موقف النّبيّ موسى(ع) من السّامريّ

موقف النّبيّ موسى(ع) من السّامريّ

لا نزال نواصل الحديث عن تجربة النّبيّ موسى(ع) مع قومه. واليوم، نتحدَّث عن موقفه(ع) من السَّامري الّذي أثار المشكلة الّتي أدَّت إلى حالٍ من الفوضى الفكريَّة العقيديّة في قومه. فما هو الدّافع الَّذي دفعه إلى ما صنعه بعد أن كان ظاهره الإيمان، باعتباره من جماعة موسى الّذين اتّبعوه وآمنوا به، ولم يكن قد صدر عنه في حضور موسى ما يشير إلى إمكانيَّة سلوكه مثل هذا السّلوك الّذي ينقل المجتمع إلى الوثنيّة، من خلال ربطه بالتِّمثال الّذي أبدعه وجذب مشاعر النَّاس نحوه حتى عبدوه؟!

تبرير السّامريّ

{قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ}[1]، كيف فعلت ما فعلته من هذا الانحراف الخطير الّذي وجَّهت الناس إلى السَّير فيه وخدعتهم به، وجئت به من خلال ذهنيَّتك الخاطئة؟ وهذا هو معنى "الخطب"، أي الأمر الَّذي وصل بالناس إلى درجة الخطورة الكبيرة. وكان جواب السّامريّ غريباً لم يفصح القرآن عن كلِّ تفاصيله، {قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ}، شاهدت ما لم يشاهدوه أو يلتفتوا إليه، ما منحني القدرة على القيام بشيءٍ مميَّزٍ لا يملك الآخرون أن يفعلوه.

{فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِّنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي}[2]، وبدأت بالاستفادة من هذه الخصوصيَّة في صنع العجل بالطّريقة البديعة الّتي يختلف فيها عن أيّ تمثال يُصنَع من قِبَل النحّاتين، لأني أبدعت فيه عنصراً متحركاً، فكان له صوت كصوت العجل في الخوار، مما يذهب بألباب المشاهدين له، ويلهب مشاعرهم إلى ما يشبه القداسة.

وهنا تتحدَّث الرّوايات المختلفة عن الشّيء الّذي بصر به السّامريّ وحده ولم يبصره الآخرون، ففي بعضها أنّه رأى جبرئيل عند نزوله بالوحي على موسى، أو رآه على فرسٍ من الجنّة أمام فرعون وجنوده عندما جاء جيشه إلى ساحل البحر، وهو يرغّب ذلك الجيش في المسير في تلك الطّرق اليابسة في البحر، وكان يسير أمامهم، وقد لفت نظره من خلال هذه الرّؤية، فقبض شيئاً من تراب قدمه أو مركبه لهذا اليوم، فألقاه داخل العجل الذّهبي، وما هذا الصّوت إلا من أثر ذلك التراب الّذي أخذه، فإنّ من خاصيّة هذا التراب أنه لا يلقى على شيءٍ إلا حلّت فيه الحياة ودخلت فيه الرّوح، فحفظ السامريّ هذا التراب، حتى إذا صنع العجل، ألقى فيه ما لديه منه، فأعطاه الحياة وتحرّك بالخوار.

ولكنّ دراسة هذه الروايات تجعل الباحث يشكِّك في وثاقتها، لأنها تتناقض في تفاصيلها، ولا سيّما أنها تتحدّث عن تأثير هذا التراب في منح الحياة للعجل الذّهبي أو لكلِّ ما يلقى عليه، أو يجعلنا نقول بأنّه من الضّروريّ في مثل هذه الحال أن تدبَّ الحياة في المكان الّذي حفظ فيه أو ألقي فيه. ولكنَّ الظاهر القرآنيّ لا يوحي بانبعاث الحياة والرّوح في العجل المصنوع، لأنَّ التعبير القرآني يصفه بأنّه جسدٌ له خوار، ما يعني أنّه جسدٌ خالٍ من الرّوح، لكنّه يحمل صوت العجل من خلال بعض التّجويف الذي يشتمل على بعض العناصر الفنيّة الدّاخليّة التي تنتج الصّوت. ولو كانت المسألة كما تقول الرّوايات، لكان من المفروض التّعبير عنه بالعجل، كما هو الحال في التّعبير عن العجل الحيّ.

وعلى أيّ حالٍ، فهذه أخبار آحاد لا تقوم بها حجَّة في التفسير، لأنَّ حجيَّة الخبر الواحد ثابتة من خلال البناء العقلائي والسيرة العقلائيّة القائمة على قبول الأخبار التي توحي في سندها ومضمونها بالوثوق والاطمئنان، ولا سيَّما في القضايا ذات الأهميَّة، كما في الأمور الكونيَّة في السَّماء والأرض، أو تفسير القرآن الَّذي هو كلام الله الّذي لا يجوز الالتزام بمعناه إلا بحجَّة قويَّة أو أحداث تاريخيَّة تتَّصل بالأمور المرتبطة بالسّيرة النبويَّة أو بالتّاريخ الإسلاميّ أو بسيرة الأئمَّة من أهل البيت(ع)، فلا مجال للاعتماد على الخبر الواحد بنفسه إذا لم يكن مفيداً للقطع أو الوثوق والاطمئنان، فلنترك الموضوع لعلم الله، كالكثير مما أجمله القرآن ولم نصل فيه إلى يقين، ولا سيَّما إذا كان الأمر مما لا يتعلّق بالعقيدة، أو بما يجب الاعتقاد به، مما لا بدّ من البحث العميق في عناصره الأصيلة بكلّ الوسائل الثقافيّة، أو إذا كان الأمر مما لا يتّصل بخطّ العمل أو الالتزام في خطوط المفاهيم العامّة.

اعتراف السَّامريّ بخطئه

وهناك احتمالٌ يقفز إلى الذِّهن، وهو أنَّ السَّامريّ أراد أن يقدِّم لموسى تبريراً غيبيّاً لما صنعه، وذلك من خلال ربط المسألة بأثر الرّسول الّذي يمثّل الشّخصيّة الغيبيّة في التصوّر العام عن تكوينه وحركته، ليوحي إلى موسى أنَّ ما صنعه كان منطلقاً من تميّزه عن قومه في المسألة الروحيَّة، بينما كانت طبيعة القضيَّة، أنّ ما فعله كان مجرّد صناعة مألوفة لدى النحَّاتين، وخصوصاً أنّ جبرائيل لم يُذكَر له أيّ دورٍ في مسيرة موسى الرّساليّة، حتى في مسألة التوسّط في نقل الوحي، بل كان الله يكلّمه بشكلٍ مباشر: {وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيماً}[3]. هذا من جهةٍ، ومن جهةٍ أخرى، فإنّه لم يظهر للنّاس الّذين دخلوا الطّريق اليابسة في البحر ولم يسمعوه، فكيف أخذ السامريّ من أثره شيئاً؟!

إنَّ السامريّ لم يتكلَّم مع موسى من موقع الحقيقة، بل كان يريد أن يقدِّم تفسيراً عجائبيّاً لما قام به، ولذلك لم يناقشه موسى في هذا التّفسير، لأنّه عرف كذبه في ذلك كلّه، ولو كانت المسألة في دائرة المعقول، لدخل معه في حوارٍ حول الموضوع...

وهكذا ختم السامريّ كلامه بقوله: {وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي}[4]، فليس هناك سرٌّ خفيّ من وحي أو غيب خاصّ يفرض عليَّ القيام بما قمت به من موقع الالتزام بالدَّعوة الجديدة التي أجد موقعي معنيّاً بها، بل كلّ ما هناك، أنّي استسلمت لبعض رغبات النّفس الأمّارة بالسّوء التي دفعتني إلى أن أثير المجتمع في أوضاعٍ قلقة تربك الجوَّ وتنحرف بالمسيرة وتقود إلى الضّلال، تماماً كأيّة حالٍ ذاتيّة يتحرّك الإنسان من خلالها لتلبية رغبة محمومة تسيطر عليه. وربما كان يستهدف من خلال ذلك كلّه، أن يحصل على الموقع القياديّ في المجتمع، باعتباره الشّخص الّذي قام بصناعة إلههم وإله موسى، {هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى}[5]، وذلك من أجل أن ينافس موسى على الزّعامة القياديّة في قومه، ليختلف النَّاس عليه وعلى موسى...

ونلاحظ في هذا الاتجاه، أنَّ هناك سؤالاً يفرض نفسه، وهو: ما هو الموقع الّذي يملكه السامريّ في مجتمعه ليترك هذا التّأثير الكبير في المجتمع، حتى إنَّ هارون لم يستطع مقاومة خطَّته التي رسمها، ولا سيَّما أنّه لم يذكر له أيّ دور في كلِّ تفاصيل مسيرة موسى مع قومه، فلم يكن وجيهاً يملك الوجاهة عندهم في تاريخه، ولم يكن غنيّاً يملك الثّراء الماليّ في مقدّراته، فكيف اتّبعه القوم هذا الاتّباع الأعمى، وتركوا رسالة موسى الّتي تحرّك بها معهم بعد انتصاره على فرعون؟ ربما كان الجواب عن هذا السّؤال، أنَّ الدَّور المؤثّر لم يكن ناتجاً من عناصر موقعه الشّخصيّ في قومه، بل إنَّ الدَّور كان للعجل الّذي تحرّك بالخوار، فأدهشهم وخضعوا لتأثيره في قاعدة الغفلة الّتي أسرعت بهم إلى تاريخهم في الوثنيّة، على الرغم من خوفهم من موسى الّذي كانوا ينتظرون عودته، حتى إذا جاءهم، لم يتحركوا فيما تحركوا به، ثم ندموا على ذلك، واستغفروا الله على هذا الذَّنب العظيم...

عقاب السَّامريّ

وانتهى حديث السَّامريّ، ولم يجد موسى أيّة حاجة للدّخول معه في التّفاصيل بعد ظهور جريمته واعترافه بها، فلم يبقَ إلا إنزال العقوبة به، بما يدمِّر خطَّته ويصادر أحلامه في حصوله على موقعٍ اجتماعيٍّ قياديٍّ مميَّز ينافس به موسى، وذلك بطرده من المجتمع، وإبقائه وحيداً لا يتحدَّث مع أحد ولا يتحدَّث معه أحد، {قَالَ فَاذْهَبْ}، واخرج من المجتمع كلِّه، وعش وحدك ما دمت قد تحركت منساقاً وراء رغباتك الخاصَّة على حساب سلامة المجتمع وفكره ومصيره، مما لا يمكن أن يمارسه عاقل مسؤول يتحمَّل المسؤوليَّة عن مصير النّاس من حوله، فإذا كنت قد فضَّلت الاستسلام لرغباتك، وأغفلت حياة المجتمع في استقامته وتوازنه، فعش مع نفسك لنفسك.

إنَّها نزوة مجنونة لا تخضع لأيِّ اتّزانٍ عقليّ، فكيف تسوِّل لك نفسك أن تهدم البناء الّذي بناه موسى على قاعدة الإيمان، وتصادر الجهد الشاقَّ الّذي بذله في صراعه مع فرعون وقومه من أجل التزام النّاس بتوحيد الله في الألوهيَّة والطاعة والعبادة، وفي تربيته لقومه على أساس الانطلاق بالحريّة في الموقف والإرادة، وبالإيمان في العقيدة والعمل؟! ولذلك، لا بدَّ من القضاء على هذا الجنون النَّفسي الّذي يتحكَّم فيك.

{قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَن تَقُولَ لَا مِسَاسَ}، أي لا تخالط النَّاس، ولا تمسّ أحداً ولا يمسَّك أحد، كناية عن العزل الاجتماعيّ والمقاطعة الشَّاملة في كلِّ أنواع العلاقات والمعاملات واللّقاءات. ويذكر بعض المفسِّرين، أنَّ جملة "لا مساس" إشارة إلى أحد القوانين الجزائيّة في شريعة موسى(ع) الَّتي كانت تصدر في حقِّ من يرتكب جريمةً كبيرةً، وكان ذلك الفرد يبدو كموجود شرّير نجس قذر، فلا يقربه أحد ولا يقرب هو من أحدٍ[6]. وقيل: إنَّ السامريّ اضطرّ بعد هذه الحادثة إلى أن يخرج من جماعة بني إسرائيل، ويترك ديار أهله، ويتوارى في الصَّحراء.

أمّا العقوبة الثّانية، فهي عقوبة الهلاك والعذاب، {وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَّنْ تُخْلَفَهُ}، سواء أكان ذلك في الدّنيا أو في الآخرة، وذلك جزاء من يعمل على إضلال النّاس وإبعادهم عن الحقّ، من دون أيّ شعور بالمسؤوليَّة الإنسانيَّة الاجتماعيَّة أو بالرّقابة الإلهيّة.

مصير العجل

أمَّا العجل الّذي قدَّمته للنَّاس كإله، وربما استغرقت في الالتزام به وبعبادته من خلال الهوى النّفسيّ الَّذي سيطر عليك، فسوف تُفجَع بمصيره، {وَانظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً ـ هذا الَّذي صنعته كتمثالٍ عجائبيّ مقدَّس لتضلّ به النَّاس وتبعدهم به عن خطِّ التَّوحيد ـ لَّنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً}[7]، فسيحرق بالنَّار ويذرى في البحر ذرواً. وربما استفاد البعض من التَّهديد بإحراقه بأنّه كان حيواناً، لأنَّ الذَّهب لا يُحرَق، ولكنَّ المذكور في القرآن هو الزّينة الّتي قد تكون من الذَّهب الخالص وقد لا تكون كذلك، فلا دليل فيه على هذه الاستفادة، {إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ}، لأنَّ كلَّ ما عدا الله هو مخلوقٌ له، فكيف يكون إلهاً من دونه، أو يكون شريكاً له في الألوهيّة، وهو الخالق الّذي يتميَّز وحده بالخالقيَّة والقدرة المطلقة والعلم الّذي لا حدَّ له؟! {وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً}[8]، فكيف يكون المحدود في علمه الّذي يستمدّ علمه منه ويتحرَّك في دائرة مخلوقاته، شريكاً أو ندّاً له؟!

وتنتهي قصَّة هذه الفتنة بهذه الخاتمة الّتي تنفتح على رفض الشِّرك بكلِّ أشكاله، وتأكيد التّوحيد بأكمل معانيه. ويبقى السّامريّ نموذجاً للأشخاص الَّذين يستخدمون وسائل الخداع لإضلال النّاس وإبعادهم عن الحقيقة الخالصة، فلا تبقى القضيَّة قضيّة تاريخ يستهلكه القارئون، بل تتحوَّل إلى درسٍ يتعلَّم منه النّاس كيف يكتشفون المضلّين والمخادعين والمنافقين في أساليبهم الملتوية، ليكونوا عبرةً وعظةً للأجيال كلِّها. والحمد لله ربِّ العالمين.

*ندوة الشَّام الأسبوعيَّة، فكر وثقافة


[1]  [طه: 95]

[2]  [طه: 96].

[3]  [النساء: 164].

[4]  [طه: 96].

[5]  [طه: 88].

[6]  في ظلال القرآن، المجلد الخامس، ص 494.

[7]  [طه: 97].

[8]  [طه: 98].

لا نزال نواصل الحديث عن تجربة النّبيّ موسى(ع) مع قومه. واليوم، نتحدَّث عن موقفه(ع) من السَّامري الّذي أثار المشكلة الّتي أدَّت إلى حالٍ من الفوضى الفكريَّة العقيديّة في قومه. فما هو الدّافع الَّذي دفعه إلى ما صنعه بعد أن كان ظاهره الإيمان، باعتباره من جماعة موسى الّذين اتّبعوه وآمنوا به، ولم يكن قد صدر عنه في حضور موسى ما يشير إلى إمكانيَّة سلوكه مثل هذا السّلوك الّذي ينقل المجتمع إلى الوثنيّة، من خلال ربطه بالتِّمثال الّذي أبدعه وجذب مشاعر النَّاس نحوه حتى عبدوه؟!

تبرير السّامريّ

{قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ}[1]، كيف فعلت ما فعلته من هذا الانحراف الخطير الّذي وجَّهت الناس إلى السَّير فيه وخدعتهم به، وجئت به من خلال ذهنيَّتك الخاطئة؟ وهذا هو معنى "الخطب"، أي الأمر الَّذي وصل بالناس إلى درجة الخطورة الكبيرة. وكان جواب السّامريّ غريباً لم يفصح القرآن عن كلِّ تفاصيله، {قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ}، شاهدت ما لم يشاهدوه أو يلتفتوا إليه، ما منحني القدرة على القيام بشيءٍ مميَّزٍ لا يملك الآخرون أن يفعلوه.

{فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِّنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي}[2]، وبدأت بالاستفادة من هذه الخصوصيَّة في صنع العجل بالطّريقة البديعة الّتي يختلف فيها عن أيّ تمثال يُصنَع من قِبَل النحّاتين، لأني أبدعت فيه عنصراً متحركاً، فكان له صوت كصوت العجل في الخوار، مما يذهب بألباب المشاهدين له، ويلهب مشاعرهم إلى ما يشبه القداسة.

وهنا تتحدَّث الرّوايات المختلفة عن الشّيء الّذي بصر به السّامريّ وحده ولم يبصره الآخرون، ففي بعضها أنّه رأى جبرئيل عند نزوله بالوحي على موسى، أو رآه على فرسٍ من الجنّة أمام فرعون وجنوده عندما جاء جيشه إلى ساحل البحر، وهو يرغّب ذلك الجيش في المسير في تلك الطّرق اليابسة في البحر، وكان يسير أمامهم، وقد لفت نظره من خلال هذه الرّؤية، فقبض شيئاً من تراب قدمه أو مركبه لهذا اليوم، فألقاه داخل العجل الذّهبي، وما هذا الصّوت إلا من أثر ذلك التراب الّذي أخذه، فإنّ من خاصيّة هذا التراب أنه لا يلقى على شيءٍ إلا حلّت فيه الحياة ودخلت فيه الرّوح، فحفظ السامريّ هذا التراب، حتى إذا صنع العجل، ألقى فيه ما لديه منه، فأعطاه الحياة وتحرّك بالخوار.

ولكنّ دراسة هذه الروايات تجعل الباحث يشكِّك في وثاقتها، لأنها تتناقض في تفاصيلها، ولا سيّما أنها تتحدّث عن تأثير هذا التراب في منح الحياة للعجل الذّهبي أو لكلِّ ما يلقى عليه، أو يجعلنا نقول بأنّه من الضّروريّ في مثل هذه الحال أن تدبَّ الحياة في المكان الّذي حفظ فيه أو ألقي فيه. ولكنَّ الظاهر القرآنيّ لا يوحي بانبعاث الحياة والرّوح في العجل المصنوع، لأنَّ التعبير القرآني يصفه بأنّه جسدٌ له خوار، ما يعني أنّه جسدٌ خالٍ من الرّوح، لكنّه يحمل صوت العجل من خلال بعض التّجويف الذي يشتمل على بعض العناصر الفنيّة الدّاخليّة التي تنتج الصّوت. ولو كانت المسألة كما تقول الرّوايات، لكان من المفروض التّعبير عنه بالعجل، كما هو الحال في التّعبير عن العجل الحيّ.

وعلى أيّ حالٍ، فهذه أخبار آحاد لا تقوم بها حجَّة في التفسير، لأنَّ حجيَّة الخبر الواحد ثابتة من خلال البناء العقلائي والسيرة العقلائيّة القائمة على قبول الأخبار التي توحي في سندها ومضمونها بالوثوق والاطمئنان، ولا سيَّما في القضايا ذات الأهميَّة، كما في الأمور الكونيَّة في السَّماء والأرض، أو تفسير القرآن الَّذي هو كلام الله الّذي لا يجوز الالتزام بمعناه إلا بحجَّة قويَّة أو أحداث تاريخيَّة تتَّصل بالأمور المرتبطة بالسّيرة النبويَّة أو بالتّاريخ الإسلاميّ أو بسيرة الأئمَّة من أهل البيت(ع)، فلا مجال للاعتماد على الخبر الواحد بنفسه إذا لم يكن مفيداً للقطع أو الوثوق والاطمئنان، فلنترك الموضوع لعلم الله، كالكثير مما أجمله القرآن ولم نصل فيه إلى يقين، ولا سيَّما إذا كان الأمر مما لا يتعلّق بالعقيدة، أو بما يجب الاعتقاد به، مما لا بدّ من البحث العميق في عناصره الأصيلة بكلّ الوسائل الثقافيّة، أو إذا كان الأمر مما لا يتّصل بخطّ العمل أو الالتزام في خطوط المفاهيم العامّة.

اعتراف السَّامريّ بخطئه

وهناك احتمالٌ يقفز إلى الذِّهن، وهو أنَّ السَّامريّ أراد أن يقدِّم لموسى تبريراً غيبيّاً لما صنعه، وذلك من خلال ربط المسألة بأثر الرّسول الّذي يمثّل الشّخصيّة الغيبيّة في التصوّر العام عن تكوينه وحركته، ليوحي إلى موسى أنَّ ما صنعه كان منطلقاً من تميّزه عن قومه في المسألة الروحيَّة، بينما كانت طبيعة القضيَّة، أنّ ما فعله كان مجرّد صناعة مألوفة لدى النحَّاتين، وخصوصاً أنّ جبرائيل لم يُذكَر له أيّ دورٍ في مسيرة موسى الرّساليّة، حتى في مسألة التوسّط في نقل الوحي، بل كان الله يكلّمه بشكلٍ مباشر: {وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيماً}[3]. هذا من جهةٍ، ومن جهةٍ أخرى، فإنّه لم يظهر للنّاس الّذين دخلوا الطّريق اليابسة في البحر ولم يسمعوه، فكيف أخذ السامريّ من أثره شيئاً؟!

إنَّ السامريّ لم يتكلَّم مع موسى من موقع الحقيقة، بل كان يريد أن يقدِّم تفسيراً عجائبيّاً لما قام به، ولذلك لم يناقشه موسى في هذا التّفسير، لأنّه عرف كذبه في ذلك كلّه، ولو كانت المسألة في دائرة المعقول، لدخل معه في حوارٍ حول الموضوع...

وهكذا ختم السامريّ كلامه بقوله: {وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي}[4]، فليس هناك سرٌّ خفيّ من وحي أو غيب خاصّ يفرض عليَّ القيام بما قمت به من موقع الالتزام بالدَّعوة الجديدة التي أجد موقعي معنيّاً بها، بل كلّ ما هناك، أنّي استسلمت لبعض رغبات النّفس الأمّارة بالسّوء التي دفعتني إلى أن أثير المجتمع في أوضاعٍ قلقة تربك الجوَّ وتنحرف بالمسيرة وتقود إلى الضّلال، تماماً كأيّة حالٍ ذاتيّة يتحرّك الإنسان من خلالها لتلبية رغبة محمومة تسيطر عليه. وربما كان يستهدف من خلال ذلك كلّه، أن يحصل على الموقع القياديّ في المجتمع، باعتباره الشّخص الّذي قام بصناعة إلههم وإله موسى، {هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى}[5]، وذلك من أجل أن ينافس موسى على الزّعامة القياديّة في قومه، ليختلف النَّاس عليه وعلى موسى...

ونلاحظ في هذا الاتجاه، أنَّ هناك سؤالاً يفرض نفسه، وهو: ما هو الموقع الّذي يملكه السامريّ في مجتمعه ليترك هذا التّأثير الكبير في المجتمع، حتى إنَّ هارون لم يستطع مقاومة خطَّته التي رسمها، ولا سيَّما أنّه لم يذكر له أيّ دور في كلِّ تفاصيل مسيرة موسى مع قومه، فلم يكن وجيهاً يملك الوجاهة عندهم في تاريخه، ولم يكن غنيّاً يملك الثّراء الماليّ في مقدّراته، فكيف اتّبعه القوم هذا الاتّباع الأعمى، وتركوا رسالة موسى الّتي تحرّك بها معهم بعد انتصاره على فرعون؟ ربما كان الجواب عن هذا السّؤال، أنَّ الدَّور المؤثّر لم يكن ناتجاً من عناصر موقعه الشّخصيّ في قومه، بل إنَّ الدَّور كان للعجل الّذي تحرّك بالخوار، فأدهشهم وخضعوا لتأثيره في قاعدة الغفلة الّتي أسرعت بهم إلى تاريخهم في الوثنيّة، على الرغم من خوفهم من موسى الّذي كانوا ينتظرون عودته، حتى إذا جاءهم، لم يتحركوا فيما تحركوا به، ثم ندموا على ذلك، واستغفروا الله على هذا الذَّنب العظيم...

عقاب السَّامريّ

وانتهى حديث السَّامريّ، ولم يجد موسى أيّة حاجة للدّخول معه في التّفاصيل بعد ظهور جريمته واعترافه بها، فلم يبقَ إلا إنزال العقوبة به، بما يدمِّر خطَّته ويصادر أحلامه في حصوله على موقعٍ اجتماعيٍّ قياديٍّ مميَّز ينافس به موسى، وذلك بطرده من المجتمع، وإبقائه وحيداً لا يتحدَّث مع أحد ولا يتحدَّث معه أحد، {قَالَ فَاذْهَبْ}، واخرج من المجتمع كلِّه، وعش وحدك ما دمت قد تحركت منساقاً وراء رغباتك الخاصَّة على حساب سلامة المجتمع وفكره ومصيره، مما لا يمكن أن يمارسه عاقل مسؤول يتحمَّل المسؤوليَّة عن مصير النّاس من حوله، فإذا كنت قد فضَّلت الاستسلام لرغباتك، وأغفلت حياة المجتمع في استقامته وتوازنه، فعش مع نفسك لنفسك.

إنَّها نزوة مجنونة لا تخضع لأيِّ اتّزانٍ عقليّ، فكيف تسوِّل لك نفسك أن تهدم البناء الّذي بناه موسى على قاعدة الإيمان، وتصادر الجهد الشاقَّ الّذي بذله في صراعه مع فرعون وقومه من أجل التزام النّاس بتوحيد الله في الألوهيَّة والطاعة والعبادة، وفي تربيته لقومه على أساس الانطلاق بالحريّة في الموقف والإرادة، وبالإيمان في العقيدة والعمل؟! ولذلك، لا بدَّ من القضاء على هذا الجنون النَّفسي الّذي يتحكَّم فيك.

{قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَن تَقُولَ لَا مِسَاسَ}، أي لا تخالط النَّاس، ولا تمسّ أحداً ولا يمسَّك أحد، كناية عن العزل الاجتماعيّ والمقاطعة الشَّاملة في كلِّ أنواع العلاقات والمعاملات واللّقاءات. ويذكر بعض المفسِّرين، أنَّ جملة "لا مساس" إشارة إلى أحد القوانين الجزائيّة في شريعة موسى(ع) الَّتي كانت تصدر في حقِّ من يرتكب جريمةً كبيرةً، وكان ذلك الفرد يبدو كموجود شرّير نجس قذر، فلا يقربه أحد ولا يقرب هو من أحدٍ[6]. وقيل: إنَّ السامريّ اضطرّ بعد هذه الحادثة إلى أن يخرج من جماعة بني إسرائيل، ويترك ديار أهله، ويتوارى في الصَّحراء.

أمّا العقوبة الثّانية، فهي عقوبة الهلاك والعذاب، {وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَّنْ تُخْلَفَهُ}، سواء أكان ذلك في الدّنيا أو في الآخرة، وذلك جزاء من يعمل على إضلال النّاس وإبعادهم عن الحقّ، من دون أيّ شعور بالمسؤوليَّة الإنسانيَّة الاجتماعيَّة أو بالرّقابة الإلهيّة.

مصير العجل

أمَّا العجل الّذي قدَّمته للنَّاس كإله، وربما استغرقت في الالتزام به وبعبادته من خلال الهوى النّفسيّ الَّذي سيطر عليك، فسوف تُفجَع بمصيره، {وَانظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً ـ هذا الَّذي صنعته كتمثالٍ عجائبيّ مقدَّس لتضلّ به النَّاس وتبعدهم به عن خطِّ التَّوحيد ـ لَّنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً}[7]، فسيحرق بالنَّار ويذرى في البحر ذرواً. وربما استفاد البعض من التَّهديد بإحراقه بأنّه كان حيواناً، لأنَّ الذَّهب لا يُحرَق، ولكنَّ المذكور في القرآن هو الزّينة الّتي قد تكون من الذَّهب الخالص وقد لا تكون كذلك، فلا دليل فيه على هذه الاستفادة، {إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ}، لأنَّ كلَّ ما عدا الله هو مخلوقٌ له، فكيف يكون إلهاً من دونه، أو يكون شريكاً له في الألوهيّة، وهو الخالق الّذي يتميَّز وحده بالخالقيَّة والقدرة المطلقة والعلم الّذي لا حدَّ له؟! {وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً}[8]، فكيف يكون المحدود في علمه الّذي يستمدّ علمه منه ويتحرَّك في دائرة مخلوقاته، شريكاً أو ندّاً له؟!

وتنتهي قصَّة هذه الفتنة بهذه الخاتمة الّتي تنفتح على رفض الشِّرك بكلِّ أشكاله، وتأكيد التّوحيد بأكمل معانيه. ويبقى السّامريّ نموذجاً للأشخاص الَّذين يستخدمون وسائل الخداع لإضلال النّاس وإبعادهم عن الحقيقة الخالصة، فلا تبقى القضيَّة قضيّة تاريخ يستهلكه القارئون، بل تتحوَّل إلى درسٍ يتعلَّم منه النّاس كيف يكتشفون المضلّين والمخادعين والمنافقين في أساليبهم الملتوية، ليكونوا عبرةً وعظةً للأجيال كلِّها. والحمد لله ربِّ العالمين.

*ندوة الشَّام الأسبوعيَّة، فكر وثقافة


[1]  [طه: 95]

[2]  [طه: 96].

[3]  [النساء: 164].

[4]  [طه: 96].

[5]  [طه: 88].

[6]  في ظلال القرآن، المجلد الخامس، ص 494.

[7]  [طه: 97].

[8]  [طه: 98].

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية