الكلُّ مكشوف أمام الله تعالى

الكلُّ مكشوف أمام الله تعالى

يحثّنا القرآن الكريم على الدوام أن نضع في عقولنا وقلوبنا الإحساس بالرقابة الإلهيّة، وألا نعتبر أنَّ أسرارنا مودَعةٌ في صندوق مقفل داخل صدورنا، بحيث لا يستطيع أن يطّلع عليها أحد، فيقول سبحانه: {للهِ ما فِي السَّمَاواتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[البقرة: 284].

فإذا كنت تستطيع أن تُغلق صدرك عمّا في داخله عن النّاس، فهل تستطيع أن تُغلقه وتحجبه عن الله تعالى؟ فالله تعالى مطّلعٌ على الإنسان في خفاياه، كما هو يعرف علانيته {إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى}[الأعلى: 7]. والله سبحانه يستر على الإنسان في الدنيا، أمّا في يوم القيامة {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ}[الطارق: 9]، فتتمزّق السرائر، ويظهر كلُّ ما يكمن فيها، فإن كان في القلب ممّا يشكّل فضيحة نتيجة الإيغال في المعاصي، فإنَّ الله يفضح الإنسان الذي خالف أوامره على رؤوس الأشهاد، وإن كان في القلب ما يشكِّل قيمة إيمانيّة وعمليّة، فإنَّ الله يجزي صاحب هذه القيمة على رؤوس الأشهاد، ولذلك قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): "ألاَ إنَّ فضوح الدنيا أهون من فضوح الآخرة"، لأنَّ يوم الآخرة {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ}، كما يبلى الثوب ويتمزّق ويظهر الجسد عارياً، هكذا تظهر الأسرار وتنكشف أمام الخلائق يوم القيامة.

وعلى هذا، فإنَّ على الإنسان أن يربّي نفسه على أنّه مراقَب في كلّ أعماله وأسراره وخفاياه، فلا يشعر بالأمان والاطمئنان، ويأخذ حريّته في التّخطيط لضرب فلان وهتك حرمة فلان، أو النَّيل من كرامته وماله وعِرضه {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لاَ يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً}[النساء: 108] يجلسون في غرفة مغلقة يخطّطون ويرسمون المؤامرات ليُلْصِقوا التّهمة ببريء، وليدمّروا شخصية رساليّة يطلقون حولها الإشاعات والأكاذيب، ويحسبون أن لا رقيب عليهم ولا حسيب، وينسون أنَّ عين الله ترى ما يخطِّطون وكيف يتحرَّكون {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}[المجادلة: 7]، فليس هناك شعورٌ بالأمان، وذاك الشّاعر يقول:

إذا ما خلوتَ الدَّهرَ يوماً فلا تَقُل خلوتُ ولكن قُلْ عليَّ رقيبُ

فالله تعالى هو الرّقيب: "وكنتَ أنتَ الرقيبَ عليَّ من ورائهم، والشّاهدَ لِمَا خَفِيَ عَنْهم" فإذا ربّينا رقابة الله في نفوسنا، فسيمنعنا ذلك من استغلال خلوّ المكان للقيام بالجريمة والإقدام على المعصية.

ويحدّثنا الإمام زين العابدين (عليه السلام) عن ذلك الرجل الذي أحسَّ برقابة الله، وهو يُقْدِم على المعصية، فمنعه ذلك من الوقوع في الحرام، فيقول (عليه السلام) لأبي حمزة الثمالي: "إنّ رجلاً ركب البحر بأهله فَكُسِرَ بهم، فلم ينجُ ممّن كان في السّفينة إلاّ امرأة الرجل، فإنّها نجت على لوح من ألواح السفينة، حتّى لجأت إلى جزيرة من جزائر البحر؛ وكان في تلك الجزيرة رجلٌ يقطع الطّريق، ولم يَدَعْ لله حرمة إلّا انتهكها، فلم يعلم إلّا والمرأة قائمة على رأسه، فرفع رأسه إليها، فقال: إنسيّة أم جنّيّة؟ فقالت: إنسيّة، فلم يكلّمها كلمةً حتّى جلس منها مجلس الرّجل من أهله ـــ أي حاول الاعتداء عليها ـــ فلمَّا أنْ هَمَّ بها اضطربت، فقال: ما لَكِ تضطربين؟ قالت: أَفْرُقُ من هذا ـــ وأومأت بيدها إلى السّماء، أي أنا أخاف الله من هذا العمل ـــ قال: فصنعتِ من هذا شيئاً؟ ـــ هل لك عهدٌ بحالة الزِّنا ـــ قالت: لا وعزّته ـــ كلّ حياتي حياة طاعة وعفَّة وخوف من الله.

