ونلتقي في مسيرة الأنبياء بالنبي هود(ع)، الَّذي أرسله الله إلى قومه (عاد)، الذين كانوا يملكون القوّة الماليَّة، وينشئون الحركة العمرانيّة فيما يشيدون من الأبنية، إذ تحدّث الله عن {إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ}[1]، وكانت أراضيهم خصبة خضراء مملوءة بالينابيع، {وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُم بِمَا تَعْلَمُونَ * أَمَدَّكُم بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ * وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ}[2]، وكانت دعوته التوحيدية في منتهى البساطة، {قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُونَ}[3]. وأعلن لهم بأنّه لا يطلب منهم أجراً، {يَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلاَ تَعْقِلُونَ}، ودعاهم إلى استغفار الله والتوبة إليه، ووعدهم برحمة الله التي تنزل عليهم المطر الَّذي هم بحاجة إليه، ويمنحهم القوّة المتطوِّرة التي تزيد عن قوتهم المعهودة، {وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلاَ تَتَوَلَّوْاْ مُجْرِمِينَ}[4]، وخوّفهم من عذاب يوم عظيم، {إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ}[5].
فكيف واجهوا هذا الأسلوب الإنسانيَّ الّذي يمتلئ بالرفق والمحبّة والخوف عليهم من النتائج السيّئة في المستقبل؟ أصرّوا على العناد، ورفضوا الحوار الهادف والهادئ، وبذلك، حرموا فهم دعوته في مفاهيمها الرّحبة التي تنقذهم من جمود الوثنيّة وتخلّفها، والانتقال بهم إلى حركيّة التوحيد وتقدّمه.
لقد تحدَّث القرآن عن ردّ فعلهم باللّجوء إلى الأسلوب العنيف المغلق، القائم على الكلمات السلبيّة المتحدّية للكرامة، {قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وِإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ}، وكان جوابه بالأسلوب الهادئ العقلاني، {قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ * أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنَاْ لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ}، إنها ليست مجرد كلمة طائرة أطلقها في مجتمعكم ردّاً على التهمة الظالمة التي وجهتموها إليّ، بل هي تأكيد للحقيقة التي تحدّثت بها، ولذلك، أحذّركم من النتائج السلبية في المستقبل إذا لم تؤمنوا بالرسالة التي أحملها من ربّ العالمين، وأقدّم لكم نصيحتي بكلّ أمانة وإخلاص، وأدعوكم إلى التفكير في ذلك كلّه، لتميّزوا جيّداً بين السفيه والرشيد في تقويمكم للأشخاص.
وتابع كلامه في إثارة بعض التّفاصيل: {أَوَعَجِبْتُمْ أَن جَاءكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِّنكُمْ لِيُنذِرَكُمْ}، فلماذا العجب؟ هل المسألة تتحدّى العقل؟ وهو لا يمنع ذلك، لأنّ الله قد يرسل بشراً برسالته، كما قد يرسل ملائكة، إنَّ الخروج عن المألوف لا يبطل الحقيقة، {وَاذكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاء مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُواْ آلاء اللّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}، فقد أعطاكم الله الامتداد في العمر والبسطة في الخلق، أفلا يدفعكم ذلك إلى تذكّر نعم الله وآلائه، مما يدفعكم إلى الفلاح؟
وعلى الرّغم من ذلك، لم يفكّروا أو يدخلوا معه في حوار موضوعيّ، بل كانت كلمة التحدّي والاستنكار هي ردّ فعلهم على كلامه، {قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} من هذه الأوثان التي تملك الأسرار المقدّسة، فنرتفع بها إلى مستوى الآلهة، ونحن مخلصون للامتداد التاريخي في مسيرة الأجيال، ليستمرّ الجيل اللاحق على ما جرى عليه الجيل السابق في العبادة وفي العادات والتقاليد، فلن نترك ذلك كلّه لمجرّد دعوتك، وإذا كنت تهدّدنا بعذاب الله، {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ}.
وكانت خاتمة المطاف أنّه تحدّث إليهم بمرارة، {قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ}، من خلال القذارة الفكريّة في اعتقادكم بالأوثان، وترككم عبادة الله خالق الوجود كلّه. هل فكرتم بهذه الأوثان؟! فهي ليست شيئاً يبعث على الاحترام، فضلاً عن العبادة. إنّها ليست في الواقع في معنى الألولهيّة، {أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤكُم مَّا نَزَّلَ اللّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ}، من دون حجّة، فإذا كنتم مصرّين على عبادتها، ورفض عبادة الله الواحد، {فَانتَظِرُواْ إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ}[6]، لأنّي لا أملك إنزال العذاب، بل الله هو الّذي يقدّره ويقضي به.
وفي موقفٍ آخر، أو في خطابٍ آخر، {قَالُواْ يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ * إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوَءٍ}، فكانوا يرفضون الحجة التي قدَّمها لهم في الدليل على وحدانيّة الله الذي يملأ الكون كلّه، وأعلنوا إصرارهم ورفضهم الإيمان بدعوته، وواجههم هود بالمنطق القويّ الذي يبادلهم الرفض بالرفض، والبراءة من الوثنية والأوثان، والتحدّي أمام القوة التي يهددونه بها، {قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللّهَ وَاشْهَدُواْ أَنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ * مِن دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ * إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللّهِ رَبِّي وَرَبِّكُم مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ}، فهو الَّذي يملك الأمر كلّه، والمهيمن على كلّ الموجودات، فلا قوّة لغيره، فسيسقط كلّ كيدكم أمام توكلي على الله ربي وربكم، {فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقَدْ أَبْلَغْتُكُم مَّا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ}[7]، لأنّ مهمتي هي الإبلاغ والإنذار، {وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ} على ما هي سنَّة الله في الخلق، على ما جاء في آية أخرى، {وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ}، {وَلاَ تَضُرُّونَهُ شَيْئاً}، لأنّه الربّ العظيم الذي لا تنفعه طاعة من أطاعه، ولا تضرّه معصية من عصاه، {إِنَّ رَبِّي عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ}[8]. هذا هو الأسلوب النبويّ الذي يتحرك بين اللّين والشدّة، من أجل أن يفتح قلوبهم على الحقّ، في مقابل أسلوبهم القائم على أساس الإصرار على الكفر والتّهديد بالعنف.
وفي منطق آخر: {قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُن مِّنَ الْوَاعِظِينَ * إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ * وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ}[9]. لقد عانى النبيّ هود الكثير من تحديات أعداء الرسالة في منطقهم المتخلّف، وفي أسلوبهم العدواني، ولكنه لم يبتعد عن منطق الرسالة الإنساني وعن أسلوبها العقلاني، وكانت النهاية هي سقوطهم وتدميرهم بعذاب الله، {وَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَنَجَّيْنَاهُم مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ * وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْاْ رُسُلَهُ وَاتَّبَعُواْ أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ}، وتلك عاقبة أتباع الجبابرة العنيدين الذين لا يخضعون لعقل، ولا يستريحون لحوار.
النبيّ صالح(ع) يواجه ذهنيّة الجمود
ونلتقي أيضاً بالنَّبي صالح(ع) الَّذي أرسله الله إلى قومه (ثمود)، ودعاهم إلى توحيد الله، {قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ}، وقدّم إليهم الحجَّة في نطاق المعجزة الخارقة للعادة، وهي النّاقة التي تسقيهم جميعاً بلبنها، فهي آية من آيات الله، وطلب منهم أن يتركوها لتشرب يوماً، ويشربوا هم يوماً آخر، ليتحوَّل شرابها إلى لبن يتغذون منه، وأن يدعوها تأكل من أرض الله، ولا يمسّوها بسوء، لأنّ عقاب ذلك هو العذاب العظيم، وتابع رسالته ليذكّرهم بنعم الله عليهم، إذ جعلهم خُلفاء من بعد عاد، وهيّأ لهم كلّ وسائل الثروة، بما يجعلهم يبنون القصور في سهولها، ويشيدون البيوت في جبالها، ويزرعون الأرض من خلال ما تختزنه من ينابيع وما تمثله من خصوبة.
وكان يحدّثهم عن الله الذي أنشأهم من الأرض، وهيّأ لهم سُبل الحياة، واستعمرهم فيها، ويدعوهم إلى أن يستغفروه من انحرافهم العقيدي والعملي، ويتوبوا إليه ليتوب عليهم، لأنّه الربّ القريب المجيب. كما كان(ع) يتحدّث معهم بالمنطق والحجَّة، ويذكِّرهم بالنعمة، لينطلقوا إلى الإيمان به من خلال الوعي الفكري والانفتاح الروحي، ولكنّهم تحدّثوا إليه بذهنيَّة الجمود التي لا تنبض بالحقيقة، ولا تتحرّك بالعقل، ولكنّها تتعقّد بالكبرياء. ولذلك، خاطبوه بمنطق عبَّروا فيه عن خيبة أملهم به، حيث كانوا يرجون منه أن يدعم الواقع الّذي يعيشون فيه، باعتباره فرداً منهم، وأن يؤكِّد خطّهم التقليديّ التاريخيّ في التمسّك بخطّ الآباء، {قَالُواْ يَا صَالِحُ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوّاً قَبْلَ هَـذَا أَتَنْهَانَا أَن نَّعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ}[10]، ولم يكونوا في مستوى الخطاب العقلائي الحواري، ولذلك، كان ردّه عليهم في تأكيد دعوته إلى توحيد الله، باعتباره البيّنة الواضحة التي قامت عنده وقدّمها إليهم، هذا إضافةً إلى رحمة الله التي أفاضها عليه بإرساله لإبلاغ رسالته إلى الناس، وأعلن لهم أنّ المسألة إلى جانب ذلك تمثّل الخطر الأخروي، من خلال غضب الله عليهم، ما يؤدّي إلى الخسارة. إنّه الخطاب الإنساني الذي يضع الأمور في مواضعها، ويشير إلى مواقع الخوف من المستقبل في السير على خطّ الانحراف، كأسلوب من أساليب تحذيرهم بإثارة الخوف في نفوسهم.
واندفعوا إلى المؤمنين برسالته، لإثارة الشّكّ في نفوسهم بالرسالة والرسول، بطريقة إيحائية بالبعد عنه، مستغلّين ضعفهم الاجتماعي. ولكنهم أصرّوا على موقفهم في الالتزام بالإيمان، {قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحاً مُّرْسَلٌ مِّن رَّبِّهِ قَالُواْ إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ}، ولم يحصلوا منهم على نتيجة في إخراجهم عن خطِّ الإيمان، وقد استعملوا معهم كلّ أساليب الحرب النفسيّة، {قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ إِنَّا بِالَّذِي آمَنتُمْ بِهِ كَافِرُونَ}[11]. وفي نهاية المطاف، عقروا الناقة تحدّياً للنبي صالح(ع)، الَّذي أراد لهم أن لا يمسّوها بسوء، ولا يطيعوا أمر المسرفين، {الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ}[12]، مشيراً إليهم بأنّ عليهم دراسة الأمور من خلال عناصر الحقّ فيها، من خلال نظرة موضوعيّة متوازنة، ورفض كلّ دعوات التمرّد التي تنطلق من العقدة لا من الفكرة، {فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنتَ مِنْ الْمُرْسَلِينَ * فَأَخَذَتْهُمْ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ}.
وانطلق النبيّ الإنسان في حزن عميق على هذا المصير السيئ الذي انتهوا إليه، لأنّهم لم يقبلوا نصيحته التي تأخذ بهم إلى سبيل النجاة، {فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِن لاَّ تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ}[13]. وهكذا، يتمثَّل أسلوب الرسالة في مواجهة أعدائها بالمنطق والعقل والمحبة، بينما يتمثّل أسلوب الأعداء بالانفعال والتخلّف والبغضاء، {فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * وَأَنجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ}[14].
النبيّ لوط(ع) والتجربة المريرة
ونصل إلى النبيّ لوط(ع) الذي كان موقعه في منطقة محدودة امتدّت إليها رسالة النبي إبراهيم(ع)، الَّذي آمن به لوط، فأرسل إلى قومه لمعالجة انحرافهم العقيدي عن الإيمان بالله وشذوذهم الجنسي المذكور في اتباع هذه العادة السلبية الخارجة عن الطبيعة في العلاقات الجنسية، {وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّن الْعَالَمِينَ * إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ النِّسَاء بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ}[15] في تجاوزكم للحدود الإنسانيَّة الطبيعيَّة بعادتكم السيّئة هذه، لأنّ الله لم يهيّئ تركيبة الذّكر للجنس المنفعل، بل أعدَّه للجنس الفاعل، وجعل الأنثى هي الإنسان الّذي يتقبّل العمليّة الجنسيّة من الذّكر، لينتج من هذه العلاقة مخلوق حيّ من خلال سنَّة الله في عمليّة التّناسل.
وكان الله قد أتاه حكماً وعلماً، {وَلُوطاً آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً}[16]، وأرسله الله إلى هؤلاء، وبدأ دعوته العامّة أوّلاً، {إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلَا تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ}، وانطلق ثانياً في دعوته إلى ترك اللّواط بتفصيل أكثر، {أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ * وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُم بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ}. وردّوا عليه بأسلوب التهديد والدّعوة إلى إخراجه من البلد، {قَالُوا لَئِن لَّمْ تَنتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ}، وردّ عليهم بقوله: {قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُم مِّنَ الْقَالِينَ}، ودعا ربه ـ بعد استنفاد كلّ الوسائل في هدايتهم ـ {رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ}، واستجاب الله دعاءه، {فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عَجُوزاً فِي الْغَابِرِينَ * ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ * وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَراً فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنذَرِينَ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ}[17]. وقد كان ذلك بعد مجيء الملائكة الّذين جاءوا لإنزال العذاب على هؤلاء، وبعد مرورهم على النبيّ إبراهيم(ع)، وقد عرَّفوه ظروف الأمر الإلهيّ، وجاءوا بصورة بشر حسان الوجوه، وحاول قوم لوط الاعتداء عليهم باللّواط، وحاول لوط ردعهم، عندها أحسّ لوط بالضّعف لقلّة أنصاره، {قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ}، وأبلغه الملائكة صفتهم، {قَالُواْ يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يَصِلُواْ إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ اللَّيْلِ وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ}، لأنّها تضامنت معهم ضدّ زوجها الرّسول، {إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ}[18]، وهكذا انتهت هذه الرحلة النبويّة التي انطلق فيها الأسلوب الرسالي في النصيحة الرساليّة، بالرّغم من كلّ أساليبهم العدائيّة، بينما كان أسلوب هؤلاء أسلوب العداوة الّتي لا تنفتح على حوار، ولا تسير إلى نقطة لقاء.
شعيب(ع) في مواجهة الأسلوب العدائي
ونصل إلى شعيب (النبيّ) الذي أرسله الله إلى أهل مدين، لإخراجهم من عبادة الأوثان التي ابتعدت بهم عن خطوط القيم الروحية الإنسانية، فأخذوا بأسلوب الانحراف في التعامل مع الآخرين، وكانوا يأخذون بأسباب القوّة العدوانية ضدّ السائرين في سبيل الله والمؤمنين بالله الواحد ورسالاته. ونلاحظ الخطاب النبوي في خطابه ـ بالرّغم من كلّ عداواتهم ـ والأسلوب الرسولي في مسيرته التي كان يعالج فيها الأمور بحكمة، ويواجه التحديات بقوة لا تبتعد عن منطق العقل والاتزان. وتبقى المحبّة تنبض في كلّ كلماته ومشاعره وأحاسيسه، ويظلّ عنوان مواقفه في خطابه إليهم هو عنوان النصيحة التي تنطلق من الفكر، وتنساب في القلب، وتتحرك في صعيد السلام الروحيّ في الواقع. {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ}، بما أقامه من الحجّة على التوحيد ضدّ الوثنيّة القائمة على الشرك الغبيّ المتخلِّف.
وعلى هذا الأساس، لا بدَّ لكم من أن تأخذوا بأسباب العدالة في تعاملكم مع الآخرين في نطاق القيمة القائلة: "عامل النّاس كما تحبّ أن يعاملوك به"، {فَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ}، فتنقصوهم حقوقهم، وتأخذوا حقّكم منهم كاملاً أو بزيادة، {وَلَاْ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاْحِهَا}، بما أعدّه فيها من كلّ عناصر الصلاح، وأراد للإنسان أن يحركها في طريق الإصلاح، {ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}، لأنّ ذلك هو الذي يرفع مستوى الإنسان، من خلال القيم الأخلاقية التي توجّهه نحو الخير وتبعده عن الشّرّ، وعلى أساس الإيمان بالله الذي يريد له أن يرتفع إلى مواقع القرب منه، حيث الروح الإلهي يفيض عليه برحمته ولطفه وغفرانه، {وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجاً}، فهذا هو شأن المجرمين الذين يضطهدون الناس في حرياتهم العقيدية والعملية، ويمنعونهم من تأصيل إنسانيتهم في إرادتهم الحرّة، ويحاولون إبعاد الحياة عن خطِّها المستقيم {وَاذْكُرُواْ إِذْ كُنتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ}، بما وهبكم من البنين، وما منحكم من عناصر الكثرة في الجوانب الماليّة والسلطويّة، وانظروا في حركة التاريخ القديم في دراسة تاريخ الأمم التي سبقتكم، وكانت تمارس الفساد الأخلاقي والجنسي والاقتصادي والاجتماعي، فأذاقها الله عذاب ذلك كلّه، {وَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ}، لئلا تلاقوا ما لاقوه من العذاب، {وَإِن كَانَ طَآئِفَةٌ مِّنكُمْ آمَنُواْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَآئِفَةٌ لَّمْ يْؤْمِنُواْ فَاصْبِرُواْ}، ولا تتحرّكوا بأساليب العنف وإثارة الفتنة في الضّغط على المؤمنين، لفتنتهم عن دينهم بالقوّة، لأنّ ذلك لن يؤدّي بكم إلى النتائج الإيجابيّة في تحقيق السلام الاجتماعي في المجتمع الذي تعيشون فيه، وواجهوا الأمور بتقبّل هذا التنوّع الفكري الذي ينطلق من خلال حرية الإرادة في الاختيار، وخذوا بأسباب الحوار الذي يقودكم إلى الوحدة على أساس الاقتناع، وإلى التفاهم على خطّ الفهم المتبادل، {حَتَّى يَحْكُمَ اللّهُ}، فيسير بالأمور إلى الخير للجميع، {وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ}.
