيّة الجزر الثلاث، والتي هي محلّ نزاع، فإيران تقول إنها تاريخيّاً لها، ودولة الإمارات تقول إنّها لها، وهذا لا يجعل من إيران عدوّاً، وإلَّا الآن هناك نزاع بين قطر والبحرين حول جزيرة تقول البحرين إنّها جزيرة بحرينيّة، وتقول قطر إنّها قطريّة، فلماذا لا تقف دول مجلس التعاون ضدّ قطر أو البحرين، باعتبار أنَّ هذه أخذت من تلك، وتلك أخذت من هذه؟ وهناك أيضاً مشكلة بين اليمن وإرتريا حول جزيرة حبيش، فاليمن تدّعي أنّها لها، وأريتريا تدَّعي أنّها لها أيضاً، فلا ينبغي أن يقال لليمن أن تجهّز الجيوش وتعتبر إرتريا عدوّاً، أو العكس.
فلماذا مجرَّد هذا النّزاع بين إيران والإمارات، نعتبر أنَّ إيران هي عدوّ للعرب، وهي عدوّ لدول التَّعاون؟ مع أنَّ هذه مسألة خلافيَّة قد تحلّ بمفاوضات ثنائيَّة أو بأيّ طريقة، وبعض القضايا الكبرى تمثّل مصلحة إيران والخليج. فإيران هي أكبر دولة خليجيَّة، وهناك ألف كيلومتر من إيران على الخليج.
نحن لا نريد أن نتعصَّب لإيران، ربما يقول بعض النّاس إنّنا نتعصَّب لإيران لأنّها شيعيّة، ليس الأمر هكذا، وإنّما ندعمها لأنّها تحمل لواء الإسلام، وليس لنا شغل بإيران الفارسيّة، بل بإيران الإسلاميَّة، فما دامت على الإسلام فنحن معها، لأنَّنا مع الإسلام في كلّ مكان، وهي مع الإسلام؛ قيادتها قيادة إسلاميّة، ومسؤولوها أيضاً إسلاميّون، وهم ينفتحون على العالم الإسلاميّ.
دعمٌ مطلق لإسرائيل!
وهكذا، عندنا نواجه أيضاً الواقع الأمريكيّ، عندنا يتحرَّك في تحالف استراتيجيّ ضدَّ الواقع العربيّ. يعني الآن المفاوضات جارية، فماذا تفعل أمريكا؟ في كلّ مرحلة من المراحل، تحاول أن تحصّن إسرائيل بأحدث الأسلحة، في الوقت الَّذي تطوف العالم حتَّى لا تسمح لأيّ دولة بأن تبيع أسلحة للعرب، ولا سيّما لسوريا. لماذا؟ فإذا كان عندكم توازن، وإذا كانت المسألة أنَّ الراعي الأمريكيّ، كما يسمّونه، يقف على أساس عادلٍ متساو بين سوريا وإسرائيل، فلماذا تزوّدون إسرائيل بأحدث الأسلحة، وتحاصرون سوريا حتَّى لا تستورد أيَّ سلاح؟ فإذا كان هناك توازن، فهذه تريد أن تحمي نفسها من الأخرى، وتلك أيضاً تحتاج أن تحمي نفسها...
الآن، تريد أمريكا لإسرائيل أن تكون دولة محصَّنة وقلعة محصَّنة، وأن يكون العالم العربي سوقاً مفتوحة أمامها، فهي تعطي إسرائيل أحدث الأسلحة، وتضغط على العرب حتَّى يرفعوا المقاطعة الاقتصاديَّة عن إسرائيل، وتعمل إسرائيل بالتَّعاون مع أمريكا على أساس أن يكون العالم العربيّ سوقاً مفتوحة لها من جميع الجهات، حتَّى تتطوَّر صناعيّاً على حساب العرب، يعني أن ننتقل من استعمار أمريكيّ وأوروبيّ، إلى استعمار إسرائيليّ اقتصاديّ، وإن لم يكن هناك استعمار سياسيّ أو جغرافيّ. هذه هي المشكلة الَّتي تواجهنا أمام الواقع الأمريكيّ الذي يتحرَّك في هذه الحالة.
سلامٌ لصالحِ العدوّ؟!
الآن، المطلوب في هذا المقام مما يسوَّق له، هو أن يكون هناك سلامٌ مفتوحٌ على كلّ العرب، فإسرائيل تقول إنّنا نريد أن نتقدَّم بالمفاوضات مع سوريا، على أساس أن تضمن سوريا سلام كلّ العرب، بحيث يجلس كلّ العرب على الطّاولة، وليس فقط سوريا ولبنان وإسرائيل، بشرط أن تكون هناك ترتيبات أمنيَّة في سوريا ولبنان، بحيث تحدّد حريَّة كلّ دولة في حركتها على جانبي الحدود، ولم ننس بعد اتّفاق 17 أيَّار الَّذي كان ينصّ على منع الطيران اللّبنانيّ من أن يتحرَّك في الجنوب إلَّا على أساس التَّنسيق مع إسرائيل، حتَّى الطَّيران المدني.
فالمسألة هي مسألة التَّخطيط من خلال ما يسمّونه السَّلام، لتكون إسرائيل القوَّة الكبرى في المنطقة، وتكون الدّول العربيَّة هي القوى الضَّعيفة فيها، حتَّى يمكن لإسرائيل أن تتصرَّف في اقتصاد المنطقة وأمنها وسياستها بحسب مصالحها.
إنَّ أمريكا تهدّد الآن بالوقت، فعندما يتحدَّث وزير الخارجيَّة الأمريكيّ الّذي جاء الآن إلى المنطقة، يتحدَّث عن أنَّ الوقت يحاصِر المفاوضات، ولذلك لا بدَّ أن تتقدَّم المفاوضات، كما يقول، والخطاب موجَّه إلى سوريا ولبنان، وليس موجَّهاً إلى إسرائيل، لأنَّ الأمريكيّين لا يوجّهون أيّ ضغط على إسرائيل، وأنَّ الانتخابات الأمريكيَّة والإسرائيليَّة تحاصر واقع المفاوضات، لأنّ الأمريكيّين والإسرائيليّين سوف ينشغلون بالانتخابات على المفاوضات، ولذلك لا بدَّ أن تسلق المفاوضات، حتَّى إذا جاءت الانتخابات، يكون الجميع مرتاحين في هذا الموضوع. هذه هي المقولة الأمريكيَّة الجديدة في هذا الموضوع.
التّخطيط للمستقبل
لذلك، أيُّها الأحبَّة، لا بدَّ لنا أن ننظر إلى المستقبل بقوّة، القوم يخطّطون لمستقبل يكونون فيه الأقوياء علينا، وعلينا أن نخطّط لمستقبلٍ نملك فيه القوَّة، وإذا كنَّا نعيش بعض نقاط الضّعف الآن، فعلينا أن نعمل على أن نخطّط لننمّي قوَّتنا بطريقة وبأخرى، وذلك بالسَّيطرة على كلّ عوامل الضّعف الَّتي تفتك بمجتمعاتنا وبكلّ أوضاعنا.
إنَّنا عندنا ننظر إلى الكثيرين من هؤلاء الَّذين يحكمون العالم العربي، نجد أنهم قادوا أمَّتهم إلى الهزيمة، فتاريخهم تاريخ الهزائم، وتاريخ العنف الموجَّه ضدَّ شعوبهم، وهم يريدون أن يفرضوا نتائج هذه الهزائم على أجيال المستقبل، ونحن نقول إنَّ من قاد أمَّته إلى هزائمها، كيف يمكن أن يقودها إلى الانتصارات؟! هم لا يفهمون معنى النَّصر، لأنهم أدمنوا الهزيمة، ولذلك فإنهم تحوَّلوا من أن يكونوا قادةً يضغطون على العدوّ الّذي احتلّ الأرض، وسيطر على الواقع، إلى أن يكونوا قادة يحاربون شعوبهم، ويفرضون عليهم قوانين الطَّوارئ، ويفرضون عليهم كلّ الظّلم والحصار الّذي يتحرّكون فيه.
وهذه هي مشكلتنا في هذا الواقع الَّذي نعيشه، إنَّ الكثيرين من الناس يتحدثون عن الأمر الواقع على أساس أنَّه القضاء والقدر، ولذلك يقولون لا بدَّ أن نسلّم، لأنَّ السيّد الأمريكيَّ قادم، ولأنَّ السيّد الإسرائيليَّ قادم، وعلينا أن نكون واقعيّين، لأنَّ هناك قضاءً وقدراً إسرائيليّاً وأمريكيّاً، هناك أناسٌ يسقطون تحت تأثير المستكبرين على أنَّه الاعتدال، ويقفون ضدّ دعاة التَّغيير على أساس أنهم المتطرّفون. هذا هو المنطق الَّذي يحاولون أن يسوّقوه في واقعنا من مواقع دينيَّة وسياسيَّة واجتماعيَّة.
مواجهة الواقع بالصّدق
أيُّها الأحبَّة، إنَّنا عندنا نواجه الواقع في بلدنا وفي المنطقة، فإنّنا نريد لكلمات الصّدق أن تتحرَّك في واقعنا، لأنَّ المشكلة الَّتي نعيشها، أنَّ كثيراً من النَّاس في هذا الجوّ الَّذي نعيشه، يعتبرون أنَّ النّفاق سياسة، وأنَّ اللَّعب على الكلمات دبلوماسيَّة، وأنَّ التكاذب السياسيَّ وفاق وطنيّ، وأنَّ الصَّراحة في المواقف تهديد للوحدة. إنَّ الكثيرين منّا يخافون من الصّدق أن يكون عنوان الواقع، لأنَّ البلد الَّذي بني على الحساسيّات، ويخشى على الحساسيَّات الطَّائفيَّة والمذهبيَّة والعرقيَّة والمذهبيَّة، يخشى من أن يهتزَّ أمام كلمات الصّدق.
نحن نقول إنَّ على النَّاس أن يتحدَّث بعضهم مع بعض بصدق، لأنَّ الصّدق هو الّذي يعرّفنا ما هو الواقع، وكيف ندير خلافاتنا، وكيف نركّز وفاقنا، وكيف نتحرَّك نحو المستقبل.
لماذا تتحوَّل الصَّراحة إلى نذير حرب للواقع؟! نحن نخاف أن يصارح بعضنا بعضاً، ولذلك نحاول أن يكذب بعضنا على بعض، ثمَّ يرجع كلّ واحد منّا إلى جماعته، كما قال الله: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ}[البقرة: 14]، يقولون نحن نجاملهم ونسخر منهم، أليس هذا الواقع الَّذي نعيشه؟ هذا دليل على أنَّنا لا نزال نعيش التخلّف والتكاذب ونخاف من الحقيقة، لأنَّ هناك أكثر من سجَّان للأفكار وللمواقف، ممن لا يريد للحقيقة أن تعبّر عن نفسها.
أيُّها الأحبَّة، إنَّ علينا أن لا نكون كالنَّعامة الَّتي تخفي رأسها في الرمال حتَّى لا ترى الصيَّاد، ولكنَّ الصيَّاد يحدّق بها. إنَّ هناك أكثر من صيَّاد دوليّ وإقليميّ يريد أن يصطاد عزَّتنا وكرامتنا وحرَّيتنا واقتصادنا، فهل نستسلم للصيَّادين الكبار، أم نقف لنحمي أنفسنا من كلّ بنادقهم ومخطَّطاتهم؟!
القوَّة بثبات الموقف
أيُّها الأحبَّة، جمّدوا كلَّ خلافاتكم العائليَّة والحزبيَّة والطائفيَّة والمذهبيَّة، لأنَّ الواقع الَّذي نعيش فيه، والمرحلة الَّتي نقبل عليها، سواء أتمت التسوية أم لم تتمّ، هو واقع تتغيَّر فيه الكثير من الأمور، وتهتزّ فيه الكثير من المواقع، وتسقط فيها الكثير من الرّؤوس. لذلك، لن يبقى إلّا الرأس الذي يفكّر بقوَّة على أساس العدل والحريّة، ولن تبقى إلَّا المواقف والمواقع الَّتي تركّز على ثبات الموقف.
أيُّها الأحبَّة، أيُّها اللّبنانيّون، أيّاً كانت أديانكم، وأيّاً كانت مذاهبكم، وأيّاً كانت سياستكم ومواقعكم، إنَّكم لا تزالون تتحركون على أساس التَّكاذب السياسي والتَّكاذب الاجتماعي، إنَّ عليكم أن تواجهوا استحقاقات المرحلة، لا استحقاقات القضايا الشَّخصيَّة، لأنَّ الرياح العاصفة عندما تأتي، فإنها ستسقط الكثير من الأشجار، إذا لم يكن أصلها ثابتاً وفرعها في السَّماء، وستسقط الكثير من المواقع.
لذلك، صلّبوا مواقفكم، ثبّتوا أرضكم، حدّقوا بالمستقبل، لأنَّكم لا تزالون في لعبة أطفال سياسيَّة واجتماعيَّة، تماماً كما هم الأطفال عندما يتقاتلون على كوخ يبنيه هؤلاء على الشَّاطئ، ويبنيه أولئك على الشَّاطئ، ثمَّ تأتي الموجة، وتذهب كلّ الأكواخ، ولا يبقى هناك شيء. هل هذا هو المستقبل؟!
*خطبة الجماعة لسماحته، بتاريخ: 12/01/1996.