{وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ}[البقرة: 207].
{إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذينَ آمَنُوا الَّذينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ}[المائدة: 55].
نزلت هاتان الآيتان، كما ورد في كتب التَّفسير، في عليّ (ع)؛ الأولى عندما بات على فراش رسول الله (ص) ليلة الهجرة، والخطر يتهدَّده من خلال عشرة سيوف مسلطة عليه إذا بدرت منه أيّ حركة، ظنّاً منهم أنَّه النَّبيّ (ص)، ونزلت الآية الثَّانية فيه (ع) عندما تصدَّق بالخاتم وهو راكع.
وليدُ الكعبةِ المباركُ
في هذه الأيَّام، كانت ذكرى مولد عليّ (ع). ولمولد عليّ معنى لم يتميَّز به أيُّ شخص من الأوَّلين والآخرين، فقد ولد عليّ (ع) في جوف الكعبة، وكانت أوَّل صرخة له هي صرخته في ذلك البيت الَّذي أعدَّه الله للطَّائفين والقائمين والركَّع السّجود.
وهكذا انطلقت هذه الولادة، لتكون الولادة الرّساليَّة لعليّ (ع) في بيت الله، ولتكون أولى خطواته (ع) في طريق الله. فنحن نعرف، أيُّها الأحبَّة، أنَّ عليّاً (ع) ولد في الكعبة، عندما جاء المخاض لأمّه وهي هناك، ثمَّ احتضنه رسول الله (ص) في السّنين الأولى من عمره، فعاش في أحضانه (ص)، وهو الَّذي يقول: "وَضَعَنِي فِي حِجْرِه وأَنَا وَلَدٌ، يَضُمُّنِي إِلَى صَدْرِه، ويَكْنُفُنِي فِي فِرَاشِه، ويُمِسُّنِي جَسَدَه، ويُشِمُّنِي عَرْفَه، وكَانَ يَمْضَغُ الشَّيْءَ ثُمَّ يُلْقِمُنِيه، ومَا وَجَدَ لِي كَذْبَةً فِي قَوْلٍ ولَا خَطْلَةً فِي فِعْلٍ، ولَقَدْ قَرَنَ اللَّه بِه (ص) مِنْ لَدُنْ أَنْ كَانَ فَطِيماً أَعْظَمَ مَلَكٍ مِنْ مَلَائِكَتِه، يَسْلُكُ بِه طَرِيقَ الْمَكَارِمِ، ومَحَاسِنَ أَخْلَاقِ الْعَالَمِ لَيْلَه ونَهَارَه، ولَقَدْ كُنْتُ أَتَّبِعُه اتِّبَاعَ الْفَصِيلِ أَثَرَ أُمّهِ، يَرْفَعُ لِي فِي كُلِّ يَوْمٍ مِنْ أَخْلَاقِه عَلَماً، ويَأْمُرُنِي بِالِاقْتِدَاءِ بِه"ِ.
وهكذا انطبعت شخصيَّته (ع) بشخصيَّة رسول الله (ص)، فكان يعيش مع الرَّسول وهو يتأمَّل في غار حراء ويتعبَّد، فيتأمَّل معه ويتعبَّد، ويبتهل إلى الله معه، ويستمع إليه وهو يعطيه مما أفاض به الله عليه، وفي ذلك يقول (ع): "ولَقَدْ كَانَ يُجَاوِرُ فِي كُلِّ سَنَةٍ بِحِرَاءَ، فَأَرَاه ولَا يَرَاه غَيْرِي".
وكان عليّ (ع) يسمع ذلك، يقول: "لَقَد سَمِعتُ رَنَّةَ الشَّيطانِ حينَ نَزَلَ الوَحيُ عَلَيهِ (ص)، فَقُلتُ: يا رَسولَ اللّهِ، ما هذِهِ الرَّنَّةُ؟ فَقالَ: هذَا الشَّيطانُ قَد أيِسَ مِن عِبادَتِهِ. إنَّكَ تَسْمَعُ ما أسْمَعُ - من الوحي - وتَرَى مَا أَرَى - من صورة الملك الَّذي ينزل عليَّ - إلّا أَنَّكَ لَستَ بِنَبِيٍّ".
أوّلُ المسلمين
وكان عليّ (ع) أوَّل من أسلم، وإذا كان بعض الكتَّاب يكتبون في كتب السّيرة أنَّ عليّاً (ع) أوَّل من أسلم من الصّبيان، فإنَّ هذه الكلمة لربّما لا تخلو من انتقاص بالقول إنَّ إسلامه إسلام الصّبيان، ولكنَّ عليّاً (ع) كان يملك عقل الرّجال الكبار، لأنَّ عقله نما وقوي وانفتح بعقل رسول الله (ص)، ولذلك كان (ع) يعيش الإسلام قبل أن يُبعَثَ رسول الله بالإسلام، كما كان رسول الله (ص) مسلماً قبل أن يُبعَث بالرّسالة، من خلال ما ألهمه االله، وما أفاضه عليه من رحمته في الخطوط الكبرى للرّسالة.
وهكذا كان عليّ (ع) في بيت رسول الله، ولم يكن في بيت رسول الله آنذاك، كما يحدّث عليّ (ع)، غير الرَّسول وخديجة وهو ثالثهما، يقول (ع) في ذلك: "ولَم يَجمَع بَيتٌ واحِدٌ يَومَئِذٍ فِي الإِسلامِ غَيرَ رَسولِ اللّهِ (ص) وخَديجَةَ وأنَا ثالِثُهُما؛ أرى نورَ الوَحيِ وَالرِّسالَةِ، وأشُمُّ ريحَ النُّبُوَّةِ". ولذلك، كان مع رسول الله في ليله ونهاره، كان يعرف كلَّ ما ينطلق به رسول الله من وحي ينزل، وكان (ع) يقول: "فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ آيَةٍ إِلَّا وَقَدْ عَرَفْتُ بِلَيْلٍ نَزَلَتْ أَمْ بِالنَّهَارِ، فِي سَهْلٍ أَمْ فِي جَبَلٍ"، لأنَّه كان مع رسول الله، وكان الرَّسول (ص) يعدّه لخلافته. لذلك، فإنّ الرَّسول (ص) عندما كان يربّي عليّاً، فإنّما كان يهيّئ للمسلمين الشَّخص الَّذي يحمل الرّسالة من بعده.
أخو الرَّسولِ ووصيُّه
وهكذا يحدّثنا تاريخ السّيرة، أنَّ رسول الله (ص) عندما أنزل الله عليه: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ}[الشّعراء: 214]، جمع عشيرته من بني هاشم، وأولم لهم مائدة، وقال: "إِنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِخَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَقَدْ أَمَرَنِي اللَّهُ تَعَالَى أَنْ أَدْعُوكُمْ إِلَيْهِ، فَأَيُّكُمْ يُؤَازِرُنِي عَلَى هَذَا الْأَمْرِ، عَلَى أَنْ يَكُونَ أَخِي وَوَصِيِّي وَخَلِيفَتِي فِيكُمْ؟"، فلقد بُعثْتُ رسولاً، وأريد أن أدعو إلى هذه الرّسالة، وسوف أحتاج إلى المساعدين، فأيّكم يؤازرني في هذا الأمر على أن يكون أخي ووصيّي وخليفتي فيكم؟
ولم يقم أحد، وقام عليّ (ع) وهو في طفولته الأولى، وفي المرَّة الثَّانية لم يقم غير عليّ، وفي المرَّة الثَّالثة قالها (ص) ولم يقم إلَّا عليّ، كان عليّ مندمجاً بالرّسالة، ولذلك عندما قال لرسول الله أنا أؤازرك في هذا الأمر، كان يعني ذلك، كان يستجمع كلَّ قوَّة عقله، وكلَّ قوَّة جسده، كان يستجمع كلَّ حاضره ومستقبله من أجل الرّسالة، لأنَّه عاش الرّسالة مع رسول الله عقلاً وقلباً وروحاً وحركةً واستقامةً في خطّ الله.
محطّمُ الأصنام
وهكذا عاش عليّ (ع) مع رسول الله كلَّ الآلام الَّتي عاشها (ص) في مكَّة، وتحمَّل معه كلَّ ما تحمَّل، وكان عليّ يذهب مع رسول الله إلى المسجد وخديجة ثالثهما، وكانت أوَّل صلاة جماعة تعقد في المسجد الحرام، هي هذه الجماعة، كان رسول الله (ص) يتقدَّمهما، وكان عليّ إلى يمينه، وكانت خديجة وراءهما، وعندما مرَّ أبو طالب، وكان يتَّقي قريشاً كمؤمن آل فرعون، قال لولده جعفر: "صِلْ جنَاحَ ابْنِ عَمّكَ".
وهكذا عاش عليّ مع رسول الله في كلّ حروبه، وفي كلّ مواقعه، كان معه في الحرب والسّلم، حتّى إنّه عندما تزوَّج بفاطمة (ع)، كان بيتُهُ هو البيتَ الَّذي يرتاح إليه رسول الله، وكانت هذه المجموعة الصَّغيرة؛ عليّ وفاطمة والحسن والحسين (عليهم السّلام)، مجموعته الأقرب إليه والأحبّ إلى قلبه، ولذلك كان يقضي أكثر وقته عندهم، حتَّى إذا لفَّهم بالكساء، منتظراً نزول الوسام الإلهيّ الكبير، ونزلت آية التَّطهير: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا}[الأحزاب: 33 ]، قال (ص): "اللَّهُمَّ هَؤُلَاءِ أَهْلُ بَيْتِي وَخَاصَّتِي، أَذْهِبْ عَنْهُمُ الرّجْسَ وَطَهّرْهُمْ تَطْهِيرًا".
ثمَّ إنَّ عليّاً عليّ (ع) الَّذي ولد في الكعبة، كان هو الَّذي كسَّر كلَّ الأصنام الَّتي كانت منصوبة في الكعبة، وهذا ما تُحدّثنا عنه كتب السّيرة، أنَّ رسول الله (ص) قالَ لعليّ (ع): "اصعَدْ عَلَى منكبي واهدمِ الصَّنَمَ، فَقَالَ: يا رسولَ اللهِ، بلْ اصعدْ أنتَ، فإنّي أُكرمُكَ أنْ أعلوَكَ، فقالَ (ص): إنَّكَ لا تستطيعُ حملَ ثقلِ النّبوَّةِ، فاصعَدْ أنتَ، فجلسَ النَّبيّ (ص)، فصعدَ عليٌّ (ع)"، وحطّم الأصنام بيده، فتهاوت على الأرض، كما حطَّم سلطة الأصنام بسيفه، عندما خاض كلَّ معارك الإسلام.
معاناته بعدَ الرّسول (ص)
وهكذا، لم يرتح عليّ لحظةً واحدةً. ثمَّ بعدَ رسول الله (ص) كان ما كان، وأُبعِدَ عليٌّ (ع) عن موقعه الَّذي وضعه الله فيه في يوم الغدير، وعاش (ع) المأساة كأعمق ما تكون المأساة، فقد كان يقف بين أن ينطلق ليدافع عن حقّه الَّذي هو حقّ المسلمين كلّهم، وحقّ الإسلام كلّه، وبين أن يصبر ويساعد الَّذين أبعدوه، لأنَّ مصلحة الإسلام تقتضي منه ذلك. ومن أعظم المآسي في حياة الإنسان، أن يقف بين مبادئه وبين حقّه، ليغلّب مبادئه على حقّه، وهذا ما عبَّر عنه (ع) في أكثر من موقف وأكثر من كلمة، ومن ذلك، عندما تحدَّث في الخطبة الشَّقشقيَّة وغيرها، عندما أبعد عن حقّه، وكان يقول: "أَمَا وَاللَّهِ لَقَدْ تَقَمَّصَهَا فُلَانٌ، وَإِنَّهُ لَيَعْلَمُ أَنَّ مَحَلِّي مِنْهَا مَحَلُّ الْقُطْبِ مِنَ الرَّحَى، يَنْحَدِرُ عَنِّي السَّيْلُ، وَلَا يَرْقَى إِلَيَّ الطَّيْرُ، فَسَدَلْتُ دُونَهَا ثَوْباً، وَطَوَيْتُ عَنْهَا كَشْحاً، وَطَفِقْتُ أَرْتَئِي بَيْنَ أَنْ أَصُولَ بِيَدٍ جَذَّاءَ، أَوْ أَصْبِرَ عَلَى طَخْيةٍ عَمْيَاءَ، يَهْرَمُ فِيهَا الْكَبِيرُ، وَيَشِيبُ فِيهَا الصَّغِيرُ، وَيَكْدَحُ فِيهَا مُؤْمِنٌ حَتَّى يَلْقَى رَبَّهُ".
إلى أن قال عندما وُضِعَ عضواً في الشّورى: "فَيَا لَلَّهِ وَلِلشُّورَى! مَتَى اعْتَرَضَ الرَّيْبُ فِيَّ مَعَ الْأَوَّلِ مِنْهُمْ حَتَّى صِرْتُ أُقْرَنُ إِلَى هَذِهِ النَّظَائِرِ، لَكِنِّي أَسْفَفْتُ إِذْ أَسَفُّوا، وَطِرْتُ إِذْ طَارُوا، فَصَغَا رَجُلٌ مِنْهُمْ لِضِغْنِهِ، وَمَالَ الْآخَرُ لِصِهْرِهِ، مَعَ هَنٍ وَهَنٍ".
ووقف عليّ (ع) ليعطينا درساً في أنَّ علينا أن ننصر الإسلام ولا نثير الفتنة في داخله، حتَّى لو قدَّمنا بعض التَّنازلات، لأنَّ مصلحة الإسلام فوق كلّ شيء، وسلامة الإسلام فوق كلّ شيء: "وَوَاللَّهِ لَأُسَلّمَنَّ مَا سَلِمَتْ أُمُورُ الْمُسْلِمِينَ، وَلَمْ يَكُنْ فِيهَا جَوْرٌ إِلَّا عَلَيَّ خَاصَّةً".
وهكذا اندفع (ع) ليساعد الأوَّل والثَّاني، وليوجّه الثَّالث ليدفع الفتنة، ثمَّ تسلَّم الخلافة في ظرفٍ من أصعب الظّروف.
مأساةُ عليّ (ع) في مجتمعه
وكان عليّ (ع) يعيش المأساة، كما قلنا، ليس مأساة الشَّخص في قضاياه الشَّخصيَّة، ولكنَّها مأساة الرّساليّ الَّذي يجد النَّاس لا يستمعون إليه، ولا يتعلَّمون منه، ولا يتحركون معه في خطّ الحقّ، مأساة عليّ (ع) أنَّه عاش في مجتمع لا يفهمه، وعاش في مجتمع لا ينفتح على آفاقه، ولا يعرف قيمته العلميَّة والرّوحيَّة والأخلاقيَّة والجهاديَّة.
إنّنا، أيُّها الأحبَّة، عندما ندرس عليّاً (ع)، لا نستطيع أن نجد أحداً من كلّ من عاش مع النَّبيّ (ص) يقترب منه، فضلاً عن أن يساويه، لأنَّ عليّاً هو الشَّخص الوحيد الَّذي جمع كلَّ الصّفات والعناصر الَّتي ترتفع بالشَّخصيَّة إلى أعلى المستويات، وهو القائل: "لَوْ كُشِفَ لِيَ الْغِطَاءُ مَا ازْدَدْتُ يَقِيناً".
وهكذا كان (ع) يعيش هذا الأفق الواسع، ولكنَّ القوم كان يريدون أن ينزلوه إلى الَّذين يتحركون في تلك السَّاحة. وتلك هي مأساة عليّ (ع)، وتلك هي مأساة كلّ الرّساليّين الَّذين يواجهون الموقف الصَّعب، عندما لا تفهمهم أمَّتهم ولا مجتمعهم، وإنما يتعرّفون إليهم بعد أن يغيبوا عن السَّاحة. وهذا ما تحدَّث عنه عليّ (ع) بعض الحديث، فاستمعوا إلى عليّ عن آلامه الرّساليَّة.
يقول (ع): "إنَّ هَا هُنا لَعِلْمَاً جَمّاً - وأشارَ إلى صَدرهِ - أنا أملك العلم الَّذي أستطيع أن أحوّل به مجتمع الجهل إلى مجتمع علم، ومجتمع التخلّف إلى مجتمع وعي، ولكنّي أريد من يحمل هذا العلم - لَوْ أصَبْتُ لَهُ حمَلَةً".
"بَلَى، أَصَبْتُ لَقِناً غَيْرَ مَأْمُونٍ عَلَيْهِ، مُسْتَعمِلاً آلَةَ الدِّينِ للدّنيا"، هناك أشخاص يتعلَّمون العلم، ولكن لا يتعلَّمونه كرسالة يؤدّونها، وكعبادة يتعبَّدون الله فيها، أو كأمانة يحملونها، ولكنَّهم يتعلَّمون العلم من أجل أن يستعملوا الدّين كآلة للدّنيا، فهم يتاجرون بالعلم وبالدّين، ولذلك يفرضون كلَّ أطماعهم وعقدهم النَّفسيَّة على الدّين، ويفرضون كلَّ عصبيَّاتهم على الدّين، ويقدّمون العصبيَّة والتخلّف والحميَّة وما إلى ذلك، يقدّمونها إلى النَّاس على أنَّها دين، ولكنَّها ليست ديناً.
"بَلَى، أَصَبْتُ لَقِناً غَيْرَ مَأْمُونٍ عَلَيْهِ"، لا يؤمَنُ على الدّين، لأنَّ المسألة أنَّه لا يكفي لمن يحمل الدّين أن يفهمه، بل لا بدَّ أن يعتبره أمانة، في إخلاصه وطهره وصدقه، وفي استقامته وأمانته، وفي ارتفاعه عن كلّ العصبيَّات والأنانيَّات والأهواء، وعن كلّ الشَّخصانيَّات، فهناك من يريد أن يتعلَّم منّي، ولكن "مُسْتَعمِلاً آلَةَ الدِّينِ للدّنيا، وَمُستَظْهِراً بنِعَمِ اللهِ عَلَى عِبَادِهِ، وَبحُجَجهِ عَلَى أَوْلِيَائِهِ"، يعني يحاول أن يجعل هذه العناوين عناوين يتقرَّب من خلالها إلى النَّاس، أو ليحصل على امتيازات.
"أَوْ مُنْقَاداً لِحَمَلَةِ الْحَقِّ، لَا بَصِيرَةَ لَهُ فِى أَحْنَائِهِ – لا فهم له ولا بصيرة - يَنْقَدِحُ الشَّكُّ فِى قَلْبِهِ – لم يتعمَّق العلم في قلبه - لِأَوَّلِ عَارِضٍ مِنْ شُبْهَةٍ. أَلَا لَا ذَا وَلَا ذَاكَ – وهناك قسم ثالث - أَوْ مَنْهُوماً بِاللَّذَّةِ، سَلِسَ الْقِيَادِ لِلشَّهْوَةِ – يتحرَّك بأهوائه وشهواته - أَوْ مُغْرَماً بِالْجَمْعِ وَالادِّخَارِ، لَيْسَا مِنْ رُعَاةِ الدِّينِ فِى شَيْءٍ، أَقْرَبُ شَيْءٍ شَبَهاً بِهِمَا الْأَنْعَامُ السَّائِمَةُ، كَذَلِكَ يَمُوتُ الْعِلْمُ بِمَوْتِ حَامِلِيهِ"، لأنَّه عندما لا يأخذ النَّاس من حملة العلم علمَهم، فإنَّ العلم يبقى في صدورهم، وعند ذلك، إذا مات حملة العلم، يموت العلم بموتهم.
حديثُه (ع) عن الفتن
ثمَّ يتحدَّث الإمام (ع) عن نفسه، فهو يقدّم تقريراً عن إمكاناته وجهاده، وعن أنَّهم سوف يتمنّون حضوره بعد أن يفقدوه. يقول (ع): "أَمَّا بَعْدَ حَمْدِ اللَّهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ، أَيُّهَا النَّاسُ، فَإِنِّي فَقَأْتُ عَيْنَ الْفِتْنَةِ - الّتي تحرّكت، سواء في زمن رسول الله (ص)، وهي فتنة النّفاق أو الشّرك، وما بعد رسول الله، كفتنة الانحراف، فقد فقأ (ع) عين الفتنة في صلابة، من حيث حركة الجهاد والوعي والصَّبر - وَلَمْ يَكُنْ لِيَجْتَرِئَ عَلَيْهَا أَحَدٌ غَيْرِي، بَعْدَ أَنْ مَاجَ غَيْهَبُهَا وَاشْتَدَّ كَلَبُهَا – أي بعد أن انطلقت بشكل حادّ.
ثمَّ قال (ع): - فَاسْأَلُونِي قَبْلَ أَنْ تَفْقِدُونِي – فأنا أملك كلَّ هذه الخبرة، وكلَّ هذه المعرفة، وكلَّ هذا العلم - فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَا تَسْأَلُوننِي عَنْ شَيْءٍ فِيمَا بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ السَّاعَةِ – يوم القيامة - وَلَا عَنْ فِئَةٍ تَهْدِي مِائَةً وَتُضِلُّ مِائَةً، إِلَّا أَنْبَأْتُكُمْ بِنَاعِقِهَا وَقَائِدِهَا وَسَائِقِهَا وَمُنَاخِ رِكَابِهَا وَمَحَطِّ رِحَالِهَا، وَمَنْ يُقْتَلُ مِنْ أَهْلِهَا قَتْلًا، وَمَنْ يَمُوتُ مِنْهُمْ مَوْتاً - فأنا كما أعرف تاريخ الماضي، أعرف تاريخ المستقبل.
- وَلَوْ قَدْ فَقَدْتُمُونِي، ونَزَلَتْ بِكُمْ كَرَائِهُ الْأُمُورِ وَحَوَازِبُ الْخُطُوبِ، لَأَطْرَقَ كَثِيرٌ مِنَ السَّائِلِينَ، وَفَشِلَ كَثِيرٌ مِنَ الْمَسْؤولِينَ، وَذَلِكَ إِذَا قَلَّصَتْ حَرْبُكُمْ وَشَمَّرَتْ عَنْ سَاقٍ، وَضَاقَتِ الدُّنْيَا عَلَيْكُمْ ضِيقاً، تَسْتَطِيلُونَ مَعَهُ أَيَّامَ الْبَلَاءِ عَلَيْكُمْ، حَتَّى يَفْتَحَ اللَّهُ لِبَقِيَّةِ الْأَبْرَارِ مِنْكُمْ.
إِنَّ الْفِتَنَ – وستأتيكم الفتن - إِذَا أَقْبَلَتْ شَبَّهَتْ – تصبح ضبابيَّة، فلا يقدر الإنسان أن يعرف الحقّ من الباطل - وَإِذَا أَدْبَرَتْ نَبَّهَتْ – لأنَّ الإنسان يعرف نتائجها السَّلبيَّة - يُنْكَرْنَ مُقْبِلاَتٍ، وَيُعْرَفْنَ مُدْبِرَاتٍ، يَحُمْنَ حَوْمَ الرِّيَاحِ، يُصِبْنَ بَلَداً، وَيُخْطِئْنَ بَلَداً"، حسب حركة الفتنة.
ثمَّ يتحدَّث (ع) بعد ذلك عن فتنة بني أميَّة ونشاطهم فيما يستقبلون. يقول (ع): "فَعِنْدَ ذلِكَ، تَوَدُّ قُرَيْشٌ بِالدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، لَوْ يَرَوْنَنِي مَقَاماً وَاحِداً – يقولون لو أنَّ عليّ بن أبي طالب موجود لنعرف منه كيف نتحرَّك ونخطّط وننفتح على المستقبل - وَلَوْ قَدْرَ جَزْرِ جَزْورٍ، لِأَقْبَلَ مِنْهُمْ مَا أَطْلُبُ الْيَوْمَ بَعْضَهُ فَلاَ يُعْطُونِيهِ!"، يقول هم الآن يقفون أمامي، ويضعون الحواجز أمام خططي وإصلاحاتي، ولكن في المستقبل، عندما يفقدونني، سيسألون أين عليّ، ويكونون مستعدّين ليعطوني ما حرموني إيَّاه.
تخاذلُ الحياديّين
ثم يتحدَّث (ع) عن تجربته في تخاذل النَّاس من حوله، ويعطينا فكرة عامَّة عن الحياديّين والسّلبيّين الّذين يقولون لا دخل لنا، نحن لا مع هذا ولا مع ذاك، ولا مع الحقّ ولا مع الباطل. يقول (ع):
"أَيُّهَا النَّاسُ، لَوْ لَمْ تَتَخَاذَلُوا عَنْ نَصْرِ الْحَقِّ، وَلَمْ تَهِنُوا عَنْ تَوْهِينِ الْبَاطِلِ، لَمْ يَطْمَعْ فِيكُمْ مَنْ لَيْسَ مِثْلَكُمْ، وَلَمْ يَقْوَ مَنْ قَوِيَ عَلَيْكُمْ - فالآخرون لم يطمعوا فيكم ليحتلّوا بلادكم ويستعمروا أرضكم ويصادورا سياستكم واقتصادكم، وما إلى ذلك، من جهة أنّهم أقوياء، بل لأنَّ الأمَّة إذا وقفت موقفاً سلبيّاً أمام حركة التحدّي والصّراع، فسيقوى ذاك الجانب بضعف هذا الجانب.
- لَكِنَّكُمْ تِهْتُمْ مَتَاهَ بَنِي إِسْرَائِيلَ. وَلَعَمْرِي لَيُضَعَّفَنَّ لَكُمُ التِّيهُ - الضَّياع - مِنْ بَعْدِي أَضْعَافاً – ستصيرون من متاهٍ إلى متاهٍ - بِمَا خَلَّفْتُمُ الْحَقَّ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ، وَقَطَعْتُمُ الْأَدْنَى وَوَصَلْتُمُ الْأَبْعَدَ"، يقول لهم أنا معكم أملك القيادة، أملك المعرفة والرّوحانيَّة، أملك التقوى، أملك القرب من الله وشرعيَّة المسؤوليَّة، ولكن قطعتموني ووصلتم الأبعد من ذلك كلّه.
ثمَّ يقول (ع): "لمْ تَكُنْ بَيْعَتُكُمْ إِيَّايَ فَلْتَةً - إشارة إلى ما قاله بعض من تقدّموه بأنّ بيعته كانت فلتة، لا بل إنّكم عندما بايعتموني كان ذلك عن قناعة، وعن دراسة، وعن تطوّرات في الواقع الإسلاميّ، لأنّكم كنتم تشعرون بأنَّه لا يوجد أحد غيري - وَلَيْسَ أَمْرِي وَأَمْرُكُمْ وَاحِداً، إِنِّي أُرِيدُكُمْ لِلَّهِ، وَأَنْتُمْ تُرِيدُونَنِي لِأَنْفُسِكُمْ. أَيُّهَا النَّاسُ، أَعِينُونِي عَلَى أَنْفُسِكُمْ - فأنا أريد أن أصلح نفوسكم ومساركم والمستقبل الّذي تنطلقون فيه، من خلال تركيز قواعد الحاضر على أساس التّقوى والإسلام - وَأيْمُ اللَّهِ، لَأُنْصِفَنَّ الْمَظْلُومَ مِنْ ظَالِمِهِ، وَلَأَقُودَنَّ الظَّالِمَ بِخِزَامَتِهِ، حَتَّى أُورِدَهُ مَنْهَلَ الْحَقِّ وَإِنْ كَانَ كَارِهاً".
مبلغُ علمِ عليّ (ع)
وهكذا يقول (ع) وهو يتحدَّث عن علمه: "وَاللهِ لَوْ شِئْتُ أَنْ أُخْبِرَ كُلَّ رَجُلٍ مِنْكُمْ بِمَخْرَجِهِ وَمَوْلِجِهِ وَجَمِيعِ شَأْنِهِ لَفَعَلْتُ، وَلكِنْ أَخَافُ أَنْ تَكْفُرُوا فيَّ بِرَسُولِ اللهِ (ص)، أَلَا وَإِنِّي مُفْضِيهِ إلَى الْخَاصَّةِ مِمَّنْ يُؤْمَنُ ذلِكَ مِنْهُ. وَالَّذِي بَعَثَهُ بِالحَقِّ، وَاصْطَفَاهُ عَلَى الْخَلْقِ، مَا أَنْطِقُ إلَّا صَادِقاً - لقد عرفني رسول الله بالصّدق، وما كذبت منذ كنت - وَقَدْ عَهِدَ إِلَيَّ بِذلِكَ كُلِّهِ - هذا ليس علم غيب منّي، ولكنَّ رسول الله علَّمني ذلك - وَبِمَهْلِكِ مَنْ يَهْلِكُ، وَمَنْجَى مَنْ يَنْجُو، وَمَآلِ هذَا الْأَمْرِ، وَمَا أَبْقَى شَيْئاً يَمُرُّ عَلَى رَأْسِي إلَّا أَفْرَغَهُ فِي أُذُنَيَّ وَأَفْضَى بِهِ إِلَيَّ.
أَيُّهَا النَّاسُ - أنا لست مثل بعض الخلفاء وبعض المسؤولين، ممّن يطلبون من النَّاس شيئاً ولا يلتزمون به - إِنِّي، وَاللهِ، مَا أَحُثُّكُمْ عَلَى طَاعَةٍ إِلَّا وَأَسْبِقُكُمْ إِلَيْهَا، وَلاَ أَنْهَاكُمْ عَنْ مَعْصِيَةٍ إِلَّا وَأَتَنَاهَى قَبْلَكُمْ عَنْهَا".
الاقتداءُ بعليّ (ع)
أيُّها الأحبَّة، هكذا عاش عليّ (ع) كلّ مأساة الرّساليّين الَّذين يعيشون في المجتمع من دون أن يفهمهم المجتمع جيّداً، ومن دون أن ينتهز الفرصة في الأخذ بعلمهم، بل كانت مشكلة عليّ (ع) أنَّ النَّاس يساوونه بغيره، ممن لا يرتقون إليه ولو بأدنى الدَّرجات.
أيُّها الأحبَّة، لنعش مع عليّ (ع)، في نهج بلاغته، وفي كلّ ما تحدَّث به، وكلّ ما خطَّط له، وفي كلّ ما أراد أن يطبّقه في حربه وسلمه، وفي علمه وروحانيَّته.
أيُّها الأحبَّة، إنَّ أمّةً تملك شخصاً كعليّ، هي أمَّة لا بدَّ أن ترتفع إلى أعالي القمم.
ولكنَّ مشكلتنا مع عليّ (ع)، كذاك الَّذي سمعه (ع) يقول: "سَلُوني قَبْلَ أَنْ تَفْقِدُوني"، فسأله: كم شعرة في رأسي؟ كم منَّا مَنْ يحفظ نهج البلاغة، كم منَّا من يعرف حكم عليّ ومواعظه ووصاياه وخططه وتنظيمه السياسيَّ والإداريّ؟! انطلقوا مع عليّ في علمه، فعليّ ليس مجرَّد سيف يقتل الأبطال، ولكنَّه سيف الحقّ في علمه، وسيف الحقّ في عدله وروحانيَّته.
لذلك، إذا كان الماضون لم يستفيدوا من عليّ، فعلينا أن نتثقَّف نحن به (ع)، وعلينا أن لا نخذل السَّائرين في خطّه، وأن لا نقف معهم كما وقف الأقدمون بمواجهته، لأنَّ هناك أكثر من عليّ في حركة الرّسالة، وهناك أكثر من مجتمعٍ يقفُ من أجل أن ينصب الحواجز بينهم وبين أداء رسالتهم.
ادرسوا عليّاً جيّداً، واعرفوا كيف تسيرون خلفه، فهل يكفي للشّيعيّ أن يقول أحبّ عليّاً وأتولَّاه ثم لا يكون فعَّالاً، كما يقول الإمام الباقر (ع): "أَحَسْبُ اَلرَّجُلِ أَنْ يَقُولَ أُحِبُّ عَلِيّاً وَأَتَوَلاَّهُ؟ فَلَوْ قَالَ إِنِّي أُحِبُّ رَسُولَ اَللَّهِ، وَرَسُولُ اَللَّهِ خَيْرٌ مِنْ عَلِيِّ، ثُمَّ لا يَعْمَلُ بِعَمَلِهِ وَلا يَتَّبِعُ سُنَّتَهُ... مَنْ كَانَ لِلَّهِ مُطِيعاً فَهُوَ لَنَا وَلِيٌّ، وَمَنْ كَانَ لِلَّهِ عَاصِياً فَهُوَ لَنَا عَدُوٌّ، وَلاَ تُنَالُ وَلاَيَتُنَا إِلَّا بِالْوَرَعِ وَاَلْعَمَلِ"، "أعِينُونِي بِوَرَعٍ وَاجْتِهَادٍ، وَعِفَّةٍ وَسَدَادٍ".
هذا هو خطّ عليّ (ع)، الَّذي نقف من أجل أن نتعرَّف عليه في مولده، لنولد به ولادةً جديدة؛ ولادة العلم والفكر والصّدق والأمانة والعدل والاستقامة في خطّ الله.
يا سماءُ اشهَدِي ويَا أرضُ قَرِّي واخشَعِي إنَّني ذَكَرْتُ عَليَّا
الخطبة الثَّانيَّة
عباد الله، اتَّقوا الله في كلّ ما تتحركون فيه، لأنَّ التَّقوى هي الزَّاد الَّذي يمكن للإنسان أن يحمله إلى آخرته، ليكون مرضياً عند الله، وليكون مستحقّاً لجنَّته. اتَّقوا الله في أموركم وفي وحدتكم على خطّ الإسلام، وعلى خطّ عليّ (ع) في خطّ الإسلام، وانفتحوا على مسؤوليَّاتكم في كلّ ما حمَّلكم الله من مسؤوليَّات، وواجهوا الواقع في حركة الحاضر وفي تطلّعات المستقبل، من أجل أن تقيموا الحقَّ في الحاضر، ومن أجل أن تخطّطوا للحقّ في المستقبل، ومن أجل أن تكونوا القوَّة الإسلاميَّة الَّتي تواجه الكفر كلَّه والاستكبار كلَّه.
حمايةُ الأمَّةِ من المخاطر
أيُّها الأحبَّة، إنَّنا نواجه في الواقع الَّذي نعيشه الكثيرَ من النَّتائج السَّلبيَّة على مستوى قضايانا السياسيَّة والاقتصاديَّة والاجتماعيَّة.
لذلك، لا بدَّ للأمَّة كلّها، ولا سيَّما الَّذين يملكون الفكر والخبرة فيها، أن يجتمعوا ويلتقوا، وأن يكون أمرهم شورى بينهم، من أجل أن يخطّطوا للخروج من كلّ هذه المآزق الَّتي وُضِعوا فيها، ومن أجل أن يواجهوا كلَّ التَّحدّيات، لأنَّ قضايا الأمم لا بدَّ لها من تخطيطٍ دقيقٍ يقف فيها كلّ إنسانٍ في موقعه، ويأخذ فيها كلّ إنسان دوره، لأنَّنا إذا توزَّعنا الأدوار، وحركنا كلَّ قوَّة لتنطلق إلى موقعها في الخطَّة، فسوف تتكامل الخطط والقوى، بدلاً من أن تكون قوانا قوى يدمّر بعضها بعضاً، ويسقط بعضها بعضاً.
أيُّها الأحبَّة، إنَّ المرحلة الَّتي يعيش فيها الإسلام الآن، ويعيش فيها المسلمون الآن، هي من أكثر المراحل صعوبةً في تاريخ الإسلام والمسلمين. ولذلك، لا بدَّ لنا من أن نتوحَّد، وأن نجمّد الكثير من خلافاتنا، سواء كانت خلافاتٍ مذهبيّةً أو سياسيّةً، أو خلافات حزبيَّة أو مرجعيَّة أو ما إلى ذلك. لا بدَّ لنا أن نفكّر أنَّ العدوَّ لن يقف عند الباب، ولكنَّه دخل كلَّ ساحاتنا، وأصبح يعبث فيها بجنوده وبمخابراته وبكلّ أجهزته.
لذلك، أيُّها الأحبَّة، لا يكنْ أمرنا كأمر النَّعامة الَّتي تدفن رأسها في الرّمال، فلا ترى الصَّيَّاد وتحسب أنَّ الصَّيَّاد لا يراها. إنَّ الصيَّادين، صيَّادي الأوطان، وصيَّادي الاقتصاد والأمن والسياسة، إنَّ هؤلاء يختبئون في كلّ موقع من مواقعنا، وعلينا أن نفتح عيوننا لكلّ هؤلاء الصيّادين الَّذين يدفعهم الاستكبار لينشروا الفتنة فينا، لينشروا المشاكل فيما بيننا، من أجل أن يحوّلونا مزقاً متناثرةً، يكفّر بعضنا بعضاً، ويلعن بعضنا بعضاً، ويقف بعضنا ضدَّ مصالح بعض.
اللهَ اللهَ في الإسلام وفي المسلمين، لا تكونوا مساعدين للأعداء على تخريب مجتمعاتكم، كما كان اليهود يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين. إنَّنا إذا بقينا على هذه الفتن المظلمة وهذه التمزّقات، على أساس سياسيّ أو اجتماعيّ أو مذهبيّ، فسوف نخرّب أمَّتنا تماماً، وسوف نخرّب كلَّ مجتمعاتنا، والله جعل الإسلام أمانةً في أعناقنا، وجعل الأمَّة أمانةً في أعناقنا، أن نحميه بكلّ ما عندنا، وأن نحميه من أنفسنا، كما نحميه من الآخرين.
ذكرى الوعدِ المشؤوم
أيُّها الأحبَّة، مرَّت علينا قبل أيَّام ذكرى وعد بلفور، هذا المسؤول البريطاني الَّذي أعطى اليهود الوعد بأنَّ بريطانيا سوف تمنحهم دولة في فلسطين، ومنحتهم دولةً في فلسطين، وانطلق كلّ الغرب وكلّ الشَّرق آنذاك، ليركّزوا سيطرة اليهود على فلسطين، وكانوا في أكثر من مرحلة يعطون اليهود قوَّة جديدة وسياسة جديدة ووضعاً جديداً، ثمَّ جاءت أمريكا بعد ذلك، لتتبنَّى إسرائيل بكلّها، حتَّى إنَّنا عندنا ندرس السياسة الأمريكيَّة فيما يتعلّق بإسرائيل، نجد أنَّ أمريكا تعتبر إسرائيل إحدى أهمّ ولاياتها، بحيث إنَّها قد تتهاون في دعم ولاية من ولاياتها، ولكنَّها لا تتهاون في دعم إسرائيل، وقد أعطتها كلَّ القوَّة الاقتصاديَّة، فالمساعدات الاقتصاديّة الأمريكيّة لإسرائيل، ليست هناك أيّ مساعدات لأيّ دولة في العالم بمقدارها.
دعمٌ أمريكيٌّ مطلقٌ لإسرائيل
وهكذا، عملت أمريكا على أن تلتزم إسرائيلَ التزاماً مطلقاً بأمنها، بحيث إنَّ أمنها هو أمن أمريكا، وعملت على أن تعطيها أعلى السّلاح وأقواه، ليكون لها التّفوّق النَّوعيّ على منطقة الشَّرق الأوسط كلّها، لا على المنطقة العربيَّة فقط. وهي في كلّ وقت تعقد حلفاً استراتيجيّاً بينها وبين إسرائيل، حتَّى إنَّها بعد اتّفاق (واي ريفر)، عقدت حلفاً استراتيجياً على أساس أن تكون معها في أيّ خطر مستقبليّ، وتقصد الخطر الَّذي يمكن أن يكون قادماً من إيران أو من سوريا أو من العراق أو أيّ بلد آخر.
وهكذا رأينا كيف ضغطت أمريكا وتضغط على العرب والفلسطينيّين، حتَّى يقدّموا التَّنازلات لإسرائيل، وقد قدَّم الفلسطينيّون التَّنازلات من سياستهم وأمنهم واقتصادهم، ومن كلّ واقعهم، لتعطيهم إسرائيل شيئاً من الأرض، على أساس أنَّها تتصدَّق عليهم به، وهي حقّهم، لكنَّهم لا يستطيعون أن يأخذوا حرَّيتهم حتّى في الأرض الَّتي يأخذونها من إسرائيل في اتّفاقات أوسلو والاتّفاقات لتنفيذ أوسلو وما إلى ذلك.
وهكذا رأينا أنَّ مسؤول سلطة الحكم الذّاتي يقول إنَّ أمن إسرائيل هو من أمن الفلسطينيّين، ورأينا كلينتون بعد الاتفاق يقول إنَّ إسرائيل قد حصلت على كلّ ما تحتاجه من الأمن في هذا المجال. وهكذا رأينا أنَّ المخابرات الأمريكيَّة هي الَّتي تحرس أمن إسرائيل بإدارة الأمن الفلسطيني، حتَّى يكون أمناً مضموناً لحساب إسرائيل لا لحساب الفلسطينيّين.
السّلطة الفلسطينيّة تحت الضّغط
أيُّها الأحبَّة، إنَّنا نلاحظ أنَّ العدوَّ، ومعه أمريكا، يضغط على سلطة الحكم الذَّاتي لتعتقل كلَّ من تتَّهمه إسرائيل بأنَّه قتل إسرائيليّاً. ومعنى ذلك، أنَّ على سلطة الحكم الذّاتيّ أن تعتقل كلَّ الفلسطينيّين الَّذين شاركوا في الانتفاضة، لأنهم عملوا على قتل إسرائيليّ هنا أو هناك في حركة الجهاد في هذا المجال.
إنَّهم يريدون أن يسقطوا حتّى الحلم الَّذي يحمله الفلسطينيّون من أجل أن تكون لهم دولة، وأن يكون لهم وطن يعيشون فيه، ولذلك فإنَّهم يطلبون حذف كلّ الموادّ الموجودة في الميثاق الوطني الفلسطيني بما يتعلَّق بتدمير إسرائيل. هذا هو الواقع الأمريكيّ الَّذي لا يزال يتحرَّك في الواقع.
والسّؤال الآن: ما مستقبل الشَّعب الفلسطيني أمام هذه الخطَّة الخبيثة الَّتي تعمل على إسقاط الحلم الكبير في وجدانه، بعد إسقاط الواقع، بالتّشديد على شطب كلّ كلمة للتَّحرير وللعودة من الميثاق الوطني الفلسطيني؟!
وهل يسقط كلّ تاريخ الجهاد أمام الضَّغط الأمريكي والعنف اليهوديّ والغياب العربيّ والاسترخاء العالميّ، تحت تأثير السياسة الأمريكيَّة؟! إنَّ السؤال موجَّه إلى العالمين العربيّ والإسلاميّ: كيف يتحمَّلان مسؤوليَّتهما أمام كلّ هذا الواقع؟!
حصارُ الشَّعبِ العراقيّ
وفي هذه الأجواء، تعود قصَّة العراق من جديد، في عنوان كبير للأزمة مع الأمم المتَّحدة، ليستمرَّ حصار الشَّعب العراقيّ وتجويعه تحت مبرّرات لا أساس لها، ولا سيَّما بعد أن أصبح العراق الرَّجل المريض الَّذي لا يملك مقوّمات القوَّة الاقتصاديَّة والتَّسليحيَّة، كلّ ذلك بطلب من أمريكا وبريطانيا اللَّتين تضغطان على مجلس الأمن لتقرير استمرار فرض العقوبات الَّتي تؤدّي إلى وفاة مئات الألوف من الأطفال بفعل نقص الدواء، وتشريد الآلاف من العراقيّين تحت تأثير الجوع.
إنَّنا نرى أنَّ موقف الدول العربيَّة لم يكن بالمستوى الَّذي تفرضه قسوة الحصار على الشَّعب العراقيّ الَّذي يتحمَّل عبء القضيَّة كلّها من دون ذنب، في الوقت الَّذي تعمل أمريكا لمواصلة الضّغط على دول الخليج لتأييد سياستها في إمكان توجيه ضربة عسكريَّة إلى العراق، ويؤكّد كلينتون أنَّه حصل على هذا التَّأييد، بالرّغم من إعلان السعوديَّة رفضها استخدام أراضيها لشنّ هجمات على العراق.
ارتكاباتُ العدوّ في لبنان
أمّا في لبنان، فيبقى العدوان الإسرائيليّ على الجنوب والبقاع الغربيّ متمثّلاً في القصف اليوميّ للبلدات الآمنة، وملاحقة زوارق الصيَّادين، وحصار بلدة كفرتبنيت، وسرقة التربة اللّبنانيَّة، إضافةً إلى ارتكاب جريمة جديدة، وهي اعتقال إمام بلدة كفركلا، السيّد عبَّاس فضل الله، في إطار حركة عدوانيَّة تتمثَّل في التعرّض لعلماء الدّين في المنطقة الحدوديَّة.
إنَّنا ندعو إلى وقفة لبنانيَّة شاملة، في مواجهة هذا العدوان الَّذي ينتقل من مرحلة إلى أخرى، للضَّغط على العدوّ بمختلف الوسائل الإعلاميَّة والدّبلوماسيَّة والجهاديَّة.
ضغطُ الأزمات الدّاخليّة
ويبقى الهمّ الدَّاخليّ اللّبنانيّ في الأزمات المتلاحقة الَّتي تضغط على واقع الشَّعب بالتَّلويح بفرض ضرائب جديدة على الطَّبقة الفقيرة من العمَّال والموظَّفين، في الوقت الَّذي يعيش الجميع في إطار إقرار قانون الإثراء غير المشروع، الَّذي لا نجد هناك أيَّةُ فرصة مستقبليَّة لتنفيذه، في غياب آليَّة واقعيَّة لذلك، ليتحوَّل إلى حبرٍ على ورق، إلى جانب قانون "من أين لك هذا" الَّذي غاب مع الزَّمن.
إنَّنا بحاجة إلى جهاز يحمي القانون من نفسه، لأنَّ أيَّ قانون لا يملك القدرة على التَّغيير، إذا لم يكن هناك شعب يضغط للعمل على تحويل القانون إلى واقع حيّ في عمليَّة الإنقاذ، ونحن بالانتظار.
*خطبة الجمعة لسماحته، بتاريخ: 06/11/1998م.
{وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ}[البقرة: 207].
{إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذينَ آمَنُوا الَّذينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ}[المائدة: 55].
نزلت هاتان الآيتان، كما ورد في كتب التَّفسير، في عليّ (ع)؛ الأولى عندما بات على فراش رسول الله (ص) ليلة الهجرة، والخطر يتهدَّده من خلال عشرة سيوف مسلطة عليه إذا بدرت منه أيّ حركة، ظنّاً منهم أنَّه النَّبيّ (ص)، ونزلت الآية الثَّانية فيه (ع) عندما تصدَّق بالخاتم وهو راكع.
وليدُ الكعبةِ المباركُ
في هذه الأيَّام، كانت ذكرى مولد عليّ (ع). ولمولد عليّ معنى لم يتميَّز به أيُّ شخص من الأوَّلين والآخرين، فقد ولد عليّ (ع) في جوف الكعبة، وكانت أوَّل صرخة له هي صرخته في ذلك البيت الَّذي أعدَّه الله للطَّائفين والقائمين والركَّع السّجود.
وهكذا انطلقت هذه الولادة، لتكون الولادة الرّساليَّة لعليّ (ع) في بيت الله، ولتكون أولى خطواته (ع) في طريق الله. فنحن نعرف، أيُّها الأحبَّة، أنَّ عليّاً (ع) ولد في الكعبة، عندما جاء المخاض لأمّه وهي هناك، ثمَّ احتضنه رسول الله (ص) في السّنين الأولى من عمره، فعاش في أحضانه (ص)، وهو الَّذي يقول: "وَضَعَنِي فِي حِجْرِه وأَنَا وَلَدٌ، يَضُمُّنِي إِلَى صَدْرِه، ويَكْنُفُنِي فِي فِرَاشِه، ويُمِسُّنِي جَسَدَه، ويُشِمُّنِي عَرْفَه، وكَانَ يَمْضَغُ الشَّيْءَ ثُمَّ يُلْقِمُنِيه، ومَا وَجَدَ لِي كَذْبَةً فِي قَوْلٍ ولَا خَطْلَةً فِي فِعْلٍ، ولَقَدْ قَرَنَ اللَّه بِه (ص) مِنْ لَدُنْ أَنْ كَانَ فَطِيماً أَعْظَمَ مَلَكٍ مِنْ مَلَائِكَتِه، يَسْلُكُ بِه طَرِيقَ الْمَكَارِمِ، ومَحَاسِنَ أَخْلَاقِ الْعَالَمِ لَيْلَه ونَهَارَه، ولَقَدْ كُنْتُ أَتَّبِعُه اتِّبَاعَ الْفَصِيلِ أَثَرَ أُمّهِ، يَرْفَعُ لِي فِي كُلِّ يَوْمٍ مِنْ أَخْلَاقِه عَلَماً، ويَأْمُرُنِي بِالِاقْتِدَاءِ بِه"ِ.
وهكذا انطبعت شخصيَّته (ع) بشخصيَّة رسول الله (ص)، فكان يعيش مع الرَّسول وهو يتأمَّل في غار حراء ويتعبَّد، فيتأمَّل معه ويتعبَّد، ويبتهل إلى الله معه، ويستمع إليه وهو يعطيه مما أفاض به الله عليه، وفي ذلك يقول (ع): "ولَقَدْ كَانَ يُجَاوِرُ فِي كُلِّ سَنَةٍ بِحِرَاءَ، فَأَرَاه ولَا يَرَاه غَيْرِي".
وكان عليّ (ع) يسمع ذلك، يقول: "لَقَد سَمِعتُ رَنَّةَ الشَّيطانِ حينَ نَزَلَ الوَحيُ عَلَيهِ (ص)، فَقُلتُ: يا رَسولَ اللّهِ، ما هذِهِ الرَّنَّةُ؟ فَقالَ: هذَا الشَّيطانُ قَد أيِسَ مِن عِبادَتِهِ. إنَّكَ تَسْمَعُ ما أسْمَعُ - من الوحي - وتَرَى مَا أَرَى - من صورة الملك الَّذي ينزل عليَّ - إلّا أَنَّكَ لَستَ بِنَبِيٍّ".
أوّلُ المسلمين
وكان عليّ (ع) أوَّل من أسلم، وإذا كان بعض الكتَّاب يكتبون في كتب السّيرة أنَّ عليّاً (ع) أوَّل من أسلم من الصّبيان، فإنَّ هذه الكلمة لربّما لا تخلو من انتقاص بالقول إنَّ إسلامه إسلام الصّبيان، ولكنَّ عليّاً (ع) كان يملك عقل الرّجال الكبار، لأنَّ عقله نما وقوي وانفتح بعقل رسول الله (ص)، ولذلك كان (ع) يعيش الإسلام قبل أن يُبعَثَ رسول الله بالإسلام، كما كان رسول الله (ص) مسلماً قبل أن يُبعَث بالرّسالة، من خلال ما ألهمه االله، وما أفاضه عليه من رحمته في الخطوط الكبرى للرّسالة.
وهكذا كان عليّ (ع) في بيت رسول الله، ولم يكن في بيت رسول الله آنذاك، كما يحدّث عليّ (ع)، غير الرَّسول وخديجة وهو ثالثهما، يقول (ع) في ذلك: "ولَم يَجمَع بَيتٌ واحِدٌ يَومَئِذٍ فِي الإِسلامِ غَيرَ رَسولِ اللّهِ (ص) وخَديجَةَ وأنَا ثالِثُهُما؛ أرى نورَ الوَحيِ وَالرِّسالَةِ، وأشُمُّ ريحَ النُّبُوَّةِ". ولذلك، كان مع رسول الله في ليله ونهاره، كان يعرف كلَّ ما ينطلق به رسول الله من وحي ينزل، وكان (ع) يقول: "فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ آيَةٍ إِلَّا وَقَدْ عَرَفْتُ بِلَيْلٍ نَزَلَتْ أَمْ بِالنَّهَارِ، فِي سَهْلٍ أَمْ فِي جَبَلٍ"، لأنَّه كان مع رسول الله، وكان الرَّسول (ص) يعدّه لخلافته. لذلك، فإنّ الرَّسول (ص) عندما كان يربّي عليّاً، فإنّما كان يهيّئ للمسلمين الشَّخص الَّذي يحمل الرّسالة من بعده.
أخو الرَّسولِ ووصيُّه
وهكذا يحدّثنا تاريخ السّيرة، أنَّ رسول الله (ص) عندما أنزل الله عليه: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ}[الشّعراء: 214]، جمع عشيرته من بني هاشم، وأولم لهم مائدة، وقال: "إِنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِخَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَقَدْ أَمَرَنِي اللَّهُ تَعَالَى أَنْ أَدْعُوكُمْ إِلَيْهِ، فَأَيُّكُمْ يُؤَازِرُنِي عَلَى هَذَا الْأَمْرِ، عَلَى أَنْ يَكُونَ أَخِي وَوَصِيِّي وَخَلِيفَتِي فِيكُمْ؟"، فلقد بُعثْتُ رسولاً، وأريد أن أدعو إلى هذه الرّسالة، وسوف أحتاج إلى المساعدين، فأيّكم يؤازرني في هذا الأمر على أن يكون أخي ووصيّي وخليفتي فيكم؟
ولم يقم أحد، وقام عليّ (ع) وهو في طفولته الأولى، وفي المرَّة الثَّانية لم يقم غير عليّ، وفي المرَّة الثَّالثة قالها (ص) ولم يقم إلَّا عليّ، كان عليّ مندمجاً بالرّسالة، ولذلك عندما قال لرسول الله أنا أؤازرك في هذا الأمر، كان يعني ذلك، كان يستجمع كلَّ قوَّة عقله، وكلَّ قوَّة جسده، كان يستجمع كلَّ حاضره ومستقبله من أجل الرّسالة، لأنَّه عاش الرّسالة مع رسول الله عقلاً وقلباً وروحاً وحركةً واستقامةً في خطّ الله.
محطّمُ الأصنام
وهكذا عاش عليّ (ع) مع رسول الله كلَّ الآلام الَّتي عاشها (ص) في مكَّة، وتحمَّل معه كلَّ ما تحمَّل، وكان عليّ يذهب مع رسول الله إلى المسجد وخديجة ثالثهما، وكانت أوَّل صلاة جماعة تعقد في المسجد الحرام، هي هذه الجماعة، كان رسول الله (ص) يتقدَّمهما، وكان عليّ إلى يمينه، وكانت خديجة وراءهما، وعندما مرَّ أبو طالب، وكان يتَّقي قريشاً كمؤمن آل فرعون، قال لولده جعفر: "صِلْ جنَاحَ ابْنِ عَمّكَ".
وهكذا عاش عليّ مع رسول الله في كلّ حروبه، وفي كلّ مواقعه، كان معه في الحرب والسّلم، حتّى إنّه عندما تزوَّج بفاطمة (ع)، كان بيتُهُ هو البيتَ الَّذي يرتاح إليه رسول الله، وكانت هذه المجموعة الصَّغيرة؛ عليّ وفاطمة والحسن والحسين (عليهم السّلام)، مجموعته الأقرب إليه والأحبّ إلى قلبه، ولذلك كان يقضي أكثر وقته عندهم، حتَّى إذا لفَّهم بالكساء، منتظراً نزول الوسام الإلهيّ الكبير، ونزلت آية التَّطهير: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا}[الأحزاب: 33 ]، قال (ص): "اللَّهُمَّ هَؤُلَاءِ أَهْلُ بَيْتِي وَخَاصَّتِي، أَذْهِبْ عَنْهُمُ الرّجْسَ وَطَهّرْهُمْ تَطْهِيرًا".
ثمَّ إنَّ عليّاً عليّ (ع) الَّذي ولد في الكعبة، كان هو الَّذي كسَّر كلَّ الأصنام الَّتي كانت منصوبة في الكعبة، وهذا ما تُحدّثنا عنه كتب السّيرة، أنَّ رسول الله (ص) قالَ لعليّ (ع): "اصعَدْ عَلَى منكبي واهدمِ الصَّنَمَ، فَقَالَ: يا رسولَ اللهِ، بلْ اصعدْ أنتَ، فإنّي أُكرمُكَ أنْ أعلوَكَ، فقالَ (ص): إنَّكَ لا تستطيعُ حملَ ثقلِ النّبوَّةِ، فاصعَدْ أنتَ، فجلسَ النَّبيّ (ص)، فصعدَ عليٌّ (ع)"، وحطّم الأصنام بيده، فتهاوت على الأرض، كما حطَّم سلطة الأصنام بسيفه، عندما خاض كلَّ معارك الإسلام.
معاناته بعدَ الرّسول (ص)
وهكذا، لم يرتح عليّ لحظةً واحدةً. ثمَّ بعدَ رسول الله (ص) كان ما كان، وأُبعِدَ عليٌّ (ع) عن موقعه الَّذي وضعه الله فيه في يوم الغدير، وعاش (ع) المأساة كأعمق ما تكون المأساة، فقد كان يقف بين أن ينطلق ليدافع عن حقّه الَّذي هو حقّ المسلمين كلّهم، وحقّ الإسلام كلّه، وبين أن يصبر ويساعد الَّذين أبعدوه، لأنَّ مصلحة الإسلام تقتضي منه ذلك. ومن أعظم المآسي في حياة الإنسان، أن يقف بين مبادئه وبين حقّه، ليغلّب مبادئه على حقّه، وهذا ما عبَّر عنه (ع) في أكثر من موقف وأكثر من كلمة، ومن ذلك، عندما تحدَّث في الخطبة الشَّقشقيَّة وغيرها، عندما أبعد عن حقّه، وكان يقول: "أَمَا وَاللَّهِ لَقَدْ تَقَمَّصَهَا فُلَانٌ، وَإِنَّهُ لَيَعْلَمُ أَنَّ مَحَلِّي مِنْهَا مَحَلُّ الْقُطْبِ مِنَ الرَّحَى، يَنْحَدِرُ عَنِّي السَّيْلُ، وَلَا يَرْقَى إِلَيَّ الطَّيْرُ، فَسَدَلْتُ دُونَهَا ثَوْباً، وَطَوَيْتُ عَنْهَا كَشْحاً، وَطَفِقْتُ أَرْتَئِي بَيْنَ أَنْ أَصُولَ بِيَدٍ جَذَّاءَ، أَوْ أَصْبِرَ عَلَى طَخْيةٍ عَمْيَاءَ، يَهْرَمُ فِيهَا الْكَبِيرُ، وَيَشِيبُ فِيهَا الصَّغِيرُ، وَيَكْدَحُ فِيهَا مُؤْمِنٌ حَتَّى يَلْقَى رَبَّهُ".
إلى أن قال عندما وُضِعَ عضواً في الشّورى: "فَيَا لَلَّهِ وَلِلشُّورَى! مَتَى اعْتَرَضَ الرَّيْبُ فِيَّ مَعَ الْأَوَّلِ مِنْهُمْ حَتَّى صِرْتُ أُقْرَنُ إِلَى هَذِهِ النَّظَائِرِ، لَكِنِّي أَسْفَفْتُ إِذْ أَسَفُّوا، وَطِرْتُ إِذْ طَارُوا، فَصَغَا رَجُلٌ مِنْهُمْ لِضِغْنِهِ، وَمَالَ الْآخَرُ لِصِهْرِهِ، مَعَ هَنٍ وَهَنٍ".
ووقف عليّ (ع) ليعطينا درساً في أنَّ علينا أن ننصر الإسلام ولا نثير الفتنة في داخله، حتَّى لو قدَّمنا بعض التَّنازلات، لأنَّ مصلحة الإسلام فوق كلّ شيء، وسلامة الإسلام فوق كلّ شيء: "وَوَاللَّهِ لَأُسَلّمَنَّ مَا سَلِمَتْ أُمُورُ الْمُسْلِمِينَ، وَلَمْ يَكُنْ فِيهَا جَوْرٌ إِلَّا عَلَيَّ خَاصَّةً".
وهكذا اندفع (ع) ليساعد الأوَّل والثَّاني، وليوجّه الثَّالث ليدفع الفتنة، ثمَّ تسلَّم الخلافة في ظرفٍ من أصعب الظّروف.
مأساةُ عليّ (ع) في مجتمعه
وكان عليّ (ع) يعيش المأساة، كما قلنا، ليس مأساة الشَّخص في قضاياه الشَّخصيَّة، ولكنَّها مأساة الرّساليّ الَّذي يجد النَّاس لا يستمعون إليه، ولا يتعلَّمون منه، ولا يتحركون معه في خطّ الحقّ، مأساة عليّ (ع) أنَّه عاش في مجتمع لا يفهمه، وعاش في مجتمع لا ينفتح على آفاقه، ولا يعرف قيمته العلميَّة والرّوحيَّة والأخلاقيَّة والجهاديَّة.
إنّنا، أيُّها الأحبَّة، عندما ندرس عليّاً (ع)، لا نستطيع أن نجد أحداً من كلّ من عاش مع النَّبيّ (ص) يقترب منه، فضلاً عن أن يساويه، لأنَّ عليّاً هو الشَّخص الوحيد الَّذي جمع كلَّ الصّفات والعناصر الَّتي ترتفع بالشَّخصيَّة إلى أعلى المستويات، وهو القائل: "لَوْ كُشِفَ لِيَ الْغِطَاءُ مَا ازْدَدْتُ يَقِيناً".
وهكذا كان (ع) يعيش هذا الأفق الواسع، ولكنَّ القوم كان يريدون أن ينزلوه إلى الَّذين يتحركون في تلك السَّاحة. وتلك هي مأساة عليّ (ع)، وتلك هي مأساة كلّ الرّساليّين الَّذين يواجهون الموقف الصَّعب، عندما لا تفهمهم أمَّتهم ولا مجتمعهم، وإنما يتعرّفون إليهم بعد أن يغيبوا عن السَّاحة. وهذا ما تحدَّث عنه عليّ (ع) بعض الحديث، فاستمعوا إلى عليّ عن آلامه الرّساليَّة.
يقول (ع): "إنَّ هَا هُنا لَعِلْمَاً جَمّاً - وأشارَ إلى صَدرهِ - أنا أملك العلم الَّذي أستطيع أن أحوّل به مجتمع الجهل إلى مجتمع علم، ومجتمع التخلّف إلى مجتمع وعي، ولكنّي أريد من يحمل هذا العلم - لَوْ أصَبْتُ لَهُ حمَلَةً".
"بَلَى، أَصَبْتُ لَقِناً غَيْرَ مَأْمُونٍ عَلَيْهِ، مُسْتَعمِلاً آلَةَ الدِّينِ للدّنيا"، هناك أشخاص يتعلَّمون العلم، ولكن لا يتعلَّمونه كرسالة يؤدّونها، وكعبادة يتعبَّدون الله فيها، أو كأمانة يحملونها، ولكنَّهم يتعلَّمون العلم من أجل أن يستعملوا الدّين كآلة للدّنيا، فهم يتاجرون بالعلم وبالدّين، ولذلك يفرضون كلَّ أطماعهم وعقدهم النَّفسيَّة على الدّين، ويفرضون كلَّ عصبيَّاتهم على الدّين، ويقدّمون العصبيَّة والتخلّف والحميَّة وما إلى ذلك، يقدّمونها إلى النَّاس على أنَّها دين، ولكنَّها ليست ديناً.
"بَلَى، أَصَبْتُ لَقِناً غَيْرَ مَأْمُونٍ عَلَيْهِ"، لا يؤمَنُ على الدّين، لأنَّ المسألة أنَّه لا يكفي لمن يحمل الدّين أن يفهمه، بل لا بدَّ أن يعتبره أمانة، في إخلاصه وطهره وصدقه، وفي استقامته وأمانته، وفي ارتفاعه عن كلّ العصبيَّات والأنانيَّات والأهواء، وعن كلّ الشَّخصانيَّات، فهناك من يريد أن يتعلَّم منّي، ولكن "مُسْتَعمِلاً آلَةَ الدِّينِ للدّنيا، وَمُستَظْهِراً بنِعَمِ اللهِ عَلَى عِبَادِهِ، وَبحُجَجهِ عَلَى أَوْلِيَائِهِ"، يعني يحاول أن يجعل هذه العناوين عناوين يتقرَّب من خلالها إلى النَّاس، أو ليحصل على امتيازات.
"أَوْ مُنْقَاداً لِحَمَلَةِ الْحَقِّ، لَا بَصِيرَةَ لَهُ فِى أَحْنَائِهِ – لا فهم له ولا بصيرة - يَنْقَدِحُ الشَّكُّ فِى قَلْبِهِ – لم يتعمَّق العلم في قلبه - لِأَوَّلِ عَارِضٍ مِنْ شُبْهَةٍ. أَلَا لَا ذَا وَلَا ذَاكَ – وهناك قسم ثالث - أَوْ مَنْهُوماً بِاللَّذَّةِ، سَلِسَ الْقِيَادِ لِلشَّهْوَةِ – يتحرَّك بأهوائه وشهواته - أَوْ مُغْرَماً بِالْجَمْعِ وَالادِّخَارِ، لَيْسَا مِنْ رُعَاةِ الدِّينِ فِى شَيْءٍ، أَقْرَبُ شَيْءٍ شَبَهاً بِهِمَا الْأَنْعَامُ السَّائِمَةُ، كَذَلِكَ يَمُوتُ الْعِلْمُ بِمَوْتِ حَامِلِيهِ"، لأنَّه عندما لا يأخذ النَّاس من حملة العلم علمَهم، فإنَّ العلم يبقى في صدورهم، وعند ذلك، إذا مات حملة العلم، يموت العلم بموتهم.
حديثُه (ع) عن الفتن
ثمَّ يتحدَّث الإمام (ع) عن نفسه، فهو يقدّم تقريراً عن إمكاناته وجهاده، وعن أنَّهم سوف يتمنّون حضوره بعد أن يفقدوه. يقول (ع): "أَمَّا بَعْدَ حَمْدِ اللَّهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ، أَيُّهَا النَّاسُ، فَإِنِّي فَقَأْتُ عَيْنَ الْفِتْنَةِ - الّتي تحرّكت، سواء في زمن رسول الله (ص)، وهي فتنة النّفاق أو الشّرك، وما بعد رسول الله، كفتنة الانحراف، فقد فقأ (ع) عين الفتنة في صلابة، من حيث حركة الجهاد والوعي والصَّبر - وَلَمْ يَكُنْ لِيَجْتَرِئَ عَلَيْهَا أَحَدٌ غَيْرِي، بَعْدَ أَنْ مَاجَ غَيْهَبُهَا وَاشْتَدَّ كَلَبُهَا – أي بعد أن انطلقت بشكل حادّ.
ثمَّ قال (ع): - فَاسْأَلُونِي قَبْلَ أَنْ تَفْقِدُونِي – فأنا أملك كلَّ هذه الخبرة، وكلَّ هذه المعرفة، وكلَّ هذا العلم - فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَا تَسْأَلُوننِي عَنْ شَيْءٍ فِيمَا بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ السَّاعَةِ – يوم القيامة - وَلَا عَنْ فِئَةٍ تَهْدِي مِائَةً وَتُضِلُّ مِائَةً، إِلَّا أَنْبَأْتُكُمْ بِنَاعِقِهَا وَقَائِدِهَا وَسَائِقِهَا وَمُنَاخِ رِكَابِهَا وَمَحَطِّ رِحَالِهَا، وَمَنْ يُقْتَلُ مِنْ أَهْلِهَا قَتْلًا، وَمَنْ يَمُوتُ مِنْهُمْ مَوْتاً - فأنا كما أعرف تاريخ الماضي، أعرف تاريخ المستقبل.
- وَلَوْ قَدْ فَقَدْتُمُونِي، ونَزَلَتْ بِكُمْ كَرَائِهُ الْأُمُورِ وَحَوَازِبُ الْخُطُوبِ، لَأَطْرَقَ كَثِيرٌ مِنَ السَّائِلِينَ، وَفَشِلَ كَثِيرٌ مِنَ الْمَسْؤولِينَ، وَذَلِكَ إِذَا قَلَّصَتْ حَرْبُكُمْ وَشَمَّرَتْ عَنْ سَاقٍ، وَضَاقَتِ الدُّنْيَا عَلَيْكُمْ ضِيقاً، تَسْتَطِيلُونَ مَعَهُ أَيَّامَ الْبَلَاءِ عَلَيْكُمْ، حَتَّى يَفْتَحَ اللَّهُ لِبَقِيَّةِ الْأَبْرَارِ مِنْكُمْ.
إِنَّ الْفِتَنَ – وستأتيكم الفتن - إِذَا أَقْبَلَتْ شَبَّهَتْ – تصبح ضبابيَّة، فلا يقدر الإنسان أن يعرف الحقّ من الباطل - وَإِذَا أَدْبَرَتْ نَبَّهَتْ – لأنَّ الإنسان يعرف نتائجها السَّلبيَّة - يُنْكَرْنَ مُقْبِلاَتٍ، وَيُعْرَفْنَ مُدْبِرَاتٍ، يَحُمْنَ حَوْمَ الرِّيَاحِ، يُصِبْنَ بَلَداً، وَيُخْطِئْنَ بَلَداً"، حسب حركة الفتنة.
ثمَّ يتحدَّث (ع) بعد ذلك عن فتنة بني أميَّة ونشاطهم فيما يستقبلون. يقول (ع): "فَعِنْدَ ذلِكَ، تَوَدُّ قُرَيْشٌ بِالدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، لَوْ يَرَوْنَنِي مَقَاماً وَاحِداً – يقولون لو أنَّ عليّ بن أبي طالب موجود لنعرف منه كيف نتحرَّك ونخطّط وننفتح على المستقبل - وَلَوْ قَدْرَ جَزْرِ جَزْورٍ، لِأَقْبَلَ مِنْهُمْ مَا أَطْلُبُ الْيَوْمَ بَعْضَهُ فَلاَ يُعْطُونِيهِ!"، يقول هم الآن يقفون أمامي، ويضعون الحواجز أمام خططي وإصلاحاتي، ولكن في المستقبل، عندما يفقدونني، سيسألون أين عليّ، ويكونون مستعدّين ليعطوني ما حرموني إيَّاه.
تخاذلُ الحياديّين
ثم يتحدَّث (ع) عن تجربته في تخاذل النَّاس من حوله، ويعطينا فكرة عامَّة عن الحياديّين والسّلبيّين الّذين يقولون لا دخل لنا، نحن لا مع هذا ولا مع ذاك، ولا مع الحقّ ولا مع الباطل. يقول (ع):
"أَيُّهَا النَّاسُ، لَوْ لَمْ تَتَخَاذَلُوا عَنْ نَصْرِ الْحَقِّ، وَلَمْ تَهِنُوا عَنْ تَوْهِينِ الْبَاطِلِ، لَمْ يَطْمَعْ فِيكُمْ مَنْ لَيْسَ مِثْلَكُمْ، وَلَمْ يَقْوَ مَنْ قَوِيَ عَلَيْكُمْ - فالآخرون لم يطمعوا فيكم ليحتلّوا بلادكم ويستعمروا أرضكم ويصادورا سياستكم واقتصادكم، وما إلى ذلك، من جهة أنّهم أقوياء، بل لأنَّ الأمَّة إذا وقفت موقفاً سلبيّاً أمام حركة التحدّي والصّراع، فسيقوى ذاك الجانب بضعف هذا الجانب.
- لَكِنَّكُمْ تِهْتُمْ مَتَاهَ بَنِي إِسْرَائِيلَ. وَلَعَمْرِي لَيُضَعَّفَنَّ لَكُمُ التِّيهُ - الضَّياع - مِنْ بَعْدِي أَضْعَافاً – ستصيرون من متاهٍ إلى متاهٍ - بِمَا خَلَّفْتُمُ الْحَقَّ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ، وَقَطَعْتُمُ الْأَدْنَى وَوَصَلْتُمُ الْأَبْعَدَ"، يقول لهم أنا معكم أملك القيادة، أملك المعرفة والرّوحانيَّة، أملك التقوى، أملك القرب من الله وشرعيَّة المسؤوليَّة، ولكن قطعتموني ووصلتم الأبعد من ذلك كلّه.
ثمَّ يقول (ع): "لمْ تَكُنْ بَيْعَتُكُمْ إِيَّايَ فَلْتَةً - إشارة إلى ما قاله بعض من تقدّموه بأنّ بيعته كانت فلتة، لا بل إنّكم عندما بايعتموني كان ذلك عن قناعة، وعن دراسة، وعن تطوّرات في الواقع الإسلاميّ، لأنّكم كنتم تشعرون بأنَّه لا يوجد أحد غيري - وَلَيْسَ أَمْرِي وَأَمْرُكُمْ وَاحِداً، إِنِّي أُرِيدُكُمْ لِلَّهِ، وَأَنْتُمْ تُرِيدُونَنِي لِأَنْفُسِكُمْ. أَيُّهَا النَّاسُ، أَعِينُونِي عَلَى أَنْفُسِكُمْ - فأنا أريد أن أصلح نفوسكم ومساركم والمستقبل الّذي تنطلقون فيه، من خلال تركيز قواعد الحاضر على أساس التّقوى والإسلام - وَأيْمُ اللَّهِ، لَأُنْصِفَنَّ الْمَظْلُومَ مِنْ ظَالِمِهِ، وَلَأَقُودَنَّ الظَّالِمَ بِخِزَامَتِهِ، حَتَّى أُورِدَهُ مَنْهَلَ الْحَقِّ وَإِنْ كَانَ كَارِهاً".
مبلغُ علمِ عليّ (ع)
وهكذا يقول (ع) وهو يتحدَّث عن علمه: "وَاللهِ لَوْ شِئْتُ أَنْ أُخْبِرَ كُلَّ رَجُلٍ مِنْكُمْ بِمَخْرَجِهِ وَمَوْلِجِهِ وَجَمِيعِ شَأْنِهِ لَفَعَلْتُ، وَلكِنْ أَخَافُ أَنْ تَكْفُرُوا فيَّ بِرَسُولِ اللهِ (ص)، أَلَا وَإِنِّي مُفْضِيهِ إلَى الْخَاصَّةِ مِمَّنْ يُؤْمَنُ ذلِكَ مِنْهُ. وَالَّذِي بَعَثَهُ بِالحَقِّ، وَاصْطَفَاهُ عَلَى الْخَلْقِ، مَا أَنْطِقُ إلَّا صَادِقاً - لقد عرفني رسول الله بالصّدق، وما كذبت منذ كنت - وَقَدْ عَهِدَ إِلَيَّ بِذلِكَ كُلِّهِ - هذا ليس علم غيب منّي، ولكنَّ رسول الله علَّمني ذلك - وَبِمَهْلِكِ مَنْ يَهْلِكُ، وَمَنْجَى مَنْ يَنْجُو، وَمَآلِ هذَا الْأَمْرِ، وَمَا أَبْقَى شَيْئاً يَمُرُّ عَلَى رَأْسِي إلَّا أَفْرَغَهُ فِي أُذُنَيَّ وَأَفْضَى بِهِ إِلَيَّ.
أَيُّهَا النَّاسُ - أنا لست مثل بعض الخلفاء وبعض المسؤولين، ممّن يطلبون من النَّاس شيئاً ولا يلتزمون به - إِنِّي، وَاللهِ، مَا أَحُثُّكُمْ عَلَى طَاعَةٍ إِلَّا وَأَسْبِقُكُمْ إِلَيْهَا، وَلاَ أَنْهَاكُمْ عَنْ مَعْصِيَةٍ إِلَّا وَأَتَنَاهَى قَبْلَكُمْ عَنْهَا".
الاقتداءُ بعليّ (ع)
أيُّها الأحبَّة، هكذا عاش عليّ (ع) كلّ مأساة الرّساليّين الَّذين يعيشون في المجتمع من دون أن يفهمهم المجتمع جيّداً، ومن دون أن ينتهز الفرصة في الأخذ بعلمهم، بل كانت مشكلة عليّ (ع) أنَّ النَّاس يساوونه بغيره، ممن لا يرتقون إليه ولو بأدنى الدَّرجات.
أيُّها الأحبَّة، لنعش مع عليّ (ع)، في نهج بلاغته، وفي كلّ ما تحدَّث به، وكلّ ما خطَّط له، وفي كلّ ما أراد أن يطبّقه في حربه وسلمه، وفي علمه وروحانيَّته.
أيُّها الأحبَّة، إنَّ أمّةً تملك شخصاً كعليّ، هي أمَّة لا بدَّ أن ترتفع إلى أعالي القمم.
ولكنَّ مشكلتنا مع عليّ (ع)، كذاك الَّذي سمعه (ع) يقول: "سَلُوني قَبْلَ أَنْ تَفْقِدُوني"، فسأله: كم شعرة في رأسي؟ كم منَّا مَنْ يحفظ نهج البلاغة، كم منَّا من يعرف حكم عليّ ومواعظه ووصاياه وخططه وتنظيمه السياسيَّ والإداريّ؟! انطلقوا مع عليّ في علمه، فعليّ ليس مجرَّد سيف يقتل الأبطال، ولكنَّه سيف الحقّ في علمه، وسيف الحقّ في عدله وروحانيَّته.
لذلك، إذا كان الماضون لم يستفيدوا من عليّ، فعلينا أن نتثقَّف نحن به (ع)، وعلينا أن لا نخذل السَّائرين في خطّه، وأن لا نقف معهم كما وقف الأقدمون بمواجهته، لأنَّ هناك أكثر من عليّ في حركة الرّسالة، وهناك أكثر من مجتمعٍ يقفُ من أجل أن ينصب الحواجز بينهم وبين أداء رسالتهم.
ادرسوا عليّاً جيّداً، واعرفوا كيف تسيرون خلفه، فهل يكفي للشّيعيّ أن يقول أحبّ عليّاً وأتولَّاه ثم لا يكون فعَّالاً، كما يقول الإمام الباقر (ع): "أَحَسْبُ اَلرَّجُلِ أَنْ يَقُولَ أُحِبُّ عَلِيّاً وَأَتَوَلاَّهُ؟ فَلَوْ قَالَ إِنِّي أُحِبُّ رَسُولَ اَللَّهِ، وَرَسُولُ اَللَّهِ خَيْرٌ مِنْ عَلِيِّ، ثُمَّ لا يَعْمَلُ بِعَمَلِهِ وَلا يَتَّبِعُ سُنَّتَهُ... مَنْ كَانَ لِلَّهِ مُطِيعاً فَهُوَ لَنَا وَلِيٌّ، وَمَنْ كَانَ لِلَّهِ عَاصِياً فَهُوَ لَنَا عَدُوٌّ، وَلاَ تُنَالُ وَلاَيَتُنَا إِلَّا بِالْوَرَعِ وَاَلْعَمَلِ"، "أعِينُونِي بِوَرَعٍ وَاجْتِهَادٍ، وَعِفَّةٍ وَسَدَادٍ".
هذا هو خطّ عليّ (ع)، الَّذي نقف من أجل أن نتعرَّف عليه في مولده، لنولد به ولادةً جديدة؛ ولادة العلم والفكر والصّدق والأمانة والعدل والاستقامة في خطّ الله.
يا سماءُ اشهَدِي ويَا أرضُ قَرِّي واخشَعِي إنَّني ذَكَرْتُ عَليَّا
الخطبة الثَّانيَّة
عباد الله، اتَّقوا الله في كلّ ما تتحركون فيه، لأنَّ التَّقوى هي الزَّاد الَّذي يمكن للإنسان أن يحمله إلى آخرته، ليكون مرضياً عند الله، وليكون مستحقّاً لجنَّته. اتَّقوا الله في أموركم وفي وحدتكم على خطّ الإسلام، وعلى خطّ عليّ (ع) في خطّ الإسلام، وانفتحوا على مسؤوليَّاتكم في كلّ ما حمَّلكم الله من مسؤوليَّات، وواجهوا الواقع في حركة الحاضر وفي تطلّعات المستقبل، من أجل أن تقيموا الحقَّ في الحاضر، ومن أجل أن تخطّطوا للحقّ في المستقبل، ومن أجل أن تكونوا القوَّة الإسلاميَّة الَّتي تواجه الكفر كلَّه والاستكبار كلَّه.
حمايةُ الأمَّةِ من المخاطر
أيُّها الأحبَّة، إنَّنا نواجه في الواقع الَّذي نعيشه الكثيرَ من النَّتائج السَّلبيَّة على مستوى قضايانا السياسيَّة والاقتصاديَّة والاجتماعيَّة.
لذلك، لا بدَّ للأمَّة كلّها، ولا سيَّما الَّذين يملكون الفكر والخبرة فيها، أن يجتمعوا ويلتقوا، وأن يكون أمرهم شورى بينهم، من أجل أن يخطّطوا للخروج من كلّ هذه المآزق الَّتي وُضِعوا فيها، ومن أجل أن يواجهوا كلَّ التَّحدّيات، لأنَّ قضايا الأمم لا بدَّ لها من تخطيطٍ دقيقٍ يقف فيها كلّ إنسانٍ في موقعه، ويأخذ فيها كلّ إنسان دوره، لأنَّنا إذا توزَّعنا الأدوار، وحركنا كلَّ قوَّة لتنطلق إلى موقعها في الخطَّة، فسوف تتكامل الخطط والقوى، بدلاً من أن تكون قوانا قوى يدمّر بعضها بعضاً، ويسقط بعضها بعضاً.
أيُّها الأحبَّة، إنَّ المرحلة الَّتي يعيش فيها الإسلام الآن، ويعيش فيها المسلمون الآن، هي من أكثر المراحل صعوبةً في تاريخ الإسلام والمسلمين. ولذلك، لا بدَّ لنا من أن نتوحَّد، وأن نجمّد الكثير من خلافاتنا، سواء كانت خلافاتٍ مذهبيّةً أو سياسيّةً، أو خلافات حزبيَّة أو مرجعيَّة أو ما إلى ذلك. لا بدَّ لنا أن نفكّر أنَّ العدوَّ لن يقف عند الباب، ولكنَّه دخل كلَّ ساحاتنا، وأصبح يعبث فيها بجنوده وبمخابراته وبكلّ أجهزته.
لذلك، أيُّها الأحبَّة، لا يكنْ أمرنا كأمر النَّعامة الَّتي تدفن رأسها في الرّمال، فلا ترى الصَّيَّاد وتحسب أنَّ الصَّيَّاد لا يراها. إنَّ الصيَّادين، صيَّادي الأوطان، وصيَّادي الاقتصاد والأمن والسياسة، إنَّ هؤلاء يختبئون في كلّ موقع من مواقعنا، وعلينا أن نفتح عيوننا لكلّ هؤلاء الصيّادين الَّذين يدفعهم الاستكبار لينشروا الفتنة فينا، لينشروا المشاكل فيما بيننا، من أجل أن يحوّلونا مزقاً متناثرةً، يكفّر بعضنا بعضاً، ويلعن بعضنا بعضاً، ويقف بعضنا ضدَّ مصالح بعض.
اللهَ اللهَ في الإسلام وفي المسلمين، لا تكونوا مساعدين للأعداء على تخريب مجتمعاتكم، كما كان اليهود يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين. إنَّنا إذا بقينا على هذه الفتن المظلمة وهذه التمزّقات، على أساس سياسيّ أو اجتماعيّ أو مذهبيّ، فسوف نخرّب أمَّتنا تماماً، وسوف نخرّب كلَّ مجتمعاتنا، والله جعل الإسلام أمانةً في أعناقنا، وجعل الأمَّة أمانةً في أعناقنا، أن نحميه بكلّ ما عندنا، وأن نحميه من أنفسنا، كما نحميه من الآخرين.
ذكرى الوعدِ المشؤوم
أيُّها الأحبَّة، مرَّت علينا قبل أيَّام ذكرى وعد بلفور، هذا المسؤول البريطاني الَّذي أعطى اليهود الوعد بأنَّ بريطانيا سوف تمنحهم دولة في فلسطين، ومنحتهم دولةً في فلسطين، وانطلق كلّ الغرب وكلّ الشَّرق آنذاك، ليركّزوا سيطرة اليهود على فلسطين، وكانوا في أكثر من مرحلة يعطون اليهود قوَّة جديدة وسياسة جديدة ووضعاً جديداً، ثمَّ جاءت أمريكا بعد ذلك، لتتبنَّى إسرائيل بكلّها، حتَّى إنَّنا عندنا ندرس السياسة الأمريكيَّة فيما يتعلّق بإسرائيل، نجد أنَّ أمريكا تعتبر إسرائيل إحدى أهمّ ولاياتها، بحيث إنَّها قد تتهاون في دعم ولاية من ولاياتها، ولكنَّها لا تتهاون في دعم إسرائيل، وقد أعطتها كلَّ القوَّة الاقتصاديَّة، فالمساعدات الاقتصاديّة الأمريكيّة لإسرائيل، ليست هناك أيّ مساعدات لأيّ دولة في العالم بمقدارها.
دعمٌ أمريكيٌّ مطلقٌ لإسرائيل
وهكذا، عملت أمريكا على أن تلتزم إسرائيلَ التزاماً مطلقاً بأمنها، بحيث إنَّ أمنها هو أمن أمريكا، وعملت على أن تعطيها أعلى السّلاح وأقواه، ليكون لها التّفوّق النَّوعيّ على منطقة الشَّرق الأوسط كلّها، لا على المنطقة العربيَّة فقط. وهي في كلّ وقت تعقد حلفاً استراتيجيّاً بينها وبين إسرائيل، حتَّى إنَّها بعد اتّفاق (واي ريفر)، عقدت حلفاً استراتيجياً على أساس أن تكون معها في أيّ خطر مستقبليّ، وتقصد الخطر الَّذي يمكن أن يكون قادماً من إيران أو من سوريا أو من العراق أو أيّ بلد آخر.
وهكذا رأينا كيف ضغطت أمريكا وتضغط على العرب والفلسطينيّين، حتَّى يقدّموا التَّنازلات لإسرائيل، وقد قدَّم الفلسطينيّون التَّنازلات من سياستهم وأمنهم واقتصادهم، ومن كلّ واقعهم، لتعطيهم إسرائيل شيئاً من الأرض، على أساس أنَّها تتصدَّق عليهم به، وهي حقّهم، لكنَّهم لا يستطيعون أن يأخذوا حرَّيتهم حتّى في الأرض الَّتي يأخذونها من إسرائيل في اتّفاقات أوسلو والاتّفاقات لتنفيذ أوسلو وما إلى ذلك.
وهكذا رأينا أنَّ مسؤول سلطة الحكم الذّاتي يقول إنَّ أمن إسرائيل هو من أمن الفلسطينيّين، ورأينا كلينتون بعد الاتفاق يقول إنَّ إسرائيل قد حصلت على كلّ ما تحتاجه من الأمن في هذا المجال. وهكذا رأينا أنَّ المخابرات الأمريكيَّة هي الَّتي تحرس أمن إسرائيل بإدارة الأمن الفلسطيني، حتَّى يكون أمناً مضموناً لحساب إسرائيل لا لحساب الفلسطينيّين.
السّلطة الفلسطينيّة تحت الضّغط
أيُّها الأحبَّة، إنَّنا نلاحظ أنَّ العدوَّ، ومعه أمريكا، يضغط على سلطة الحكم الذَّاتي لتعتقل كلَّ من تتَّهمه إسرائيل بأنَّه قتل إسرائيليّاً. ومعنى ذلك، أنَّ على سلطة الحكم الذّاتيّ أن تعتقل كلَّ الفلسطينيّين الَّذين شاركوا في الانتفاضة، لأنهم عملوا على قتل إسرائيليّ هنا أو هناك في حركة الجهاد في هذا المجال.
إنَّهم يريدون أن يسقطوا حتّى الحلم الَّذي يحمله الفلسطينيّون من أجل أن تكون لهم دولة، وأن يكون لهم وطن يعيشون فيه، ولذلك فإنَّهم يطلبون حذف كلّ الموادّ الموجودة في الميثاق الوطني الفلسطيني بما يتعلَّق بتدمير إسرائيل. هذا هو الواقع الأمريكيّ الَّذي لا يزال يتحرَّك في الواقع.
والسّؤال الآن: ما مستقبل الشَّعب الفلسطيني أمام هذه الخطَّة الخبيثة الَّتي تعمل على إسقاط الحلم الكبير في وجدانه، بعد إسقاط الواقع، بالتّشديد على شطب كلّ كلمة للتَّحرير وللعودة من الميثاق الوطني الفلسطيني؟!
وهل يسقط كلّ تاريخ الجهاد أمام الضَّغط الأمريكي والعنف اليهوديّ والغياب العربيّ والاسترخاء العالميّ، تحت تأثير السياسة الأمريكيَّة؟! إنَّ السؤال موجَّه إلى العالمين العربيّ والإسلاميّ: كيف يتحمَّلان مسؤوليَّتهما أمام كلّ هذا الواقع؟!
حصارُ الشَّعبِ العراقيّ
وفي هذه الأجواء، تعود قصَّة العراق من جديد، في عنوان كبير للأزمة مع الأمم المتَّحدة، ليستمرَّ حصار الشَّعب العراقيّ وتجويعه تحت مبرّرات لا أساس لها، ولا سيَّما بعد أن أصبح العراق الرَّجل المريض الَّذي لا يملك مقوّمات القوَّة الاقتصاديَّة والتَّسليحيَّة، كلّ ذلك بطلب من أمريكا وبريطانيا اللَّتين تضغطان على مجلس الأمن لتقرير استمرار فرض العقوبات الَّتي تؤدّي إلى وفاة مئات الألوف من الأطفال بفعل نقص الدواء، وتشريد الآلاف من العراقيّين تحت تأثير الجوع.
إنَّنا نرى أنَّ موقف الدول العربيَّة لم يكن بالمستوى الَّذي تفرضه قسوة الحصار على الشَّعب العراقيّ الَّذي يتحمَّل عبء القضيَّة كلّها من دون ذنب، في الوقت الَّذي تعمل أمريكا لمواصلة الضّغط على دول الخليج لتأييد سياستها في إمكان توجيه ضربة عسكريَّة إلى العراق، ويؤكّد كلينتون أنَّه حصل على هذا التَّأييد، بالرّغم من إعلان السعوديَّة رفضها استخدام أراضيها لشنّ هجمات على العراق.
ارتكاباتُ العدوّ في لبنان
أمّا في لبنان، فيبقى العدوان الإسرائيليّ على الجنوب والبقاع الغربيّ متمثّلاً في القصف اليوميّ للبلدات الآمنة، وملاحقة زوارق الصيَّادين، وحصار بلدة كفرتبنيت، وسرقة التربة اللّبنانيَّة، إضافةً إلى ارتكاب جريمة جديدة، وهي اعتقال إمام بلدة كفركلا، السيّد عبَّاس فضل الله، في إطار حركة عدوانيَّة تتمثَّل في التعرّض لعلماء الدّين في المنطقة الحدوديَّة.
إنَّنا ندعو إلى وقفة لبنانيَّة شاملة، في مواجهة هذا العدوان الَّذي ينتقل من مرحلة إلى أخرى، للضَّغط على العدوّ بمختلف الوسائل الإعلاميَّة والدّبلوماسيَّة والجهاديَّة.
ضغطُ الأزمات الدّاخليّة
ويبقى الهمّ الدَّاخليّ اللّبنانيّ في الأزمات المتلاحقة الَّتي تضغط على واقع الشَّعب بالتَّلويح بفرض ضرائب جديدة على الطَّبقة الفقيرة من العمَّال والموظَّفين، في الوقت الَّذي يعيش الجميع في إطار إقرار قانون الإثراء غير المشروع، الَّذي لا نجد هناك أيَّةُ فرصة مستقبليَّة لتنفيذه، في غياب آليَّة واقعيَّة لذلك، ليتحوَّل إلى حبرٍ على ورق، إلى جانب قانون "من أين لك هذا" الَّذي غاب مع الزَّمن.
إنَّنا بحاجة إلى جهاز يحمي القانون من نفسه، لأنَّ أيَّ قانون لا يملك القدرة على التَّغيير، إذا لم يكن هناك شعب يضغط للعمل على تحويل القانون إلى واقع حيّ في عمليَّة الإنقاذ، ونحن بالانتظار.
*خطبة الجمعة لسماحته، بتاريخ: 06/11/1998م.