قال: فأنتِ تفرقين منه هذا الفَرَق ولم تصنعي من هذا شيئاً، وإنّما أسْتَكْرِهُكِ استكراهاً ـــ مع أنّي بالإكراه أحاول فعل الفاحشة معك، ومع ذلك تخافين من الله، وأنتِ في ذلك معذورة ــــ فأنا والله أولى بهذا الفَرَق والخوف ـــ أنا مَنْ يجب أن أخاف من الله، لأنّني ما تركت معصية إلاّ وعملتها ـــ وأحقُّ منكِ ـــ موقف هذه المرأة هزَّ هذا الرّجل من أعماقه، ولذلك ـــ قام ولم يُحْدِثْ شيئاً ـــ ترك فعل الزّنا ـــ ورجع إلى أهله، وليست له همّةٌ إلاّ التوبة والمراجعة. فبينما هو يمشي، إذ صادفه راهبٌ يمشي في الطريق، فحميت عليهما الشّمس، فقال الراهب للشّابّ: ادعُ اللهَ يُظلّنا بغمامة، فقد حميت علينا الشّمس، فقال الشّابّ: ما أعلم أنّ لي عند ربّي حسنة فأتجاسر على أن أسأله شيئاً، قال: فأدعو أنا وتؤمّن أنت ـــ أي تقول: آمين ـــ قال: نعم. فأقبل الراهب يدعو والشابّ يؤمّن، فما كان بأسرعَ من أن أظلّتهما غمامة، فمشيا تحتها مليّاً من النهار، فتفرّقت الجادة جادتين ـــ أي أخذ كلٌّ من الراهب والشابّ طريقاً ـــ فأخذ الشّابّ في واحدة، وأخذ الراهب في واحدة، فإذا السحابة مع الشّاب، فقال الراهب: أنتَ خيرٌ منّي، لكَ اسْتُجِيب ولم يُسْتَجَبْ لي، فأخبرني ما قصّتك؟ فأخبره بخبر المرأة، فقال: غُفِرَ لك ما مضى حيث دخلك الخوف، فانظر كيف تكون فيما تستقبل".

فإحساس هذا الشابّ بالرّقابة الإلهيّة، من خلال ما أيقظته فيه هذه المرأة، هو الّذي جعله يمتنع عن الاعتداء وفعل الحرام.

*من كتاب "من عرفان القرآن".

يحثّنا القرآن الكريم على الدوام أن نضع في عقولنا وقلوبنا الإحساس بالرقابة الإلهيّة، وألا نعتبر أنَّ أسرارنا مودَعةٌ في صندوق مقفل داخل صدورنا، بحيث لا يستطيع أن يطّلع عليها أحد، فيقول سبحانه: {للهِ ما فِي السَّمَاواتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[البقرة: 284].

فإذا كنت تستطيع أن تُغلق صدرك عمّا في داخله عن النّاس، فهل تستطيع أن تُغلقه وتحجبه عن الله تعالى؟ فالله تعالى مطّلعٌ على الإنسان في خفاياه، كما هو يعرف علانيته {إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى}[الأعلى: 7]. والله سبحانه يستر على الإنسان في الدنيا، أمّا في يوم القيامة {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ}[الطارق: 9]، فتتمزّق السرائر، ويظهر كلُّ ما يكمن فيها، فإن كان في القلب ممّا يشكّل فضيحة نتيجة الإيغال في المعاصي، فإنَّ الله يفضح الإنسان الذي خالف أوامره على رؤوس الأشهاد، وإن كان في القلب ما يشكِّل قيمة إيمانيّة وعمليّة، فإنَّ الله يجزي صاحب هذه القيمة على رؤوس الأشهاد، ولذلك قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): "ألاَ إنَّ فضوح الدنيا أهون من فضوح الآخرة"، لأنَّ يوم الآخرة {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ}، كما يبلى الثوب ويتمزّق ويظهر الجسد عارياً، هكذا تظهر الأسرار وتنكشف أمام الخلائق يوم القيامة.

وعلى هذا، فإنَّ على الإنسان أن يربّي نفسه على أنّه مراقَب في كلّ أعماله وأسراره وخفاياه، فلا يشعر بالأمان والاطمئنان، ويأخذ حريّته في التّخطيط لضرب فلان وهتك حرمة فلان، أو النَّيل من كرامته وماله وعِرضه {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لاَ يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً}[النساء: 108] يجلسون في غرفة مغلقة يخطّطون ويرسمون المؤامرات ليُلْصِقوا التّهمة ببريء، وليدمّروا شخصية رساليّة يطلقون حولها الإشاعات والأكاذيب، ويحسبون أن لا رقيب عليهم ولا حسيب، وينسون أنَّ عين الله ترى ما يخطِّطون وكيف يتحرَّكون {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}[المجادلة: 7]، فليس هناك شعورٌ بالأمان، وذاك الشّاعر يقول:

إذا ما خلوتَ الدَّهرَ يوماً فلا تَقُل خلوتُ ولكن قُلْ عليَّ رقيبُ

فالله تعالى هو الرّقيب: "وكنتَ أنتَ الرقيبَ عليَّ من ورائهم، والشّاهدَ لِمَا خَفِيَ عَنْهم" فإذا ربّينا رقابة الله في نفوسنا، فسيمنعنا ذلك من استغلال خلوّ المكان للقيام بالجريمة والإقدام على المعصية.

ويحدّثنا الإمام زين العابدين (عليه السلام) عن ذلك الرجل الذي أحسَّ برقابة الله، وهو يُقْدِم على المعصية، فمنعه ذلك من الوقوع في الحرام، فيقول (عليه السلام) لأبي حمزة الثمالي: "إنّ رجلاً ركب البحر بأهله فَكُسِرَ بهم، فلم ينجُ ممّن كان في السّفينة إلاّ امرأة الرجل، فإنّها نجت على لوح من ألواح السفينة، حتّى لجأت إلى جزيرة من جزائر البحر؛ وكان في تلك الجزيرة رجلٌ يقطع الطّريق، ولم يَدَعْ لله حرمة إلّا انتهكها، فلم يعلم إلّا والمرأة قائمة على رأسه، فرفع رأسه إليها، فقال: إنسيّة أم جنّيّة؟ فقالت: إنسيّة، فلم يكلّمها كلمةً حتّى جلس منها مجلس الرّجل من أهله ـــ أي حاول الاعتداء عليها ـــ فلمَّا أنْ هَمَّ بها اضطربت، فقال: ما لَكِ تضطربين؟ قالت: أَفْرُقُ من هذا ـــ وأومأت بيدها إلى السّماء، أي أنا أخاف الله من هذا العمل ـــ قال: فصنعتِ من هذا شيئاً؟ ـــ هل لك عهدٌ بحالة الزِّنا ـــ قالت: لا وعزّته ـــ كلّ حياتي حياة طاعة وعفَّة وخوف من الله.

قال: فأنتِ تفرقين منه هذا الفَرَق ولم تصنعي من هذا شيئاً، وإنّما أسْتَكْرِهُكِ استكراهاً ـــ مع أنّي بالإكراه أحاول فعل الفاحشة معك، ومع ذلك تخافين من الله، وأنتِ في ذلك معذورة ــــ فأنا والله أولى بهذا الفَرَق والخوف ـــ أنا مَنْ يجب أن أخاف من الله، لأنّني ما تركت معصية إلاّ وعملتها ـــ وأحقُّ منكِ ـــ موقف هذه المرأة هزَّ هذا الرّجل من أعماقه، ولذلك ـــ قام ولم يُحْدِثْ شيئاً ـــ ترك فعل الزّنا ـــ ورجع إلى أهله، وليست له همّةٌ إلاّ التوبة والمراجعة. فبينما هو يمشي، إذ صادفه راهبٌ يمشي في الطريق، فحميت عليهما الشّمس، فقال الراهب للشّابّ: ادعُ اللهَ يُظلّنا بغمامة، فقد حميت علينا الشّمس، فقال الشّابّ: ما أعلم أنّ لي عند ربّي حسنة فأتجاسر على أن أسأله شيئاً، قال: فأدعو أنا وتؤمّن أنت ـــ أي تقول: آمين ـــ قال: نعم. فأقبل الراهب يدعو والشابّ يؤمّن، فما كان بأسرعَ من أن أظلّتهما غمامة، فمشيا تحتها مليّاً من النهار، فتفرّقت الجادة جادتين ـــ أي أخذ كلٌّ من الراهب والشابّ طريقاً ـــ فأخذ الشّابّ في واحدة، وأخذ الراهب في واحدة، فإذا السحابة مع الشّاب، فقال الراهب: أنتَ خيرٌ منّي، لكَ اسْتُجِيب ولم يُسْتَجَبْ لي، فأخبرني ما قصّتك؟ فأخبره بخبر المرأة، فقال: غُفِرَ لك ما مضى حيث دخلك الخوف، فانظر كيف تكون فيما تستقبل".

فإحساس هذا الشابّ بالرّقابة الإلهيّة، من خلال ما أيقظته فيه هذه المرأة، هو الّذي جعله يمتنع عن الاعتداء وفعل الحرام.

*من كتاب "من عرفان القرآن".

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية