بين الدّين والأخلاق

بين الدّين والأخلاق

الوحي عندنا مصدر من مصادر الأخلاق، ويكفي في الدّلالة على ذلك، أنّ الأخلاق كلّها سلوك وعمل، حتى ضبط النفس، فإنّه نوع من العمل، ونحن نهتدي بكتاب الله وسنّة نبيّه في سلوكنا معه سبحانه ومع الأسرة والمجتمع وسائر الكائنات، وأيضاً كلٌّ من دعوة الإسلام وعلم الأخلاق إنسانيّة عالميّة لا تتقيّد بزمان أو مكان ولا بأمّة أو طائفة.

وإن كان هناك من فرق، فهو أنّ مفهوم الأخلاق لا يدخل فيه فكر مجرد ونظر محض في حال من الأحوال. أمّا مفهوم الدين، فإنّه يعمّ ويشمل الفكر والإيمان الّذي لا يستدعي أيّ شعار أو جهد وأثر تراه الأبصار وتمسّه الأيدي، كالاعتقاد بوجود الجنّ والملائكة، حيث ورد ذكرهما في القرآن الكريم.

هذا أوّلاً. وثانياً، إن مبادئ الدين وتعاليمه لا تكون ولن تكون إلا بوحي من السماء، أمّا مبادئ الأخلاق وقيمها، فتكون بوحي من الله سبحانه، وبوحي من الفطرة النقية وجوهر الإنسانية، بل إنّ كثيراً من الفلاسفة ربط الأخلاق بالطبيعة البشرية وحدها، واعتبرها ظاهرة إنسانية لا صلة لها بالدين على الإطلاق، وإن التقت معه على صعيد واحد في كثير من المبادئ والأحكام.

أمّا نحن ـ فكما أشرنا ـ نؤمن ونعتقد أنّ الأخلاقي يحتكم إلى دينه وضميره معاً، وأنّ العلاقة بين محكمة الدين ومحكمة الضّمير هي علاقة التعاضد والتّآزر، وأن حكم إحداهما يزيد حكم الثّانية قوّة وإبراماً وثباتاً وإحكاماً.

ويأتي في فصل المسؤوليّة، أنّ المسؤولية الدينية تتحوّل حتماً إلى المسؤولية الأخلاقية الطبيعية في نفس المؤمن، لأنّ الإيمان والضمير كلاهما من الحقائق الكامنة في ذات الإنسان وأعماقه لا في خارجه.

بين عالم الدين وعالم الضمير

ولا شيء أصدق في الدلالة على الصلة القويّة الوثيقة بين أخلاقية الدين وأخلاقية الضمير، من قوله تعالى: {يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ* إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}[الشّعراء: 88-89]، {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى}[الكهف: 13]، {فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللهُ مَرَضاً}[البقرة: 10]. وقال سيّد الكونين(ص): "إذا أراد الله بعبد خيراً، جعل له واعظاً من نفسه يأمره وينهاه"، وقال الإمام أمير المؤمنين(ع): "من لم يعن على نفسه حتى يكون له منها واعظ وزاجر، لم يكن له من غيرها زاجر وواعظ". والمراد بالواعظ هنا وهناك، الضمير الأخلاقيّ الّذي يضبط النّفس عن الهوى.

والآن، تعال معي لنستمع إلى أنشودة الأناشيد، إلى نشوة الرّوح من عطر هذا الإمام العابد زين العابدين(ع)، حيث يقول بقلب واجف خافق:

"اللّهمّ خذ لنفسك من نفسي ما يخلّصها، وأبق لنفسي من نفسي ما يصلحها، فإنّ نفسي هالكة أو تعصمها".

معضلة مشكلة تأخذ بالخناق: كيف ينتشل الإنسان عدوّه من ذاته، ويطهّرها منه والمفروض أنّ عدوّه هو ذاته لا غيرها؟ وهل من سبيل إلى الفرار إذا كان الحصار من الداخل؟ أبداً لا مناص ولا خلاص إلا أن يغيّر هذا الإنسان ذاته، فيهدمها من الأساس ويبنيها من جديد، كما جاء في الآية 11 من الرّعد: {إِنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ}، بحيث يصبح الإنسان جديداً وضميراً رشيداً يسير على هديه، ويعيش في ظلّ الله وظلّه.

إلى الله تُرجع الأمور

سبقت الإشارة أنّ بين أخلاقية الدين وأخلاقية الضمير صلة وثيقة وقويّة، ويمكن القول بأنهما شيء واحد بالنظر إلى المصدر؛ إنّ الله سبحانه هو الذي شرع الدين وأنزل الوحي، وأيضاً هو الذي خلق الضّمير والعقل، وأودع فيه ملكة التّمييز بين الخير والشرّ {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ}[البلد: 10].

ومن جهة ثانية، فإن العقل يأمر بطاعة الله، ويوجب ما أوجب ويحرّم ما حرّم. ومن هنا، اتفق الشيعة على أنّ كلّ ما حكم به الشّرع يحكم به العقل، وكلّ ما حكم به العقل يحكم به الشّرع، وقالوا: إنّ العقل بيان من الداخل، والشّرع بيان من الخارج، وأيضاً قالوا: "السمعيات ألطاف في العقليات".

وأرادوا بهذه الجملة أنّ الأحكام العقلية بمجرّدها لا تبعث على فعل الخير وترك الشّر، فجاء الوحي مؤازراً لها ومناصراً بالتّأكيد والتأييد تارة، وبالوعد والوعيد تارة أخرى، وسموا هذه المؤازرة والمناصرة بقاعدة اللّطف.

ونستخلص من كلّ ما تقدّم، أن من فعل الخير وهو مؤمن بالله، كان فعله هذا دينياً وأخلاقياً في آن واحد، وإن يك من الجاحدين نظرنا: فإن كان من الذين يعترفون ويؤمنون بالأخلاق وواقعها وقيمها وأصولها، كان فعله للخير أخلاقياً لا دينياً، وإن كان لا يؤمن بشيء على الإطلاق، فعمله لا ديني ولا أخلاقي، بل هباء وهواء، لأنه حالة من حالات الفوضى واللامبالاة، حيث لا قياس ومنهج ولا نظام ومبدأ.

والخلاصة، أن الدين يعتبر العمل بمبدأ العدالة الإنسانيّة والأحكام العقليّة الفطريّة نوعاً من طاعة الله وشريعته، كما أنّ العقل والضمير الحيّ يرى العمل بأحكام الله وشريعته نوعاً من العمل بمبادئ الأخلاق وقيمها.

*من كتاب "فلسفة الاخلاق في الإسلام".

الوحي عندنا مصدر من مصادر الأخلاق، ويكفي في الدّلالة على ذلك، أنّ الأخلاق كلّها سلوك وعمل، حتى ضبط النفس، فإنّه نوع من العمل، ونحن نهتدي بكتاب الله وسنّة نبيّه في سلوكنا معه سبحانه ومع الأسرة والمجتمع وسائر الكائنات، وأيضاً كلٌّ من دعوة الإسلام وعلم الأخلاق إنسانيّة عالميّة لا تتقيّد بزمان أو مكان ولا بأمّة أو طائفة.

وإن كان هناك من فرق، فهو أنّ مفهوم الأخلاق لا يدخل فيه فكر مجرد ونظر محض في حال من الأحوال. أمّا مفهوم الدين، فإنّه يعمّ ويشمل الفكر والإيمان الّذي لا يستدعي أيّ شعار أو جهد وأثر تراه الأبصار وتمسّه الأيدي، كالاعتقاد بوجود الجنّ والملائكة، حيث ورد ذكرهما في القرآن الكريم.

هذا أوّلاً. وثانياً، إن مبادئ الدين وتعاليمه لا تكون ولن تكون إلا بوحي من السماء، أمّا مبادئ الأخلاق وقيمها، فتكون بوحي من الله سبحانه، وبوحي من الفطرة النقية وجوهر الإنسانية، بل إنّ كثيراً من الفلاسفة ربط الأخلاق بالطبيعة البشرية وحدها، واعتبرها ظاهرة إنسانية لا صلة لها بالدين على الإطلاق، وإن التقت معه على صعيد واحد في كثير من المبادئ والأحكام.

أمّا نحن ـ فكما أشرنا ـ نؤمن ونعتقد أنّ الأخلاقي يحتكم إلى دينه وضميره معاً، وأنّ العلاقة بين محكمة الدين ومحكمة الضّمير هي علاقة التعاضد والتّآزر، وأن حكم إحداهما يزيد حكم الثّانية قوّة وإبراماً وثباتاً وإحكاماً.

ويأتي في فصل المسؤوليّة، أنّ المسؤولية الدينية تتحوّل حتماً إلى المسؤولية الأخلاقية الطبيعية في نفس المؤمن، لأنّ الإيمان والضمير كلاهما من الحقائق الكامنة في ذات الإنسان وأعماقه لا في خارجه.

بين عالم الدين وعالم الضمير

ولا شيء أصدق في الدلالة على الصلة القويّة الوثيقة بين أخلاقية الدين وأخلاقية الضمير، من قوله تعالى: {يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ* إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}[الشّعراء: 88-89]، {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى}[الكهف: 13]، {فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللهُ مَرَضاً}[البقرة: 10]. وقال سيّد الكونين(ص): "إذا أراد الله بعبد خيراً، جعل له واعظاً من نفسه يأمره وينهاه"، وقال الإمام أمير المؤمنين(ع): "من لم يعن على نفسه حتى يكون له منها واعظ وزاجر، لم يكن له من غيرها زاجر وواعظ". والمراد بالواعظ هنا وهناك، الضمير الأخلاقيّ الّذي يضبط النّفس عن الهوى.

والآن، تعال معي لنستمع إلى أنشودة الأناشيد، إلى نشوة الرّوح من عطر هذا الإمام العابد زين العابدين(ع)، حيث يقول بقلب واجف خافق:

"اللّهمّ خذ لنفسك من نفسي ما يخلّصها، وأبق لنفسي من نفسي ما يصلحها، فإنّ نفسي هالكة أو تعصمها".

معضلة مشكلة تأخذ بالخناق: كيف ينتشل الإنسان عدوّه من ذاته، ويطهّرها منه والمفروض أنّ عدوّه هو ذاته لا غيرها؟ وهل من سبيل إلى الفرار إذا كان الحصار من الداخل؟ أبداً لا مناص ولا خلاص إلا أن يغيّر هذا الإنسان ذاته، فيهدمها من الأساس ويبنيها من جديد، كما جاء في الآية 11 من الرّعد: {إِنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ}، بحيث يصبح الإنسان جديداً وضميراً رشيداً يسير على هديه، ويعيش في ظلّ الله وظلّه.

إلى الله تُرجع الأمور

سبقت الإشارة أنّ بين أخلاقية الدين وأخلاقية الضمير صلة وثيقة وقويّة، ويمكن القول بأنهما شيء واحد بالنظر إلى المصدر؛ إنّ الله سبحانه هو الذي شرع الدين وأنزل الوحي، وأيضاً هو الذي خلق الضّمير والعقل، وأودع فيه ملكة التّمييز بين الخير والشرّ {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ}[البلد: 10].

ومن جهة ثانية، فإن العقل يأمر بطاعة الله، ويوجب ما أوجب ويحرّم ما حرّم. ومن هنا، اتفق الشيعة على أنّ كلّ ما حكم به الشّرع يحكم به العقل، وكلّ ما حكم به العقل يحكم به الشّرع، وقالوا: إنّ العقل بيان من الداخل، والشّرع بيان من الخارج، وأيضاً قالوا: "السمعيات ألطاف في العقليات".

وأرادوا بهذه الجملة أنّ الأحكام العقلية بمجرّدها لا تبعث على فعل الخير وترك الشّر، فجاء الوحي مؤازراً لها ومناصراً بالتّأكيد والتأييد تارة، وبالوعد والوعيد تارة أخرى، وسموا هذه المؤازرة والمناصرة بقاعدة اللّطف.

ونستخلص من كلّ ما تقدّم، أن من فعل الخير وهو مؤمن بالله، كان فعله هذا دينياً وأخلاقياً في آن واحد، وإن يك من الجاحدين نظرنا: فإن كان من الذين يعترفون ويؤمنون بالأخلاق وواقعها وقيمها وأصولها، كان فعله للخير أخلاقياً لا دينياً، وإن كان لا يؤمن بشيء على الإطلاق، فعمله لا ديني ولا أخلاقي، بل هباء وهواء، لأنه حالة من حالات الفوضى واللامبالاة، حيث لا قياس ومنهج ولا نظام ومبدأ.

والخلاصة، أن الدين يعتبر العمل بمبدأ العدالة الإنسانيّة والأحكام العقليّة الفطريّة نوعاً من طاعة الله وشريعته، كما أنّ العقل والضمير الحيّ يرى العمل بأحكام الله وشريعته نوعاً من العمل بمبادئ الأخلاق وقيمها.

*من كتاب "فلسفة الاخلاق في الإسلام".

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية