كان العصر الجاهليّ مسرحاً للمآسي والأرزاء، في مختلف مجالاته ونواحيه الفكريَّة
والمادّيّة، وكان من أبشع مآسيه، ذلك التسيب الخُلقي، والفوضى المدمّرة، ممّا
صيّرهم يُمارسون طباع الضواري، وشريعة الغاب والتناكر والتناحر، والفتك والسلب،
والتشدق بالثأر والانتقام .
فلما أشرق فجر الإسلام، وأطلّ بأنواره على البشريّة، استطاع بمبادئه الخالدة،
ودستوره الفذّ، أنْ يُطبّ تلك المآسي، ويحسِم تلك الأوزار، فأنشأ مِن ذلك القطيع
الجاهليّ: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ}[آل عمران: 110]، عقيدةً
وشريعةً، وعِلماً وأخلاقاً .
فأحلّ الإيمان محلّ الكُفر، والنظام محلّ الفوضى، والعِلم محلّ الجهل، والسَّلام
محلّ الحرب، والرّحمة محلّ الانتقام .
فتلاشت تلك المفاهيم الجاهليّة، وخلَفتها المبادئ الإسلاميّة الجديدة، وراح النبيّ
(صلّى الله عليه وآله) يبني ويُنشئ أُمّةً مثاليّةً تَبُذُّ الأُمَمَ نظاماً
وأخلاقاً وكمالاً .
وكلّما سار المسلمون أشواطاً تحت راية القرآن، وقيادة الرسول الأعظم (صلّى الله
عليه وآله)، توغّلوا في معارج الكمال، وحلقوا في آفاق المكارم، حتّى حقَّقوا مبدأ
المؤاخاة بأُسلوب لم تحقّقه الشّرائع والمبادئ، وأصبحت أواصر العقيدة أقوى من أواصر
النّسَب، ووشائج الإيمان تسمو على وشائج القوميّة والقبَليّة، وغدا المسلمون أُمّةً
واحدة، مرصوصةَ الصّفّ، شامخة الصّرح، خفّاقة اللّواء، لا تُفرّقهم النعرات
والفوارق: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى
وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ
الله أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13].
وطفق القرآن الكريم يَغرِس في نفوس المسلمين مفاهيم التآخي الروحي، مركّزاً على ذلك
بآياته العديدة وأساليبه الحكيمة الفذّة .
فمرّةً شرّع التآخي ليكون قانوناً للمسلمين: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ
فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا الله لَعَلَّكُمْ
تُرْحَمُونَ}[الحجرات: 10].
وأُخرى يؤكّد عليه، محذِّراً من عوامل الفرقة، ومذكّراً نعمة التّآلف والتآخي
الإسلامي، بعد طول التّناكر والتّناحر الجاهليَّين: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ الله
جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ
أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} [آل
عمران: 103].
وهكذا، جهد الإسلام في تعزيز التآخي الرّوحيّ وحِماه مِن نوازِع الفرقة والانقسام،
بما شرّعه من دستور الرّوابط الاجتماعيَّة في نظامه الخالد .
وإليك نموذجاً من ذلك:
1 - تسامى بشعورِ المسلمين وعواطفهم، أنْ تسترقها النعرات العصبيّة، ونزعاتها
المُفرّقة ووجّهها نحو الهدف الأسمى مِن طاعة الله تعالى ورضاه: فالحبّ والبغض،
والعطاء والمنع، والنّصر والخذلان، كلّ ذلك يجب أنْ يكون لله عزَّ وجلّ، وبذلك
تتوثّق عرى المؤاخاة وتتلاشى النزعات المُفرّقة، ويغدو المسلمون كالبنيان المرصوص،
يَشُدّ بعضُه بعضاً .
وإليك قبَساً مِن آثار أهل البيت (عليهم السلام) في هذا المقام:
عن الباقر (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): "ودّ المؤمن
للمؤمن في الله، من أعظم شعب الإيمان، ألا ومن أحبّ في الله، وأبغض في الله، وأعطى
في الله، ومنع في الله، فهو من أصفياء الله".
وقال الصادق (عليه السلام): "إنّ المتحابّين في الله يوم القيامة، على منابرَ من
نور، قد أضاء نورُ وجوهِهم، ونورُ أجسادِهم، ونورُ منابرهِم، كلّ شيءٍ، حتّى
يُعرفوا به، فيُقال هؤلاء المتحابّون في الله".
وقال عليّ بن الحسين (عليه السلام): "إذا جمَع الله عزَّ وجلَّ الأوّلين والآخرين،
قام منادٍ يُنادي بصوتٍ يسمَع النّاس، فيقول: أين المتحابّون في الله؟ قال: فيقوم
عُنُق من الناس، فيقال لهم: اذهبوا إلى الجنّة بغير حساب".
قال: "فتلقّاهم الملائكة فيقولون: إلى أين؟ فيقولون: إلى الجنَّة بغير حساب".
قال: فيقولون: "فأيّ ضربٍ أنتم مِن النّاس؟ فيقولون: نحن المتحابّون في الله،
فيقولون: وأيّ شيءٍ كانت أعمالكم؟ قالوا: كنّا نحبّ في الله، ونبغض في الله. قال:
فيقولون: نِعم أجرُ العاملين".
وقال الصّادق (عليه السلام): "كلّ مَن لم يحبّ على الدّين، ولم يَبغض على الدّين،
فلا دِين له".
وعن جابر الجعفي عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: "إذا أردت أنْ تعلم أنَّ فيك خيراً
فانظر إلى قلبِك، فإنْ كان يُحبُّ أهل طاعة الله، ويبغَض أهل معصيته، ففيك خير،
والله يحبّك، وإنْ كان يبغض أهل طاعة الله ويحبّ أهل معصيته، فليس فيك خير، والله
يبغضك، والمرء مع مَن أحَبّ".
2 - رغّب المسلمين فيما يؤلّفهم، ويحقِّق لهم العزَّة والرّخاء، كالتّواصي بالحقّ،
والتعاون على البِرّ، والتّناصر على العدل، والتّكافل في مجالات الحياة الاقتصاديّة،
فهم في عُرف الشَّريعة أسرةٌ واحدة، يسعدها ويشقيها ما يسعد أفرادها ويشقيهم .
دستورها: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ الله وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ
رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ } [الفتح: 29].
وشعارها قول الرّسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله): "مَن أصبَح لا يهتمّ بأُمور
المسلمين فليسَ بمُسلم".
3 - حذَّر المسلمين ممّا يبعَث على الفُرقة والعداء، والفحش والبذاء والاغتياب،
والنميمة والخيانة والغشّ، ونحوها مِن مثيرات الفتن والضّغائن، ومبدأهم في ذلك قول
النبيّ (صلّى الله عليه وآله): "المؤمن من أمنه النّاس على أموالهم ودمائهم،
والمسلم من سلم المسلمون من يده ولسانه، والمهاجر مَن هجَر السيّئات".
4 - أتاح الفُرَص لإنماء العلاقات الودّية بين المسلمين، كالحثّ على التّزاور،
وارتياد المحافل الدينيّة، وشهود المجتمعات الإسلاميَّة، كصلاة الجماعة ومناسك الحجّ،
ونحو ذلك.