هذا هو بعض خطاب النبيّ شعيب(ع) الذي ينضح بالمحبّة والسلام والمسؤوليّة والهدوء العقلي والنفسي، فماذا كان جوابهم؟ لقد تحدّث القرآن عن عدّة أمور في ردِّ فعلهم:
1 ـ التَّهديد بالطَّرد من القرية إذا استمرّ هو والمؤمنون معه على السير في الرسالة، وعدم السير مع الناس الكافرين في كفرهم، {قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ}، وكان جوابه: هل هذا الطّرح هو وسيلة ضغط للخضوع لما نكرهه من طريقتكم؟ {قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ}، وقالوا إننا نرفض ذلك، لأنّ المسألة ليست حالة ذاتيّة في الموقف، بل هي مسألة الحقيقة الإيمانيّة التي فرضت نفسها علينا في إيماننا بربنا، ومراقبتنا له، وصدقنا معه، {قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُم بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا}، لأنّها تمثّل العودة من الحقّ إلى الباطل، {إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللّهُ رَبُّنَا}، ولن يشاء الله لنا ذلك، لأنّه هو الذي حبّب إلينا الإيمان، وزيّنه في قلوبنا، وكرّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان، {وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً}، وعرف منا أنّنا لن نتنازل عن إيماننا به وبوحدانيته، {عَلَى اللّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ}، فإننا لسنا طلاب حرب وفتنة، بل طلاب سلام وانفتاح، ولكن على أساس الحقّ، فإذا شئت أن تهيّئ لنا وسائل الفتح، فإننا نرغب إليك في ذلك، وأنت الّذي حملت الأمر كلّه بقدرتك وحكمتك يا ربّ العالمين.
{وَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَّخَاسِرُونَ}[19]، قالوا ذلك في عمليّة ضغط نهائيّ على المؤمنين بالرسالة، في عمليّة إيحائيّة بأنّ إصرارهم على اتباع شعيب يؤدّي بهم إلى الخسارة الماديّة، بانفصالهم عن الكثرة الاجتماعيّة، وتحوّلهم إلى أقليّة ضعيفة لا حول لها ولا قوّة. ولكنّ المؤمنين يفهمون مسألة الربح والخسارة في ميزان القيمة الروحية في الارتباط بالله، والحصول على رضوانه في الدنيا والآخرة، إيجاباً في الإيجاب، وسلباً في السلب.
2 ـ استخدام الأساليب العاطفية الابتزازية، {قَالُواْ يَا شُعَيْبُ أَصَلاَتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاء}، إنّه خطاب يمتزج فيه الجدّ بالسّخرية، فهم ينظرون إلى صلاته كما لو كانت عملاً لا يحمل الكثير من العناصر الحيوية التي تؤدي إلى نتائج كبيرة، ولكنها كانت توحي بالكثير من التعاليم الرافضة للواقع الذي يعيشون فيه، ويتساءلون عن السرّ في إطلاق خطابه السلبي الموجّه إلى أوضاعهم العباديّة والاقتصاديّة، {إِنَّكَ لَأَنتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ}، فنحن نعرفك إنساناً يملك العقل الهادئ، والأفق الرحب، والرشد السلوكي، فكيف خضت في ذلك كله؟
وكان جوابه ينطلق من موقع الهدوء الحواري القائم على المنطق في جدّيته الفكريّة، {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىَ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي}، بما أقامه عليّ من الحجة على الإيمان بتوحيده، {وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً}، بما منحني من نعمه الرسولية، {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ}، فإني ألتزم بترك ذلك كله، فالقضيَّة عندي هي أنّ اقتناعي بالضّرر الذي يترتب على ما تعبدونه وما تفعلونه، هو الذي يجعلني أنهاكم عنه، فأطبّق ذلك على نفسي قبل توجيهه إليكم بالخطاب، لأنّ الإنسان المؤمن يحبُّ للآخرين ما يحبّ لنفسه، ويكره لهم ما يكره لها، {إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ}، فتلك هي رسالتي في تغيير الواقع الفاسد إلى واقع الإصلاح، {وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ}، الّذي يعينني على القيام بمسؤوليّاتي الثّقيلة التي قرّرت تحمّلها والقيام بها، {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}، فهو الّذي يكفي من كلّ شيء، ولا يكفي منه شيء، ومن يتوكّل عليه فهو حسبه، {وَيَا قَوْمِ لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَن يُصِيبَكُم مِّثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِّنكُم بِبَعِيدٍ}، فأنا أحذّركم من عذاب الله الذي أصاب هؤلاء عندما أخذوا بأسباب الكفر والضّلال الذي تأخذون به، وتمارسون الشقاق معي على أساس دعوتي إياكم إلى رفضه، {وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ} من هذا الخطّ الكافر الضالّ، {إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ}، فهو الّذي يغفر للمؤمنين ذنوبهم، ويتقبّل منهم توبتهم، ويقبل منهم إيمانهم واستقامتهم.
3 ـ التهديد بالرجم، إذ {قَالُواْ يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِّمَّا تَقُولُ}، لأننا غير مستعدين للتفكير في ما تعرضه علينا، لإصرارنا على البقاء في مواقعنا، فلن نسمع أيَّ كلام يخالفه، أيّاً كان القائل، لأنّ القضيّة تتّصل بقدسيّة عقائد الآباء وعاداتهم التي لن يتنازلوا عنها، {وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفاً} في قوّتك الذاتية، {وَلَوْلاَ رَهْطُكَ}، الذين نحترمهم ونقدّر لهم موقعهم الاجتماعيّ بيننا، ورفضنا الدّخول معهم في نزاع، {لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ}، لنلاحظ وضعك، ونحترم موقعك، ونخاف من سطوتك. وكان جوابه حاسماً في خطّ الرّسالة: {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُم مِّنَ اللّهِ}، الّذي أتوكّل عليه، وأستوحي القوّة منه، وهو القادر القاهر فوق عباده، الذي يجب أن تراقبوه، وتخافوا من سطوته، {وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءكُمْ ظِهْرِيّاً}، فجعلتموه في تصوّراتكم المريضة المتخلّفة وراء ظهوركم، {إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ}، وهو الَّذي يملك الأمر كله. {وَيَا قَوْمِ اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ} وقدرتكم وموقعكم، ولن أسقط أمامكم، {إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُواْ إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ}، وهذا ما سوف تواجهونه في المستقبل عندما تصل الأمور إلى نهايتها الأخيرة.
{وَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مَّنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ}[20]. وهكذا كانت نهاية المطاف التي تؤكّد لنا كيف يمارس الدعاة إلى الله والعاملون في سبيله، أساليبهم التبليغية في مواجهة خطط الأعداء الّذين يكيدون للإسلام والمسلمين، والأخذ بأسباب الحكمة التي تضع الأشياء في مواضعها، والواقعيّة التي تجعلهم يدرسون العقليّة المعاصرة لهم، ليعرفوا كيف ينفذون إلى عقولهم، استجابةً للحديث النبويّ الشريف: "إنّا معاشر الأنبياء أُمرنا أن نكلِّم النَّاس على قدر عقولهم"[21].
ويبقى لنا الحديث عن أسلوب النبيّ محمد(ص) في مواجهة أعداء الله، مما نرجو أن نتحدّث عنه في العدد القادم.
*ندوة الشام الأسبوعيّة، فكر وثقافة
[1] [الفجر: 7، 8].
[2] [الشعراء: 132 ـ 134].
[3] [الأعراف: 65].
[4] [هود: 51، 52].
[5] [الشعراء: 135].
[6] [الأعراف: 66 ـ 71].
[7] [هود: 53 ـ 57].
[8] [محمد: 38].
[9] [الشعراء: 136 ـ 138].
[10] [هود: 58 ـ 62].
[11] [الأعراف: 75، 76].
[12] [الشعراء: 152].
[13] [الأعراف: 77 ـ 79].
[14] [النمل: 52 ـ 53].
[15] (الأعراف: 80، 81).
[16] [الأنبياء: 74].
[17] [الشعراء: 161 ـ 174].
[18] [هود: 80، 81].
[19] [الأعراف: 85 ـ 90].
[20] [هود: 87 ـ 94].
[21] الكافي، الشيخ الكليني، ج 8، ص 268.