إنزال عقوبة المسخ ببني إسرائيل

إنزال عقوبة المسخ ببني إسرائيل

وعوداً على بدء، نتحدَّث عن تجربة النّبيّ موسى(ع)، ونحاول استخلاص العبر منها...

عقوبة المسخ

لقد تحدَّث الله سبحانه عن الَّذين اعتدوا في السَّبت وتلاعبوا بأمر الله ونهيه، وابتعدوا به عن غايته، وحوَّلوه إلى مسألة في الشَّكل لا تحمل في داخلها أيَّ مضمون، كأنّهم يمارسون السّخرية من عقوبة الله لهم بإبطال تأثيرها فيهم، الأمر الَّذي يمثِّل نوعاً من أنواع التّحدّي لإرادة الله، إذ يقول سبحانه: {واَسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ}[1]، فكان عقاب الله لهم شديداً لم يكن للنَّاس عهد به، لأنَّهم ارتكبوا خطيئتين:

الأولى: اللَّعب بأمر الله بإخراجه من المضمون إلى الشَّكل.

الثّانية: التَّحدّي لله بما يشبه السّخرية بإرادته، ما جعل المسألة ترتبط بالانحراف الكبير عن خطِّ الإيمان، فكانن نتيجة ذلك: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَواْ مِنكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ}[2]، فقد مسخهم الله وطردهم من رحمته، وأبعدهم عن كلِّ مواقع الإنسانيَّة والكرامة.

اختلاف التَّفسير

وقد اختلف المفسِّرون حول هذا المسخ التَّحويليّ؛ هل هو مسخٌ حقيقيّ، أو هو مسخ معنويّ تمثيليّ تشبيهيّ؟ ذهب المشهور منهم إلى الرّأي الأوّل أخذاً بظاهر القرآن، لأنَّ ظاهر القرآن هو صدور الإرادة الإلهيَّة التكوينيَّة بأن يكونوا قردةً بعد أن كانوا بشراً، وليس هناك ما يمنع من ذلك من خلال إرادته في خلقه، فكما خلق الله القردة، فإنَّه قد يحوِّل بعض النّاس إلى قردةٍ في وجودهم الخارجيّ، عقاباً لهم على ما فعلوه، ولا بدَّ من الأخذ بالظَّواهر القرآنيَّة في مضامينها المعنويَّة، إذا لم تكن هناك قرينة لفظيَّة أو عقليَّة تدلّ على خلاف ذلك ليحمل المعنى عليه.

وذهب مجاهد فيما رواه ابن جرير وابن أبي حاتم إلى الرّأي الثّاني، فقال: إنّه ما مُسِخت صورهم، ولكن مُسِخت قلوبهم، فجعلت كقلوب القردة، فلا تقبل وعظاً ولا تعي زجراً. وقد مثَّل الله حالهم بحال القردة كما مثَّل بالحمار في قوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا ـ أي لم يعملوا بها ـ كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً}[3]، وذكر بعضهم أنَّ الآية نظير قوله تعالى: {وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ}[4]، أي الشَّيطان.

وذهب الشّيخ محمد عبده إلى أنَّ هذا الرّأي هو الرّأي الأقرب، وقال ـ نقلاً عن المراغي في تفسيره ـ: "والآية ليست نصّاً في رأي الجمهور، ولم يبق إلا النّقل، ولو صحَّ لما كان في الآية عبرة ولا موعظة للعصاة، لأنهم يعلمون بالمشاهدة أنَّ الله لا يمسخ كلَّ عاصٍ فيخرجه عن نوع الإنسان، إذ ليس ذلك من سنَّته في خلقه، وإنَّما العبرة الكبرى في العلم بأنَّ من سنن الله في الّذين خلوا من قبل، أنّ من يفسق عن أمره ويتنكّب الصّراط الّذي شرّعه له، ينـزله عن مرتبة الإنسان ويلحقه بعجماوات الحيوان، وسنَّة الله واحدة، فهو يعامل القرون الحاضرة بمثل ما عامل به القرون الخالية".

وقال ابن كثير في تفسيره: "والصَّحيح أنَّ المسخ معنويّ كما قال مجاهد، لا صوريّ كما قال غيره".

وقال المراغي: "إنَّ الاتّعاظ بالمسألة للمتّقين ـ كما جاء في الآية ـ لا يتمّ، ولا تكون عقوبةً للمتقدّم والمتأخّر، إلا إذا جرت على سنن الله المطّردة في تهذيب النفوس وتربية الشّعوب، فرأي مجاهد أحرى بالقبول، ولا سيَّما أنّه ليس في الآية نصّ على كون المسخ في الصّور والأجساد"[5].

وقال الفخر الرّازي ـ في التّفسير الكبير ـ : "ولما ثبت بما قرّرنا جواز المسخ، أمكن إجراء الآية على ظاهرها، ولم يكن بنا حاجة إلى التّأويل الّذي ذكره مجاهد رحمه الله، وإن كان ما ذكره غير مستبعد جدّاً، لأنَّ الإنسان إذا أصرَّ على جهالته بعد ظهور الآيات وجلاء البيِّنات، فقد يُقال في العرف الظّاهر إنّه حمار وقرد، وإذا كان هذا المجاز من المجازات الظّاهرة المشهورة، لم يكن في المصير إليه محذور البتّة"[6].

مسخ حقيقيّ!

ونلاحظ في هذه القضيَّة، أنَّ هذه الخطيئة المتمثّلة باللّعب على طريقة تنفيذ التكليف الشَّرعيّ، ليست أكبر الخطايا الصَّادرة عن بني إسرائيل، لأنَّ عبادة العجل في مضمونها الرّافض للتّوحيد أكبر منها، باعتبارها تتَّصل بالأساس العميق للإيمان، بينما مثَّلت هذه الخطيئة التزاماً بالطّاعة من حيث الشَّكل، ولعباً بالطّريقة الّتي استخدموها في مقام الامتثال، فلماذا لم يكن المسخ لعبادة العجل التي تمثّل الخطيئة الكبرى؟ هذا إضافةً إلى التحدّي الذي واجه به قوم موسى نبيَّهم، بأنّا لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرةً، وهو ما يمثِّل الرّفض لكلِّ التّعاليم التي كان قد قدَّمها لهم لإثبات حقيقة الإيمان بشكلٍ دقيقٍ واسع، وكانت العقوبة هي الصّاعقة المميتة التي أعقبتها الحياة والعفو الإلهيّ، وهذا أمرٌ يرتبط برفض الإيمان من حيث المبدأ في عدم الاستجابة لدعوة موسى ولإرشاده وهدايته، ومع ذلك، لم تكن عقوبتهم بطريقة المسخ. وهكذا، لا نجد في السنَّة الإلهيّة في مواجهة هؤلاء النّاس المعاندين تارةً، والمشاغبين تارةً أخرى، ما يوحي بعقوبة مماثلة.

وإنّنا لا نريد اعتبار هذه الملاحظة دليلاً على تأويل المسخ لإنسانيَّتهم بالمسخ الفكريّ والنفسيّ، ولكنّنا نحاول إثارة الاستبعاد لذلك على سبيل الاحتمال.

وربما تمتدّ الملاحظة إلى الجانب التّعبيري في الآية: {فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ}، فالله سبحانه لم يستخدم الإرادة التكوينيَّة الصَّادرة عنه بتحويلهم إلى قردةٍ بقدرته الإعجازيَّة، بل وجَّه الخطاب إليهم بأن يكونوا في موقعهم النّفسي والاجتماعي بمنزلة القردة، لأنهم لم يدركوا عمق المصلحة في عقوبة المنع من الصّيد في يوم السبت، والّتي تعني عدم حصولهم على السَّمك من حيث الأساس في ذلك اليوم، وليس من جهة خصوصيَّة الزّمن، كما أنَّ قوله: {خَاسِئِينَ}، يوحي بطردهم من رحمة الله وإبعادهم عن مواقع رضاه في حياتهم المستقبليَّة، تماماً كأيَّة معصيةٍ تستوجب ذلك، وهو ما لا يتناسب ـ ظاهراً ـ مع إخراجهم من حدود الإنسانيَّة إلى موقع القردة.

ثمَّ إنَّ المذكور في الرّوايات أنهم هلكوا بعد ثلاثة أيّام، بحيث لم يعد لهم أيّ وجودٍ في المجتمع، فكيف يكونون، في حال مسخهم قردةً، تذكرةً وعبرةً للقرى المحيطة بهم، بحيث يستفيد أهل هذه القرى من رؤيتهم لهؤلاء الّذين كانوا بشراً مثلهم فتحوَّلوا إلى قردة بفعل تمرّدهم على الله، أو كيف يكونون عبرةً للنّاس الّذين يأتون من بعدها أو للمناطق الّتي تبتعد عنها؟ وكيف يكون مسخهم موعظةً للمتّقين، على ما جاء به قوله تعالى: {فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ}[7]؟ فإنَّ الموعظة والعبرة لا تحصلان إلا إذا كان هناك استمرار لهؤلاء النّاس المتحوّلين إلى قرودٍ في داخل المجتمع، ليتعرَّف النّاس إليهم، ويتذكَّروا أوضاعهم البشريّة التي كانوا عليها، حتى يعتبروا بما يحدث لهم من العذاب الدّنيويّ، فيمنعهم ذلك من القيام بأعمالٍ خاطئةٍ مماثلة، ما يدفعهم إلى الانضباط في الخطِّ المستقيم.

وربما نستفيد من الآية الأخرى: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَلِكَ مَثُوبَةً عِندَ اللهِ مَن لَّعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُوْلَـئِكَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضَلُّ عَن سَوَاء السَّبِيلِ}[8]، فقد ذكر الفرّاء: "تأويله: وجعل منهم القردة والخنازير ومن عبد الطّاغوت، فإنَّه يفيد بأنَّ الجعل لهؤلاء على نسقٍ واحد، بحيث إنَّ الآية كانت تتحدَّث عن أناسٍ كانوا موجودين وموصوفين بأنهم قردة وخنازير وعبدة الطّاغوت في سلوكهم المنحرف عن خطّ الإيمان، من خلال تنـزيلهم منـزلة القردة والخنازير، من دون أن يكون في الآية دلالة على عنوان المسخ، لأنَّ الجعل لا ينحصر بذلك، بل يمكن أن يكون وارداً على سبيل بيان حال الشَّرّ المتمثّلة في هؤلاء النّاس الّذين لعنهم الله وغضب عليهم، حتى أصبحوا يشبهون هذه الحيوانات الخبيثة لدى المجتمع، ولذلك نرى البعض يواجه عدوَّه في ذكر صفاته السيِّئة بكلمة يا قرد ويا خنـزير، ولا مانع من أن ينـزل القرآن بعض الكافرين منـزلة بعض الحيوانات المذمومة بطريقة المثل، كما في قوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً}[9]. وقد يكون التّنـزيل بالطَّريقة المذكورة في جعلهم كالقردة والخنازير".

إنَّ منهجنا القرآني في التّفسير هو الأخذ بظاهر القرآن فيما لم يدلّ دليل على خلافه من قرينةٍ كلاميّة أو عقليّة، ولكن ربما توحي بعض الاستبعادات الفكريَّة الاحتماليَّة بما يشبه القرينة على التصرّف في الكلمة بإرادة خلاف الظّاهر، والله العالم.

ويستوقف نظرنا في هذه الآيات عدّة أمور:

ميثاقٌ بين الله وعباده

الأوّل: إنَّ إنزال الكتاب على أيّة أمّةٍ من الأمم يعتبر إلزاماً لها به من قِبَل الله كميثاقٍ بينه وبين عباده، فيطالبهم بالالتزام به والوفاء بمضمونه، كأيِّ عهدٍ شخصيٍّ يُلزم به الإنسان نفسه تجاه الآخرين.

أمّا عظمة هذا الميثاق، فهي أنَّه لا يختصّ بحالٍ دون أخرى، بل يشمل كلَّ مناحي حياة الإنسان في كلّ منطلقاتها وتطلّعاتها، لأنَّ الكتاب الإلهيَّ ينظّم حياته الفكريّة والعمليّة بمفاهيمه وتشريعاته، ولهذا يعتبر الإخلال بأيِّ حكمٍ من الأحكام إخلالاً بالميثاق، وربما يرشد إلى ذلك تعقيبه بذكر حادثة الاعتداء على ميثاق الله في قصّة السَّبت.

الأخذ بالقوّة الإيمانيّة

الثّاني: إنَّ الأمَّة مخاطَبةٌ بأن تأخذ ما آتاها الله من الكتاب بقوَّة، فلا يستسلم الإنسان للضَّعف الذّاتي الَّذي تفرضه الشَّهوات عليه عندما تضغط عليه غرائزه، ليترك الالتزام بمبادئه ومفاهيمه أمامها، ولا يضعف أمام عوامل الضَّغط الخارجيَّة الّتي تفرض نفسها على مصالحه لتهدِّده بالإساءة إلى هذه المصالح إذا حاول التمرّد عليها لمصلحة إيمانه، ما يجعل من قضيَّة الموقف القويّ ضدَّ هذه الشَّهوات قضيّةً يفرضها الوفاء بالميثاق بين الله وعباده.

وقد نستوحي من ذلك، ضرورة أن يعمل الإنسان على تحقيق القوَّة لوحي الله المنـزَل في الحياة، من خلال العمل على الدَّعوة إليه لتحقيق امتداده في أكبر مساحةٍ بشريَّة، لأنَّ إيجاد القوّة البشريَّة للدعوة إلى الله وتنفيذ أحكام شريعته، يمنح الموقف قوّةً في داخل الإنسان، عندما يشعر بالتَّماسك والتّوازن أمام الضّغوط المتنوّعة من خلال شعوره الذّاتيّ بالقوَّة المستمدّة من الجوّ العام، كما يعطيه قوّةً في ساحة الصِّراع، حين يقف المؤمنون بقوّتهم الإيمانيّة ليُرهبوا أعداء الله ويدعموا المستضعفين من أوليائه.

وربما يتمثَّل ذلك بالدّعوة إلى أن يكون الإسلام ديناً منفتحاً على الحياة في حاجات الإنسان ومواقع نموّه ووسائل تطوّره، في حركة التقدّم المادّيّ والمعنويّ على مستوى القاعدة الفكريّة والتّجربة الإنسانيّة والسّلوك العمليّ، ليواجه الحضارات الأخرى القائمة على الفلسفة المادّية الّتي لا تنفتح على الله وعلى عالم الغيب، والّتي تفرض عليه صراعاً يجعل الواقع الإسلاميّ يعاني الكثير من التّحدّيات الكبرى الّتي تحارب حركته في الانطلاق التّشريعيّ في حياة الإنسان بشكلٍ شاملٍ، نتيجة ما يمارسه الغرب المستكبر في وسائله المتنوّعة على الصَّعيد الأمنيّ والسّياسيّ والاقتصاديّ والثقافيّ، ومن خلال الأنظمة الحاكمة في بلاد المسلمين، الّتي تحارب خطَّة تطبيق الشَّريعة الإسلاميَّة على مستوى الحكم والقانون، الأمر الَّذي جعل الخطَّ الإسلاميَّ الواقعيَّ ينحسر عن الحياة العامَّة حتى لدى المسلمين، ليستبدلوا به الخطَّ العلمانيّ الّذي يعزل الدّين عن الحياة في كلِّ أبعادها الواقعيَّة على الصَّعيدين القانونيّ والسّياسيّ.

الطّاعة الفكريَّة والرّوحيَّة

الثّالث: إنَّ الإيمان يفرض على الإنسان مواجهة الأعمال الواجبة والمحرَّمة في مقام الطَّاعة بعمقها الفكريّ والرّوحيّ والشّعوريّ والعمليّ، لا بشكليَّاتها السَّاذجة، ما يجعل من محاولة تطويق الفكرة بالشَّكليّات الّتي تُعطي للطّاعة معناها الحرفيّ على حساب أهدافها الواقعيَّة، قضيَّةً تشبه اللّعب على الفكرة باسم الفكرة، ولهذا اعتبر الله عملهم في السَّبت اعتداءً على الميثاق، مع أنهم لم يخالفوا حرفيَّة الأمر، فقد كان المطلوب منهم أن لا يمارسوا الصَّيد في يوم السَّبت، وقد فعلوا ذلك، ولكن بعد أن طوَّقوه بإيجاد الطّريقة الّتي تجعلهم يحصلون على نتيجة الصَّيد بشكلٍ غير مباشر. وعلى هذا الأساس، كانت عقوبتهم قاسيةً في الدّنيا والآخرة، لأنَّ هذه الطَّريقة الّتي تفرّغ الطّاعة من روحيَّتها، تتحوَّل إلى ما يشبه السّخرية والاستهزاء بالتَّشريع وصاحبه، للإيحاء بقدرة المكلَّف على أن يتجاوز أهداف التَّشريع بالأسلوب الّذي لا يستطيع المشرِّع أن يسجِّل عليه نقطة مخالفة قانونيَّة.

ولعلَّ من هذا القبيل، ما اجتهد فيه الفقهاء بما يسمّى "الحيل الشّرعيَّة"، التي تجعل من التشريع حالةً شكليّةً قد تتجاوز المضمون الّذي يمثِّل المصلحة أو المفسدة الّتي انطلقت منها الشّريعة، على أساس اعتبار ذلك منسجماً مع العنوان الحرفيّ للنّصّ التّشريعيّ، الأمر الّذي يجعل المكلَّف يحصل على نتائج الحرام من دون الخضوع للتّحريم، وقد نحتاج إلى تحريك الاجتهاد في عالم المصالح والمفاسد والملاكات الواقعيَّة، على أساس مخالفة الكثير من ذلك للقرآن الَّذي يفرض الرفض لأيّ نصٍّ يختلف مضمونه الواقعيّ مع المفهوم القرآنيّ. والحمد لله ربِّ العالمين.

*ندوة الشّام الأسبوعيّة، فكر وثقافة


[1]  [الأعراف: 163].

[2]  [البقرة: 65].

[3]  [الجمعة: 5].

[4]  [المائدة: 60].

[5]  تفسير المراغي، الجزء الأول، ص 139 ـ 140.

[6]  تفسير الرازي، الفخر الرازي، ج 3، ص 111.

[7]  [البقرة: 66].

[8]  [المائدة: 60].

[9]  [الجمعة: 5].

وعوداً على بدء، نتحدَّث عن تجربة النّبيّ موسى(ع)، ونحاول استخلاص العبر منها...

عقوبة المسخ

لقد تحدَّث الله سبحانه عن الَّذين اعتدوا في السَّبت وتلاعبوا بأمر الله ونهيه، وابتعدوا به عن غايته، وحوَّلوه إلى مسألة في الشَّكل لا تحمل في داخلها أيَّ مضمون، كأنّهم يمارسون السّخرية من عقوبة الله لهم بإبطال تأثيرها فيهم، الأمر الَّذي يمثِّل نوعاً من أنواع التّحدّي لإرادة الله، إذ يقول سبحانه: {واَسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ}[1]، فكان عقاب الله لهم شديداً لم يكن للنَّاس عهد به، لأنَّهم ارتكبوا خطيئتين:

الأولى: اللَّعب بأمر الله بإخراجه من المضمون إلى الشَّكل.

الثّانية: التَّحدّي لله بما يشبه السّخرية بإرادته، ما جعل المسألة ترتبط بالانحراف الكبير عن خطِّ الإيمان، فكانن نتيجة ذلك: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَواْ مِنكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ}[2]، فقد مسخهم الله وطردهم من رحمته، وأبعدهم عن كلِّ مواقع الإنسانيَّة والكرامة.

اختلاف التَّفسير

وقد اختلف المفسِّرون حول هذا المسخ التَّحويليّ؛ هل هو مسخٌ حقيقيّ، أو هو مسخ معنويّ تمثيليّ تشبيهيّ؟ ذهب المشهور منهم إلى الرّأي الأوّل أخذاً بظاهر القرآن، لأنَّ ظاهر القرآن هو صدور الإرادة الإلهيَّة التكوينيَّة بأن يكونوا قردةً بعد أن كانوا بشراً، وليس هناك ما يمنع من ذلك من خلال إرادته في خلقه، فكما خلق الله القردة، فإنَّه قد يحوِّل بعض النّاس إلى قردةٍ في وجودهم الخارجيّ، عقاباً لهم على ما فعلوه، ولا بدَّ من الأخذ بالظَّواهر القرآنيَّة في مضامينها المعنويَّة، إذا لم تكن هناك قرينة لفظيَّة أو عقليَّة تدلّ على خلاف ذلك ليحمل المعنى عليه.

وذهب مجاهد فيما رواه ابن جرير وابن أبي حاتم إلى الرّأي الثّاني، فقال: إنّه ما مُسِخت صورهم، ولكن مُسِخت قلوبهم، فجعلت كقلوب القردة، فلا تقبل وعظاً ولا تعي زجراً. وقد مثَّل الله حالهم بحال القردة كما مثَّل بالحمار في قوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا ـ أي لم يعملوا بها ـ كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً}[3]، وذكر بعضهم أنَّ الآية نظير قوله تعالى: {وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ}[4]، أي الشَّيطان.

وذهب الشّيخ محمد عبده إلى أنَّ هذا الرّأي هو الرّأي الأقرب، وقال ـ نقلاً عن المراغي في تفسيره ـ: "والآية ليست نصّاً في رأي الجمهور، ولم يبق إلا النّقل، ولو صحَّ لما كان في الآية عبرة ولا موعظة للعصاة، لأنهم يعلمون بالمشاهدة أنَّ الله لا يمسخ كلَّ عاصٍ فيخرجه عن نوع الإنسان، إذ ليس ذلك من سنَّته في خلقه، وإنَّما العبرة الكبرى في العلم بأنَّ من سنن الله في الّذين خلوا من قبل، أنّ من يفسق عن أمره ويتنكّب الصّراط الّذي شرّعه له، ينـزله عن مرتبة الإنسان ويلحقه بعجماوات الحيوان، وسنَّة الله واحدة، فهو يعامل القرون الحاضرة بمثل ما عامل به القرون الخالية".

وقال ابن كثير في تفسيره: "والصَّحيح أنَّ المسخ معنويّ كما قال مجاهد، لا صوريّ كما قال غيره".

وقال المراغي: "إنَّ الاتّعاظ بالمسألة للمتّقين ـ كما جاء في الآية ـ لا يتمّ، ولا تكون عقوبةً للمتقدّم والمتأخّر، إلا إذا جرت على سنن الله المطّردة في تهذيب النفوس وتربية الشّعوب، فرأي مجاهد أحرى بالقبول، ولا سيَّما أنّه ليس في الآية نصّ على كون المسخ في الصّور والأجساد"[5].

وقال الفخر الرّازي ـ في التّفسير الكبير ـ : "ولما ثبت بما قرّرنا جواز المسخ، أمكن إجراء الآية على ظاهرها، ولم يكن بنا حاجة إلى التّأويل الّذي ذكره مجاهد رحمه الله، وإن كان ما ذكره غير مستبعد جدّاً، لأنَّ الإنسان إذا أصرَّ على جهالته بعد ظهور الآيات وجلاء البيِّنات، فقد يُقال في العرف الظّاهر إنّه حمار وقرد، وإذا كان هذا المجاز من المجازات الظّاهرة المشهورة، لم يكن في المصير إليه محذور البتّة"[6].

مسخ حقيقيّ!

ونلاحظ في هذه القضيَّة، أنَّ هذه الخطيئة المتمثّلة باللّعب على طريقة تنفيذ التكليف الشَّرعيّ، ليست أكبر الخطايا الصَّادرة عن بني إسرائيل، لأنَّ عبادة العجل في مضمونها الرّافض للتّوحيد أكبر منها، باعتبارها تتَّصل بالأساس العميق للإيمان، بينما مثَّلت هذه الخطيئة التزاماً بالطّاعة من حيث الشَّكل، ولعباً بالطّريقة الّتي استخدموها في مقام الامتثال، فلماذا لم يكن المسخ لعبادة العجل التي تمثّل الخطيئة الكبرى؟ هذا إضافةً إلى التحدّي الذي واجه به قوم موسى نبيَّهم، بأنّا لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرةً، وهو ما يمثِّل الرّفض لكلِّ التّعاليم التي كان قد قدَّمها لهم لإثبات حقيقة الإيمان بشكلٍ دقيقٍ واسع، وكانت العقوبة هي الصّاعقة المميتة التي أعقبتها الحياة والعفو الإلهيّ، وهذا أمرٌ يرتبط برفض الإيمان من حيث المبدأ في عدم الاستجابة لدعوة موسى ولإرشاده وهدايته، ومع ذلك، لم تكن عقوبتهم بطريقة المسخ. وهكذا، لا نجد في السنَّة الإلهيّة في مواجهة هؤلاء النّاس المعاندين تارةً، والمشاغبين تارةً أخرى، ما يوحي بعقوبة مماثلة.

وإنّنا لا نريد اعتبار هذه الملاحظة دليلاً على تأويل المسخ لإنسانيَّتهم بالمسخ الفكريّ والنفسيّ، ولكنّنا نحاول إثارة الاستبعاد لذلك على سبيل الاحتمال.

وربما تمتدّ الملاحظة إلى الجانب التّعبيري في الآية: {فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ}، فالله سبحانه لم يستخدم الإرادة التكوينيَّة الصَّادرة عنه بتحويلهم إلى قردةٍ بقدرته الإعجازيَّة، بل وجَّه الخطاب إليهم بأن يكونوا في موقعهم النّفسي والاجتماعي بمنزلة القردة، لأنهم لم يدركوا عمق المصلحة في عقوبة المنع من الصّيد في يوم السبت، والّتي تعني عدم حصولهم على السَّمك من حيث الأساس في ذلك اليوم، وليس من جهة خصوصيَّة الزّمن، كما أنَّ قوله: {خَاسِئِينَ}، يوحي بطردهم من رحمة الله وإبعادهم عن مواقع رضاه في حياتهم المستقبليَّة، تماماً كأيَّة معصيةٍ تستوجب ذلك، وهو ما لا يتناسب ـ ظاهراً ـ مع إخراجهم من حدود الإنسانيَّة إلى موقع القردة.

ثمَّ إنَّ المذكور في الرّوايات أنهم هلكوا بعد ثلاثة أيّام، بحيث لم يعد لهم أيّ وجودٍ في المجتمع، فكيف يكونون، في حال مسخهم قردةً، تذكرةً وعبرةً للقرى المحيطة بهم، بحيث يستفيد أهل هذه القرى من رؤيتهم لهؤلاء الّذين كانوا بشراً مثلهم فتحوَّلوا إلى قردة بفعل تمرّدهم على الله، أو كيف يكونون عبرةً للنّاس الّذين يأتون من بعدها أو للمناطق الّتي تبتعد عنها؟ وكيف يكون مسخهم موعظةً للمتّقين، على ما جاء به قوله تعالى: {فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ}[7]؟ فإنَّ الموعظة والعبرة لا تحصلان إلا إذا كان هناك استمرار لهؤلاء النّاس المتحوّلين إلى قرودٍ في داخل المجتمع، ليتعرَّف النّاس إليهم، ويتذكَّروا أوضاعهم البشريّة التي كانوا عليها، حتى يعتبروا بما يحدث لهم من العذاب الدّنيويّ، فيمنعهم ذلك من القيام بأعمالٍ خاطئةٍ مماثلة، ما يدفعهم إلى الانضباط في الخطِّ المستقيم.

وربما نستفيد من الآية الأخرى: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَلِكَ مَثُوبَةً عِندَ اللهِ مَن لَّعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُوْلَـئِكَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضَلُّ عَن سَوَاء السَّبِيلِ}[8]، فقد ذكر الفرّاء: "تأويله: وجعل منهم القردة والخنازير ومن عبد الطّاغوت، فإنَّه يفيد بأنَّ الجعل لهؤلاء على نسقٍ واحد، بحيث إنَّ الآية كانت تتحدَّث عن أناسٍ كانوا موجودين وموصوفين بأنهم قردة وخنازير وعبدة الطّاغوت في سلوكهم المنحرف عن خطّ الإيمان، من خلال تنـزيلهم منـزلة القردة والخنازير، من دون أن يكون في الآية دلالة على عنوان المسخ، لأنَّ الجعل لا ينحصر بذلك، بل يمكن أن يكون وارداً على سبيل بيان حال الشَّرّ المتمثّلة في هؤلاء النّاس الّذين لعنهم الله وغضب عليهم، حتى أصبحوا يشبهون هذه الحيوانات الخبيثة لدى المجتمع، ولذلك نرى البعض يواجه عدوَّه في ذكر صفاته السيِّئة بكلمة يا قرد ويا خنـزير، ولا مانع من أن ينـزل القرآن بعض الكافرين منـزلة بعض الحيوانات المذمومة بطريقة المثل، كما في قوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً}[9]. وقد يكون التّنـزيل بالطَّريقة المذكورة في جعلهم كالقردة والخنازير".

إنَّ منهجنا القرآني في التّفسير هو الأخذ بظاهر القرآن فيما لم يدلّ دليل على خلافه من قرينةٍ كلاميّة أو عقليّة، ولكن ربما توحي بعض الاستبعادات الفكريَّة الاحتماليَّة بما يشبه القرينة على التصرّف في الكلمة بإرادة خلاف الظّاهر، والله العالم.

ويستوقف نظرنا في هذه الآيات عدّة أمور:

ميثاقٌ بين الله وعباده

الأوّل: إنَّ إنزال الكتاب على أيّة أمّةٍ من الأمم يعتبر إلزاماً لها به من قِبَل الله كميثاقٍ بينه وبين عباده، فيطالبهم بالالتزام به والوفاء بمضمونه، كأيِّ عهدٍ شخصيٍّ يُلزم به الإنسان نفسه تجاه الآخرين.

أمّا عظمة هذا الميثاق، فهي أنَّه لا يختصّ بحالٍ دون أخرى، بل يشمل كلَّ مناحي حياة الإنسان في كلّ منطلقاتها وتطلّعاتها، لأنَّ الكتاب الإلهيَّ ينظّم حياته الفكريّة والعمليّة بمفاهيمه وتشريعاته، ولهذا يعتبر الإخلال بأيِّ حكمٍ من الأحكام إخلالاً بالميثاق، وربما يرشد إلى ذلك تعقيبه بذكر حادثة الاعتداء على ميثاق الله في قصّة السَّبت.

الأخذ بالقوّة الإيمانيّة

الثّاني: إنَّ الأمَّة مخاطَبةٌ بأن تأخذ ما آتاها الله من الكتاب بقوَّة، فلا يستسلم الإنسان للضَّعف الذّاتي الَّذي تفرضه الشَّهوات عليه عندما تضغط عليه غرائزه، ليترك الالتزام بمبادئه ومفاهيمه أمامها، ولا يضعف أمام عوامل الضَّغط الخارجيَّة الّتي تفرض نفسها على مصالحه لتهدِّده بالإساءة إلى هذه المصالح إذا حاول التمرّد عليها لمصلحة إيمانه، ما يجعل من قضيَّة الموقف القويّ ضدَّ هذه الشَّهوات قضيّةً يفرضها الوفاء بالميثاق بين الله وعباده.

وقد نستوحي من ذلك، ضرورة أن يعمل الإنسان على تحقيق القوَّة لوحي الله المنـزَل في الحياة، من خلال العمل على الدَّعوة إليه لتحقيق امتداده في أكبر مساحةٍ بشريَّة، لأنَّ إيجاد القوّة البشريَّة للدعوة إلى الله وتنفيذ أحكام شريعته، يمنح الموقف قوّةً في داخل الإنسان، عندما يشعر بالتَّماسك والتّوازن أمام الضّغوط المتنوّعة من خلال شعوره الذّاتيّ بالقوَّة المستمدّة من الجوّ العام، كما يعطيه قوّةً في ساحة الصِّراع، حين يقف المؤمنون بقوّتهم الإيمانيّة ليُرهبوا أعداء الله ويدعموا المستضعفين من أوليائه.

وربما يتمثَّل ذلك بالدّعوة إلى أن يكون الإسلام ديناً منفتحاً على الحياة في حاجات الإنسان ومواقع نموّه ووسائل تطوّره، في حركة التقدّم المادّيّ والمعنويّ على مستوى القاعدة الفكريّة والتّجربة الإنسانيّة والسّلوك العمليّ، ليواجه الحضارات الأخرى القائمة على الفلسفة المادّية الّتي لا تنفتح على الله وعلى عالم الغيب، والّتي تفرض عليه صراعاً يجعل الواقع الإسلاميّ يعاني الكثير من التّحدّيات الكبرى الّتي تحارب حركته في الانطلاق التّشريعيّ في حياة الإنسان بشكلٍ شاملٍ، نتيجة ما يمارسه الغرب المستكبر في وسائله المتنوّعة على الصَّعيد الأمنيّ والسّياسيّ والاقتصاديّ والثقافيّ، ومن خلال الأنظمة الحاكمة في بلاد المسلمين، الّتي تحارب خطَّة تطبيق الشَّريعة الإسلاميَّة على مستوى الحكم والقانون، الأمر الَّذي جعل الخطَّ الإسلاميَّ الواقعيَّ ينحسر عن الحياة العامَّة حتى لدى المسلمين، ليستبدلوا به الخطَّ العلمانيّ الّذي يعزل الدّين عن الحياة في كلِّ أبعادها الواقعيَّة على الصَّعيدين القانونيّ والسّياسيّ.

الطّاعة الفكريَّة والرّوحيَّة

الثّالث: إنَّ الإيمان يفرض على الإنسان مواجهة الأعمال الواجبة والمحرَّمة في مقام الطَّاعة بعمقها الفكريّ والرّوحيّ والشّعوريّ والعمليّ، لا بشكليَّاتها السَّاذجة، ما يجعل من محاولة تطويق الفكرة بالشَّكليّات الّتي تُعطي للطّاعة معناها الحرفيّ على حساب أهدافها الواقعيَّة، قضيَّةً تشبه اللّعب على الفكرة باسم الفكرة، ولهذا اعتبر الله عملهم في السَّبت اعتداءً على الميثاق، مع أنهم لم يخالفوا حرفيَّة الأمر، فقد كان المطلوب منهم أن لا يمارسوا الصَّيد في يوم السَّبت، وقد فعلوا ذلك، ولكن بعد أن طوَّقوه بإيجاد الطّريقة الّتي تجعلهم يحصلون على نتيجة الصَّيد بشكلٍ غير مباشر. وعلى هذا الأساس، كانت عقوبتهم قاسيةً في الدّنيا والآخرة، لأنَّ هذه الطَّريقة الّتي تفرّغ الطّاعة من روحيَّتها، تتحوَّل إلى ما يشبه السّخرية والاستهزاء بالتَّشريع وصاحبه، للإيحاء بقدرة المكلَّف على أن يتجاوز أهداف التَّشريع بالأسلوب الّذي لا يستطيع المشرِّع أن يسجِّل عليه نقطة مخالفة قانونيَّة.

ولعلَّ من هذا القبيل، ما اجتهد فيه الفقهاء بما يسمّى "الحيل الشّرعيَّة"، التي تجعل من التشريع حالةً شكليّةً قد تتجاوز المضمون الّذي يمثِّل المصلحة أو المفسدة الّتي انطلقت منها الشّريعة، على أساس اعتبار ذلك منسجماً مع العنوان الحرفيّ للنّصّ التّشريعيّ، الأمر الّذي يجعل المكلَّف يحصل على نتائج الحرام من دون الخضوع للتّحريم، وقد نحتاج إلى تحريك الاجتهاد في عالم المصالح والمفاسد والملاكات الواقعيَّة، على أساس مخالفة الكثير من ذلك للقرآن الَّذي يفرض الرفض لأيّ نصٍّ يختلف مضمونه الواقعيّ مع المفهوم القرآنيّ. والحمد لله ربِّ العالمين.

*ندوة الشّام الأسبوعيّة، فكر وثقافة


[1]  [الأعراف: 163].

[2]  [البقرة: 65].

[3]  [الجمعة: 5].

[4]  [المائدة: 60].

[5]  تفسير المراغي، الجزء الأول، ص 139 ـ 140.

[6]  تفسير الرازي، الفخر الرازي، ج 3، ص 111.

[7]  [البقرة: 66].

[8]  [المائدة: 60].

[9]  [الجمعة: 5].

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية