{إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا}[الأحزاب: 33].
من أهل هذا البيت، الإمام محمَّد بن عليّ الباقر (ع) الَّذي مرَّت ذكرى ولادته في بداية هذا الشَّهر.
ولا بدَّ لنا، أيُّها الأحبَّة، من خلال التزامنا بخطّ الإمامة في خطّ الرّسالة، أن نقف بين وقت وآخر لنتعرَّف بعض ما يختصّ بحياة أئمَّتنا (ع)، لأنَّهم في وعينا العقيديّ، هم أوصياء رسول الله (ص)، والحجَّة على النَّاس من بعده (ص).
والتزامنا بالأئمَّة (ع) هو التزام بالخطّ الإسلاميّ الأصيل، لأنَّ الأئمَّة (ع) عاشوا للإسلام، وأوذوا وحوصروا وتعذَّبوا واستشهدوا من أجل أن تكون كلمة الله هي العليا وكلمة الشَّيطان هي السّفلى. ولذلك، فإنَّ الالتزام بهم في معنى إمامتهم، يفرض علينا أن نكون الأمناء على ما ائتُمِنوا عليه، وأن نكون الثَّابتين على ما ثبتوا عليه، وأن نكون المجاهدين فيما جاهدوا من أجله، وهو دين الله الَّذي أراد للنَّاس أن يأخذوا به في عقائده ومفاهيمه، وفي كلّ أحكامه وشرائعه.
مرحلةُ الباقر والصَّادق (ع)
والإمام الباقر (ع) وابنه الإمام الصَّادق (ع)، عاشا فترةً شُغِلَ الحكَّام، سواء الأمويّون أو العبَّاسيّون الَّذين جاؤوا من بعدهم، بحركة الصّراع الَّتي دارت فيما بين الأمويّين والعباسيّين، فشغل الأمويّون عن اضطهاد الإمام الباقر (ع) في تلك الفترة، وشغل العبَّاسيُّون عن اضطهاد الإمام الصَّادق (ع)، فانتشر من هذين الإمامين من العلم الَّذي يتميَّز به الإسلام في كلّ جوانبه، ما لم ينتشر في أيّ مرحلة أخرى سابقة أو لاحقة.
إنَّ الأئمَّة (ع) يملكون علماً واحداً، وثروةً واحدة، فحديثهم حديث رسول الله (ص)، وعلمهم من علمه، وسيرتهم في خطّ سيرته، ولكنَّ ظروف بعضهم كانت تختلف عن ظروف بعض آخر، فقد قضى بعضهم سنين عديدة، كالإمام الكاظم (ع)، في السّجون، وحوصر بعضهم في داره، وكانت الجواسيس تترصَّدهم في كلّ علاقاتهم بالمسلمين. لذلك، كانت مرحلة الإمام الباقر (ع) والإمام الصَّادق (ع)، هي المرحلة الَّتي اتَّسعت فيها كلّ الفرص لبيان علوم أهل البيت (ع)، الَّتي هي علوم رسول الله (ص) الَّتي علَّمها لعليّ (ع)، وعلَّمها عليٌّ للصَّفوة الطيّبة من أولاده.
ثقةُ المسلمين وإمامُ العلم
وقد كان الإمام الباقر (ع) موضع الثّقة لدى كلّ المسلمين، مَنْ كان يقول بإمامته ومن لا يقول بها، وقد روى حديثَه أكثرُ النَّاس الَّذين كانوا يمثّلون قاعدة الثَّقافة الإسلاميَّة من الفقهاء والمتكلّمين والمحدّثين والمؤرَّخين والفلاسفة، لأنَّ كلَّ واحد منهم كان يجد عند الإمام الباقر (ع) ما يطلبه من علم.
ولذلك، لو درسنا تراث الإمام الباقر (ع)، لرأيناه تراثاً واسعاً ممتدّاً يتناول أسرار العقيدة، ويتحدَّث عن أسرار الكون، ويتحرَّك في مفاهيم الإسلام، ويفسّر القرآن، ويعظ النَّاس ويرشدهم، ويحدّثهم عمَّا أشكل عليهم من مشكلات الفلسفة، ويحدّثهم عن التَّأريخ في كلّ مواقعه.
وإذا قرأنا تاريخ الطَّبري، وهو التَّأريخ الموثوق عند علماء التَّأريخ، لرأينا أنَّ الكثير مما ذكره الطَّبري في تاريخه، كان مستمدّاً من روايته عن الإمام الباقر (ع)، هذا التُّراث الموسوعيّ الَّذي لا يقتصر على جانب دون جانب.
وهذا، أيُّها الأحبَّة، ما ينبغي لعلماء المسلمين، ولا سيَّما لعلماء أهل البيت (ع)، أن يأخذوا به، ليكون العالِمُ منفتحاً على عصره، وعلى كلّ حاجاته الفكريَّة الَّتي تتَّصل بالجانب الرّساليّ، في كلّ قضايا الإنسان، فيما يبحث عنه من حكم إسلاميّ هنا يحدّد له مسؤوليَّته، وعن مفهومٍ إسلاميّ يميّز له الخطَّ المستقيم من الخطّ المنحرف.
وقد جاء في سيرة الإمام محمَّد الباقر (ع) عن عبدالله بن عطاء المكّيّ، وهو يحدّثنا كيف كان العلماء المسلمون في زمنه يتصاغرون أمامه، كما يتصاغر التَّلاميذ أمام أستاذهم الكبير. يقول: "ما رَأَيْتُ العُلماءَ عِندَ أَحَدٍ قَطُّ أَصغَرَ مِنهُمْ عِندَ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ بْنِ الحُسَيْنِ، وَلَقَدْ رَأَيْتُ الحَكَمَ بْنَ عَتِيبَةَ، مَعَ جَلاَلَتِهِ فِي القَوْمِ - كان من العلماء الكبار - بَيْنَ يَدَيْهِ كَأَنَّهُ صَبِيٌّ بَيْنَ يَدَيْ مُعَلِّمِهِ"، "وَكانَ جَابِرٌ بْنُ يَزِيدٍ الجُعْفِيُّ إِذَا رَوى عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ شَيْئًا، قَالَ: حَدَّثَنِي وَصِيُّ الأَوْصِيَاءِ، وَوَارِثُ عِلْمِ الأَنْبِيَاءِ، مُحَمَّدٌ بْنُ عَلِيٍّ بْنِ الحُسَيْ".
"سُئِلَ – الإمام الباقر (ع) - عَنْ الحَدِيثِ يُرْسِلُهُ وَلَا يُسْنِدُهُ – فإنَّ النَّاس إذا حدَّثوا عن رسول الله، ذكروا الرّواة بينهم وبين رسول الله، فهم يقولون: حدَّثني فلان عن فلان عن فلان عن رسول الله، أمَّا أنت، فتقول: قال رسول الله، من دون أن تذكر السَّند، أي الرّواة الفاصلين بينك وبين الرسول (ص) - فَقَالَ (ع): إِذَا حَدَّثْتُ الحَدِيثَ فَلَمْ أُسْنِدْهُ، فَسَنَدِي فِيهِ أَبِي عَنْ جَدِّي عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ رَسُولُ اللَّهِ (ص) عَنْ جِبْرِيلَ عَنْ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ".
وهذا ما نظمه بعض الشَّعراء، فقال:
وَوَالِ أُنَاساً قَوْلُهُم وَحَدِيثُهم رَوَى جَدُّنا عَنْ جِبْرئيلَ عَنِ الباري
ويقول الإمام الباقر (ع): "بَلِيَّةُ النَّاسِ عَلَيْنَا عَظِيمَةٌ - أي أنّ النَّاس ابتلوا بموقعنا منهم - إِنْ دَعَوْنَاهُمْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَنَا – أي أنَّ الله سيحاسبهم إذا دعوناهم ولم يستجيبوا لنا، ونحن حجج الله على خلقه - وَإِنْ تَرَكْنَاهُمْ – فلم نعلّمهم ولم ندعهم - لَمْ يَهْتَدُوا بِغَيْرِنَا"، لأنَّ الهدى عندنا وليس عند غيرنا.
وكان (ع) يقول: "مَا يَنْقِمُ النَّاسُ مِنَّا - أي ما يكرهون منّا وما يعيبون علينا - نَحْنُ أَهْلُ بَيْتِ الرَّحْمَةِ، وَشَجَرَةُ النُّبُوَّةِ، وَمَعْدِنُ الْحِكْمَةِ، وَمَوْضِعُ الْمَلَائِكَةِ، وَمَهْبِطُ الْوَحْيِ".
وذكر بعضهم، وهو أبو نعيم الأصفهاني في (حلية الأولياء)، قال: "هُوَ الحَاضِرُ الذَّاكِرُ، الخَاشِعُ الصَّابِرُ، أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدٌ بْنُ عَلِيٍّ البَاقِرُ".
ويروي أحد أصحابه، وهو محمَّد بن مسلم: قال: "مَا شَجَرَ فِي رَأْيِي شَيْءٌ قَطُّ – أي أنّه ما خطر في رأسه سؤال، أو أشكل عليه شيء – إِلَّا سَأَلْتُ عَنْهُ أَبَا جَعْفَرٍ (ع)، حَتَّى سَأَلْتُهُ عَنْ ثَلاَثِينَ أَلْفَ حَدِيثٍ – فما سألته عن شيء في أيّ جانب تثور فيه علامات الاستفهام في نفسي، إلّا وأجابني عن ذلك كلّه - وَسَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ (ع) عَنْ سِتَّةَ عَشَرَ أَلْفَ حَدِيثٍ".
علاقتُهُ (ع) مع الله
وهكذا حدَّثنا الإمام الصَّادق (ع) عن أبيه، وكان عشيرَه في كلّ حياته، كيف كان الإمام الباقر (ع) يعيش مع الله ذاكراً إيّاه في كلّ حالاته.
يقول (ع): "كَانَ أَبِي (ع) كَثِيرَ الذِّكْرِ، لَقَدْ كُنْتُ أَمْشِي مَعَهُ وَإِنَّهُ لَيَذْكُرُ اللَّهَ، وَآكُلُ مَعَهُ الطَّعَامَ وَإِنَّهُ لَيَذْكُرُ اللَّهَ، وَلَقَدْ كَانَ يُحَدِّثُ القَوْمَ وَمَا يَشْغَلُهُ ذَٰلِكَ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ، وَكُنْتُ أَرَى لِسَانَهُ لَازِقًا بِحَنَكِهِ، يَقُولُ: لَا إِلٰهَ إِلَّا اللَّهُ، وَكَانَ يَجْمَعُنَا فَيَأْمُرُنَا بِالذِّكْرِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، وَيَأْمُرُ بِالْقِرَاءَةِ مَنْ كَانَ يَقْرَأُ مِنَّا، وَمَنْ كَانَ لَا يَقْرَأُ مِنَّا أَمَرَهُ بِالذِّكْرِ".
وهذا هو التَّوجيه الإماميّ الَّذي يقول للإنسان إنَّ عليك أن يكون الله حاضراً معك في كلّ حالاتك؛ إذا خرجت من بيتك وركبت السيَّارة فاذكر الله في نفسك، سبّحه واحمده وهلّله وكبّره واستغفره، وإذا جلست مع النَّاس، وكان هناك فترة بين حديث وحديث، اذكر الله بلسانك في ذلك، وهكذا إذا استيقظت صباحاً، فعليك أن تشغل نفسك بذكر الله إلى أن تطلع الشَّمس، حتَّى تعيش مع الله في أوَّل صباحك، وتعيش معه وأنت في محلّك، وتعيش معه وأنت سائر إلى عملك، وتعيش معه وأنت تتحدَّث مع قومك، لأنَّ مشكلة النَّاس، أيُّها الأحبَّة، أنّهم ينسون الله ويغفلون عنه، وأمَّا الذَّاكرون الله، فهم {ٱلَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ ٱللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ ءَايَٰتُهُۥ زَادَتْهُمْ إِيمَٰنًا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ}[الأنفال: 2].
وهكذا كان الإمام الباقر (ع)، يعيش مع الله مبتهلاً متضرّعاً باكياً.
يقول الإمام الصّادق (ع): "إِنِّي كُنتُ أُمَهِّدُ لِأَبِي فِرَاشَهُ – فهو الّذي كان يقوم بخدمة أبيه - فَأَنْتَظِرُهُ حَتَّى يَأْتِي، فَإِذَا أَوَى إِلَى فِرَاشِهِ وَنَامَ، قُمْتُ إِلَى فِرَاشِي، وَإِنَّهُ أَبْطَأَ عَلَيَّ ذَاتَ لَيْلَةٍ، فَأَتَيْتُ المَسْجِدَ فِي طَلَبِهِ، وَذَٰلِكَ بَعْدَمَا هَدَأَ النَّاسُ، فَإِذَا هُوَ فِي المَسْجِدِ سَاجِدٌ، وَلَيْسَ فِي المَسْجِدِ غَيْرُهُ، فَسَمِعْتُ حَنِينَهُ وَهُوَ يَقُولُ: سُبْحَانَكَ اللَّهمَّ أَنتَ رَبِّي حَقًّا حَقًّا، سَجَدْتُ لَكَ يَا رَبِّ تَعَبُّدًا وَرَقًّا، اللَّهمَّ إِنَّ عَمَلِي ضَعِيفٌ فَضَاعِفْهُ لِي، اللَّهمَّ قِنِي عَذَابَكَ يَوْمَ تَبْعَثُ عِبَادَكَ، وَتُبْ عَلَيَّ، إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ".
هكذا يعلّمنا الإمام (ع) كيف نعيش مع الله دائماً، وكيف نسجد له. وقد جاء في الحديث عن رسول الله (ص)، أنَّ "أَقْرَبُ مَا يَكُونُ العَبْدُ إِلَى رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ"؛ اسجد بين يدي ربّك واذكر حاجتك، اسجد بين يديه وتحدَّث عن عبوديَّتك له، اسجد بين يديه واستغفره وتب إليه، لأنّك بذلك تكون القريب إلى ربّك بكلّ معنى الخشوع والمظهر لعبوديّتك.
أيُّها الأحبَّة، إنَّ قلوبنا صحراء مقفرة، ليس فيها شيء من العشب الرّوحيّ، فتعالوا نزرع في قلوبنا العشب الرّوحيَّ بذكر الله والابتهال إليه، فإنَّ ذلك هو الَّذي يجعلنا نراقب الله عندما نتكلَّم، فلا نتكلَّم إلَّا بما يرضيه، ويجعلنا نراقبه عندما نعمل، فلا نعمل إلَّا العمل الَّذي يحبُّه، ونراقبه عندما نعيش مع النَّاس، ذلك هو ذكر الله، يجعلك تعيش مع الله، ويجعلك تطيعه في ذلك كلّه.
أحاديثُ ومواعظُ للإمام (ع)
وقد حدَّثنا الإمام الباقر (ع)، أنَّ قضيَّة أن تكون الإنسانَ القريبَ إلى الله، ليس فقط أن تكثر صلاتك ويكثر صومك، ولكن أن لا تأكل إلَّا حلالاً، ولا تشرب إلَّا حلالاً، ولا تتعامل إلَّا بالحلال، ولا تلبّي شهواتك إلّا بالحلال، ولا تتحرَّك في علاقتك إلَّا بالحلال، إذا كان الحلال هو الَّذي يحكم كلَّ حياتك، فأنت القريب إلى الله، حتَّى لو لم يكثر صومك وصلاتك، بل كنت تقتصر على الفرائض.
عن أبي بصير قال: قال رجل لأبي جعفر (ع): "إِنِّي ضَعِيفُ العَمَلِ، قَلِيلُ الصِّيَامِ – يقول قد يكون هناك أناس يصومون ثلاثة أشهر؛ رجب وشعبان ورمضان، وكلّ اثنين وخميس، ولكنّي ضعيف لا أستطيع أن أصوم هكذا، أنا أصلّي صلاتي الواجبة، أمّا النّوافل، فلا أستطيع القيام بها، ولكن عندي ميزة - وَلَكِنِّي أَرْجُو أَنْ لَا آكُلَ إِلَّا حَلَالاً - فلقمة الحرام لا تدخل في جسدي، ولا في مالي، ولا في أرضي، لا آكل إلّا حلالاً، من طعام أو شراب أو لباس أو مال، فهل يعطيني الله بذلك القربى منه؟! - قَالَ: فَقَالَ لَهُ: أَيُّ الاجْتِهَادِ أَفْضَلُ مِنْ عِفَّةِ بَطْنٍ وَفَرْجٍ؟!"، أن يعفَّ بطنه عن الحرام، فلا يدخل فيه شيء من الحرام، وأن يعفَّ فرجه عن الحرام، فلا يتحرَّك في شهوته بالحرام. وطبعاً هذا كناية عن أنَّ الحرام لا يدخل عليه في أيّ شيء، سواء في المعاملات أو في غيرها، أن لا تكون الأرض الّتي يسكن فيها مغصوبة، أن لا يكون الثَّوب مغصوباً، أن لا يعتدي على النّاس ولا يغشّهم، وما إلى ذلك.
وقد قال الإمام الباقر (ع): "الْجَنَّةُ – تريد الجنّة؟! هي لا تأتي بالرّاحة، بل تحتاج إلى جهد - مَحْفُوفَةٌ بِالْمَكَارِهِ وَالصَّبْرِ، فَمَن صَبَرَ عَلَى الْمَكَارِهِ فِي الدُّنْيَا دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَجَهَنَّمُ مَحْفُوفَةٌ بِاللَّذَّاتِ وَالشَّهَوَاتِ – تريد جهنّم؟ اذهب إلى البارات، اشرب الخمر، أَعِنِ الظّالمين، تجسَّس لصالح الأعداء، ارقص، فرفش في معصية الله، اعمل كلّ ما تريد، وهذا كلّه سيوصلك عبر الطَّريق السَّريع إلى جهنَّم. لكن إذا أتعبت نفسك بطاعة الله، وبالصَّدّ عن معصيته، وبالابتعاد عن الظّالمين والكاذبين، وسرت مع الصَّادقين، فهذا طريق يوصلك إلى الجنَّة، فهذا طريق وذاك طريق، ولكن انتبه أن تخطئ بين الطَّريقين، أو أن تختلط عليك الأمور - فَمَن أَعْطَى نَفْسَهُ لَذَّاتِهَا وَشَهَوَاتِهَا دَخَلَ النَّارَ".
وقال له بعض أصحابه: "قُلتُ لِأَبِي جَعْفَرٍ: حَدِّثْنِي بِمَا أَنْتَفِعُ بِهِ، فَقَالَ: يَا أَبَا عُبَيْدَةَ، أَكْثِرْ ذِكْرَ الْمَوْتِ، فَإِنَّهُ لَمْ يُكْثِرْ إِنسَانٌ ذِكْرَ الْمَوْتِ إِلَّا زَهِدَ فِي الدُّنْيَا"، لأنّ الإنسان لن يبقى في هذه الدّنيا، وعليه أن لا يستغرق فيها ويقبل عليها إقبالاً ينسيه آخرته.
وعن أبي جعفر (ع) قال: "أوحى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَى مُوسَى (ع): إِنَّ مِنْ عِبَادِي مَن يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالْحَسَنَةِ فَأُحَكِّمُهُ فِي الْجَنَّةِ، فَقَالَ مُوسَى: يَا رَبِّ، وَمَا تِلْكَ الْحَسَنَةُ؟ قَالَ: يَمْشِي مَعَ أَخِيهِ الْمُؤْمِنِ فِي قَضَاءِ حَاجَتِهِ، قُضِيَتْ أَوْ لَمْ تُقْضَ".
وهكذا، يقول الإمام (ع) في بعض كلماته، وهو يعالج نقطة معيَّنة، فبعض النّاس يقول لك أنا لا أزني، ولا أسرق، ولا أفعل كذا، ولكنّي أقوم بأشياء صغيرة، فأنا أسبّ زوجتي، وأطردها إلى بيت أهلها، أو أضربها، أو أشتم أهلها، أو أضرب ولدي من دون حقّ... ويستصغر هذه الذنوب، فيقول الإمام (ع): "اتَّقُوا الْمُحَقَّرَاتِ مِنَ الذُّنُوبِ - وهي الذّنوب الَّتي لا تمثّل شيئاً عندكم - فَإِنَّ لَهَا طَالِبًا، لَا يَقُولُ أَحَدُكُم أَذْنَبْتُ وَأَسْتَغْفِرُ – فقد يقول البعض إنّي أريد إرضاء أصحابي فيما يطلبون منّي من القيام بأشياء محرَّمة، فأقوم بها ثمّ أستغفر الله منها، أو أعمل السَّبعة وذمَّتها أيضاً، بمعنى أنّه يرتكب الكبائر والمحرَّمات وما لا يليق بالمؤمن، ثمّ بعد ذلك يتوب إلى الله ويحجّ... - إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: {وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ ۚ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُّبِينٍ}[يس: 12]، وقال عزَّ وجلَّ: {يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ}[لقمان: 16]".
ثمّ يحكي لنا (ع) عن الذّنب وعن التَّوبة، ونحن هنا من أجل أن نعالج أمراضنا الروحيَّة والنَّفسيَّة، حتَّى نفتح قلوبنا لله، ونتعرّف كيف يمكن أن نكون قريبين منه تعالى. يقول الإمام (ع): "مَا مِنْ عَبْدٍ إِلَّا وَفِي قَلْبِهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ، فَإِذَا أَذْنَبَ ذَنْبًا، خَرَجَ فِي النُّكْتَةِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، فَإِنْ تَابَ ذَهَبَ ذَٰلِكَ السَّوَادُ، وَإِنْ تَمَادَى فِي الذُّنُوبِ، زَادَ ذَٰلِكَ السَّوَادُ، حَتَّى يُغَطِّيَ الْبَيَاضَ، فَإِذَا غَطَّى الْبَيَاضَ، لَمْ يَرْجِعْ صَاحِبُهُ إِلَى خَيْرٍ أَبَدًا"، وَهُوَ قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}"[المطففين: 14].
وهكذا، أيُّها الأحبَّة، نعيش مع أئمَّتنا هذه النَّصائح وهذه المواعظ الَّتي إذا أخذنا بها وطبَّقناها في حياتنا، فإنَّنا نكون القريبين إلى الله، وإلى الجنَّة، وإلى السَّعادة في الدنيا والآخرة، وهذا هو خطُّ أهل البيت (ع)، خطّ العمل، كما قال أمير المؤمنين (ع): "الْعَمَلَ، الْعَمَلَ، الْعَمَلَ، الاستِقَامَةَ، الاستِقَامَةَ، الاستِقَامَةَ".
الخطبة الثّانية
عبادَ الله، اتَّقوا الله سبحانه وتعالى، وانفتحوا عليه في خطّ المسؤوليَّة وفي خطّ التَّقوى، حتَّى يعرف كلّ إنسان ما له وما عليه {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ}[المطففين: 6]، {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا}[النّحل: 111].
راقبوا أنفسكم في كلّ ما تفكّرون فيه ليكون فكركم حقّاً، وفي كلّ ما تتكلَّمون به ليكون كلامكم حقّاً، وفي كلّ ما تعملون به ليكون عملكم خيراً في سبيل الله، وفيما يرضي الله سبحانه وتعالى.
وعندما تواجهون حركة المسؤوليَّة، فاعلموا أنَّ الله سبحانه وتعالى يحمّلنا المسؤوليَّة بمقدار طاقاتنا، فهناك طاقات فرديَّة، والله يكلّفنا بأن نحرّكها في كلّ ما كلَّفنا به من عمل، وهناك طاقات اجتماعيَّة، وهي أن تضمَّ طاقتك إلى طاقات الآخرين، لأنَّ كلَّ واحد منَّا هو جزءٌ من مجتمع، كما أنَّه فردٌ في نفسه، وعلينا أن نقوم بمسؤوليَّاتنا الفرديَّة فيما كلَّفنا الله من ذلك، ومسؤوليَّاتنا الاجتماعيَّة فيما كلَّفنا الله من مسؤوليَّات عن النَّاس من حولنا، عن الأقربين والأبعدين، وفيما كلَّفنا الله من حماية قضايانا الكبرى الَّتي هي قضايا الإسلام والمسلمين والمستضعفين، كلٌّ بحسب قدرته وطاقته.
وفي خطّ هذه المسؤوليَّة، لا بدَّ أن نكون واعين لكلّ ما حولنا، أن يواجه الإنسانُ في كلّ يوم قضاياه الخاصَّة وقضايا عائلته، وقضايا مجتمعه القريب، وقضايا وطنه وأمَّته، حتَّى يكون مثقَّفاً بثقافة كلّ الواقع. لذلك، علينا أن لا نكون حياديّين أمام قضايا الحقّ والباطل، وقضايا العدل والظّلم، وقضايا الإسلام والكفر، وقضايا الاستكبار والاستضعاف، بل يكون لكلّ واحد منّا موقفه في نفسه: "مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَٰلِكَ أَضْعَفُ الإِيمَانِ". المهمّ أن لا نكون حياديّين، أن لا نخذل الحقّ ولا ننصر الباطل، بل أن نقف مع الحقّ ضدّ الباطل في كلّ مواقفنا.
ونحن كمسلمين، أيُّها الأحبَّة، نعيش أكثر من مشكلة في كلّ قضايانا السياسيَّة والاقتصاديَّة والأمنيَّة والثَّقافيَّة، لأنَّ الاستكبار العالميَّ، ومعه الكفر العالميُّ، قد أطبق علينا من أجل يسلبنا كلَّ طاقاتنا وثرواتنا، وليحوَّلنا إلى مزقٍ متناثرة، وإلى هامش من هوامش حياته.
فماذا عندنا فيما عشناه فيما مضى من الأسبوع الماضي، وما نستقبله في ذلك؟!
اتّفاقٌ لصالحِ العدوّ
لقد حمل لنا الأسبوع الماضي الاتفاق الفلسطيني الإسرائيلي تحت المظلَّة الأمريكيَّة. وعندما ندرس هذا الاتّفاق، نجد أنَّ عمق هذا الاتّفاق هو الأمن لإسرائيل، فقد كانت إسرائيل ولا تزال تسيطر على الواقع الاقتصاديّ للفلسطينيّين، ولكنَّها لم تسيطر سيطرةً مطلقةً على الواقع الأمنيّ. لذلك، كان هذا الاتّفاق يستهدف أن تدخل إسرائيل إلى عمق الأمن الفلسطينيّ، ليكون مكشوفاً أمامها، تعبثُ به كيف تشاء، وتصرّفُه كيف تشاء، وتربحُ عناصره بما تشاء.
كما أنّها، وهي المتحالفة مع المخابرات المركزيَّة الأمريكيَّة CIA، أدخلت المخابرات الأمريكيَّة أيضاً إلى داخل المنطقة الأمنيَّة الفلسطينيَّة المنفتحة على المنطقة الأمنيَّة العربيَّة، وربما الإسلاميَّة، لأنَّ هناك تحالفاً بين الموساد وبين CIA. وهنا يراد أن يكون الأمن الفلسطينيّ، ومن خلاله الأمن العربيّ، مكشوفاً، لأنَّ هذه الخطَّة، وهي إدخال المخابرات الأمريكيَّة في المفاوضات، على أن تكون الضَّامن لتنفيذ الأمن هنا وهناك، هذه الخطّة سوف تمتدّ حتَّى في المفاوضات الإسرائيليَّة اللّبنانيَّة، أو الإسرائيليّة السوريَّة، وهذا أمر خطير جداً في تطوّر مسألة المفاوضات.
ثم نلاحظ من خلال ذلك، أنَّ أمريكا تحاول أن تصوّر إلى العرب والعالم، أنَّ إسرائيل ضحَّت تضحية كبيرة عندما قبلت أن تتنازل عن 13% للفلسطينيّين، كما لو كانت فلسطين أرضاً إسرائيليَّة مستباحة، وتريد إسرائيل أن تتنازل عن الأرض وكأنّها تتصدَّق بها، مع أنَّنا نعرف أنَّ فلسطين هي أرض للفلسطينيّين جميعاً، وأنَّ إسرائيل هي المعتدية. لكنَّ الرَّئيس الأمريكي يقول إنَّ نتنياهو تحمَّل مخاطرَ كبيرةً في عمليَّة تنازله هذه، والمسؤولون الأمريكيّون الآن يقولون للعرب إنَّ إسرائيل وقّعت على الاتّفاق، فعليكم أن تقوموا بعمليَّة التَّطبيع الاقتصاديّ والسياسيّ والأمنيّ مع إسرائيل، وأن تعترفوا بها، ليكون بمثابة الجائزة على هذا، ولكي تشعر بأنَّ تضحياتها تواجَه بالاعتراف بالجميل من قبل العرب.
الاتّفاقُ والخوفُ من الفتنة
ولكنَّنا نعرف أنَّ الاتّفاق لا يزال حبراً على ورق، وأنَّ نتنياهو يقول إنّه إذا صار هناك انتخابات مبكرة فسنجمّد الاتّفاق. ثم إنَّ الضّغوط الَّتي تفرض على الفلسطينيّين ربّما تخلق فتنة فيما بينهم، فمثلاً، الشَّيخ أحمد ياسين المريض المجاهد هذا، من المفارقات أنَّ إسرائيل أفرجت عنه، لأنّه كان يمثّل خطراً عليها وهو في السّجن، ولكنَّ سلطة الحكم الذَّاتي اعتقلته في بيته، وفرضت عليه رقابة وإقامة إجباريّة، فهذه من المفارقات، أن تطلق إسرائيل سراحه وتعتقله السّلطة الفلسطينيّة، فإسرائيل أوكلت إلى الفلسطينيّين أمر ضبط حركة الشَّيخ أحمد ياسين لمصلحة أمنها، فهم الَّذين يعتقلون ويفرضون إقامة إجباريّة. كما أنَّ سلطة الحكم الذَّاتيّ قامت باعتقال شخصيّات سياسيَّة من حركة حماس، واعتقلت الكثيرين، عقوبةً على العمليَّة الاستشهاديَّة الَّتي قام بها أحد المجاهدين الفلسطينيّين في غزّة، وقتل فيها جنديّ إسرائيليّ وجرح آخرون.
الآن نلاحظ أنَّ المشكلة الّتي نواجهها، هي أنَّ الفلسطينيّين بدأوا يعملون لتنفيذ هذا الاتّفاق، على أساس أن يحاصروا كلَّ الشَّعب الفلسطينيّ بذلك، باعتبار أنَّ هناك تنسيقاً بين المخابرات الفلسطينيَّة والمخابرات الإسرائيليَّة والمخابرات الأمريكيَّة، ونحن نعتبر أنَّ هذا المجاهد الَّذي قام بالعمليَّة الاستشهاديَّة، يمثّل الشَّعب الفلسطينيَّ الَّذي رأى أنَّه لم يحصل إلَّا على المشاكل الجديدة من خلال هذا الاتّفاق، حتَّى أصبح في حالة يأس.
لذلك نقول إنّهم إذا أرادوا أن يعتقلوا الشَّيخ أحمد ياسين وبعض الشَّخصيَّات السياسيَّة الأخرى، فعليهم أن يعتقلوا الشَّعب الفلسطيني كلّه، لأنَّ الشَّعب بأجمعه يقف ضدّ هؤلاء.
إنّنا نخشى أن تتحوَّل الاتّفاقات الفلسطينيَّة مع العدوّ إلى واقع سياسيّ وأمنيّ متطوّر، في اتجاه استكمال الطَّوق الأمني التركيّ الإسرائيليّ الأردنيّ، الَّذي قد يدخل فيه العنصر الفلسطينيّ لتطويق كلّ الواقع العربيّ المعارض للسياسة الأمريكيَّة الإسرائيليَّة في المنطقة.
ولذلك، لا بدَّ للقائمين على حركة المعارضة للسياسة الأمريكيَّة الإسرائيليَّة، من تحرّك في نطاق خطَّة دقيقة بعيدة المدى... وإذا عرفنا أنَّ مصطلح الإرهاب الَّذي يتحرَّك في مفهوم الاتّفاق يمثّل المجاهدين في مواجهة الاحتلال الإسرائيليّ في فلسطين ولبنان والجولان، فإنَّنا نعرف كيف يمكن للجانب الفلسطينيّ الرسميّ أن يقوم بأكثر من حركة عدوانيَّة في لبنان ضدَّ المجاهدين من لبنانيّين وفلسطينيّين، ما يفرض على الجميع الحذر، وقد لا تكون أحداث صيدا بعيدةً من هذا المخطَّط الجديد القديم، الأمر الَّذي يفرض على اللّبنانيّين أن يواجهوا المرحلة بالعمل على لملمة الملفَّات الدَّاخليَّة الَّتي تتميَّز بالعلاقة العضويَّة بالملفّ الكبير المتمثّل بالاحتلال الإسرائيليّ، وبالوحدة الشَّعبيَّة القويَّة المنفتحة على الموقف الموحَّد مع سوريا الصَّامدة في مواجهة العدوّ، ودعم المقاومة الَّتي تقف بقوّة وشجاعة في مواجهته.
القدسُ.. وإعلانُ الفاتيكان
وفي هذا الاتّجاه، لا بدَّ لنا من التوقّف أمام إعلان وزير خارجيَّة الفاتيكان، ومطالبته بأن يكون للفاتيكان دورٌ في المفاوضات في مستقبل القدس، لأنَّها محتلَّة، كما يقول، بشكل غير شرعيّ، وأن لا شيء يمنع من أن تكون رمزاً وطنيّاً للشَّعبين الإسرائيليّ والفلسطينيّ، على حدّ قوله.
إنَّنا في الوقت الَّذي نقدّر هذا الإعلان بعدم شرعيَّة الاحتلال الإسرائيلي للقدس، ندعو إلى الالتفات إلى مسألة حيويَّة ومهمَّة، وهي أنَّ قضيَّة القدس لا يمكن اختصارها بأماكن العبادة، ليُتَحدَّث عن أنَّه لا بدَّ من حريَّة العبادة لليهود والنّصارى والمسلمين، بل هي قضيَّة الشَّعب الفلسطيني الواقع تحت الاحتلال، والَّذي يراد إلغاء هويَّته وإنسانيَّته، وإلغاء قضيَّة فلسطين كلّها.
جرائمُ تهدّد المجتمع
وأخيراً، نقف في لبنان مع الأزمة الاجتماعيَّة المتمثّلة بتفشّي جرائم القتل والاغتصاب والسَّرقة والتعدّي على الطّفولة، وهي ظاهرة خطيرة لضرب المجتمع اللّبنانيّ في نسيجه الاجتماعيّ، وقد تكون مدمّرة ما لم تعمد الدّولة إلى معالجتها، وذلك بالعمل الجدّيّ لاقتلاع جذور هذه الظَّاهرة، وعدم الاكتفاء بالحديث عن أنَّها مشاكل طبيعيَّة ومن إفرازات الحرب. وإنَّنا نجد أنّ من الضّروريّ دراسة برامج وسائل الإعلام في التلفزيون والإذاعة والصّحف، الَّتي قد تشجّع الانحرافات الأخلاقيَّة، من خلال تقديم النَّماذج السلبيَّة الَّتي تشجّع على العنف الجسديّ كأفلام العنف، والانحراف الجنسيّ كأفلام الجنس. لقد صُرِفَ الكثيرُ من الاهتمام في هذا البلد للحجر، فهل ثمة هناك فرصة للاهتمام بالبشر؟!
إنَّ قيمة لبنان بإنسانه، فإذا عاش الإنسان الخرابَ الرّوحيّ والأخلاقيّ في معنى إنسانيَّته، فلا قيمةَ للوطن بعد ذلك، وعلى جميع الفعاليَّات الرّسميَّة والدّينيَّة والسياسيَّة والاجتماعيَّة، أن تقوم بهذه المهمَّة الإصلاحيَّة، قبل أن يسقط البلد تحت تأثير الانحراف الَّذي قد يقودنا إلى الانهيار.
والحمد لله ربّ العالمين.
*خطبة الجمعة لسماحته، بتاريخ: 30/10/1998م.
{إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا}[الأحزاب: 33].
من أهل هذا البيت، الإمام محمَّد بن عليّ الباقر (ع) الَّذي مرَّت ذكرى ولادته في بداية هذا الشَّهر.
ولا بدَّ لنا، أيُّها الأحبَّة، من خلال التزامنا بخطّ الإمامة في خطّ الرّسالة، أن نقف بين وقت وآخر لنتعرَّف بعض ما يختصّ بحياة أئمَّتنا (ع)، لأنَّهم في وعينا العقيديّ، هم أوصياء رسول الله (ص)، والحجَّة على النَّاس من بعده (ص).
والتزامنا بالأئمَّة (ع) هو التزام بالخطّ الإسلاميّ الأصيل، لأنَّ الأئمَّة (ع) عاشوا للإسلام، وأوذوا وحوصروا وتعذَّبوا واستشهدوا من أجل أن تكون كلمة الله هي العليا وكلمة الشَّيطان هي السّفلى. ولذلك، فإنَّ الالتزام بهم في معنى إمامتهم، يفرض علينا أن نكون الأمناء على ما ائتُمِنوا عليه، وأن نكون الثَّابتين على ما ثبتوا عليه، وأن نكون المجاهدين فيما جاهدوا من أجله، وهو دين الله الَّذي أراد للنَّاس أن يأخذوا به في عقائده ومفاهيمه، وفي كلّ أحكامه وشرائعه.
مرحلةُ الباقر والصَّادق (ع)
والإمام الباقر (ع) وابنه الإمام الصَّادق (ع)، عاشا فترةً شُغِلَ الحكَّام، سواء الأمويّون أو العبَّاسيّون الَّذين جاؤوا من بعدهم، بحركة الصّراع الَّتي دارت فيما بين الأمويّين والعباسيّين، فشغل الأمويّون عن اضطهاد الإمام الباقر (ع) في تلك الفترة، وشغل العبَّاسيُّون عن اضطهاد الإمام الصَّادق (ع)، فانتشر من هذين الإمامين من العلم الَّذي يتميَّز به الإسلام في كلّ جوانبه، ما لم ينتشر في أيّ مرحلة أخرى سابقة أو لاحقة.
إنَّ الأئمَّة (ع) يملكون علماً واحداً، وثروةً واحدة، فحديثهم حديث رسول الله (ص)، وعلمهم من علمه، وسيرتهم في خطّ سيرته، ولكنَّ ظروف بعضهم كانت تختلف عن ظروف بعض آخر، فقد قضى بعضهم سنين عديدة، كالإمام الكاظم (ع)، في السّجون، وحوصر بعضهم في داره، وكانت الجواسيس تترصَّدهم في كلّ علاقاتهم بالمسلمين. لذلك، كانت مرحلة الإمام الباقر (ع) والإمام الصَّادق (ع)، هي المرحلة الَّتي اتَّسعت فيها كلّ الفرص لبيان علوم أهل البيت (ع)، الَّتي هي علوم رسول الله (ص) الَّتي علَّمها لعليّ (ع)، وعلَّمها عليٌّ للصَّفوة الطيّبة من أولاده.
ثقةُ المسلمين وإمامُ العلم
وقد كان الإمام الباقر (ع) موضع الثّقة لدى كلّ المسلمين، مَنْ كان يقول بإمامته ومن لا يقول بها، وقد روى حديثَه أكثرُ النَّاس الَّذين كانوا يمثّلون قاعدة الثَّقافة الإسلاميَّة من الفقهاء والمتكلّمين والمحدّثين والمؤرَّخين والفلاسفة، لأنَّ كلَّ واحد منهم كان يجد عند الإمام الباقر (ع) ما يطلبه من علم.
ولذلك، لو درسنا تراث الإمام الباقر (ع)، لرأيناه تراثاً واسعاً ممتدّاً يتناول أسرار العقيدة، ويتحدَّث عن أسرار الكون، ويتحرَّك في مفاهيم الإسلام، ويفسّر القرآن، ويعظ النَّاس ويرشدهم، ويحدّثهم عمَّا أشكل عليهم من مشكلات الفلسفة، ويحدّثهم عن التَّأريخ في كلّ مواقعه.
وإذا قرأنا تاريخ الطَّبري، وهو التَّأريخ الموثوق عند علماء التَّأريخ، لرأينا أنَّ الكثير مما ذكره الطَّبري في تاريخه، كان مستمدّاً من روايته عن الإمام الباقر (ع)، هذا التُّراث الموسوعيّ الَّذي لا يقتصر على جانب دون جانب.
وهذا، أيُّها الأحبَّة، ما ينبغي لعلماء المسلمين، ولا سيَّما لعلماء أهل البيت (ع)، أن يأخذوا به، ليكون العالِمُ منفتحاً على عصره، وعلى كلّ حاجاته الفكريَّة الَّتي تتَّصل بالجانب الرّساليّ، في كلّ قضايا الإنسان، فيما يبحث عنه من حكم إسلاميّ هنا يحدّد له مسؤوليَّته، وعن مفهومٍ إسلاميّ يميّز له الخطَّ المستقيم من الخطّ المنحرف.
وقد جاء في سيرة الإمام محمَّد الباقر (ع) عن عبدالله بن عطاء المكّيّ، وهو يحدّثنا كيف كان العلماء المسلمون في زمنه يتصاغرون أمامه، كما يتصاغر التَّلاميذ أمام أستاذهم الكبير. يقول: "ما رَأَيْتُ العُلماءَ عِندَ أَحَدٍ قَطُّ أَصغَرَ مِنهُمْ عِندَ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ بْنِ الحُسَيْنِ، وَلَقَدْ رَأَيْتُ الحَكَمَ بْنَ عَتِيبَةَ، مَعَ جَلاَلَتِهِ فِي القَوْمِ - كان من العلماء الكبار - بَيْنَ يَدَيْهِ كَأَنَّهُ صَبِيٌّ بَيْنَ يَدَيْ مُعَلِّمِهِ"، "وَكانَ جَابِرٌ بْنُ يَزِيدٍ الجُعْفِيُّ إِذَا رَوى عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ شَيْئًا، قَالَ: حَدَّثَنِي وَصِيُّ الأَوْصِيَاءِ، وَوَارِثُ عِلْمِ الأَنْبِيَاءِ، مُحَمَّدٌ بْنُ عَلِيٍّ بْنِ الحُسَيْ".
"سُئِلَ – الإمام الباقر (ع) - عَنْ الحَدِيثِ يُرْسِلُهُ وَلَا يُسْنِدُهُ – فإنَّ النَّاس إذا حدَّثوا عن رسول الله، ذكروا الرّواة بينهم وبين رسول الله، فهم يقولون: حدَّثني فلان عن فلان عن فلان عن رسول الله، أمَّا أنت، فتقول: قال رسول الله، من دون أن تذكر السَّند، أي الرّواة الفاصلين بينك وبين الرسول (ص) - فَقَالَ (ع): إِذَا حَدَّثْتُ الحَدِيثَ فَلَمْ أُسْنِدْهُ، فَسَنَدِي فِيهِ أَبِي عَنْ جَدِّي عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ رَسُولُ اللَّهِ (ص) عَنْ جِبْرِيلَ عَنْ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ".
وهذا ما نظمه بعض الشَّعراء، فقال:
وَوَالِ أُنَاساً قَوْلُهُم وَحَدِيثُهم رَوَى جَدُّنا عَنْ جِبْرئيلَ عَنِ الباري
ويقول الإمام الباقر (ع): "بَلِيَّةُ النَّاسِ عَلَيْنَا عَظِيمَةٌ - أي أنّ النَّاس ابتلوا بموقعنا منهم - إِنْ دَعَوْنَاهُمْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَنَا – أي أنَّ الله سيحاسبهم إذا دعوناهم ولم يستجيبوا لنا، ونحن حجج الله على خلقه - وَإِنْ تَرَكْنَاهُمْ – فلم نعلّمهم ولم ندعهم - لَمْ يَهْتَدُوا بِغَيْرِنَا"، لأنَّ الهدى عندنا وليس عند غيرنا.
وكان (ع) يقول: "مَا يَنْقِمُ النَّاسُ مِنَّا - أي ما يكرهون منّا وما يعيبون علينا - نَحْنُ أَهْلُ بَيْتِ الرَّحْمَةِ، وَشَجَرَةُ النُّبُوَّةِ، وَمَعْدِنُ الْحِكْمَةِ، وَمَوْضِعُ الْمَلَائِكَةِ، وَمَهْبِطُ الْوَحْيِ".
وذكر بعضهم، وهو أبو نعيم الأصفهاني في (حلية الأولياء)، قال: "هُوَ الحَاضِرُ الذَّاكِرُ، الخَاشِعُ الصَّابِرُ، أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدٌ بْنُ عَلِيٍّ البَاقِرُ".
ويروي أحد أصحابه، وهو محمَّد بن مسلم: قال: "مَا شَجَرَ فِي رَأْيِي شَيْءٌ قَطُّ – أي أنّه ما خطر في رأسه سؤال، أو أشكل عليه شيء – إِلَّا سَأَلْتُ عَنْهُ أَبَا جَعْفَرٍ (ع)، حَتَّى سَأَلْتُهُ عَنْ ثَلاَثِينَ أَلْفَ حَدِيثٍ – فما سألته عن شيء في أيّ جانب تثور فيه علامات الاستفهام في نفسي، إلّا وأجابني عن ذلك كلّه - وَسَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ (ع) عَنْ سِتَّةَ عَشَرَ أَلْفَ حَدِيثٍ".
علاقتُهُ (ع) مع الله
وهكذا حدَّثنا الإمام الصَّادق (ع) عن أبيه، وكان عشيرَه في كلّ حياته، كيف كان الإمام الباقر (ع) يعيش مع الله ذاكراً إيّاه في كلّ حالاته.
يقول (ع): "كَانَ أَبِي (ع) كَثِيرَ الذِّكْرِ، لَقَدْ كُنْتُ أَمْشِي مَعَهُ وَإِنَّهُ لَيَذْكُرُ اللَّهَ، وَآكُلُ مَعَهُ الطَّعَامَ وَإِنَّهُ لَيَذْكُرُ اللَّهَ، وَلَقَدْ كَانَ يُحَدِّثُ القَوْمَ وَمَا يَشْغَلُهُ ذَٰلِكَ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ، وَكُنْتُ أَرَى لِسَانَهُ لَازِقًا بِحَنَكِهِ، يَقُولُ: لَا إِلٰهَ إِلَّا اللَّهُ، وَكَانَ يَجْمَعُنَا فَيَأْمُرُنَا بِالذِّكْرِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، وَيَأْمُرُ بِالْقِرَاءَةِ مَنْ كَانَ يَقْرَأُ مِنَّا، وَمَنْ كَانَ لَا يَقْرَأُ مِنَّا أَمَرَهُ بِالذِّكْرِ".
وهذا هو التَّوجيه الإماميّ الَّذي يقول للإنسان إنَّ عليك أن يكون الله حاضراً معك في كلّ حالاتك؛ إذا خرجت من بيتك وركبت السيَّارة فاذكر الله في نفسك، سبّحه واحمده وهلّله وكبّره واستغفره، وإذا جلست مع النَّاس، وكان هناك فترة بين حديث وحديث، اذكر الله بلسانك في ذلك، وهكذا إذا استيقظت صباحاً، فعليك أن تشغل نفسك بذكر الله إلى أن تطلع الشَّمس، حتَّى تعيش مع الله في أوَّل صباحك، وتعيش معه وأنت في محلّك، وتعيش معه وأنت سائر إلى عملك، وتعيش معه وأنت تتحدَّث مع قومك، لأنَّ مشكلة النَّاس، أيُّها الأحبَّة، أنّهم ينسون الله ويغفلون عنه، وأمَّا الذَّاكرون الله، فهم {ٱلَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ ٱللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ ءَايَٰتُهُۥ زَادَتْهُمْ إِيمَٰنًا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ}[الأنفال: 2].
وهكذا كان الإمام الباقر (ع)، يعيش مع الله مبتهلاً متضرّعاً باكياً.
يقول الإمام الصّادق (ع): "إِنِّي كُنتُ أُمَهِّدُ لِأَبِي فِرَاشَهُ – فهو الّذي كان يقوم بخدمة أبيه - فَأَنْتَظِرُهُ حَتَّى يَأْتِي، فَإِذَا أَوَى إِلَى فِرَاشِهِ وَنَامَ، قُمْتُ إِلَى فِرَاشِي، وَإِنَّهُ أَبْطَأَ عَلَيَّ ذَاتَ لَيْلَةٍ، فَأَتَيْتُ المَسْجِدَ فِي طَلَبِهِ، وَذَٰلِكَ بَعْدَمَا هَدَأَ النَّاسُ، فَإِذَا هُوَ فِي المَسْجِدِ سَاجِدٌ، وَلَيْسَ فِي المَسْجِدِ غَيْرُهُ، فَسَمِعْتُ حَنِينَهُ وَهُوَ يَقُولُ: سُبْحَانَكَ اللَّهمَّ أَنتَ رَبِّي حَقًّا حَقًّا، سَجَدْتُ لَكَ يَا رَبِّ تَعَبُّدًا وَرَقًّا، اللَّهمَّ إِنَّ عَمَلِي ضَعِيفٌ فَضَاعِفْهُ لِي، اللَّهمَّ قِنِي عَذَابَكَ يَوْمَ تَبْعَثُ عِبَادَكَ، وَتُبْ عَلَيَّ، إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ".
هكذا يعلّمنا الإمام (ع) كيف نعيش مع الله دائماً، وكيف نسجد له. وقد جاء في الحديث عن رسول الله (ص)، أنَّ "أَقْرَبُ مَا يَكُونُ العَبْدُ إِلَى رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ"؛ اسجد بين يدي ربّك واذكر حاجتك، اسجد بين يديه وتحدَّث عن عبوديَّتك له، اسجد بين يديه واستغفره وتب إليه، لأنّك بذلك تكون القريب إلى ربّك بكلّ معنى الخشوع والمظهر لعبوديّتك.
أيُّها الأحبَّة، إنَّ قلوبنا صحراء مقفرة، ليس فيها شيء من العشب الرّوحيّ، فتعالوا نزرع في قلوبنا العشب الرّوحيَّ بذكر الله والابتهال إليه، فإنَّ ذلك هو الَّذي يجعلنا نراقب الله عندما نتكلَّم، فلا نتكلَّم إلَّا بما يرضيه، ويجعلنا نراقبه عندما نعمل، فلا نعمل إلَّا العمل الَّذي يحبُّه، ونراقبه عندما نعيش مع النَّاس، ذلك هو ذكر الله، يجعلك تعيش مع الله، ويجعلك تطيعه في ذلك كلّه.
أحاديثُ ومواعظُ للإمام (ع)
وقد حدَّثنا الإمام الباقر (ع)، أنَّ قضيَّة أن تكون الإنسانَ القريبَ إلى الله، ليس فقط أن تكثر صلاتك ويكثر صومك، ولكن أن لا تأكل إلَّا حلالاً، ولا تشرب إلَّا حلالاً، ولا تتعامل إلَّا بالحلال، ولا تلبّي شهواتك إلّا بالحلال، ولا تتحرَّك في علاقتك إلَّا بالحلال، إذا كان الحلال هو الَّذي يحكم كلَّ حياتك، فأنت القريب إلى الله، حتَّى لو لم يكثر صومك وصلاتك، بل كنت تقتصر على الفرائض.
عن أبي بصير قال: قال رجل لأبي جعفر (ع): "إِنِّي ضَعِيفُ العَمَلِ، قَلِيلُ الصِّيَامِ – يقول قد يكون هناك أناس يصومون ثلاثة أشهر؛ رجب وشعبان ورمضان، وكلّ اثنين وخميس، ولكنّي ضعيف لا أستطيع أن أصوم هكذا، أنا أصلّي صلاتي الواجبة، أمّا النّوافل، فلا أستطيع القيام بها، ولكن عندي ميزة - وَلَكِنِّي أَرْجُو أَنْ لَا آكُلَ إِلَّا حَلَالاً - فلقمة الحرام لا تدخل في جسدي، ولا في مالي، ولا في أرضي، لا آكل إلّا حلالاً، من طعام أو شراب أو لباس أو مال، فهل يعطيني الله بذلك القربى منه؟! - قَالَ: فَقَالَ لَهُ: أَيُّ الاجْتِهَادِ أَفْضَلُ مِنْ عِفَّةِ بَطْنٍ وَفَرْجٍ؟!"، أن يعفَّ بطنه عن الحرام، فلا يدخل فيه شيء من الحرام، وأن يعفَّ فرجه عن الحرام، فلا يتحرَّك في شهوته بالحرام. وطبعاً هذا كناية عن أنَّ الحرام لا يدخل عليه في أيّ شيء، سواء في المعاملات أو في غيرها، أن لا تكون الأرض الّتي يسكن فيها مغصوبة، أن لا يكون الثَّوب مغصوباً، أن لا يعتدي على النّاس ولا يغشّهم، وما إلى ذلك.
وقد قال الإمام الباقر (ع): "الْجَنَّةُ – تريد الجنّة؟! هي لا تأتي بالرّاحة، بل تحتاج إلى جهد - مَحْفُوفَةٌ بِالْمَكَارِهِ وَالصَّبْرِ، فَمَن صَبَرَ عَلَى الْمَكَارِهِ فِي الدُّنْيَا دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَجَهَنَّمُ مَحْفُوفَةٌ بِاللَّذَّاتِ وَالشَّهَوَاتِ – تريد جهنّم؟ اذهب إلى البارات، اشرب الخمر، أَعِنِ الظّالمين، تجسَّس لصالح الأعداء، ارقص، فرفش في معصية الله، اعمل كلّ ما تريد، وهذا كلّه سيوصلك عبر الطَّريق السَّريع إلى جهنَّم. لكن إذا أتعبت نفسك بطاعة الله، وبالصَّدّ عن معصيته، وبالابتعاد عن الظّالمين والكاذبين، وسرت مع الصَّادقين، فهذا طريق يوصلك إلى الجنَّة، فهذا طريق وذاك طريق، ولكن انتبه أن تخطئ بين الطَّريقين، أو أن تختلط عليك الأمور - فَمَن أَعْطَى نَفْسَهُ لَذَّاتِهَا وَشَهَوَاتِهَا دَخَلَ النَّارَ".
وقال له بعض أصحابه: "قُلتُ لِأَبِي جَعْفَرٍ: حَدِّثْنِي بِمَا أَنْتَفِعُ بِهِ، فَقَالَ: يَا أَبَا عُبَيْدَةَ، أَكْثِرْ ذِكْرَ الْمَوْتِ، فَإِنَّهُ لَمْ يُكْثِرْ إِنسَانٌ ذِكْرَ الْمَوْتِ إِلَّا زَهِدَ فِي الدُّنْيَا"، لأنّ الإنسان لن يبقى في هذه الدّنيا، وعليه أن لا يستغرق فيها ويقبل عليها إقبالاً ينسيه آخرته.
وعن أبي جعفر (ع) قال: "أوحى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَى مُوسَى (ع): إِنَّ مِنْ عِبَادِي مَن يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالْحَسَنَةِ فَأُحَكِّمُهُ فِي الْجَنَّةِ، فَقَالَ مُوسَى: يَا رَبِّ، وَمَا تِلْكَ الْحَسَنَةُ؟ قَالَ: يَمْشِي مَعَ أَخِيهِ الْمُؤْمِنِ فِي قَضَاءِ حَاجَتِهِ، قُضِيَتْ أَوْ لَمْ تُقْضَ".
وهكذا، يقول الإمام (ع) في بعض كلماته، وهو يعالج نقطة معيَّنة، فبعض النّاس يقول لك أنا لا أزني، ولا أسرق، ولا أفعل كذا، ولكنّي أقوم بأشياء صغيرة، فأنا أسبّ زوجتي، وأطردها إلى بيت أهلها، أو أضربها، أو أشتم أهلها، أو أضرب ولدي من دون حقّ... ويستصغر هذه الذنوب، فيقول الإمام (ع): "اتَّقُوا الْمُحَقَّرَاتِ مِنَ الذُّنُوبِ - وهي الذّنوب الَّتي لا تمثّل شيئاً عندكم - فَإِنَّ لَهَا طَالِبًا، لَا يَقُولُ أَحَدُكُم أَذْنَبْتُ وَأَسْتَغْفِرُ – فقد يقول البعض إنّي أريد إرضاء أصحابي فيما يطلبون منّي من القيام بأشياء محرَّمة، فأقوم بها ثمّ أستغفر الله منها، أو أعمل السَّبعة وذمَّتها أيضاً، بمعنى أنّه يرتكب الكبائر والمحرَّمات وما لا يليق بالمؤمن، ثمّ بعد ذلك يتوب إلى الله ويحجّ... - إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: {وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ ۚ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُّبِينٍ}[يس: 12]، وقال عزَّ وجلَّ: {يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ}[لقمان: 16]".
ثمّ يحكي لنا (ع) عن الذّنب وعن التَّوبة، ونحن هنا من أجل أن نعالج أمراضنا الروحيَّة والنَّفسيَّة، حتَّى نفتح قلوبنا لله، ونتعرّف كيف يمكن أن نكون قريبين منه تعالى. يقول الإمام (ع): "مَا مِنْ عَبْدٍ إِلَّا وَفِي قَلْبِهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ، فَإِذَا أَذْنَبَ ذَنْبًا، خَرَجَ فِي النُّكْتَةِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، فَإِنْ تَابَ ذَهَبَ ذَٰلِكَ السَّوَادُ، وَإِنْ تَمَادَى فِي الذُّنُوبِ، زَادَ ذَٰلِكَ السَّوَادُ، حَتَّى يُغَطِّيَ الْبَيَاضَ، فَإِذَا غَطَّى الْبَيَاضَ، لَمْ يَرْجِعْ صَاحِبُهُ إِلَى خَيْرٍ أَبَدًا"، وَهُوَ قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}"[المطففين: 14].
وهكذا، أيُّها الأحبَّة، نعيش مع أئمَّتنا هذه النَّصائح وهذه المواعظ الَّتي إذا أخذنا بها وطبَّقناها في حياتنا، فإنَّنا نكون القريبين إلى الله، وإلى الجنَّة، وإلى السَّعادة في الدنيا والآخرة، وهذا هو خطُّ أهل البيت (ع)، خطّ العمل، كما قال أمير المؤمنين (ع): "الْعَمَلَ، الْعَمَلَ، الْعَمَلَ، الاستِقَامَةَ، الاستِقَامَةَ، الاستِقَامَةَ".
الخطبة الثّانية
عبادَ الله، اتَّقوا الله سبحانه وتعالى، وانفتحوا عليه في خطّ المسؤوليَّة وفي خطّ التَّقوى، حتَّى يعرف كلّ إنسان ما له وما عليه {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ}[المطففين: 6]، {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا}[النّحل: 111].
راقبوا أنفسكم في كلّ ما تفكّرون فيه ليكون فكركم حقّاً، وفي كلّ ما تتكلَّمون به ليكون كلامكم حقّاً، وفي كلّ ما تعملون به ليكون عملكم خيراً في سبيل الله، وفيما يرضي الله سبحانه وتعالى.
وعندما تواجهون حركة المسؤوليَّة، فاعلموا أنَّ الله سبحانه وتعالى يحمّلنا المسؤوليَّة بمقدار طاقاتنا، فهناك طاقات فرديَّة، والله يكلّفنا بأن نحرّكها في كلّ ما كلَّفنا به من عمل، وهناك طاقات اجتماعيَّة، وهي أن تضمَّ طاقتك إلى طاقات الآخرين، لأنَّ كلَّ واحد منَّا هو جزءٌ من مجتمع، كما أنَّه فردٌ في نفسه، وعلينا أن نقوم بمسؤوليَّاتنا الفرديَّة فيما كلَّفنا الله من ذلك، ومسؤوليَّاتنا الاجتماعيَّة فيما كلَّفنا الله من مسؤوليَّات عن النَّاس من حولنا، عن الأقربين والأبعدين، وفيما كلَّفنا الله من حماية قضايانا الكبرى الَّتي هي قضايا الإسلام والمسلمين والمستضعفين، كلٌّ بحسب قدرته وطاقته.
وفي خطّ هذه المسؤوليَّة، لا بدَّ أن نكون واعين لكلّ ما حولنا، أن يواجه الإنسانُ في كلّ يوم قضاياه الخاصَّة وقضايا عائلته، وقضايا مجتمعه القريب، وقضايا وطنه وأمَّته، حتَّى يكون مثقَّفاً بثقافة كلّ الواقع. لذلك، علينا أن لا نكون حياديّين أمام قضايا الحقّ والباطل، وقضايا العدل والظّلم، وقضايا الإسلام والكفر، وقضايا الاستكبار والاستضعاف، بل يكون لكلّ واحد منّا موقفه في نفسه: "مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَٰلِكَ أَضْعَفُ الإِيمَانِ". المهمّ أن لا نكون حياديّين، أن لا نخذل الحقّ ولا ننصر الباطل، بل أن نقف مع الحقّ ضدّ الباطل في كلّ مواقفنا.
ونحن كمسلمين، أيُّها الأحبَّة، نعيش أكثر من مشكلة في كلّ قضايانا السياسيَّة والاقتصاديَّة والأمنيَّة والثَّقافيَّة، لأنَّ الاستكبار العالميَّ، ومعه الكفر العالميُّ، قد أطبق علينا من أجل يسلبنا كلَّ طاقاتنا وثرواتنا، وليحوَّلنا إلى مزقٍ متناثرة، وإلى هامش من هوامش حياته.
فماذا عندنا فيما عشناه فيما مضى من الأسبوع الماضي، وما نستقبله في ذلك؟!
اتّفاقٌ لصالحِ العدوّ
لقد حمل لنا الأسبوع الماضي الاتفاق الفلسطيني الإسرائيلي تحت المظلَّة الأمريكيَّة. وعندما ندرس هذا الاتّفاق، نجد أنَّ عمق هذا الاتّفاق هو الأمن لإسرائيل، فقد كانت إسرائيل ولا تزال تسيطر على الواقع الاقتصاديّ للفلسطينيّين، ولكنَّها لم تسيطر سيطرةً مطلقةً على الواقع الأمنيّ. لذلك، كان هذا الاتّفاق يستهدف أن تدخل إسرائيل إلى عمق الأمن الفلسطينيّ، ليكون مكشوفاً أمامها، تعبثُ به كيف تشاء، وتصرّفُه كيف تشاء، وتربحُ عناصره بما تشاء.
كما أنّها، وهي المتحالفة مع المخابرات المركزيَّة الأمريكيَّة CIA، أدخلت المخابرات الأمريكيَّة أيضاً إلى داخل المنطقة الأمنيَّة الفلسطينيَّة المنفتحة على المنطقة الأمنيَّة العربيَّة، وربما الإسلاميَّة، لأنَّ هناك تحالفاً بين الموساد وبين CIA. وهنا يراد أن يكون الأمن الفلسطينيّ، ومن خلاله الأمن العربيّ، مكشوفاً، لأنَّ هذه الخطَّة، وهي إدخال المخابرات الأمريكيَّة في المفاوضات، على أن تكون الضَّامن لتنفيذ الأمن هنا وهناك، هذه الخطّة سوف تمتدّ حتَّى في المفاوضات الإسرائيليَّة اللّبنانيَّة، أو الإسرائيليّة السوريَّة، وهذا أمر خطير جداً في تطوّر مسألة المفاوضات.
ثم نلاحظ من خلال ذلك، أنَّ أمريكا تحاول أن تصوّر إلى العرب والعالم، أنَّ إسرائيل ضحَّت تضحية كبيرة عندما قبلت أن تتنازل عن 13% للفلسطينيّين، كما لو كانت فلسطين أرضاً إسرائيليَّة مستباحة، وتريد إسرائيل أن تتنازل عن الأرض وكأنّها تتصدَّق بها، مع أنَّنا نعرف أنَّ فلسطين هي أرض للفلسطينيّين جميعاً، وأنَّ إسرائيل هي المعتدية. لكنَّ الرَّئيس الأمريكي يقول إنَّ نتنياهو تحمَّل مخاطرَ كبيرةً في عمليَّة تنازله هذه، والمسؤولون الأمريكيّون الآن يقولون للعرب إنَّ إسرائيل وقّعت على الاتّفاق، فعليكم أن تقوموا بعمليَّة التَّطبيع الاقتصاديّ والسياسيّ والأمنيّ مع إسرائيل، وأن تعترفوا بها، ليكون بمثابة الجائزة على هذا، ولكي تشعر بأنَّ تضحياتها تواجَه بالاعتراف بالجميل من قبل العرب.
الاتّفاقُ والخوفُ من الفتنة
ولكنَّنا نعرف أنَّ الاتّفاق لا يزال حبراً على ورق، وأنَّ نتنياهو يقول إنّه إذا صار هناك انتخابات مبكرة فسنجمّد الاتّفاق. ثم إنَّ الضّغوط الَّتي تفرض على الفلسطينيّين ربّما تخلق فتنة فيما بينهم، فمثلاً، الشَّيخ أحمد ياسين المريض المجاهد هذا، من المفارقات أنَّ إسرائيل أفرجت عنه، لأنّه كان يمثّل خطراً عليها وهو في السّجن، ولكنَّ سلطة الحكم الذَّاتي اعتقلته في بيته، وفرضت عليه رقابة وإقامة إجباريّة، فهذه من المفارقات، أن تطلق إسرائيل سراحه وتعتقله السّلطة الفلسطينيّة، فإسرائيل أوكلت إلى الفلسطينيّين أمر ضبط حركة الشَّيخ أحمد ياسين لمصلحة أمنها، فهم الَّذين يعتقلون ويفرضون إقامة إجباريّة. كما أنَّ سلطة الحكم الذَّاتيّ قامت باعتقال شخصيّات سياسيَّة من حركة حماس، واعتقلت الكثيرين، عقوبةً على العمليَّة الاستشهاديَّة الَّتي قام بها أحد المجاهدين الفلسطينيّين في غزّة، وقتل فيها جنديّ إسرائيليّ وجرح آخرون.
الآن نلاحظ أنَّ المشكلة الّتي نواجهها، هي أنَّ الفلسطينيّين بدأوا يعملون لتنفيذ هذا الاتّفاق، على أساس أن يحاصروا كلَّ الشَّعب الفلسطينيّ بذلك، باعتبار أنَّ هناك تنسيقاً بين المخابرات الفلسطينيَّة والمخابرات الإسرائيليَّة والمخابرات الأمريكيَّة، ونحن نعتبر أنَّ هذا المجاهد الَّذي قام بالعمليَّة الاستشهاديَّة، يمثّل الشَّعب الفلسطينيَّ الَّذي رأى أنَّه لم يحصل إلَّا على المشاكل الجديدة من خلال هذا الاتّفاق، حتَّى أصبح في حالة يأس.
لذلك نقول إنّهم إذا أرادوا أن يعتقلوا الشَّيخ أحمد ياسين وبعض الشَّخصيَّات السياسيَّة الأخرى، فعليهم أن يعتقلوا الشَّعب الفلسطيني كلّه، لأنَّ الشَّعب بأجمعه يقف ضدّ هؤلاء.
إنّنا نخشى أن تتحوَّل الاتّفاقات الفلسطينيَّة مع العدوّ إلى واقع سياسيّ وأمنيّ متطوّر، في اتجاه استكمال الطَّوق الأمني التركيّ الإسرائيليّ الأردنيّ، الَّذي قد يدخل فيه العنصر الفلسطينيّ لتطويق كلّ الواقع العربيّ المعارض للسياسة الأمريكيَّة الإسرائيليَّة في المنطقة.
ولذلك، لا بدَّ للقائمين على حركة المعارضة للسياسة الأمريكيَّة الإسرائيليَّة، من تحرّك في نطاق خطَّة دقيقة بعيدة المدى... وإذا عرفنا أنَّ مصطلح الإرهاب الَّذي يتحرَّك في مفهوم الاتّفاق يمثّل المجاهدين في مواجهة الاحتلال الإسرائيليّ في فلسطين ولبنان والجولان، فإنَّنا نعرف كيف يمكن للجانب الفلسطينيّ الرسميّ أن يقوم بأكثر من حركة عدوانيَّة في لبنان ضدَّ المجاهدين من لبنانيّين وفلسطينيّين، ما يفرض على الجميع الحذر، وقد لا تكون أحداث صيدا بعيدةً من هذا المخطَّط الجديد القديم، الأمر الَّذي يفرض على اللّبنانيّين أن يواجهوا المرحلة بالعمل على لملمة الملفَّات الدَّاخليَّة الَّتي تتميَّز بالعلاقة العضويَّة بالملفّ الكبير المتمثّل بالاحتلال الإسرائيليّ، وبالوحدة الشَّعبيَّة القويَّة المنفتحة على الموقف الموحَّد مع سوريا الصَّامدة في مواجهة العدوّ، ودعم المقاومة الَّتي تقف بقوّة وشجاعة في مواجهته.
القدسُ.. وإعلانُ الفاتيكان
وفي هذا الاتّجاه، لا بدَّ لنا من التوقّف أمام إعلان وزير خارجيَّة الفاتيكان، ومطالبته بأن يكون للفاتيكان دورٌ في المفاوضات في مستقبل القدس، لأنَّها محتلَّة، كما يقول، بشكل غير شرعيّ، وأن لا شيء يمنع من أن تكون رمزاً وطنيّاً للشَّعبين الإسرائيليّ والفلسطينيّ، على حدّ قوله.
إنَّنا في الوقت الَّذي نقدّر هذا الإعلان بعدم شرعيَّة الاحتلال الإسرائيلي للقدس، ندعو إلى الالتفات إلى مسألة حيويَّة ومهمَّة، وهي أنَّ قضيَّة القدس لا يمكن اختصارها بأماكن العبادة، ليُتَحدَّث عن أنَّه لا بدَّ من حريَّة العبادة لليهود والنّصارى والمسلمين، بل هي قضيَّة الشَّعب الفلسطيني الواقع تحت الاحتلال، والَّذي يراد إلغاء هويَّته وإنسانيَّته، وإلغاء قضيَّة فلسطين كلّها.
جرائمُ تهدّد المجتمع
وأخيراً، نقف في لبنان مع الأزمة الاجتماعيَّة المتمثّلة بتفشّي جرائم القتل والاغتصاب والسَّرقة والتعدّي على الطّفولة، وهي ظاهرة خطيرة لضرب المجتمع اللّبنانيّ في نسيجه الاجتماعيّ، وقد تكون مدمّرة ما لم تعمد الدّولة إلى معالجتها، وذلك بالعمل الجدّيّ لاقتلاع جذور هذه الظَّاهرة، وعدم الاكتفاء بالحديث عن أنَّها مشاكل طبيعيَّة ومن إفرازات الحرب. وإنَّنا نجد أنّ من الضّروريّ دراسة برامج وسائل الإعلام في التلفزيون والإذاعة والصّحف، الَّتي قد تشجّع الانحرافات الأخلاقيَّة، من خلال تقديم النَّماذج السلبيَّة الَّتي تشجّع على العنف الجسديّ كأفلام العنف، والانحراف الجنسيّ كأفلام الجنس. لقد صُرِفَ الكثيرُ من الاهتمام في هذا البلد للحجر، فهل ثمة هناك فرصة للاهتمام بالبشر؟!
إنَّ قيمة لبنان بإنسانه، فإذا عاش الإنسان الخرابَ الرّوحيّ والأخلاقيّ في معنى إنسانيَّته، فلا قيمةَ للوطن بعد ذلك، وعلى جميع الفعاليَّات الرّسميَّة والدّينيَّة والسياسيَّة والاجتماعيَّة، أن تقوم بهذه المهمَّة الإصلاحيَّة، قبل أن يسقط البلد تحت تأثير الانحراف الَّذي قد يقودنا إلى الانهيار.
والحمد لله ربّ العالمين.
*خطبة الجمعة لسماحته، بتاريخ: 30/10/1998م.