توبة قوم موسى(ع) من ضلالهم وعقاب الله لهم

توبة قوم موسى(ع) من ضلالهم وعقاب الله لهم

تتمَّةً لما مضى من حديثٍ عن رسالة النَّبيّ موسى(ع)، نواصل الحديث في بُعدٍ مهمٍّ من هذا التَّاريخ النبويّ، وهو تحدّيه للانحراف الَّذي تعرَّض له قومه، ومدى تأثير ذلك في مسيرة النَّبيّ موسى(ع).

توبة قوم موسى

لقد كانت مسألة عبادة العجل من المسائل الممثِّلة للانحراف الخطير الَّذي انحرف به بنو إسرائيل عن خطِّ الإيمان الَّذي أراد لهم النَّبيّ موسى(ع) السَّير عليه، والدّالَّة على سذاجة التَّفكير لديهم في خضوعهم لفتنة السَّامريّ الَّذي صنع تمثالاً ذهبيّاً على شكل عجل، ممّا لا يختلف عن التَّماثيل الفنيَّة الّتي يصنعها النحّاتون، لولا الصَّوت الّذي كان ينطلق منه كصوت خوار العجل، وقد شعر قوم موسى الّذين اتّبعوا السّامريّ في فتنته العباديّة، بالسّقوط النفسيّ، وانتبهوا إلى الانهيار الرّوحي في أوضاعهم، فرجعوا إلى الله بعدما واجههم موسى بوقوعهم في الخطيئة الكبرى، ولذلك أعلنوا الرّجوع إلى الله، وطلبوا الغفران والرّحمة منه، كما جاء في قوله تعالى: {وَلَمَّا سُقِطَ فَي أَيْدِيهِمْ ـ في تعبيرٍ عن النَّدم ـ وَرَأَوْاْ أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّواْ قَالُواْ لَئِن لَّمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ}[1].

وقد تحدَّث موسى إليهم بما يجب عليهم أن يأخذوا به لتأكيد توبتهم وعودتهم إلى الإيمان بالله، لإثبات صدقهم في الموقف النّادم. {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ}، وهو يحاورهم حول السّلبيّات السّلوكيّة الصَّادرة عنهم في انحرافهم العمليّ، ليثير فيهم الشّعور بعقدة الذَّنب بعمق، بما يؤدِّي بهم إلى القيام بعملية التَّصحيح والعودة بحياتهم إلى خطِّ الاستقامة في الالتزام بالرّسالة في الفكر والعمل، ليواجهوا ما قد يتعرّضون له من تجارب مماثلة في المستقبل، انطلاقاً من الثّبات القويّ الّذي لا تزلزله الفتن الخادعة والأساليب القلقة، مما قد يثيره المخادعون المضلّون الّذين قد يستغلُّون سذاجتهم الثّقافيّة في بعض حالات الاهتزاز.

{يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ}، وورَّطتموها في السَّير بها في مواقع الهلاك الأخرويّ، بعد أن قمتم بما يؤدِّي إلى غضب الله، من خلال حركتكم التمرّديّة على الخطّ التوحيديّ، وأخذكم بأسباب الشِّرك، {بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ} معبوداً وإلهاً من دون الله، بعد أن بيَّنت لكم في مواعظي ونصائحي وإرشاداتي، الأسس الثّابتة للعقيدة الحقَّة في توحيد الله، وذلك بإخلاص العبادة له، وعدم الإشراك به، لأنَّه الرّبّ الّذي لا شريك له ولا عديل، {فَتُوبُواْ إِلَى بَارِئِكُمْ} الَّذي خلقكم وأخرجكم من دائرة العدم، فهو الّذي يملك وجودكم كلَّه، وهو سرّ النّعمة في امتداد إنسانيَّتكم في حاجاتها الخاصَّة والعامَّة، بما يمنح وجودكم من حركيّة الحياة، الأمر الَّذي يفرض عليكم العودة إليه بعد الرّحلة الضالّة في الابتعاد عن مواقع رضاه، فذلك هو الأمر الطّبيعيّ الّذي تفرضه طبيعة الأشياء في جذورها العميقة الّتي تقتضي عودة الإنسان إلى مبدع وجوده، ليحصل على رحمته، ويمتدّ معه في نعمته، وليعبّر بذلك عن شكره لإنعامه عليه وعن انقياده له، ولا سيّما أنَّ الأمر بالتّوبة ليس أمراً شخصياً من موسى، بل هو من خلال صفته الرّساليّة التي تجعل أمره أمراً صادراً عن الله. ولعلَّ في التعبير بكلمة {بَارِئِكُمْ} إشارة إلى طبيعة الموضوع في عمقه الرّوحيّ، للإيحاء إلى الإنسان بضرورة الانضباط في خطّ التّوبة من الخطيئة الكبرى بحقّ الخالق الّذي هو سبب الوجود وسرّ الحياة.

العقوبة الدّنيويّة الحاسمة

{فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ}، كعقوبةٍ دنيويَّةٍ حاسمةٍ على سيركم في خطِّ الشّرك، وابتعادكم كثيراً عن الخطّ التّوحيدي المستقيم، بعدما تمرّدتم على الله ونسيتم نعمه، ورجعتم إلى الوثنيّة الجاهلة المتخلّفة الّتي انطلق كلّ جهادنا ضدّ فرعون وقومه من أجل تحرير ذهنية الإنسان وروحيته وحركته منها، بما يشملكم في حريّتكم الجديدة الّتي لم أعمل لتكون حريّة جسد، بل لتكون حريّة روح، لأنَّ قضيَّة الرّسالات الإلهيّة التوحيديّة ليست في تحرير الإنسان من الوثنيّة الخارجيّة المتمثّلة بالحجر الّذي يتعبّده النّاس من دون الله ويخضعون له، بل في تحريره من الذّهنيَّة الصّنميّة، بما لا يبقي لها أيّ جذور في وعيه الفكريّ وسلوكه العمليّ وإحساسه الذّاتي، بحيث تتجذَّر الحرية في داخله كأساسٍ ثابت لشخصيّته، فلا يعود إلى ذهنيّة الصنميّة عند توفر الظروف الطارئة الملائمة في الواقع الخارجي.

وهذا هو الَّذي جعل العقوبة لهذا الجرم الكبير قاسيةً متمثّلةً بالأمر بالإعدام الجماعيّ الّذي يقتل فيه بعضهم بعضاً، بحيث يقتل المذنبون بعضهم بعضاً، أو يقتل الأبرياء المجرمين، فذلك كان السَّبيل في الشريعة الموسويّة آنذاك للتّكفير عن الخطيئة الكبيرة، وللحصول على الإخلاص في التّوبة الَّتي تؤدِّي إلى غفران الله ورضاه عنهم، {ذَلِكُمْ}، أي القتل الَّذي يمثِّل الوسيلة للتّوبة، {خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ}، لأنه يحقِّق لكم الحصول على مواقع القرب منه، من خلال دلالته على الصِّدق في التّوبة في عمق الإحساس بالنّدم، ويؤدّي بالتالي إلى السّعادة الكبرى في دخول الجنّة والنَّجاة من النّار، {فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}[2]، بعباده المنيبين إليه.

وإذا أردنا الأخذ بالظاهر القرآني، فلا بدّ من أن نحمل القتل على معناه اللّغويّ، وهو إزهاق الرّوح بالوسائل الحادّة، وقد يكون السَّبب في هذه العقوبة الصَّعبة، أنَّ الموقف يمثّل أوّل تمرّد عنيف للقوم على النبيّ في التزامات النبوّة في بداية تحركها العمليّ، من أجل انتقالها من دور الدّعوة والتّبليغ، إلى دور التّنظيم التّشريعيّ، من خلال إنزال التَّوراة على موسى، التي تمثّل الوثيقة القانونيَّة في بناء الفرد والمجتمع، على أساس المسؤوليَّة المباشرة والمفاهيم الدينيَّة الجديدة التي أوحى الله بها إلى موسى، في صيغةٍ تشريعيّةٍ متّصلة لا تترك أيّ مجال للفراغ الفكريّ والعمليّ، لأنها تنفتح على جانب التصوّر في العقيدة والسّلوك في حركة الإنسان في الواقع.

لذا، كان لا بدَّ من القيام بموقفٍ صادمٍ يساوي حجم التمرّد، ليكون ضربةً قويّةً للطبيعة المتمرّدة التي بدأت تؤثّر في مسيرة الدّين الجديدة في مجتمعه الّذي يمثّل قاعدة الحركة للدّعوة، وليمنع حدوث أيّ تحرّكٍ أو تصرّفٍ مماثلٍ في هذا الاتجاه، تماماً كما هي الحال في العقوبات التشريعيّة الإسلاميّة في الحدود، لحفظ النّظام العام من الّذين يتجرّأون على مخالفته وعلى إيجاد الفوضى في حياة النّاس. ولعلّ الخصوصيّة في هذه العقوبة القاسية، أنّ الموقف فيها مرتبط بالتّوبة التي تهزّ الكيان كلَّه في الواقع، لتكون قويّةً خالصةً حاسمةً عميقةً، لا مجال فيها للعودة إلى تجربة مماثلة عند حدوث أيّ طارئ قد يدفع بالمجتمع إلى الانحراف عن الخطِّ المستقيم، لأنَّ هناك فرقاً بين خطأٍ ينطلق من الغفلة والجهل والاندفاع العفويّ، وخطأٍ ينطلق من موقع التمرّد والجحود مع وعي الموقف كلِّه وما يترتّب عليه، ولا سيَّما مع بقاء قيام الحجَّة عليهم بوجود هارون النبيّ الخليفة لموسى في موقع القيادة لهم، واحتجاجه عليهم، ومواجهته الموقف بكلِّ قوّة.

جدالٌ حول العقوبة

وقد أثار بعض المتكلّمين من المفسِّرين جدالاً كلاميّاً فلسفيّاً حول علاقة هذه العقوبة القاسية باللّطف الإلهيّ، ومدى انسجامها مع مفهومه المرتبط بالمستقبل لا بالماضي. ونحن لا نريد الخوض كثيراً في مناقشة ذلك، ولا نظنّ أنَّ هناك مشكلةً في أساس القضيَّة من حيث المبدأ، لأنَّ الّذي أثاروه يتّصل بقضيّة اللّطف الإلهيّ في موضوع التّكليف الشّرعيّ الّذي ينطلق من حكمةٍ عامّة شاملة ترتبط بمصلحة الإنسان كلّه في النّظام العامّ للحياة، إضافةً إلى الوسيلة الواقعيّة في دفع المكلّف إلى الطاعة وإبعاده عن المعصية، ما يقتضي تسهيل الفعل عليه بالمستوى الّذي لا يقع فيه المكلّف في مشقّةٍ أو حرج غير عاديّ...

ولكنَّ القضيَّة في هذه المسألة تتَّصل بالعقوبة على المعصية المتحدّية من الّذين عاشوا ـ مع نبيّهم موسى ـ حقيقة الإيمان ومسؤوليَّة الالتزام، وهي حقّ الله الّذي يملك الأمر كلَّه، فيضعه حيث يشاء وكيف يشاء، ونحن لا نعقل فرقاً بين الأمر للقاتل بالاستسلام لوليِّ المقتول عمداً ليجري عليه القصاص، وبين هذا الأمر الّذي عالجته الآية، إلا من جهة ارتباط ذلك بالعقوبة الفرديّة، بينما ترتبط هذه العقوبة بالعقاب الجماعي، ولكنّه لا يصلح فارقاً في طبيعة التقريب والاستبعاد، كما لا نجد فرقاً بين عقوبة الدّنيا وعقوبة الآخرة الّتي تدخل الكافرين والمشركين بأجمعهم في النّار، فلا استبعاد ولا مخالفة لرحمة الله ولطفه وعدله وحكمته في النظام الإنساني العام الّذي يقرّب الإنسان من مصالحه الحيويّة، ويبعده عن المفاسد الشّريرة الّتي تزيده سوءاً وتهدِّد استقراره وتوازنه.

وربما يلوح للبعض أنَّ القتل هنا لم يرد بمعناه الحقيقيّ، وهو إزهاق الرّوح، بل المراد به قتل الشّهوات المحرّمة وصفاتها الذّميمة وأوضاعها السيِّئة، تماماً كما يعبّر بعض المرتاضين الروحيّين بإماتة النّفس، ويقصد بذلك إماتة كلّ شهوة أو كلّ اندفاع إلى الشَّهوات المحرّمة فيها. وقد يؤيد ذلك باعتباره أسلوباً تربوياً من أساليب تأصيل التّوبة في عمق الثّبات في النفس في جذورها الأصيلة، باعتبارها أسلوباً واقعيّاً في تحقيق الإحساس العميق بالنّدم على ما مضى، والعزم على تصحيح المسيرة في المستقبل. وربما يجد هذا البعض في إلحاق صفة الرّحيم بالتوّاب، ما يوحي بأنَّ الموقف يتناسب مع الرّحمة الإلهيّة في التّعامل مع العاصي والمنحرف، مما لا ينسجم مع الأمر بالقتل الّذي لا مستقبل لحركيّة التّوبة فيه. ولنا تعليق على ذلك، وهذا ما نتطرَّق إليه في الأسبوع القادم بعونه تعالى.

*ندوة الشّام الأسبوعيّة، فكر وثقافة


[1]  [الأعراف: 149].

[2]  [البقرة: 54].

تتمَّةً لما مضى من حديثٍ عن رسالة النَّبيّ موسى(ع)، نواصل الحديث في بُعدٍ مهمٍّ من هذا التَّاريخ النبويّ، وهو تحدّيه للانحراف الَّذي تعرَّض له قومه، ومدى تأثير ذلك في مسيرة النَّبيّ موسى(ع).

توبة قوم موسى

لقد كانت مسألة عبادة العجل من المسائل الممثِّلة للانحراف الخطير الَّذي انحرف به بنو إسرائيل عن خطِّ الإيمان الَّذي أراد لهم النَّبيّ موسى(ع) السَّير عليه، والدّالَّة على سذاجة التَّفكير لديهم في خضوعهم لفتنة السَّامريّ الَّذي صنع تمثالاً ذهبيّاً على شكل عجل، ممّا لا يختلف عن التَّماثيل الفنيَّة الّتي يصنعها النحّاتون، لولا الصَّوت الّذي كان ينطلق منه كصوت خوار العجل، وقد شعر قوم موسى الّذين اتّبعوا السّامريّ في فتنته العباديّة، بالسّقوط النفسيّ، وانتبهوا إلى الانهيار الرّوحي في أوضاعهم، فرجعوا إلى الله بعدما واجههم موسى بوقوعهم في الخطيئة الكبرى، ولذلك أعلنوا الرّجوع إلى الله، وطلبوا الغفران والرّحمة منه، كما جاء في قوله تعالى: {وَلَمَّا سُقِطَ فَي أَيْدِيهِمْ ـ في تعبيرٍ عن النَّدم ـ وَرَأَوْاْ أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّواْ قَالُواْ لَئِن لَّمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ}[1].

وقد تحدَّث موسى إليهم بما يجب عليهم أن يأخذوا به لتأكيد توبتهم وعودتهم إلى الإيمان بالله، لإثبات صدقهم في الموقف النّادم. {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ}، وهو يحاورهم حول السّلبيّات السّلوكيّة الصَّادرة عنهم في انحرافهم العمليّ، ليثير فيهم الشّعور بعقدة الذَّنب بعمق، بما يؤدِّي بهم إلى القيام بعملية التَّصحيح والعودة بحياتهم إلى خطِّ الاستقامة في الالتزام بالرّسالة في الفكر والعمل، ليواجهوا ما قد يتعرّضون له من تجارب مماثلة في المستقبل، انطلاقاً من الثّبات القويّ الّذي لا تزلزله الفتن الخادعة والأساليب القلقة، مما قد يثيره المخادعون المضلّون الّذين قد يستغلُّون سذاجتهم الثّقافيّة في بعض حالات الاهتزاز.

{يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ}، وورَّطتموها في السَّير بها في مواقع الهلاك الأخرويّ، بعد أن قمتم بما يؤدِّي إلى غضب الله، من خلال حركتكم التمرّديّة على الخطّ التوحيديّ، وأخذكم بأسباب الشِّرك، {بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ} معبوداً وإلهاً من دون الله، بعد أن بيَّنت لكم في مواعظي ونصائحي وإرشاداتي، الأسس الثّابتة للعقيدة الحقَّة في توحيد الله، وذلك بإخلاص العبادة له، وعدم الإشراك به، لأنَّه الرّبّ الّذي لا شريك له ولا عديل، {فَتُوبُواْ إِلَى بَارِئِكُمْ} الَّذي خلقكم وأخرجكم من دائرة العدم، فهو الّذي يملك وجودكم كلَّه، وهو سرّ النّعمة في امتداد إنسانيَّتكم في حاجاتها الخاصَّة والعامَّة، بما يمنح وجودكم من حركيّة الحياة، الأمر الَّذي يفرض عليكم العودة إليه بعد الرّحلة الضالّة في الابتعاد عن مواقع رضاه، فذلك هو الأمر الطّبيعيّ الّذي تفرضه طبيعة الأشياء في جذورها العميقة الّتي تقتضي عودة الإنسان إلى مبدع وجوده، ليحصل على رحمته، ويمتدّ معه في نعمته، وليعبّر بذلك عن شكره لإنعامه عليه وعن انقياده له، ولا سيّما أنَّ الأمر بالتّوبة ليس أمراً شخصياً من موسى، بل هو من خلال صفته الرّساليّة التي تجعل أمره أمراً صادراً عن الله. ولعلَّ في التعبير بكلمة {بَارِئِكُمْ} إشارة إلى طبيعة الموضوع في عمقه الرّوحيّ، للإيحاء إلى الإنسان بضرورة الانضباط في خطّ التّوبة من الخطيئة الكبرى بحقّ الخالق الّذي هو سبب الوجود وسرّ الحياة.

العقوبة الدّنيويّة الحاسمة

{فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ}، كعقوبةٍ دنيويَّةٍ حاسمةٍ على سيركم في خطِّ الشّرك، وابتعادكم كثيراً عن الخطّ التّوحيدي المستقيم، بعدما تمرّدتم على الله ونسيتم نعمه، ورجعتم إلى الوثنيّة الجاهلة المتخلّفة الّتي انطلق كلّ جهادنا ضدّ فرعون وقومه من أجل تحرير ذهنية الإنسان وروحيته وحركته منها، بما يشملكم في حريّتكم الجديدة الّتي لم أعمل لتكون حريّة جسد، بل لتكون حريّة روح، لأنَّ قضيَّة الرّسالات الإلهيّة التوحيديّة ليست في تحرير الإنسان من الوثنيّة الخارجيّة المتمثّلة بالحجر الّذي يتعبّده النّاس من دون الله ويخضعون له، بل في تحريره من الذّهنيَّة الصّنميّة، بما لا يبقي لها أيّ جذور في وعيه الفكريّ وسلوكه العمليّ وإحساسه الذّاتي، بحيث تتجذَّر الحرية في داخله كأساسٍ ثابت لشخصيّته، فلا يعود إلى ذهنيّة الصنميّة عند توفر الظروف الطارئة الملائمة في الواقع الخارجي.

وهذا هو الَّذي جعل العقوبة لهذا الجرم الكبير قاسيةً متمثّلةً بالأمر بالإعدام الجماعيّ الّذي يقتل فيه بعضهم بعضاً، بحيث يقتل المذنبون بعضهم بعضاً، أو يقتل الأبرياء المجرمين، فذلك كان السَّبيل في الشريعة الموسويّة آنذاك للتّكفير عن الخطيئة الكبيرة، وللحصول على الإخلاص في التّوبة الَّتي تؤدِّي إلى غفران الله ورضاه عنهم، {ذَلِكُمْ}، أي القتل الَّذي يمثِّل الوسيلة للتّوبة، {خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ}، لأنه يحقِّق لكم الحصول على مواقع القرب منه، من خلال دلالته على الصِّدق في التّوبة في عمق الإحساس بالنّدم، ويؤدّي بالتالي إلى السّعادة الكبرى في دخول الجنّة والنَّجاة من النّار، {فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}[2]، بعباده المنيبين إليه.

وإذا أردنا الأخذ بالظاهر القرآني، فلا بدّ من أن نحمل القتل على معناه اللّغويّ، وهو إزهاق الرّوح بالوسائل الحادّة، وقد يكون السَّبب في هذه العقوبة الصَّعبة، أنَّ الموقف يمثّل أوّل تمرّد عنيف للقوم على النبيّ في التزامات النبوّة في بداية تحركها العمليّ، من أجل انتقالها من دور الدّعوة والتّبليغ، إلى دور التّنظيم التّشريعيّ، من خلال إنزال التَّوراة على موسى، التي تمثّل الوثيقة القانونيَّة في بناء الفرد والمجتمع، على أساس المسؤوليَّة المباشرة والمفاهيم الدينيَّة الجديدة التي أوحى الله بها إلى موسى، في صيغةٍ تشريعيّةٍ متّصلة لا تترك أيّ مجال للفراغ الفكريّ والعمليّ، لأنها تنفتح على جانب التصوّر في العقيدة والسّلوك في حركة الإنسان في الواقع.

لذا، كان لا بدَّ من القيام بموقفٍ صادمٍ يساوي حجم التمرّد، ليكون ضربةً قويّةً للطبيعة المتمرّدة التي بدأت تؤثّر في مسيرة الدّين الجديدة في مجتمعه الّذي يمثّل قاعدة الحركة للدّعوة، وليمنع حدوث أيّ تحرّكٍ أو تصرّفٍ مماثلٍ في هذا الاتجاه، تماماً كما هي الحال في العقوبات التشريعيّة الإسلاميّة في الحدود، لحفظ النّظام العام من الّذين يتجرّأون على مخالفته وعلى إيجاد الفوضى في حياة النّاس. ولعلّ الخصوصيّة في هذه العقوبة القاسية، أنّ الموقف فيها مرتبط بالتّوبة التي تهزّ الكيان كلَّه في الواقع، لتكون قويّةً خالصةً حاسمةً عميقةً، لا مجال فيها للعودة إلى تجربة مماثلة عند حدوث أيّ طارئ قد يدفع بالمجتمع إلى الانحراف عن الخطِّ المستقيم، لأنَّ هناك فرقاً بين خطأٍ ينطلق من الغفلة والجهل والاندفاع العفويّ، وخطأٍ ينطلق من موقع التمرّد والجحود مع وعي الموقف كلِّه وما يترتّب عليه، ولا سيَّما مع بقاء قيام الحجَّة عليهم بوجود هارون النبيّ الخليفة لموسى في موقع القيادة لهم، واحتجاجه عليهم، ومواجهته الموقف بكلِّ قوّة.

جدالٌ حول العقوبة

وقد أثار بعض المتكلّمين من المفسِّرين جدالاً كلاميّاً فلسفيّاً حول علاقة هذه العقوبة القاسية باللّطف الإلهيّ، ومدى انسجامها مع مفهومه المرتبط بالمستقبل لا بالماضي. ونحن لا نريد الخوض كثيراً في مناقشة ذلك، ولا نظنّ أنَّ هناك مشكلةً في أساس القضيَّة من حيث المبدأ، لأنَّ الّذي أثاروه يتّصل بقضيّة اللّطف الإلهيّ في موضوع التّكليف الشّرعيّ الّذي ينطلق من حكمةٍ عامّة شاملة ترتبط بمصلحة الإنسان كلّه في النّظام العامّ للحياة، إضافةً إلى الوسيلة الواقعيّة في دفع المكلّف إلى الطاعة وإبعاده عن المعصية، ما يقتضي تسهيل الفعل عليه بالمستوى الّذي لا يقع فيه المكلّف في مشقّةٍ أو حرج غير عاديّ...

ولكنَّ القضيَّة في هذه المسألة تتَّصل بالعقوبة على المعصية المتحدّية من الّذين عاشوا ـ مع نبيّهم موسى ـ حقيقة الإيمان ومسؤوليَّة الالتزام، وهي حقّ الله الّذي يملك الأمر كلَّه، فيضعه حيث يشاء وكيف يشاء، ونحن لا نعقل فرقاً بين الأمر للقاتل بالاستسلام لوليِّ المقتول عمداً ليجري عليه القصاص، وبين هذا الأمر الّذي عالجته الآية، إلا من جهة ارتباط ذلك بالعقوبة الفرديّة، بينما ترتبط هذه العقوبة بالعقاب الجماعي، ولكنّه لا يصلح فارقاً في طبيعة التقريب والاستبعاد، كما لا نجد فرقاً بين عقوبة الدّنيا وعقوبة الآخرة الّتي تدخل الكافرين والمشركين بأجمعهم في النّار، فلا استبعاد ولا مخالفة لرحمة الله ولطفه وعدله وحكمته في النظام الإنساني العام الّذي يقرّب الإنسان من مصالحه الحيويّة، ويبعده عن المفاسد الشّريرة الّتي تزيده سوءاً وتهدِّد استقراره وتوازنه.

وربما يلوح للبعض أنَّ القتل هنا لم يرد بمعناه الحقيقيّ، وهو إزهاق الرّوح، بل المراد به قتل الشّهوات المحرّمة وصفاتها الذّميمة وأوضاعها السيِّئة، تماماً كما يعبّر بعض المرتاضين الروحيّين بإماتة النّفس، ويقصد بذلك إماتة كلّ شهوة أو كلّ اندفاع إلى الشَّهوات المحرّمة فيها. وقد يؤيد ذلك باعتباره أسلوباً تربوياً من أساليب تأصيل التّوبة في عمق الثّبات في النفس في جذورها الأصيلة، باعتبارها أسلوباً واقعيّاً في تحقيق الإحساس العميق بالنّدم على ما مضى، والعزم على تصحيح المسيرة في المستقبل. وربما يجد هذا البعض في إلحاق صفة الرّحيم بالتوّاب، ما يوحي بأنَّ الموقف يتناسب مع الرّحمة الإلهيّة في التّعامل مع العاصي والمنحرف، مما لا ينسجم مع الأمر بالقتل الّذي لا مستقبل لحركيّة التّوبة فيه. ولنا تعليق على ذلك، وهذا ما نتطرَّق إليه في الأسبوع القادم بعونه تعالى.

*ندوة الشّام الأسبوعيّة، فكر وثقافة


[1]  [الأعراف: 149].

[2]  [البقرة: 54].

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية