إن تعذِّبني فأنت غير ظالم لي

إن تعذِّبني فأنت غير ظالم لي

[يتحدَّث العلامة المرجع السيد محمد حسين فضل الله (رض)، تعليقاً على المقطع التّالي من دعاء للإمام زين العابدين (ع) عن فضل الله ورحمته لعباده المثقلين بالذّنوب، حيث لا راحم لهم ولا متفضّل عليهم إلا الله تعالى]:

"يا إلهي، لَوْ بَكَيْتُ إلَيْكَ حَتّى تسْقُطَ أشْفَارُ عَيْنيَّ، وانْتحَبْتُ حَتَّى يَنْقَطعَ صَوْتي، وَقمْتُ لَكَ حَتى تَتَنشَّرَ قَدَمَاي، وَرَكَعْتُ لَكَ حَتَّى يَنخَلِعَ صُلْبي، وسَجَدْتُ لَكَ حَتّى تَتَفَقَّأَ حَدَقَتَايَ، وَأكلْتُ ترابَ الأرْضِ طُولَ عُمْري، وَشَربْتُ مَاءَ الرَّمَادِ آخِرَ دَهْري، وَذَكَرْتُك في خِلاَلِ ذَلِكَ حَتّى يكلَّ لِسَاني، ثُمَّ لَمْ أرْفَعْ طَرْفي إلى آفاقِ السَّماءِ اسْتحيَاءً مِنْكَ... ما اسْتَوْجَبْتُ بِذَلِكَ مَحْوَ سَيِّئةٍ وَاحدةٍ مِنْ سَيِّئاتي.

وَإنْ كنْتَ تَغْفِرُ لي حِينَ أسْتَوْجِبُ مَغْفِرتَكَ، وَتَعْفُو عَنِّي حِينَ أسْتحِقُّ عَفْوَكَ، فإنّ ذَلِكَ غَيْرُ واجِبٍ لي باسْتِحْقاقٍ، وَلاَ أنَا أهْلٌ لَهُ باسْتيجابٍ، إذْ كَانَ جَزائي مِنْكَ في أوّلِ مَا عَصَيْتُكَ النَّارَ، فإنْ تُعَذِّبْني فأنْت غَيْرُ ظَالمٍ لي".

* * *

إنّني حين أفكّر في عمق القضية التي تحكم كلّ تاريخ حياتي، وهي قضية الذنوب الكبيرة التي قدّمتها بين يديّ، فإنني أجد الخطورة القصوى التي قد لا أستطع مواجهتها بطريقة عادية، ولا أتمكّن من تحمّلها بشكلٍ متوازنٍ، لأنها لا تحمل أيّ تبرير منطقي، بل القضية، بالعكس من ذلك، تحمل في داخلها ضدّه، لأن الإنسان قد يبرر لنفسه - خطأ وصواباً - أن يتحلّل من المسؤوليّة تجاه إنسان آخر مثله، فيعصيه أو يخالفه أو يسيء إليه، لأنّ هناك وجوداً منفصلاً عن وجوده، لأنّ العلاقة بينهما هي علاقة الخطّ الشرعيّ أو العاطفي الّذي يجعل لأحدهما الحقّ على الآخر، بعيداً من أي مضمون ذاتي في داخل الذات، بحيث يفرض ذلك عليه من هذا الموقع.

ولكن المسألة في علاقة الإنسان بالله، هي أن الإنسان بكلّه ملك لله، فهو لا يملك من نفسه حتى حركة فكره، ما يجعل من المسؤوليّة شيئاً يتصل بالذات من موقع العبودية الذاتية لا القانونيّة، وهذا ما يجعل من حركة المعصية انحرافاً خطيراً في معنى الإنسانيّة في الإنسان، لأنها تمثّل استخدام ما هو ملك لله في التمرّد عليه ومحاربته، في الوقت الّذي تنهال عليه الألطاف الإلهيّة والنعم الرحمانيّة صباحاً ومساءً بكلّ جديد.

فكيف يمكن لهذا الإنسان الخاطىء أن يواجه الموقف؟

هل يملك أن يرفع طرفه إلى آفاق السّماء في المدلول الإيحائي في رفع الرّأس أمام الله؟ وكيف يفعل ذلك والحياء يملأ كلّ كيانه ويفرض عليه أن يطأطئ رأسه خجلاً وانكساراً؟

وهل يأمل أن يحصل ـ من خلال الاستحقاق ـ أن يغفر الله له سيّئة واحدة من سيئاته؟ إنّ ذاتية المسألة لا تجعله يستحقّ شيئاً، لأنه لا يملك ـ حتى في ابتهاله ـ شيئاً.

وهذه هي الصّورة المعبّرة الصارخة التي تمنح الفكرة شيئاً من الوضوح.

