توبة الله على قوم موسى(ع) بعد ضلالهم

توبة الله على قوم موسى(ع) بعد ضلالهم

لا زلنا في الحديث عن تجربة النّبيّ موسى(ع)، وقد تحدَّثنا فيما سبق عن عصيان قوم النّبيّ موسى(ع) له باتّخاذهم العجل ربّاً، وعن توبتهم عن ذلك عند رجوعه، وعن العقوبة الإلهيَّة القاسية بحقِّهم، وهي عقوبة القتل الجماعيّ، ثم نقلنا آراء بعض المفسِّرين بأنَّ القتل لا يقصد به إلا قتل الشَّهوات المحرَّمة وصفات النَّفس الذَّميمة، كأسلوبٍ يتناسب مع الرّحمة الإلهيَّة في التَّعامل مع العاصي والمنحرف...

قتل النَّفس أو الجسد؟!

أمّا تعليقنا على ذلك، فهو ما ألمحنا إليه في حديثٍ سابق، وهو أنَّ الخطَّ التفسيريَّ الّذي نسير عليه، هو العمل بظاهر القرآن بما توحيه طبيعة الكلمة في معناها الموضوع لها، أو في القرائن المحيطة بها، إلى أن يثبت خلاف ذلك من عقلٍ أو نقل. ونحن لا نجد فيما ذكره هذا البعض دليلاً على إرادة خلاف الظَّاهر، لأنَّ من الممكن أن تكون التَّوبة بالاستسلام للقتل، نظير القصاص في مورد القتل العمدي، ولا ضرورة لامتداد الحياة في المستقبل للتَّائب، لأنَّ الحدود الشَّرعيَّة في حال القتل بطريقة القصاص أو الرّجم للزاني المحصن أو غير ذلك، تعتبر وسيلةً للتّوبة التي تُسقط عقوبة الآخرة عن المجرم، أمّا مسألة الرّحمة، فقد تكون متّصلةً بقبول التّوبة من الله، وعدم إغلاق وسائلها بوجه الإنسان الّذي يريد أن يتخلَّص من الذّنب ويتطهَّر من خطاياه.

وجاء في تفسير الميزان، أنَّ قوله تعالى: {فَتَابَ عَلَيْكُمْ}[1]، "يدلّ على نزول التّوبة وقبولها، وقد وردت الرّواية أنَّ التّوبة نزلت، ولما يقتل جميع المجرمين منهم. ومن هنا، يظهر أنّ الأمر كان أمراً امتحانيّاً، نظير ما وقع في قصّة رؤيا إبراهيم(ع) وذبح إسماعيل: {أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَ}[2]، فقد ذكر موسى(ع): {فَتُوبُواْ إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ}، وأمضى الله سبحانه قوله(ع)، وجعل قتل البعض قتلاً للكلّ، وأنزل التّوبة بقوله: {فَتَابَ عَلَيْكُمْ}[3].

ونلاحظ على هذا الرأي، أنَّ هناك فرقاً بين الأمر الصّادر لإبراهيم الّذي لم يكن منطلقاً من إرادةٍ جدّيّة في تحقيق الفعل، بل كان وسيلةً من وسائل إظهار عمق الإسلام الرّوحيّ والعمليّ في موقف إبراهيم وإسماعيل، الأمر الّذي لا علاقة له بالفعل، بل بمقدِّماته، وبين الأمر الصَّادر لهؤلاء، والذي كان في أقصى درجات الجديّة، وقد أريد له أن يتحوَّل إلى واقعٍ امتثاليّ، غير أنَّ الله سبحانه اكتفى بما حصل من القتل، وعفا عن الباقين الّذين لم يمتثلوا لذلك، فأسقط التّكليف عنهم ـ إذا صحَّت الرّواية ـ باعتبار أنَّ المقصود هو التّوبة المنطلقة من الإسلام الرّوحيّ، المنضمَّة إلى الفعل في دلالته على الصِّدق فيها، ولا معنى لأن يكون الأمر امتحاناً بالنّسبة إلى الباقين الّذين لم يقتلوا أنفسهم، لأنَّ الأمر لم يصدر إليهم بخصوصيّاتهم ليميّز أمرهم من أمر غيرهم، ولعلّنا نستفيد من الآية السابقة: {ثُمَّ عَفَوْنَا عَنكُمِ مِّن بَعْدِ ذَلِكَ}[4]، أنه كان هناك عفوٌ شاملٌ عن الجريمة.

وربما يخطر في البال أنَّ الأمر بقتل النّفس ليس وارداً على النَّحو المطابق للكلمة، بل هو واردٌ بمعنى إماتة النّفس وإسقاط حركيّتها في التأثير في إرادة الإنسان وفعله، لأنها إذا استيقظت في معنى الحياة الفاعلة في النّفس، أسقطت التزامه بالمسؤوليّات المفروضة عليه، وخنقت القيم الروحيّة في وجوده الحركيّ، وهذا ما قد نستوحيه من قوله تعالى: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ}[5]. ولعلَّ التّعبير بقتل النّفس وتجميد حياتها الفاعلة، أو إبعادها عن حركة التّأثير، هو أمرٌ وارد في الاستعمالات العرفيّة، فقد يقال عن شخصٍ ورَّط نفسه فيما أدَّى إلى إسقاط مواقعه، إنّه قتل نفسه.

ملاحظات نقديّة

وقد نسجِّل بعض الملاحظات على هذه المسألة:

أوّلاً: إنَّ الظاهر يدلّ على أنَّ عبادة العجل شملت قوم موسى جميعاً، ولم تختصّ بجماعةٍ دون أخرى، ولذلك لم يتحدَّث القرآن عن اعتراض البعض وتأييدهم لهارون في إنكاره ذلك عليهم، كما أنَّ الله تعالى قال لموسى: {قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ}[6]، وقد خاطبهم موسى(ع) بعد رجوعه إليهم بالتّنديد بفعلهم من دون أن يميِّز جماعةً من جماعة، فقال لهم: {يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَن}[7]، كما أنَّ هارون كان قد خاطبهم بالخطاب الشّموليّ نفسه. وفي ضوء ذلك، فقد يكون من البعيد أن يأمرهم الله بقتل أنفسهم عقاباً على جريمتهم الّتي شاركوا فيها جميعاً، فلا يبقى منهم أحد إذا امتثلوا للأمر، ولا يبقى في السَّاحة إلا موسى وهارون وحدهما. أمَّا الرّواية القائلة بأنَّ الأمر حدث من بعضهم وعفا الله عن الباقين، فهي غير ثابتة وغير دقيقة، لأنَّ السّؤال يبقى: لماذا لم يعف الله عنهم جميعاً بعد امتثالهم للأمر الإلهيّ، لأنَّ القضيّة واحدة في مسؤوليّة الجميع؟!

ثانياً: إنَّ القتل لو كان مطلوباً لله كعقابٍ على الجريمة في الإشراك به بهذه الطَّريقة، لكان من الأولى أن يصدر الأمر بقتل السَّامريّ، لأنّه هو السّبب في إضلالهم باستغلال رواسبهم الوثنيّة وحاجتهم إلى عبادة إلهٍ محسوسٍ لديهم مما كانوا قد طلبوه من موسى، بل إنَّ جريمته أعلى من جريمتهم، فكيف أبقاه موسى حيّاً وفرض عليه عقوبة العزلة الاجتماعيَّة مكتفياً بها؟

ثالثاً: إنَّ قوم موسى الَّذين عبدوا العجل من خلال الغفلة عن وعي العقيدة التّوحيديّة ونسيانهم الحقيقة الّتي تكمن في داخلها، قد رجعوا عنها بعد إرشاد موسى لهم وتنديده بفعلهم وغضبه عليهم، وهذا ما عبَّر عنه الله سبحانه وتعالى: {وَلَمَّا سُقِطَ فَي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْاْ أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّواْ قَالُواْ لَئِن لَّمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ}[8].

وقد وعد الله التّائبين من هؤلاء بالرّحمة والمغفرة لهم، وذلك قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ * وَالَّذِينَ عَمِلُواْ السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِهَا وَآمَنُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ}[9]. وقوله تعالى: {وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنتُمْ ظَالِمُونَ * ثُمَّ عَفَوْنَا عَنكُمِ مِّن بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}[10]، وقوله تعالى: {فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}[11]، والظّاهر من هذه الآية، أنَّ الله تاب عليهم من ذنب عبادتهم العجل وهم في حال الحياة، لأنّه هو التوّاب الرّحيم الذي يرحم عباده الخاطئين، وهو ما يشير إليه قوله في الآية التي قبلها: {ثُمَّ عَفَوْنَا عَنكُمِ مِّن بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}[12].

وفي ضوء ذلك، فإنّنا نستبعد إجراء العقوبة القاسية في الأمر بقتل النَّفس بشكلٍ مباشر، لا من جهة استبعاد العمل في نفسه في تعامل الله مع عباده في جرائمهم الّتي يستحقّون عليها القتل، ولكن من جهة العفو الإلهيّ عنهم، وقبول التّوبة منهم، ورجوعهم إلى الله، واستمرار مسيرتهم مع موسى في رحلته الطَّويلة، ما يدلُّ على أنَّ هذه القضيَّة لم تأخذ مداها في العقاب الدّنيويّ، وقد يكون ذلك قرينةً قرآنيّةً من خلال المنهج القرآني في إسقاط العقوبة عن الخاطئ بقبول توبته والعفو عنه، ما يجعل الأمر بقتل النَّفس وارداً بمعنى تجميد تأثيرها الفاعل في إثارة الغرائز الشّرّيرة والأفعال القبيحة، تماماً كما لو كانت ميتةً في عالم الإحساس، ما يجعل التَّعبير وارداً على سبيل الكناية والاستعارة.

رابعاً: إنّه لم يعهد في العقوبات الإلهيَّة الدنيويَّة مثل هذه العقوبة الَّتي تفرض على التّائبين من الكفر والشّرك أن يقتلوا أنفسهم، بل يكتفى منهم بإعلان الشَّهادتين والالتزام بالإسلام، وإذا قيل ـ جواباً عن ذلك ـ بأنَّ بني إسرائيل قد ارتدّوا عن إيمانهم الّذي أعلنوه لموسى، فإنَّ من الممكن الردّ على ذلك بأنَّ القضيَّة كانت فتنةً طارئةً خضعوا لتأثيراتها السَّاذجة، وقد عادوا عنها وطلبوا من الله المغفرة والرَّحمة، حتى لا يكونوا من الخاسرين الّذين خسروا أنفسهم من خلال غضب الله عليهم، ولكنَّ الله عفا عنهم وتاب عليهم واستمرّوا في مسيرتهم مع موسى(ع) في الخطِّ الإيمانيّ من حيث المبدأ، بالرّغم من المشاكل الَّتي أثاروها معه، ولذلك، فإنَّ اعتبار القتل بمعناه الموضوعيّ هو أمر مستبعد جدّاً، بلحاظ الجوانب الَّتي أثرناها في هذا المجال، والله العالم بحقائق أحكامه وآياته. والحمد لله ربِّ العالمين.

*ندوة الشّام الأسبوعيّة، فكر وثقافة


[1] [البقرة: 54].

[2]  [الصافات: 104، 105].

[3]  [البقرة: 54].

[4]  [البقرة: 52].

[5]  [يوسف: 53].

[6]  [طه: 85].

[7]  [طه:86].

[8]  [الأعراف: 149].

[9]  [الأعراف: 152، 153].

[10]  [البقرة: 51، 52].

[11]  [البقرة: 54].

[12]  [البقرة: 52].

لا زلنا في الحديث عن تجربة النّبيّ موسى(ع)، وقد تحدَّثنا فيما سبق عن عصيان قوم النّبيّ موسى(ع) له باتّخاذهم العجل ربّاً، وعن توبتهم عن ذلك عند رجوعه، وعن العقوبة الإلهيَّة القاسية بحقِّهم، وهي عقوبة القتل الجماعيّ، ثم نقلنا آراء بعض المفسِّرين بأنَّ القتل لا يقصد به إلا قتل الشَّهوات المحرَّمة وصفات النَّفس الذَّميمة، كأسلوبٍ يتناسب مع الرّحمة الإلهيَّة في التَّعامل مع العاصي والمنحرف...

قتل النَّفس أو الجسد؟!

أمّا تعليقنا على ذلك، فهو ما ألمحنا إليه في حديثٍ سابق، وهو أنَّ الخطَّ التفسيريَّ الّذي نسير عليه، هو العمل بظاهر القرآن بما توحيه طبيعة الكلمة في معناها الموضوع لها، أو في القرائن المحيطة بها، إلى أن يثبت خلاف ذلك من عقلٍ أو نقل. ونحن لا نجد فيما ذكره هذا البعض دليلاً على إرادة خلاف الظَّاهر، لأنَّ من الممكن أن تكون التَّوبة بالاستسلام للقتل، نظير القصاص في مورد القتل العمدي، ولا ضرورة لامتداد الحياة في المستقبل للتَّائب، لأنَّ الحدود الشَّرعيَّة في حال القتل بطريقة القصاص أو الرّجم للزاني المحصن أو غير ذلك، تعتبر وسيلةً للتّوبة التي تُسقط عقوبة الآخرة عن المجرم، أمّا مسألة الرّحمة، فقد تكون متّصلةً بقبول التّوبة من الله، وعدم إغلاق وسائلها بوجه الإنسان الّذي يريد أن يتخلَّص من الذّنب ويتطهَّر من خطاياه.

وجاء في تفسير الميزان، أنَّ قوله تعالى: {فَتَابَ عَلَيْكُمْ}[1]، "يدلّ على نزول التّوبة وقبولها، وقد وردت الرّواية أنَّ التّوبة نزلت، ولما يقتل جميع المجرمين منهم. ومن هنا، يظهر أنّ الأمر كان أمراً امتحانيّاً، نظير ما وقع في قصّة رؤيا إبراهيم(ع) وذبح إسماعيل: {أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَ}[2]، فقد ذكر موسى(ع): {فَتُوبُواْ إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ}، وأمضى الله سبحانه قوله(ع)، وجعل قتل البعض قتلاً للكلّ، وأنزل التّوبة بقوله: {فَتَابَ عَلَيْكُمْ}[3].

ونلاحظ على هذا الرأي، أنَّ هناك فرقاً بين الأمر الصّادر لإبراهيم الّذي لم يكن منطلقاً من إرادةٍ جدّيّة في تحقيق الفعل، بل كان وسيلةً من وسائل إظهار عمق الإسلام الرّوحيّ والعمليّ في موقف إبراهيم وإسماعيل، الأمر الّذي لا علاقة له بالفعل، بل بمقدِّماته، وبين الأمر الصَّادر لهؤلاء، والذي كان في أقصى درجات الجديّة، وقد أريد له أن يتحوَّل إلى واقعٍ امتثاليّ، غير أنَّ الله سبحانه اكتفى بما حصل من القتل، وعفا عن الباقين الّذين لم يمتثلوا لذلك، فأسقط التّكليف عنهم ـ إذا صحَّت الرّواية ـ باعتبار أنَّ المقصود هو التّوبة المنطلقة من الإسلام الرّوحيّ، المنضمَّة إلى الفعل في دلالته على الصِّدق فيها، ولا معنى لأن يكون الأمر امتحاناً بالنّسبة إلى الباقين الّذين لم يقتلوا أنفسهم، لأنَّ الأمر لم يصدر إليهم بخصوصيّاتهم ليميّز أمرهم من أمر غيرهم، ولعلّنا نستفيد من الآية السابقة: {ثُمَّ عَفَوْنَا عَنكُمِ مِّن بَعْدِ ذَلِكَ}[4]، أنه كان هناك عفوٌ شاملٌ عن الجريمة.

وربما يخطر في البال أنَّ الأمر بقتل النّفس ليس وارداً على النَّحو المطابق للكلمة، بل هو واردٌ بمعنى إماتة النّفس وإسقاط حركيّتها في التأثير في إرادة الإنسان وفعله، لأنها إذا استيقظت في معنى الحياة الفاعلة في النّفس، أسقطت التزامه بالمسؤوليّات المفروضة عليه، وخنقت القيم الروحيّة في وجوده الحركيّ، وهذا ما قد نستوحيه من قوله تعالى: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ}[5]. ولعلَّ التّعبير بقتل النّفس وتجميد حياتها الفاعلة، أو إبعادها عن حركة التّأثير، هو أمرٌ وارد في الاستعمالات العرفيّة، فقد يقال عن شخصٍ ورَّط نفسه فيما أدَّى إلى إسقاط مواقعه، إنّه قتل نفسه.

ملاحظات نقديّة

وقد نسجِّل بعض الملاحظات على هذه المسألة:

أوّلاً: إنَّ الظاهر يدلّ على أنَّ عبادة العجل شملت قوم موسى جميعاً، ولم تختصّ بجماعةٍ دون أخرى، ولذلك لم يتحدَّث القرآن عن اعتراض البعض وتأييدهم لهارون في إنكاره ذلك عليهم، كما أنَّ الله تعالى قال لموسى: {قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ}[6]، وقد خاطبهم موسى(ع) بعد رجوعه إليهم بالتّنديد بفعلهم من دون أن يميِّز جماعةً من جماعة، فقال لهم: {يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَن}[7]، كما أنَّ هارون كان قد خاطبهم بالخطاب الشّموليّ نفسه. وفي ضوء ذلك، فقد يكون من البعيد أن يأمرهم الله بقتل أنفسهم عقاباً على جريمتهم الّتي شاركوا فيها جميعاً، فلا يبقى منهم أحد إذا امتثلوا للأمر، ولا يبقى في السَّاحة إلا موسى وهارون وحدهما. أمَّا الرّواية القائلة بأنَّ الأمر حدث من بعضهم وعفا الله عن الباقين، فهي غير ثابتة وغير دقيقة، لأنَّ السّؤال يبقى: لماذا لم يعف الله عنهم جميعاً بعد امتثالهم للأمر الإلهيّ، لأنَّ القضيّة واحدة في مسؤوليّة الجميع؟!

ثانياً: إنَّ القتل لو كان مطلوباً لله كعقابٍ على الجريمة في الإشراك به بهذه الطَّريقة، لكان من الأولى أن يصدر الأمر بقتل السَّامريّ، لأنّه هو السّبب في إضلالهم باستغلال رواسبهم الوثنيّة وحاجتهم إلى عبادة إلهٍ محسوسٍ لديهم مما كانوا قد طلبوه من موسى، بل إنَّ جريمته أعلى من جريمتهم، فكيف أبقاه موسى حيّاً وفرض عليه عقوبة العزلة الاجتماعيَّة مكتفياً بها؟

ثالثاً: إنَّ قوم موسى الَّذين عبدوا العجل من خلال الغفلة عن وعي العقيدة التّوحيديّة ونسيانهم الحقيقة الّتي تكمن في داخلها، قد رجعوا عنها بعد إرشاد موسى لهم وتنديده بفعلهم وغضبه عليهم، وهذا ما عبَّر عنه الله سبحانه وتعالى: {وَلَمَّا سُقِطَ فَي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْاْ أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّواْ قَالُواْ لَئِن لَّمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ}[8].

وقد وعد الله التّائبين من هؤلاء بالرّحمة والمغفرة لهم، وذلك قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ * وَالَّذِينَ عَمِلُواْ السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِهَا وَآمَنُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ}[9]. وقوله تعالى: {وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنتُمْ ظَالِمُونَ * ثُمَّ عَفَوْنَا عَنكُمِ مِّن بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}[10]، وقوله تعالى: {فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}[11]، والظّاهر من هذه الآية، أنَّ الله تاب عليهم من ذنب عبادتهم العجل وهم في حال الحياة، لأنّه هو التوّاب الرّحيم الذي يرحم عباده الخاطئين، وهو ما يشير إليه قوله في الآية التي قبلها: {ثُمَّ عَفَوْنَا عَنكُمِ مِّن بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}[12].

وفي ضوء ذلك، فإنّنا نستبعد إجراء العقوبة القاسية في الأمر بقتل النَّفس بشكلٍ مباشر، لا من جهة استبعاد العمل في نفسه في تعامل الله مع عباده في جرائمهم الّتي يستحقّون عليها القتل، ولكن من جهة العفو الإلهيّ عنهم، وقبول التّوبة منهم، ورجوعهم إلى الله، واستمرار مسيرتهم مع موسى في رحلته الطَّويلة، ما يدلُّ على أنَّ هذه القضيَّة لم تأخذ مداها في العقاب الدّنيويّ، وقد يكون ذلك قرينةً قرآنيّةً من خلال المنهج القرآني في إسقاط العقوبة عن الخاطئ بقبول توبته والعفو عنه، ما يجعل الأمر بقتل النَّفس وارداً بمعنى تجميد تأثيرها الفاعل في إثارة الغرائز الشّرّيرة والأفعال القبيحة، تماماً كما لو كانت ميتةً في عالم الإحساس، ما يجعل التَّعبير وارداً على سبيل الكناية والاستعارة.

رابعاً: إنّه لم يعهد في العقوبات الإلهيَّة الدنيويَّة مثل هذه العقوبة الَّتي تفرض على التّائبين من الكفر والشّرك أن يقتلوا أنفسهم، بل يكتفى منهم بإعلان الشَّهادتين والالتزام بالإسلام، وإذا قيل ـ جواباً عن ذلك ـ بأنَّ بني إسرائيل قد ارتدّوا عن إيمانهم الّذي أعلنوه لموسى، فإنَّ من الممكن الردّ على ذلك بأنَّ القضيَّة كانت فتنةً طارئةً خضعوا لتأثيراتها السَّاذجة، وقد عادوا عنها وطلبوا من الله المغفرة والرَّحمة، حتى لا يكونوا من الخاسرين الّذين خسروا أنفسهم من خلال غضب الله عليهم، ولكنَّ الله عفا عنهم وتاب عليهم واستمرّوا في مسيرتهم مع موسى(ع) في الخطِّ الإيمانيّ من حيث المبدأ، بالرّغم من المشاكل الَّتي أثاروها معه، ولذلك، فإنَّ اعتبار القتل بمعناه الموضوعيّ هو أمر مستبعد جدّاً، بلحاظ الجوانب الَّتي أثرناها في هذا المجال، والله العالم بحقائق أحكامه وآياته. والحمد لله ربِّ العالمين.

*ندوة الشّام الأسبوعيّة، فكر وثقافة


[1] [البقرة: 54].

[2]  [الصافات: 104، 105].

[3]  [البقرة: 54].

[4]  [البقرة: 52].

[5]  [يوسف: 53].

[6]  [طه: 85].

[7]  [طه:86].

[8]  [الأعراف: 149].

[9]  [الأعراف: 152، 153].

[10]  [البقرة: 51، 52].

[11]  [البقرة: 54].

[12]  [البقرة: 52].

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية