نواصل الحديث عن التَّجربة النبويَّة الواسعة لنبيّ الله موسى(ع)، وما انتهت إليه هذه الدَّعوة.
ضلال قوم موسى
كان دور موسى(ع) في ميقاته مع الله قد انتهى بعد أن أنزل عليه التَّوراة، وكان من المفروض أن يتبعه قومه الّذين اختارهم لملاقاة ربّه... وكانت المفاجأة الصَّدمة، فقد قال الله لموسى: {وَمَا أَعْجَلَكَ عَن قَوْمِكَ يَا مُوسَى}[1]، فلماذا لم تصحبهم معك قبل أن تأتي إلى موعدك؟ {قَالَ هُمْ أُولَاء عَلَى أَثَرِي} في سيرهم خلفي واتّباعهم لي، ولكنَّ شوقي إلى لقائك وتكليمك إيّاي وحبّي لك قادني إليك بسرعة، فاستعجلت السَّير لبلوغ الموعد، {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى}[2]، فأنت الربّ الواحد الّذي ألقاه ولا ألقى غيره، وأؤمن به ولا أؤمن بغيره، بكلِّ عقلي ومحبّتي الخالصة وعبادتي المخلصة، لأنَّك غايتي ومقصدي وملجئي، ولهذا لم أنتظرهم، بل عجلت إليك لأحصل على حبّك ورضاك في اللّقاء المباشر.
ولكنَّ قومه لم يلحقوا به، وكأنَّ الله سبحانه أراد من خلال السّؤال أن ينبّهه إلى حقيقة قومه. وربما نستوحي من هذا الحوار، أنّ قوم موسى(ع) الذين اختارهم، لم يشاركوه في حضور الموعد، لأنهم كانوا قد تأخّروا عنه، ورجع إليهم موسى بعد أن أخبره الله بانحرافهم من بعده وعبادتهم العجل، الأمر الَّذي جعله يحصل على موعد خاصّ لهم معه بعد اختياره سبعين رجلاً منهم.
{قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ}[3]، اختبرنا إيمانهم بالتّجربة الصّعبة التي تهزّ مشاعرهم، وتزلزل كيانهم، وتلامس إحساسهم، وتعيدهم إلى أجواء الأصنام التي كانوا يعبدونها، أو يعيشون أجواءها، ويتوقون إلى أن يحصلوا على أيّة فرصة تعيدهم إلى عبادتها، ولذلك طلبوا من موسى(ع) بعد أن خرجوا من البحر، ورأوا القوم الّذين يعبدون الأوثان الّتي يعتبرونها آلهةً، أن يجعل لهم آلهةً كما لهم آلهة، فصدمهم موسى بالرّفض القاسي لذلك.
وهكذا أراد الله لأتباع موسى(ع) أن يواجهوا حالة اختبار جديدة تدخلهم في وعيٍ إيمانيّ جديد، بعد اكتشاف الخطأ الّذي وقعوا فيه، والانحراف الّذي ابتعدوا فيه عن الخطّ المستقيم، لأنّ سنَّة الله في عباده أن يدخلهم في التّجربة تلو التّجربة، ليثبت الصّادق في إيمانه في موقع صدقه، ويسقط الكاذب فيه في موقع كذبه، وهذا ما جاء في قوله تعالى: {ألم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ الله الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ}[4]، لأنَّ كلمة الإيمان الصّادرة عن الإنسان قد لا تمثّل العمق الإيماني في الذات، وثبات الالتزام في الانتماء والموقف، ما يجعل القضيَّة في موقع الامتحان والاختبار بين الحقّ والباطل.
وهكذا سقطوا في الامتحان، لأنَّهم لم يحركوا عقولهم ليتعرّفوا طبيعة الإغراء الّذي استسلموا له، بل اندفعوا اندفاعاً ساذجاً غريزيّاً لا موقع فيه لأيّ نوع من التّوازن الفكري الّذي يتميّز به الإنسان العاقل في دراسته للأمور بموضوعيّة وتدقيق، {وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ}[5]، الّذي صاغ لهم العجل، وأخرجه إليهم بطريقة عجيبة غامضة تستهوي الإحساس وتثير المشاعر، فقد كان هذا العجل ـ التّمثال ـ يرسل صوتاً يشبه الخوار كما لو كان له لحم ودم كبقيّة أنواع العجول.
غضب موسى الرّسالي
وكانت القضيَّة في مستوى الصَّدمة العنيفة لموسى(ع) الَّذي عانى الكثير في هداية قومه، فكان غضبه شديداً من خلال خيبة أمله في هؤلاء النّاس الذين أراد لهم الاهتداء إلى إشراقة الإيمان بالله، فوقعوا في ظلمات عبادة الشّيطان، {فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِف}، فقد هزّته المفاجأة المؤلمة التي شعر معها بسقوط كلّ خططه، بعد أن ركّز على هؤلاء الذين بذل كلّ جهده في سبيل تحريرهم من عبوديّتهم لفرعون، وتحرير عقولهم من الخضوع للأوثان، حتى يخلصوا العبادة لله، ويلتزموا خطَّ الإيمان به وحده، وأحزنه ضياع جهده، وخصوصاً أنّه كان في رحلته إلى ميقات ربّه ليأخذ منه الكتاب الّذي ينظّم لهم وللنّاس كلّهم نظام حياتهم في أمورهم الخاصَّة والعامَّة، وفي علاقاتهم الإنسانيَّة، وفقاً لنظام الشّريعة التي تمثّل القوانين التي تبني القاعدة للمجتمع المؤمن الّذي يصنع على عين الله ووحيه. فكيف حدث هذا الانحراف وبهذه السّرعة؟ وكيف استسلموا للضّلال من دون وعيٍ وتفكيرٍ متوازن؟ وأين كان هارون الّذي استخلفه على قومه؟ ولماذا لم يبادر إلى إيقاف هذا الانهيار الإيمانيّ ويواجهه بحكمته بالطّريقة التي كان ـ هو ـ يواجه بها قضايا الانحراف؟ لقد كان يعيش روح الغضب لا لنفسه بل لله، ومرارة الحزن لا لذاته بل على رسالته، وها هو يقف منهم موقف الحساب، ويواجههم من موقعه القياديّ بالتَّأنيب والنَّقد اللاذع والرَّفض الحاسم.
{قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَن} في بناء المستقبل المشرق الكبير، على الأسس الّتي تجلب لكم السَّعادة في الدّنيا والآخرة، من خلال السَّير على الخطِّ المستقيم الّذي يتمثّل بالقرب من مواقع رضاه، والبعد عن مواقع غضبه، وذلك بما تتضمّنه التّوراة التي فيها الخير والهدى والنّور والشَّريعة الجديدة الّتي تنظِّم لكم أمركم وتدفعكم إلى الخير كلِّه في طريق الإيمان بالله؟ فقد كنت معكم منذ وقتٍ قريب، ولم يبدر منكم ما يشير إلى ما أنتم عليه الآن، {أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ} في غيابي عنكم، الّذي امتدَّ أربعين ليلةً، حتى نسيتم إرشاداتي ومواعظي ونصائحي والعهود الّتي عاهدتموني عليها، التي أكَّدتها لكم في مسيرتكم الطّويلة، في الإخلاص لله سبحانه، وفي توحيده في العقيدة والطّاعة والعبادة؟
لقد كان كلّ هدفي أن ترتفعوا بإيمانكم بالرّسالة الإلهيّة إلى أن تكونوا في خطّ الدّعاة إلى الله، فكيف انقلبتم على أعقابكم وتحوَّلتم من الإيمان إلى الكفر، ومن الوحدانيّة إلى الوثنيّة؟! كيف حدث هذا في هذه المدّة القصيرة التي لا يمكن للإنسان فيها أن ينسى عهده وميثاقه؟! إنّ مشاعري تمتلئ بالأسف والغضب، فلم يكن غيابي عنكم طويلاً ليحدث مثل هذا التطوّر التراجعيّ والسّقوط الرّوحيّ ونسيان الله الّذي يؤدِّي إلى غضبه وعقابه.
{أَمْ أَرَدتُّمْ أَن يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّكُمْ} في انحرافكم عن خطِّ الاستقامة، من دون مراعاةٍ لحركة العقيدة في حياتكم الفكريّة، وفي سلوككم العمليّ، وفي موقفكم من ربّكم الّذي لا بدَّ لعباده من أن يتّقوا غضبه، ويطلبوا الحصول على رضاه؟ فهل كنتم تحسّون بالأمن من غضبه في أوضاعكم الخبيثة البعيدة عن خطِّ التَّقوى، والّتي تفرض على النَّاس أن يأخذوا بأسباب الخوف والوجل من سلطته القاهرة الّتي ينـزلها على المشركين؟ {فَأَخْلَفْتُم مَّوْعِدِي}[6]، الّذي كان يتمثّل بالوعد الواقعيّ الحركيّ الّذي وعدتموني به، بأن تحسنوا خلافتي في هذا الخطِّ الإيماني الّذي عشنا الحياة كلّها والجهد كلّه في جميع موارده ومصادره، من أجل أن نلتزمه ونسير عليه؟
تبرير القوم
وقد ترك كلام موسى تأثيراً عنيفاً في قومه الّذين كانوا يخشون قوَّته من خلال تاريخه مع فرعون وقومه ومعهم، وكانوا يحسبون الحساب المخيف من غضبه... وربما كانوا خاضعين للغفلة المطبقة على عقولهم، ما جعلهم يشعرون بالخطأ الَّذي وقعوا فيه، والخطيئة الّتي ارتكبوها. ولكنّ كلام موسى(ع) جعل الغشاوة تنقشع عن عيونهم، فحاولوا أن يفسِّروا له ما فعلوه، وأن يتخفَّفوا من المسؤوليّة الذاتيّة فيه، ويحمّلوها للسّامريّ الذي خدعهم وغرّهم، واستغلَّ غياب عقولهم عن التفكير، وإقبالهم على الأشياء المحسوسة الّتي كانت لا تزال تعيش في خلفيّات التخلّف الّذي بقي يتفاعل مع مشاعرهم وأحاسيسهم، تاركاً بعض تأثيره في أفكار التخلّف في أكثر من موقع.
{قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَ} وبإرادتنا في ما نختاره ونلتزم به عن اقتناعٍ يقيني، ولكنها حالة طارئة تفيض بالإغراء الّذي يملك على الإنسان عقله، ويضعف إرادته، ويصادر أفكاره وقناعاته، فقد هيّأ لنا هذا الرّجل ـ وهو السامريّ ـ الانحراف، من خلال الأجواء النفسيّة الغافلة التي استغلّ فيها جوّ الغفلة الذي سيطر علينا، أضف إلى ذلك الرّواسب التي تستيقظ في نفوسنا بين وقتٍ وآخر، فتترك تأثيراتها في حركتنا بطريقةٍ لا شعوريّة. {وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَار} أثقالاً، {مِّن زِينَةِ الْقَوْمِ}، وربما أريد منها قوم فرعون مما تركوه من الذّهب الكثير الّذي يمكن الاستفادة منه وتصنيعه بمختلف الوسائل، ومنها تحويله إلى تمثال، {فَقَذَفْنَاهَ} في النّار لتتفاعل معها لنصنع منها بعض الأشياء العجيبة الّتي تجذب الأنظار وتستهوي النّفوس، وهذا ما قام به السامريّ الذي كان يتميّز بقدرةٍ فنيّةٍ رائعة، مستغلاً ذلك في صنع عجلٍ يشبه العجل الحيّ.
{فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ}[7]، ما عنده كما ألقينا ما عندنا في النّار، ليحوّله بقدرته الخاصّة إلى تمثالٍ ذهبيّ مثير لم نعهد له مثيلاً في حياتنا، {فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ}، لا يحمل أيّ مظهر للحياة في داخله، من العقل والإرادة والسَّمع والبصر والحركة الحيَّة، ولكنّه يتميَّز بأنَّ له صوتاً كصوت العجل، ما يعطيه ميزةً مقدَّسة توحي بأنّه يحمل في ذاته بعض الأسرار الإلهيَّة، تماماً كما هي الخصائص الشكليّة الّتي كانت تصنع في الأوثان الّتي كان الوثنيّون يعبدونها، من أجل الإيحاء إلى النّاس البسطاء ببعض الأسرار الخفيّة الغامضة الموحية بعمق القداسة في شخصيّتها، ليخدعوهم بذلك، لأنهم لم يكونوا يملكون ثقافة معنى الإله الّذي خلق الكون كله، والّذي يهيمن على الأمر كلّه، القويّ الذي لا ضعف فيه، والغني الّذي لا حاجة له، وما إلى ذلك من صفات الإله، فيحسبون كلّ وثنٍ إلهاً، من خلال بعض أفكار التخلّف الّتي تتحرّك من خلال الجهل الّذي يسيطر على عقولهم.
الرّواسب الوثنيّة
وهكذا ابتدأت رواسبهم الوثنيّة تتحرّك في داخلهم، لأنَّ رحلتهم الطّويلة مع موسى لم تكن رحلةً ثقافيّةً واسعةً مما يتعلّمونه منه، ولأوَّل مرّة يرون وثناً ينطلق في دائرتهم الاجتماعيّة، {فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى}، وربما قالها بعضهم لبعض من خلال كلام السامريّ، الذي ربما أراد أن يأخذ مكان موسى في الموقع القياديّ، {فَنَسِيَ}[8]، والضّمير في "نسي" قيل إنّه لموسى، والمعنى: قالوا: هذا إلهكم وإله موسى، فنسي موسى إلهه هذا وهو هنا، وذهب يطلبه في الطّور، وقيل إنّ الضّمير هو للسامريّ الّذي نسي حقيقة الوحدانيّة في الإله الّذي هو ربّ كلّ شيء، وربما أريد من النّسيان الضّلال.
{أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرّاً وَلَا نَفْع}[9]. ويتدخّل الوحي القرآني ليثير الإيحاءات التي تكشف زيف الموقف، لفقدان الأساس العقليّ الّذي يرتكز عليه مما يملكه الإله من خصائص الألوهة في ذاته المقدَّسة، من القدرة المطلقة على التحرّك، ووعي الأشياء، والتمكّن من النّطق على الأقلّ، ولكنّ هذا العجل لا يستطيع أن يستجيب لمن يخاطبه ولو بالإشارة، ولا يملك أيّة قدرة على النفع والضّرر، فكيف يتصوّرونه إلهاً لهم ولموسى بدلاً من الله الواحد الذي دعاهم موسى إليه ودلّهم عليه وتحدّى فرعون من أجل عبادته؟ بل هو مجرّد شيء جامد لا حياة فيه، مصنوع للإنسان الّذي كان مخلوقاً لله قبل أن يصنعه، فكيف يكون صانعاً له، أو أنّ مسألة الإله لديهم تختلف عمّا هو في الوعي الدّقيق للمسألة؟
هذا ما كان من حديث موسى وحواره مع قومه، فكيف كان تصرّف خليفته هارون أمام هذا الانحراف، وكيف كانت مواجهة أخيه موسى له ومحاسبته له على طريقته في مواجهة هذا الأمر؟ وكيف دافع هارون عن نفسه أمامه؟ هذا ما نأمل أن نتحدَّث عنه لاحقاً، إن شاء الله تعالى، والحمد لله ربِّ العالمين.
*ندوة الشام الأسبوعيّة، فكر وثقافة
[1] [طه: 83].
[2] [طه: 84].
[3] [طه: 85].
[4] [العنكبوت: 1 ـ 3].
[5] [طه: 85].
[6] [طه: 86].
[7] [طه: 87].
[8] [طه: 88].
[9] [طه: 89].