ـ يا ربّ ـ ماذا أفعل وأنا الأكثر ذنوباً، والأبشع أفعالاً، والأقبح آثاراً، والأشدّ في الباطل تهوّراً، والأضعف لطاعتك تيقّظاً، والأقلّ لوعيدك انتباهاً؟ ماذا أفعل لتعفو عني، ولتقبلني فيمن تقبل من عبادك؟.

ولو بكيت ـ وللبكاء معناه في الإحساس بالذّنب وفي النّدم عليه ـ واستمرّ البكاء الخاشع حتى تسقط أهداب عيني من ضغط الدّموع، ولو انتحبت في إلحاح البكاء وضراوته وشدّته حتى يخفت صوتي أو ينقطع، فلا يرتفع منه شيء.

ولو قمت لك في صلاتي ليلاً ونهاراً حتى تنتفخ قدماي وتتورَّما من شدّة التعب.

ولو ركعت لك حتى يزيح صلبي عظم ظهري من مكانه.

ولو سجدت لك وأطلت طول عمري تعذيباً لنفسي على ما أسلفت من الذّنوب، وشربت ماء الرّماد آخر دهري، توبيخاً لذاتي على خطاياها، وذكرتك بكلّ أسمائك وصفاتك وآلائك، حتى كلَّ لساني عن الكلام، ثم لم أرفع طرفي إلى السّماء لأحدق في الآفاق التي توحي بالشّأن الرفيع لعظمتك، استحياءً منك من خلال التّاريخ الأسود الذي يملأ صفحات حياتي.

لو فعلتُ ذلك كلّه، لم أستحقّ محو سيّئةٍ واحدةٍ من سيّئاتي الآن، كلّ هذه الأمور تتحرّك في داخل ملكك، فليس لي فضل تكفيراً عما فعلته في إساءة التصرف في كياني الذي هو ملكك.

ولكني أعرف، من خلال التفضل الذي تلطفت به على عبادك، أنك تغفر لي حين أفعل ما يستوجب مغفرتك، وتعفو في حين أستحق عفوك، في ما جعلته من شروط ذلك، في خطّ الاستحقاق بالتفضل، في الوقت الّذي لا أملك ذاتيّة الاستحقاق والاستيجاب، فقد كانت المسألة أنّ النّار كانت هي الجزاء العادل الّذي يجب أن أناله منذ عصيتك، وإذا كان الحكم العدل هو حكمك، فلن يكون عذابي ظلماً لي، لأنّك أقمت الحجة عليّ في ذلك، فماذا بعد كلّ هذا إلا فضلك، فهو ـ وحده ـ سبيل النّجاة.

*من كتاب "آفاق الروح"، ج 1.

[يتحدَّث العلامة المرجع السيد محمد حسين فضل الله (رض)، تعليقاً على المقطع التّالي من دعاء للإمام زين العابدين (ع) عن فضل الله ورحمته لعباده المثقلين بالذّنوب، حيث لا راحم لهم ولا متفضّل عليهم إلا الله تعالى]:

"يا إلهي، لَوْ بَكَيْتُ إلَيْكَ حَتّى تسْقُطَ أشْفَارُ عَيْنيَّ، وانْتحَبْتُ حَتَّى يَنْقَطعَ صَوْتي، وَقمْتُ لَكَ حَتى تَتَنشَّرَ قَدَمَاي، وَرَكَعْتُ لَكَ حَتَّى يَنخَلِعَ صُلْبي، وسَجَدْتُ لَكَ حَتّى تَتَفَقَّأَ حَدَقَتَايَ، وَأكلْتُ ترابَ الأرْضِ طُولَ عُمْري، وَشَربْتُ مَاءَ الرَّمَادِ آخِرَ دَهْري، وَذَكَرْتُك في خِلاَلِ ذَلِكَ حَتّى يكلَّ لِسَاني، ثُمَّ لَمْ أرْفَعْ طَرْفي إلى آفاقِ السَّماءِ اسْتحيَاءً مِنْكَ... ما اسْتَوْجَبْتُ بِذَلِكَ مَحْوَ سَيِّئةٍ وَاحدةٍ مِنْ سَيِّئاتي.

وَإنْ كنْتَ تَغْفِرُ لي حِينَ أسْتَوْجِبُ مَغْفِرتَكَ، وَتَعْفُو عَنِّي حِينَ أسْتحِقُّ عَفْوَكَ، فإنّ ذَلِكَ غَيْرُ واجِبٍ لي باسْتِحْقاقٍ، وَلاَ أنَا أهْلٌ لَهُ باسْتيجابٍ، إذْ كَانَ جَزائي مِنْكَ في أوّلِ مَا عَصَيْتُكَ النَّارَ، فإنْ تُعَذِّبْني فأنْت غَيْرُ ظَالمٍ لي".

* * *

إنّني حين أفكّر في عمق القضية التي تحكم كلّ تاريخ حياتي، وهي قضية الذنوب الكبيرة التي قدّمتها بين يديّ، فإنني أجد الخطورة القصوى التي قد لا أستطع مواجهتها بطريقة عادية، ولا أتمكّن من تحمّلها بشكلٍ متوازنٍ، لأنها لا تحمل أيّ تبرير منطقي، بل القضية، بالعكس من ذلك، تحمل في داخلها ضدّه، لأن الإنسان قد يبرر لنفسه - خطأ وصواباً - أن يتحلّل من المسؤوليّة تجاه إنسان آخر مثله، فيعصيه أو يخالفه أو يسيء إليه، لأنّ هناك وجوداً منفصلاً عن وجوده، لأنّ العلاقة بينهما هي علاقة الخطّ الشرعيّ أو العاطفي الّذي يجعل لأحدهما الحقّ على الآخر، بعيداً من أي مضمون ذاتي في داخل الذات، بحيث يفرض ذلك عليه من هذا الموقع.

ولكن المسألة في علاقة الإنسان بالله، هي أن الإنسان بكلّه ملك لله، فهو لا يملك من نفسه حتى حركة فكره، ما يجعل من المسؤوليّة شيئاً يتصل بالذات من موقع العبودية الذاتية لا القانونيّة، وهذا ما يجعل من حركة المعصية انحرافاً خطيراً في معنى الإنسانيّة في الإنسان، لأنها تمثّل استخدام ما هو ملك لله في التمرّد عليه ومحاربته، في الوقت الّذي تنهال عليه الألطاف الإلهيّة والنعم الرحمانيّة صباحاً ومساءً بكلّ جديد.

فكيف يمكن لهذا الإنسان الخاطىء أن يواجه الموقف؟

هل يملك أن يرفع طرفه إلى آفاق السّماء في المدلول الإيحائي في رفع الرّأس أمام الله؟ وكيف يفعل ذلك والحياء يملأ كلّ كيانه ويفرض عليه أن يطأطئ رأسه خجلاً وانكساراً؟

وهل يأمل أن يحصل ـ من خلال الاستحقاق ـ أن يغفر الله له سيّئة واحدة من سيئاته؟ إنّ ذاتية المسألة لا تجعله يستحقّ شيئاً، لأنه لا يملك ـ حتى في ابتهاله ـ شيئاً.

وهذه هي الصّورة المعبّرة الصارخة التي تمنح الفكرة شيئاً من الوضوح.

ـ يا ربّ ـ ماذا أفعل وأنا الأكثر ذنوباً، والأبشع أفعالاً، والأقبح آثاراً، والأشدّ في الباطل تهوّراً، والأضعف لطاعتك تيقّظاً، والأقلّ لوعيدك انتباهاً؟ ماذا أفعل لتعفو عني، ولتقبلني فيمن تقبل من عبادك؟.

ولو بكيت ـ وللبكاء معناه في الإحساس بالذّنب وفي النّدم عليه ـ واستمرّ البكاء الخاشع حتى تسقط أهداب عيني من ضغط الدّموع، ولو انتحبت في إلحاح البكاء وضراوته وشدّته حتى يخفت صوتي أو ينقطع، فلا يرتفع منه شيء.

ولو قمت لك في صلاتي ليلاً ونهاراً حتى تنتفخ قدماي وتتورَّما من شدّة التعب.

ولو ركعت لك حتى يزيح صلبي عظم ظهري من مكانه.

ولو سجدت لك وأطلت طول عمري تعذيباً لنفسي على ما أسلفت من الذّنوب، وشربت ماء الرّماد آخر دهري، توبيخاً لذاتي على خطاياها، وذكرتك بكلّ أسمائك وصفاتك وآلائك، حتى كلَّ لساني عن الكلام، ثم لم أرفع طرفي إلى السّماء لأحدق في الآفاق التي توحي بالشّأن الرفيع لعظمتك، استحياءً منك من خلال التّاريخ الأسود الذي يملأ صفحات حياتي.

لو فعلتُ ذلك كلّه، لم أستحقّ محو سيّئةٍ واحدةٍ من سيّئاتي الآن، كلّ هذه الأمور تتحرّك في داخل ملكك، فليس لي فضل تكفيراً عما فعلته في إساءة التصرف في كياني الذي هو ملكك.

ولكني أعرف، من خلال التفضل الذي تلطفت به على عبادك، أنك تغفر لي حين أفعل ما يستوجب مغفرتك، وتعفو في حين أستحق عفوك، في ما جعلته من شروط ذلك، في خطّ الاستحقاق بالتفضل، في الوقت الّذي لا أملك ذاتيّة الاستحقاق والاستيجاب، فقد كانت المسألة أنّ النّار كانت هي الجزاء العادل الّذي يجب أن أناله منذ عصيتك، وإذا كان الحكم العدل هو حكمك، فلن يكون عذابي ظلماً لي، لأنّك أقمت الحجة عليّ في ذلك، فماذا بعد كلّ هذا إلا فضلك، فهو ـ وحده ـ سبيل النّجاة.

*من كتاب "آفاق الروح"، ج 1.

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية