خطَّة التخلّص من يوسف(ع)

خطَّة التخلّص من يوسف(ع)

اتَّفق أخوة يوسف على الخطَّة الخبيثة الَّتي تستهدف إبعاد أخيهم عن حضانة أبيه والتصاقه به، وإطلاقه في المتاهات البعيدة، بحيث لا يبقى له أيُّ أثرٍ في منطقتهم، من خلال أن يضيع ويبتعد عن أجواء الأسرة، حتّى كأنَّه لا وجود له. وبدأوا المحاولة التَّنفيذيَّة مع أبيهم ليسلّمهم يوسف، ليحقِّقوا ما اتَّفقوا عليه من إلقائه في البئر.

تهيئة الظّروف للخطَّة

وبدأوا الحوار معه: {قَالُواْ يَا أَبَانَا مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ}. ونستوحي من ذلك أنّهم كانوا قد طلبوا منه أن يدفعه إليهم ليعيش معهم، وكان يرفض ذلك، حذراً ممّا قد يحدث له منهم، لأنّه كان يعرف حسدهم له وحقدهم عليه، ما يجعله لا يأتمن عليه معهم. وربّما كان أسلوبهم في الكلام يوحي بالعتاب له، وبأنّهم الأمناء على أخيهم، بفعل علاقة الأخوَّة التي يمتنع فيها إساءة الأخ إلى أخيه، بل إنّهم حاولوا أن يوحوا أنَّ الأمر لديهم على العكس من ذلك، إذ إنَّ تلك العلاقة تفرض عليهم النّصح له والرّعاية لسلامته.

{وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ}[1]، وكأنّهم أرادوا أن يبرّروا طلبهم إرساله معهم، لأنَّ هذا الطّفل كان حبيس داره من خلال خوف أبيه عليه، بينما يميل الطّفل إلى اللَّهو واللَّعب في الصَّحراء الواسعة كبقيَّة الأطفال الذين يتطلَّبون ذلك ويتطلّعون إليه. وقد كانوا يتوسَّلون أباهم بلسانٍ ليّنٍ يدعو إلى الرَّحمة لأخيهم، ويؤكِّد أنّهم مخلصون له.

{أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ}، لأنّه بحاجةٍ إلى ذلك، لترتاح طفولته في لهوه ولعبه، {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}[2] من كلِّ سوء.

 ولكنَّ يعقوب بقي على تردُّده، لخوفه عليه من الذِّئاب الّتي قد تفترسه عندما يغفل أخوته عنه في لهوهم ولعبهم في طريقة السّباق والمنافسة. {قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَن تَذْهَبُواْ بِهِ} فأفارقه، وهو سلوتي في شيخوختي، ثم إنّي أخاف أن أفقده نهائيّاً، {وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ}[3]، ولكنَّهم استبعدوا هذا الاحتمال، ورفضوا هذا الخوف، لأنَّهم سوف يحوطونه ويحمونه ويدافعون عنه، وهم العصبة القويَّة القادرة على طرد الذِّئاب عن ساحتهم وعن أخيهم. {قَالُواْ لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذاً لَّخَاسِرُونَ}[4]، فهل يمكن أن نتفرَّج على الذّئب وهو يهجم على أخينا ليفترسه؟! إنّها فرضيَّة لا تثبت أمام الواقع.

وهكذا استطاع أخوة يوسف بأسلوبهم العاطفيّ، وإلحاحهم على أبيهم، وربّما بتشجيع أخيهم يوسف، حمله على الاستجابة لهم والرَّغبة في السَّير معهم، ما جعل أباهم يستسلم لهم، الأمر الَّذي أدَّى إلى نجاح خطَّتهم في تهيئة الظّروف لتنفيذها، وخصوصاً أنَّ أباهم قد أخبرهم باحتمال أكل الذِّئب ليوسف، وهو ما لم يكونوا ملتفتين إليه، بحيث وجدوا في ذلك حجّةً يحتجّون بها عندما يرجعون إلى أبيهم بعد تنفيذ مؤامرتهم. وقد روي عن النّبيّ(ص) أنَّه قال: "لا تلقِّنوا الكذب فتكذبوا، فإنَّ بني يعقوب لم يعلموا أنَّ الذِّئب يأكل الإنسان حتى لقَّنهم أبوهم"[5].

إلقاء يوسف في البئر

وهكذا، أخذوا يوسف معهم بموافقة أبيهم، وبدأوا عمليَّة التَّنفيذ للخطَّة التي توافقوا عليها، وتتلخَّص في إنزاله إلى البئر الّتي لم تكن عميقةً أو كثيرة الماء الّذي يغرق فيه من يقع فيه. وهذا ما جاء في قوله تعالى: {فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِ وَأَجْمَعُواْ أَن يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ}، أي في أعماقه المظلمة. ولم يتحدَّث القرآن عن مقاومته لهم وصراخه في وجوههم، بل ربّما استخدموا معه بعض أساليب الضَّغط القاسي التي لم تجعل له قدرةً على الامتناع عمَّا فعلوه معه، فاستسلم لهم، {وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُم بِأَمْرِهِمْ هَـذَا وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ}[6].

ويذكر المفسِّرون أنَّ الضَّمير يعود إلى يوسف، في إيحاءٍ مبكرٍ إليه بالنّبوَّة التي أفاضها الله عليه. والمراد "بأمرهم" هذا، إلقاؤهم إيَّاه في غيابة الجبِّ، وتأويل ما فعلوه به، فإنَّهم يرونه نفياً لشخصك، وإنساءً لنفسك، وإطفاءً لنورك، وإذلالاً لك، وحطّاً لقدرك، وهم لا يشعرون بهذه الحقيقة، وستنبّئهم بذلك.

وهذا هو ما يوحي به قوله ـ عندما طلبوا منه أن يوفي لهم الكيل ويتصدَّق عليهم ـ {قَالَ هَلْ عَلِمْتُم مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُونَ}[7]، إلى أن قال: {أَنَاْ يُوسُفُ وَهَـذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنَا}[8]... إلخ.

وربّما يحتمل أن يكون الضَّمير عائداً إلى يعقوب الّذي عرّفه الله ما حدث ليوسف من أخوته، وأوحى إليه أن ينبِّئهم بأمرهم هذا بطريقةٍ خفيّةٍ لا يظهر منها اطّلاعه على ما فعلوه بوحيٍ من الله. وقد يدلّ على ذلك قوله عندما عادوا إليه وأطلقوا كذبهم في أكل الذِّئب له: {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ}[9].

وهذا هو الَّذي ينسجم مع طبيعة الآية، لأنَّ يوسف قد أخبرهم ـ في نهاية المطاف ـ بصراحةٍ صدمت موقعهم في مؤامرتهم ضدّه وضدّ أخيه، في حسدهم لهما وتآمرهم عليهما، الأمر الذي جعلهم يشعرون بالذّنب وبخطيئتهم، ولم يكن ذلك بعيداً عن إخبارهم بما حدث له من قِبَلهم، باعتبار أنَّ الأمر يتعلَّق به في طريقةٍ لا يشعرون فيها بمعرفته بذلك؛ والله العالم.

وجاء في تفسير القرطبي: "وقيل: الهاء ليعقوب، أوحى الله تعالى إليه ما فعلوه بيوسف، وأنّه سيعرّفهم بأمره، وهم لا يشعرون بما أوحى الله إليه"[10]. ولعلَّ هذا الاحتمال لا يخلو من قربٍ في سياق الآيات، ولا سيَّما أنَّ يوسف لم يكن في تلك المرحلة من عمره قد بلغ المنزلة من النبوَّة بحيث يوحى إليه، لأنّه كان في سنِّ الطفولة، وقد أكَّد الله أنّه قد آتاه حكماً وعلماً بعد بلوغه مرحلة القوَّة والوعي الفكريّ من العمر.

تبرير الجريمة

وقد تداول أولاد يعقوب الرّأي في الطّريقة الّتي يبرّرون فيها لأبيهم غياب يوسف عن مرافقتهم، واتّفقوا على مواجهة الموقف بالصّرخة البكائيّة للكارثة التي حلّت بأخيهم الّذي تعهّدوا بحفظه. {وَجَاؤُواْ أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ}[11]، ويعلو الصّراخ بشكلٍ يوحي بالفاجعة، في عمليَّة إثارةٍ للشّعور بالذَّنب، على طريقة دموع التَّماسيح التي لا تتحرّك من الأعماق، بل تبقى في دائرة الشَّكل. {قَالُواْ يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ}، في سباقٍ عنيفٍ يغفل الإنسان فيه عن نفسه وعمَّن حوله، ولم يكن من الممكن ليوسف أن يستبق معنا لصغر سنّه وضعف جسمه، {وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا}، ليقوم بحراسته، وابتعدنا عنه في تراكضنا نحو الهدف، فاستغلّ الذِّئب هذه الفرصة، فلم يجد عنده أحداً، ولم يملك أن يدافع عن نفسه.

{فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ}، وتلك هي الحقيقة الصَّارخة التي عشناها بكلِّ ما يختزنه الإنسان من قساوة الألم وعنف الحزن وفداحة الخسارة... ولا نملك ما نؤكِّد به لك هذه الحقيقة، {وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لِّنَا}، لأنَّ الشّكَّ يغلب جانب ثقتك بنا، مع أنَّ الأمر محتملٌ جدّاً، لكثرة ما يقع من أمثال هذه الحوادث، وقد كنت أوَّل من أثار المسألة أمامنا على أساس الاحتمال الّذي استبعدناه واستقربته. ولكن ماذا نقول لك أمام حالة الشّكّ التي تنطلق بها كلّ لمحةٍ في عينيك، وأنت تحدّق بنا بطريقتك القلقة، وكلّ نبضةٍ في ملامح وجهك، ولا ندري ما هي الطّريقة الّتي نرفع فيها عن أنفسنا الشّبهة، ونزيل عنك حالة الشكّ، ونؤكِّد لك الحقيقة الواقعيّة.

إنَّ من المؤسف، بل من المفجع، أن تفقد ثقتك بنا، وتتَّهمنا بما لا دخل لنا به، {وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ}[12]، فيما نخبرك به. ولكن ما هي القيمة في أن يكون الإنسان صادقاً وهو لا يملك الحجَّة القاطعة على صدقه!

الصَّبر أمام الفاجعة

وكانوا قد نزعوا عن يوسف قميصه، ولم يمزّقوه كما يفعل الذِّئب عند أكل الفريسة، ممّا أغفلوا أمره وتنافى مع دعواهم، ولطَّخوه بدمٍ كذبٍ، {وَجَآؤُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ}، كشاهدٍ على دعواهم، ولكنَّ يعقوب لم يقتنع بذلك، ولا سيَّما بعد أن أوحى الله إليه بما عملوه، {قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً} غير هذا الّذي تدّعونه، ولن أدخل معكم في التّفاصيل لأكشف لكم ما أعلمه أو ما أحسّه من الموضوع، فلم يأت الوقت المناسب لذلك، {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} أمام هذه الفاجعة التي أصابتني في الصَّميم، {وَاللهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ}[13]، فهو الّذي يعين عبده على مواجهة الفواجع والكوارث، بالصَّبر والتَّسليم والثّقة بما عند الله من آفاق الأمل ووسائل الفرج، وهو الّذي يكشف الحقيقة الّتي عملتم على إخفائها، وهو الّذي يهيِّئ لي الوسائل الكفيلة بإيصالي إلى النَّتائج الطيِّبة الّتي تحلّ المشكلة على أفضل وجه.

ونستوحي من ذلك، أنَّ كلامه أثار في نفوسهم القلق من عدم تصديقه لهم فيما حدَّثوه به، وربّما شعروا بأنَّ الله قد أطلعه على حقيقة المسألة في جريمتهم الشرّيرة في تأكيد اتّهامهم من خلال قوله: {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً}، لأنَّ ما ذكروه لا يقنع أحداً يملك عقلاً.

بيع يوسف بثمنٍ بخس

هذا ما كان من أمر يعقوب وأولاده في قضيَّة يوسف، فماذا كان من أمر يوسف وهو في داخل الجبّ؟

هذا ما قصَّه الله في كتابه في قوله تعالى: {وَجَاءتْ سَيَّارَةٌ} مارّة على طريق البئر الّتي كان فيها يوسف، {فَأَرْسَلُواْ وَارِدَهُمْ} الّذي يرد مواقع الماء، فيطلبه لقومه في مواقعه، {فَأَدْلَى دَلْوَهُ} في البئر وأخرجه، فإذا به أمام المفاجأة السارّة، فقد كان ينتظر خروج الدَّلو بالماء، فإذا به يخرج بغلامٍ جميل الصّورة، صغير السنّ، هو يوسف الّذي تعلّق بالدّلو عندما أنزله صاحبه إلى البئر للاستقاء منها، {قَالَ يَا بُشْرَى هَـذَا غُلاَمٌ}. والتفت إلى قومه ليبشِّرهم بالرّبح الجديد الذي يمكن أن يحصلوا عليه إذا ما باعوا الغلام الّذي وُجد في البئر في سوق النَّخاسة التي يباع فيها العبيد.

{وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً} إلى جانب بضائعهم الّتي يطرحونها للبيع للحصول على الرّبح منها، {وَاللهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ}[14]، فهو المشرف على رعاية أمر يوسف وحمايته وحفظ حياته والعناية بسلامته، وهو المطَّلع على السرّ وأخفى، فلا يعزب عن علمه مثقال ذرّةٍ، وهو الّذي أراد ليوسف أن يسير في هذا الاتّجاه ليصل إلى النَّتائج الطيِّبة في نهاية المطاف، فإذا كانوا قد أخفوه عن النَّاس، فلا يمكن أن يخفوه عن الله الّذي يحيط بهم من كلِّ جهة، ويشمل يوسف بكلِّ رعايته.

{وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ}، والشّراء ـ هنا ـ بمعنى البيع، فقد باعوه بثمنٍ ناقصٍ قليل، لأنّه غلام صغير لا ينتفع به من يشتريه في الخدمة في البيت وفي الأشغال الخاصَّة، {وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ}[15]، لأنّهم أرادوا التخلّص منه بسرعةٍ، والحصول على ثمنه بأيِّ مقدارٍ كان، حذراً من أن يعثر عليه أهله ويكتشفوه ويأخذوه منهم قبل أن يبيعوه ويقبضوا ثمنه.

 والظَّاهر أنَّ الضَّمير راجعٌ إلى القوم الّذين أخرجوه من البئر، واعتبروه غنيمةً لهم، وأسرّوه بضاعةً كبقيَّة بضائعهم الأخرى، لأنَّ السِّياق يوحي بذلك، ولا يلتفت إلى احتمال أنَّ أخوةً ليوسف هم الَّذين باعوه بعد أن اكتشفوا إخراج السيَّارة له، فادَّعوا أنّه عبدهم فباعوه منهم، لأنَّ هذا خلاف الظّاهر.

ويبقى الحديث حول أوضاع يوسف لدى الَّذين اشتروه من أهل مصر البعيدة عن منطقة البدو الَّتي كان يسكنها مع أهله! والحمد لله ربّ العالمين.

*ندوة الشّام الأسبوعيّة، فكر وثقافة


[1]  [يوسف: 11].

[2]  [يوسف: 12].

[3]  [يوسف: 13].

[4]  [يوسف: 14].

[5]  بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج 12، ص 221.

[6]  [يوسف: 15].

[7]  [يوسف: 89].

[8]  [يوسف: 90].

[9]  [يوسف: 18].

[10]  تفسير القرطبي، القرطبي، ج 9، ص 143.

[11]  [يوسف: 16].

[12]  [يوسف: 17].

[13]  [يوسف: 18].

[14]  [يوسف: 19].

[15]  [يوسف: 20].

اتَّفق أخوة يوسف على الخطَّة الخبيثة الَّتي تستهدف إبعاد أخيهم عن حضانة أبيه والتصاقه به، وإطلاقه في المتاهات البعيدة، بحيث لا يبقى له أيُّ أثرٍ في منطقتهم، من خلال أن يضيع ويبتعد عن أجواء الأسرة، حتّى كأنَّه لا وجود له. وبدأوا المحاولة التَّنفيذيَّة مع أبيهم ليسلّمهم يوسف، ليحقِّقوا ما اتَّفقوا عليه من إلقائه في البئر.

تهيئة الظّروف للخطَّة

وبدأوا الحوار معه: {قَالُواْ يَا أَبَانَا مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ}. ونستوحي من ذلك أنّهم كانوا قد طلبوا منه أن يدفعه إليهم ليعيش معهم، وكان يرفض ذلك، حذراً ممّا قد يحدث له منهم، لأنّه كان يعرف حسدهم له وحقدهم عليه، ما يجعله لا يأتمن عليه معهم. وربّما كان أسلوبهم في الكلام يوحي بالعتاب له، وبأنّهم الأمناء على أخيهم، بفعل علاقة الأخوَّة التي يمتنع فيها إساءة الأخ إلى أخيه، بل إنّهم حاولوا أن يوحوا أنَّ الأمر لديهم على العكس من ذلك، إذ إنَّ تلك العلاقة تفرض عليهم النّصح له والرّعاية لسلامته.

{وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ}[1]، وكأنّهم أرادوا أن يبرّروا طلبهم إرساله معهم، لأنَّ هذا الطّفل كان حبيس داره من خلال خوف أبيه عليه، بينما يميل الطّفل إلى اللَّهو واللَّعب في الصَّحراء الواسعة كبقيَّة الأطفال الذين يتطلَّبون ذلك ويتطلّعون إليه. وقد كانوا يتوسَّلون أباهم بلسانٍ ليّنٍ يدعو إلى الرَّحمة لأخيهم، ويؤكِّد أنّهم مخلصون له.

{أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ}، لأنّه بحاجةٍ إلى ذلك، لترتاح طفولته في لهوه ولعبه، {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}[2] من كلِّ سوء.

 ولكنَّ يعقوب بقي على تردُّده، لخوفه عليه من الذِّئاب الّتي قد تفترسه عندما يغفل أخوته عنه في لهوهم ولعبهم في طريقة السّباق والمنافسة. {قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَن تَذْهَبُواْ بِهِ} فأفارقه، وهو سلوتي في شيخوختي، ثم إنّي أخاف أن أفقده نهائيّاً، {وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ}[3]، ولكنَّهم استبعدوا هذا الاحتمال، ورفضوا هذا الخوف، لأنَّهم سوف يحوطونه ويحمونه ويدافعون عنه، وهم العصبة القويَّة القادرة على طرد الذِّئاب عن ساحتهم وعن أخيهم. {قَالُواْ لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذاً لَّخَاسِرُونَ}[4]، فهل يمكن أن نتفرَّج على الذّئب وهو يهجم على أخينا ليفترسه؟! إنّها فرضيَّة لا تثبت أمام الواقع.

وهكذا استطاع أخوة يوسف بأسلوبهم العاطفيّ، وإلحاحهم على أبيهم، وربّما بتشجيع أخيهم يوسف، حمله على الاستجابة لهم والرَّغبة في السَّير معهم، ما جعل أباهم يستسلم لهم، الأمر الَّذي أدَّى إلى نجاح خطَّتهم في تهيئة الظّروف لتنفيذها، وخصوصاً أنَّ أباهم قد أخبرهم باحتمال أكل الذِّئب ليوسف، وهو ما لم يكونوا ملتفتين إليه، بحيث وجدوا في ذلك حجّةً يحتجّون بها عندما يرجعون إلى أبيهم بعد تنفيذ مؤامرتهم. وقد روي عن النّبيّ(ص) أنَّه قال: "لا تلقِّنوا الكذب فتكذبوا، فإنَّ بني يعقوب لم يعلموا أنَّ الذِّئب يأكل الإنسان حتى لقَّنهم أبوهم"[5].

إلقاء يوسف في البئر

وهكذا، أخذوا يوسف معهم بموافقة أبيهم، وبدأوا عمليَّة التَّنفيذ للخطَّة التي توافقوا عليها، وتتلخَّص في إنزاله إلى البئر الّتي لم تكن عميقةً أو كثيرة الماء الّذي يغرق فيه من يقع فيه. وهذا ما جاء في قوله تعالى: {فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِ وَأَجْمَعُواْ أَن يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ}، أي في أعماقه المظلمة. ولم يتحدَّث القرآن عن مقاومته لهم وصراخه في وجوههم، بل ربّما استخدموا معه بعض أساليب الضَّغط القاسي التي لم تجعل له قدرةً على الامتناع عمَّا فعلوه معه، فاستسلم لهم، {وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُم بِأَمْرِهِمْ هَـذَا وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ}[6].

ويذكر المفسِّرون أنَّ الضَّمير يعود إلى يوسف، في إيحاءٍ مبكرٍ إليه بالنّبوَّة التي أفاضها الله عليه. والمراد "بأمرهم" هذا، إلقاؤهم إيَّاه في غيابة الجبِّ، وتأويل ما فعلوه به، فإنَّهم يرونه نفياً لشخصك، وإنساءً لنفسك، وإطفاءً لنورك، وإذلالاً لك، وحطّاً لقدرك، وهم لا يشعرون بهذه الحقيقة، وستنبّئهم بذلك.

وهذا هو ما يوحي به قوله ـ عندما طلبوا منه أن يوفي لهم الكيل ويتصدَّق عليهم ـ {قَالَ هَلْ عَلِمْتُم مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُونَ}[7]، إلى أن قال: {أَنَاْ يُوسُفُ وَهَـذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنَا}[8]... إلخ.

وربّما يحتمل أن يكون الضَّمير عائداً إلى يعقوب الّذي عرّفه الله ما حدث ليوسف من أخوته، وأوحى إليه أن ينبِّئهم بأمرهم هذا بطريقةٍ خفيّةٍ لا يظهر منها اطّلاعه على ما فعلوه بوحيٍ من الله. وقد يدلّ على ذلك قوله عندما عادوا إليه وأطلقوا كذبهم في أكل الذِّئب له: {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ}[9].

وهذا هو الَّذي ينسجم مع طبيعة الآية، لأنَّ يوسف قد أخبرهم ـ في نهاية المطاف ـ بصراحةٍ صدمت موقعهم في مؤامرتهم ضدّه وضدّ أخيه، في حسدهم لهما وتآمرهم عليهما، الأمر الذي جعلهم يشعرون بالذّنب وبخطيئتهم، ولم يكن ذلك بعيداً عن إخبارهم بما حدث له من قِبَلهم، باعتبار أنَّ الأمر يتعلَّق به في طريقةٍ لا يشعرون فيها بمعرفته بذلك؛ والله العالم.

وجاء في تفسير القرطبي: "وقيل: الهاء ليعقوب، أوحى الله تعالى إليه ما فعلوه بيوسف، وأنّه سيعرّفهم بأمره، وهم لا يشعرون بما أوحى الله إليه"[10]. ولعلَّ هذا الاحتمال لا يخلو من قربٍ في سياق الآيات، ولا سيَّما أنَّ يوسف لم يكن في تلك المرحلة من عمره قد بلغ المنزلة من النبوَّة بحيث يوحى إليه، لأنّه كان في سنِّ الطفولة، وقد أكَّد الله أنّه قد آتاه حكماً وعلماً بعد بلوغه مرحلة القوَّة والوعي الفكريّ من العمر.

تبرير الجريمة

وقد تداول أولاد يعقوب الرّأي في الطّريقة الّتي يبرّرون فيها لأبيهم غياب يوسف عن مرافقتهم، واتّفقوا على مواجهة الموقف بالصّرخة البكائيّة للكارثة التي حلّت بأخيهم الّذي تعهّدوا بحفظه. {وَجَاؤُواْ أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ}[11]، ويعلو الصّراخ بشكلٍ يوحي بالفاجعة، في عمليَّة إثارةٍ للشّعور بالذَّنب، على طريقة دموع التَّماسيح التي لا تتحرّك من الأعماق، بل تبقى في دائرة الشَّكل. {قَالُواْ يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ}، في سباقٍ عنيفٍ يغفل الإنسان فيه عن نفسه وعمَّن حوله، ولم يكن من الممكن ليوسف أن يستبق معنا لصغر سنّه وضعف جسمه، {وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا}، ليقوم بحراسته، وابتعدنا عنه في تراكضنا نحو الهدف، فاستغلّ الذِّئب هذه الفرصة، فلم يجد عنده أحداً، ولم يملك أن يدافع عن نفسه.

{فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ}، وتلك هي الحقيقة الصَّارخة التي عشناها بكلِّ ما يختزنه الإنسان من قساوة الألم وعنف الحزن وفداحة الخسارة... ولا نملك ما نؤكِّد به لك هذه الحقيقة، {وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لِّنَا}، لأنَّ الشّكَّ يغلب جانب ثقتك بنا، مع أنَّ الأمر محتملٌ جدّاً، لكثرة ما يقع من أمثال هذه الحوادث، وقد كنت أوَّل من أثار المسألة أمامنا على أساس الاحتمال الّذي استبعدناه واستقربته. ولكن ماذا نقول لك أمام حالة الشّكّ التي تنطلق بها كلّ لمحةٍ في عينيك، وأنت تحدّق بنا بطريقتك القلقة، وكلّ نبضةٍ في ملامح وجهك، ولا ندري ما هي الطّريقة الّتي نرفع فيها عن أنفسنا الشّبهة، ونزيل عنك حالة الشكّ، ونؤكِّد لك الحقيقة الواقعيّة.

إنَّ من المؤسف، بل من المفجع، أن تفقد ثقتك بنا، وتتَّهمنا بما لا دخل لنا به، {وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ}[12]، فيما نخبرك به. ولكن ما هي القيمة في أن يكون الإنسان صادقاً وهو لا يملك الحجَّة القاطعة على صدقه!

الصَّبر أمام الفاجعة

وكانوا قد نزعوا عن يوسف قميصه، ولم يمزّقوه كما يفعل الذِّئب عند أكل الفريسة، ممّا أغفلوا أمره وتنافى مع دعواهم، ولطَّخوه بدمٍ كذبٍ، {وَجَآؤُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ}، كشاهدٍ على دعواهم، ولكنَّ يعقوب لم يقتنع بذلك، ولا سيَّما بعد أن أوحى الله إليه بما عملوه، {قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً} غير هذا الّذي تدّعونه، ولن أدخل معكم في التّفاصيل لأكشف لكم ما أعلمه أو ما أحسّه من الموضوع، فلم يأت الوقت المناسب لذلك، {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} أمام هذه الفاجعة التي أصابتني في الصَّميم، {وَاللهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ}[13]، فهو الّذي يعين عبده على مواجهة الفواجع والكوارث، بالصَّبر والتَّسليم والثّقة بما عند الله من آفاق الأمل ووسائل الفرج، وهو الّذي يكشف الحقيقة الّتي عملتم على إخفائها، وهو الّذي يهيِّئ لي الوسائل الكفيلة بإيصالي إلى النَّتائج الطيِّبة الّتي تحلّ المشكلة على أفضل وجه.

ونستوحي من ذلك، أنَّ كلامه أثار في نفوسهم القلق من عدم تصديقه لهم فيما حدَّثوه به، وربّما شعروا بأنَّ الله قد أطلعه على حقيقة المسألة في جريمتهم الشرّيرة في تأكيد اتّهامهم من خلال قوله: {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً}، لأنَّ ما ذكروه لا يقنع أحداً يملك عقلاً.

بيع يوسف بثمنٍ بخس

هذا ما كان من أمر يعقوب وأولاده في قضيَّة يوسف، فماذا كان من أمر يوسف وهو في داخل الجبّ؟

هذا ما قصَّه الله في كتابه في قوله تعالى: {وَجَاءتْ سَيَّارَةٌ} مارّة على طريق البئر الّتي كان فيها يوسف، {فَأَرْسَلُواْ وَارِدَهُمْ} الّذي يرد مواقع الماء، فيطلبه لقومه في مواقعه، {فَأَدْلَى دَلْوَهُ} في البئر وأخرجه، فإذا به أمام المفاجأة السارّة، فقد كان ينتظر خروج الدَّلو بالماء، فإذا به يخرج بغلامٍ جميل الصّورة، صغير السنّ، هو يوسف الّذي تعلّق بالدّلو عندما أنزله صاحبه إلى البئر للاستقاء منها، {قَالَ يَا بُشْرَى هَـذَا غُلاَمٌ}. والتفت إلى قومه ليبشِّرهم بالرّبح الجديد الذي يمكن أن يحصلوا عليه إذا ما باعوا الغلام الّذي وُجد في البئر في سوق النَّخاسة التي يباع فيها العبيد.

{وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً} إلى جانب بضائعهم الّتي يطرحونها للبيع للحصول على الرّبح منها، {وَاللهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ}[14]، فهو المشرف على رعاية أمر يوسف وحمايته وحفظ حياته والعناية بسلامته، وهو المطَّلع على السرّ وأخفى، فلا يعزب عن علمه مثقال ذرّةٍ، وهو الّذي أراد ليوسف أن يسير في هذا الاتّجاه ليصل إلى النَّتائج الطيِّبة في نهاية المطاف، فإذا كانوا قد أخفوه عن النَّاس، فلا يمكن أن يخفوه عن الله الّذي يحيط بهم من كلِّ جهة، ويشمل يوسف بكلِّ رعايته.

{وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ}، والشّراء ـ هنا ـ بمعنى البيع، فقد باعوه بثمنٍ ناقصٍ قليل، لأنّه غلام صغير لا ينتفع به من يشتريه في الخدمة في البيت وفي الأشغال الخاصَّة، {وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ}[15]، لأنّهم أرادوا التخلّص منه بسرعةٍ، والحصول على ثمنه بأيِّ مقدارٍ كان، حذراً من أن يعثر عليه أهله ويكتشفوه ويأخذوه منهم قبل أن يبيعوه ويقبضوا ثمنه.

 والظَّاهر أنَّ الضَّمير راجعٌ إلى القوم الّذين أخرجوه من البئر، واعتبروه غنيمةً لهم، وأسرّوه بضاعةً كبقيَّة بضائعهم الأخرى، لأنَّ السِّياق يوحي بذلك، ولا يلتفت إلى احتمال أنَّ أخوةً ليوسف هم الَّذين باعوه بعد أن اكتشفوا إخراج السيَّارة له، فادَّعوا أنّه عبدهم فباعوه منهم، لأنَّ هذا خلاف الظّاهر.

ويبقى الحديث حول أوضاع يوسف لدى الَّذين اشتروه من أهل مصر البعيدة عن منطقة البدو الَّتي كان يسكنها مع أهله! والحمد لله ربّ العالمين.

*ندوة الشّام الأسبوعيّة، فكر وثقافة


[1]  [يوسف: 11].

[2]  [يوسف: 12].

[3]  [يوسف: 13].

[4]  [يوسف: 14].

[5]  بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج 12، ص 221.

[6]  [يوسف: 15].

[7]  [يوسف: 89].

[8]  [يوسف: 90].

[9]  [يوسف: 18].

[10]  تفسير القرطبي، القرطبي، ج 9، ص 143.

[11]  [يوسف: 16].

[12]  [يوسف: 17].

[13]  [يوسف: 18].

[14]  [يوسف: 19].

[15]  [يوسف: 20].

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية