مظاهر انحراف بني إسرائيل عن الخطِّ المستقيم

مظاهر انحراف بني إسرائيل عن الخطِّ المستقيم

لا نزال نتابع الحديث عن تجربة النَّبيّ موسى(ع)، ونتناول اليوم عدّة قضايا أُثيرت حول بني إسرائيل في ما انحرفوا به عن الخطِّ المستقيم.

تحدّي رؤية الله

الأولى: التّحدّي الكبير الّذي واجهه موسى(ع) من قومه فيما يتعلَّق بمسألة الإيمان بالله وبرسالته في مضمونها الفكريّ في حركة العقيدة التوحيديّة، إذ رفضوا الإيمان بالله إلا بالطَّريقة التّعجيزيّة المستحيلة التي لا يملك أن يحقّقها موسى لهم، لأنّ الأمر ليس بيده، أو لأنَّ القضيَّة لا يمكن أن تتحقَّق بحسب طبيعتها، كما حدَّثنا الله عن ذلك بقوله: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى الله جَهْرَةً}، أي علانيةً، بحيث يتمثَّل لنا بجسده المادّي، فيبرز للنّاس في مجتمعنا بصورته الحقيقيَّة، ليخبرنا بأنَّك نبيّ مبعوث من قبله، حتى نصدّقك فيما تخبرنا به من وحي الله الّذي تكلَّفنا بالخضوع له والعمل بما يتضمَّنه، {فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ}[1]، عقاباً لكم على هذا التّحدّي الّذي أطلقتموه من دون أساسٍ عقليّ له، ممّا لا بدّ للإنسان العاقل من أن يرجع إليه ويدرك من خلاله الحقّ والباطل والخير والشّرّ، بل كانت القضيّة لديكم هي طلب المستحيل ممّا تعرفون أنَّ النّبيّ موسى عاجزٌ عنه، لأنَّ قدرته تتحدَّد فيما يملكه من الأمور الواقعة في نطاق خطَّته.

ولو كان سؤالكم يتحرَّك في خطِّ المعرفة حول العلاقة بين الإيمان ورؤية الله، لكان من الممكن أن يكون ردّ الفعل تجاهكم مختلفاً، من خلال اللّطف الإلهيّ الّذي يعلّم الإنسان ما لا يعلم، ولكان الله عرَّفكم أنّه {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}[2]، وأنّه {لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ}[3]. ولكنَّ السّؤال كان منطلقاً من حال التمرّد العنيف، ومن رغبتكم في الانتقال اللاعب العابث من اقتراح إلى اقتراح، لأنَّكم لم تكونوا تريدون الوقوف عند الجواب المعرفي الّذي يصل بكم إلى النّتيجة الإيجابيَّة في معرفة الحقيقة، ولذلك، أرسل الله عليكم الصَّاعقة المدمِّرة، فأماتكم، لتعرفوا الله وتؤمنوا به من خلال سيطرته عليكم، لأنّه مالك الحياة والموت، ولكن لم يكن هذا الموت أبديّاً في امتداده إلى نهاية وجودكم، بل كان موتاً مؤقَّتاً، {ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}[4]، فقد بعثهم الله من بعد ذلك ليعرفوا حقيقة الموت والبعث، وليدركوا عظمة هذه النّعمة في الحياة الجديدة التي أنعم الله بها عليهم في وجودهم الحاضر.

وقد نستوحي من قوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}، أنَّ المقصود هو الشّكر العقيديّ الّذي يعيدهم إلى الإيمان بالله واليوم الآخر، وتصديق نبيِّهم الّذي عرّفهم أسس الإيمان من خلال أصول المعرفة الحقَّة في حركته التبليغيّة الثقافيّة الّتي أغلقوا آذانهم عنها، وأبعدوا عقولهم عن فهمها، فلم يفكِّروا في مضمونها مما يقتنع به صاحب العقل الواسع العميق الّذي يحمل مسؤوليَّة الوصول إلى الحقيقة النَّاصعة.

وقد تحدَّث الله عن هذه المقولة الإسرائيليَّة الواردة في موقع المواجهة للنّبيّ موسى ورفضهم الإيمان به إلا بشرطٍ مستحيل، وذلك في قوله تعالى: {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِّنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُواْ مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذَلِكَ فَقَالُواْ أَرِنَا الله جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَن ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَاناً مُّبِيناً}[5].

وربما نستفيد من هذه الآية، أنَّ هذا التّحدّي بالرّبط بين الإيمان بموسى ورؤية الله عياناً بأبصارهم في عالم الحسّ، كان قبل عبادتهم العجل الّتي أصرّوا عليها من بعد ما جاءتهم البيِّنات، ولكنَّ الله أخذهم بالصَّاعقة، فماتوا على أثرها، ثم عفا عنهم، وانتصر موسى بإقامة الحجَّة عليهم وردّ على تحدّيهم العدواني، وهذا ما يدلّ على ذهنيَّتهم القلقة التي كانت لا تستقرّ على قاعدة ولا تسير إلى هدف معقول، لأنهم كانوا ينتقلون من حالٍ منحرفةٍ إلى حال مماثلة، الأمر الّذي جعل موسى يعيش التَّعب الحركيّ في حياته معهم وعلاقته بهم ومواجهته لأوضاعهم المختلفة.

الإعراض عن الميثاق

الثّانية: لقد أخذ الله ميثاقهم بعد إنزال التَّوراة، وطلب منهم أن يتحمَّلوا مسؤوليَّة الوحي الذي أنزله عليهم مما أوحى به إلى موسى، وأن يأخذوه بقوّة في الالتزام به والدّعوة إليه، وأن يتذكَّروا ما فيه فلا ينسوه مهما كانت الأوضاع، لأنَّ ذلك هو السّبيل للحصول على ملكة التّقوى الّتي تتيح لهم الانضباط أمام الله فيما يأمرهم به أو ينهاهم عنه، ولكنَّهم أعرضوا عن ذلك، فلم يلتزموا بالميثاق، وربما كان هذا الخطّ المنحرف معرَّضاً للامتداد في حياتهم، فيؤدِّي بهم إلى الخسران في الدّنيا والآخرة، ولكنّ فضل الله عليهم ورحمته بهم، أنقذهم في آخر لحظة، فرجعوا إلى الله وتابوا إليه.

الثّالثة: أنّه يذكِّرهم من جديد بالقوم الّذين اعتدوا في قصّة السّبت التي ابتلاهم الله بها كأسلوبٍ من أساليب الاختبار لطاعتهم، فحاولوا أن يتلاعبوا بذلك، بأن يحبسوا السّمك يوم السّبت ليجتمع في محلٍّ واحد، حتى يصطادوه في يومٍ آخر، ليحقّقوا بذلك حرفيَّة الطاعة مع نتائج روحيّة المعصية، فكان من نتيجة ذلك أن مسخهم الله قردةً صاغرين، ليكون ذلك عقوبةً وعبرةً لبقيّة المجتمعات المعاصرة لهم، الّتي تنظر إليهم فترتدع عن السّير فيما ساروا فيه، ولمن خلفها من الأمم الّتي تأتي بعدهم، وموعظةً للمتّقين الّذين يأخذون الدّرس والعبرة من ذلك كلّه، وقد جاء في الحديث عن الإمام محمَّد الباقر(ع) وولده الإمام جعفر الصّادق(ع)، أنهما قالا في قوله تعالى: {فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ}[6]، قال: "لما معها ينظر إليها من أهل القرى، ولما خلفها قال: نحن، ولنا فيها موعظة"[7].

وروى العياشي في تفسيره، أنَّ الإمام جعفر الصّادق(ع) سُئِل عن قول الله عزَّ وجلَّ: {خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ}[8]، أقوَّة في الأبدان أم قوَّة في القلوب؟ فقال: "فيهما جميعاً"[9]. أمّا طبيعة هذه القوّة، فهي العزيمة والجدّ واليقين الّذي لا شكَّ فيه. أمّا الطّور، فهو الجبل الّذي رفعه الله فوقهم لإرهابهم بعظمة القدرة، كما ورد في تفسير الميزان.

وهذا ما جاء في قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ} في توحيد الله، والإحسان إلى الوالدين والأقربين واليتامى والمساكين، والقول الصَّالح، وإقامة الصَّلاة، وإيتاء الزكاة، واجتناب سفك الدّماء، والانفتاح على الأنبياء جميعاً واتّباعهم والالتزام بكتبهم وبرسالاتهم، والابتعاد عن إخراج النّاس من ديارهم، والعمل في سبيل الله، وغير ذلك من الأمور الّتي جاءت بها التّوراة في خطّ العقيدة والشّريعة، وانطلقت بها كتب الله في الماضي والحاضر والمستقبل.

{وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ}[10]، أي الجبل الَّذي انتصب فوقكم، حتى خُيِّل إليكم أنّه سوف يقع فوق رؤوسكم، تخويفاً من الله وإرهاباً لكم، لتبتعدوا عن التمرّد الذي تحركتم فيه في أجواء العناد بعد قيام الحجّة عليكم، ما جعل الموقف بحاجةٍ إلى معجزةٍ خارقةٍ تقف بكم في خطِّ الاستقامة لتؤمنوا بالتّوراة وتلتزموا بها ولا تنقضوا الميثاق بعد أن كنتم سائرين في هذا الاتجاه.

أسلوب التّهديد بالقوّة

وفي ضوء ذلك، نعرف أنَّ المسألة لم تكن إكراهاً على العقيدة ـ كما أثاره البعض ـ لتكون قضيَّة الإيمان بعيدةً عن دائرة الحريَّة الفكريَّة والاختيار الإنسانيّ الإراديّ، مما أكَّده القرآن وجعله في مستوى القاعدة في حركة الدّعوة، وذلك قوله تعالى: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}[11]، وقوله تعالى: {أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ}[12]. والوجه في ذلك، أنَّ العقيدة كانت ثابتةً بأدلَّتها وبراهينها التي قدَّمها موسى إليهم منذ بداية صراعه مع فرعون، إلى نهاية تلك المرحلة وبداية مرحلة الدّخول في تفاصيل العقيدة والشّريعة والميثاق الّذي يمثّل القاعدة الفكريّة للعلاقة الإيمانيّة التّوحيديّة بالله، التي يتمثّل فيها الالتزام النفسي والحركي للإنسان المؤمن مما كان موسى يحدّثهم عنه ويدعوهم إليه، لأنَّ مسيرته معهم وقيادته لهم لم تكن حالاً فارغةً من التّثقيف والتّوعية والتّوجيه، باعتبار أنَّ مسؤوليَّته الرّساليَّة والإرشاد في الهداية، كانت إزاء هذا المجتمع الَّذي يملك التّجربة الواقعيَّة في الدّخول إلى عقله، لأنّه لم ينفتح في رسالته على مجتمعٍ آخر.

ولذلك، فإنَّه قد يكون من الطّبيعيّ أن يستوعبوا تعاليمه ويتفهَّموها بعقولهم، الأمر الّذي أدّى إلى قيام الحجَّة عليهم، مما لم يكونوا يملكون معه تبرير انحرافهم عن خطِّ الإيمان بالحاجة إلى المعرفة التفصيليَّة أو الحوار حوله لحلِّ الإشكالات المحيطة به. ولعلَّ هذا هو الذي جعل الحاجة ماسّةً إلى صدمةٍ قويَّة تعيدهم إلى وعي النَّتائج السَّلبيَّة المتمثّلة بموقفهم، وتبعدهم عن حال التمرّد الّتي توحي بالتحدّي العدواني الّذي يشبه السلوك الطّفولي في مواجهة موسى(ع) في دعوته الرساليّة، تماماً كما هم الأطفال الّذين يرشدهم آباؤهم إلى ما فيه صلاحهم، فيدركون ذلك، ولكنَّهم يتهرَّبون من الالتزام به انطلاقاً من عبث الطّفولة الّذي يحرّك فيهم نزعة اللّعب اللاهي والفوضى الحركيّة، فينطلق الأسلوب القاسي لإشعارهم بأنّ هناك خطراً يتهدّدهم إذا أصرّوا على موقف العناد والهروب من المسؤوليّة بما لا يملكون مواجهته ويحاذرون الوقوع فيه، وربما كان هذا هو إيحاء هذه الفقرة من هذه الآية ومن الآية الواردة في سورة الأعراف في قوله تعالى: {وَإِذ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّواْ أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ}[13]، بحيث خُيِّل إليهم بأنّ هناك خطراً مميتاً ساحقاً من وقوع الجبل عليهم، انتقاماً من هروبهم من الالتزام بما كلَّفهم الله به وحمَّلهم مسؤوليّة الوقوف عنده.

وفي ضوء ذلك، فإنَّ التّهديد لم يكن لإجبارهم على الإيمان وإكراههم على السَّير في نهجه التّوحيديّ، بحيث كان يُراد لهم أن يؤمنوا من خلال قوّة الضَّغط التّهديديّ، بل كان من أجل إعادتهم إلى خطِّ التَّوازن مع الأفكار الَّتي أدخلها موسى في عقولهم وزرعها في قلوبهم، ليكون ذلك وسيلةً من وسائل مساعدتهم على الانضباط والعودة إلى التّفكير الواعي فيما يأخذون به ويلتزمونه ويتحمَّلون مهمَّة الدّعوة إليه، باعتبار أنَّهم الفئة الّتي تمثِّل المجتمع الأوّل للرَّسول الحامل للرّسالة، على هدى ما دعاهم الله إليه في قوله تعالى: {خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ}، من خلال الالتزام القويّ الّذي تتحركون به في امتثالكم لتعاليمه، والإرادة النَّفسيَّة التي تنفتحون من خلالها على مسؤوليَّاتكم الرساليَّة التي حمَّلكم الله أمانتها الّتي تؤدّونها للنَّاس، لتكون عقلاً في عقولكم، ورحمةً في مشاعركم، ونبضة حبٍّ في قلوبكم، وحركة خير في حياتكم، وحكماً بالعدل في أحكامكم، لتنتقل من الجيل الَّذي تعاصرونه إلى الأجيال الأخرى، كقاعدةٍ للتّفكير، وخطٍّ للحركة، ومنطلقٍ للسّير، من أجل بناء المستقبل الإنسانيّ عليها، في حركةٍ تصاعديّة للنّموّ والتطوّر.

وهذا هو الَّذي يفرض عليكم تنمية قوَّتكم من الدّاخل، في عزيمة الإرادة وصلابتها، ومن الخارج، في عناصر الحركة في خطِّ الصِّراع مع التيّارات الأخرى المضادَّة للرِّسالة، الأمر الّذي قد يحتاج إلى المزيد من الطّاقات المتحركة في صعيد الواقع الّذي تخضعون لعناصره فيما يحيط بكم من تهاويله وتحدّياته وأوضاعه الصَّعبة.

{وَاذْكُرُواْ مَا فِيهِ}، ليكون أساساً لثقافتكم الذّاتيّة، من المفاهيم العقيديّة والأخلاقيّة، والشّرائع القانونيّة في التزاماتكم الدينيَّة الحركيَّة، واحفظوا ذلك كلّه في وعيكم المعرفيّ والروحيّ، ولا تنسوه من خلال الاستغراق في حالات الغفلة، وتدبَّروا معانيه بتأمّل العمق الَّذي يختزنه في داخله، ليكون ذلك كلّه حضوراً رساليّاً لكم في القاعدة الّتي تنطلق منها تفاصيل أفكاركم، فتردّكم إلى الصَّواب عند الوقوع في الخطأ، وإلى الاستقامة عند الانحراف، {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}[14]، فهذا ما يفتح لكم أبواب المعرفة لله، ومواقع القرب منه، ويعرّفكم النتائج السلبيّة للأخذ بأسباب المعصية، ويقودكم إلى النّتائج الإيجابيَّة في السَّير في خطِّ الطّاعة، من خلال الالتزام العميق بتوحيد الله في العقيدة والطّاعة والعبادة، فلا شريك له في الألوهيّة، ولا طاعة لغيره ولا معبود سواه.

وهذا هو سرّ التّقوى في خطِّ الاستقامة التي تبدأ من الله وتنتهي إليه، خوفاً من عقابه، ورجاءً لثوابه، وهذا هو الّذي أراده الله منكم من أجل صلاحكم ونجاحكم في قضيَّة المصير في الدّنيا والآخرة، ولكنَّكم ابتعدتم عن الأخذ به، {ثُمَّ تَوَلَّيْتُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ}، ونبذتم العهد وراء ظهوركم، وأعرضتم عن كلِّ التزاماته الخيِّرة ومعطياته الصّالحة، ولم تؤمنوا بالكتاب كلِّه، طمعاً في العاجل، وغفلةً عن الآجل، {فَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ}، بالتّوفيق للتّوبة، من خلال تهيئة الظّروف الملائمة للوعي الرّوحيّ الّذي جعلكم تعيشون النّدم العميق على ما أسلفتموه من الانحراف في الخطايا، فواجهتم الإحساس بالمسؤوليَّة من جديد، من خلال التذكّر لما ينتظركم من الخسران في النَّتائج السيِّئة لأعمالكم، فرجعتم إلى الله وانفتحتم على خطِّ الاستقامة، فتاب عليكم وعفا عنكم، رحمةً منه للخاطئين المذنبين، ولولا ذلك {لَكُنتُم مِّنَ الْخَاسِرِينَ}[15]، الَّذين يخسرون أنفسهم وأهليهم يوم القيامة، وذلك هو الخسران المبين. والحمد لله ربِّ العالمين.

*ندوة الشّام الأسبوعيّة، فكر وثقافة


[1]  [البقرة: 55].

[2]  [الشّورى: 11].

[3]  [الأنعام: 103].

[4]  [البقرة: 56].

[5]  [النّساء: 153].

[6]  [البقرة: 66].

[7]  بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج 14، ص 55.

[8]  [البقرة: 63].

[9]  بحار الأنوار، ج 13، ص 226.

[10]  [البقرة: 63].

[11]  [البقرة: 256].

[12]  [يونس: 99].

[13]  [الأعراف: 171].

[14]  [الأعراف: 171].

[15]  [البقرة: 64].

لا نزال نتابع الحديث عن تجربة النَّبيّ موسى(ع)، ونتناول اليوم عدّة قضايا أُثيرت حول بني إسرائيل في ما انحرفوا به عن الخطِّ المستقيم.

تحدّي رؤية الله

الأولى: التّحدّي الكبير الّذي واجهه موسى(ع) من قومه فيما يتعلَّق بمسألة الإيمان بالله وبرسالته في مضمونها الفكريّ في حركة العقيدة التوحيديّة، إذ رفضوا الإيمان بالله إلا بالطَّريقة التّعجيزيّة المستحيلة التي لا يملك أن يحقّقها موسى لهم، لأنّ الأمر ليس بيده، أو لأنَّ القضيَّة لا يمكن أن تتحقَّق بحسب طبيعتها، كما حدَّثنا الله عن ذلك بقوله: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى الله جَهْرَةً}، أي علانيةً، بحيث يتمثَّل لنا بجسده المادّي، فيبرز للنّاس في مجتمعنا بصورته الحقيقيَّة، ليخبرنا بأنَّك نبيّ مبعوث من قبله، حتى نصدّقك فيما تخبرنا به من وحي الله الّذي تكلَّفنا بالخضوع له والعمل بما يتضمَّنه، {فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ}[1]، عقاباً لكم على هذا التّحدّي الّذي أطلقتموه من دون أساسٍ عقليّ له، ممّا لا بدّ للإنسان العاقل من أن يرجع إليه ويدرك من خلاله الحقّ والباطل والخير والشّرّ، بل كانت القضيّة لديكم هي طلب المستحيل ممّا تعرفون أنَّ النّبيّ موسى عاجزٌ عنه، لأنَّ قدرته تتحدَّد فيما يملكه من الأمور الواقعة في نطاق خطَّته.

ولو كان سؤالكم يتحرَّك في خطِّ المعرفة حول العلاقة بين الإيمان ورؤية الله، لكان من الممكن أن يكون ردّ الفعل تجاهكم مختلفاً، من خلال اللّطف الإلهيّ الّذي يعلّم الإنسان ما لا يعلم، ولكان الله عرَّفكم أنّه {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}[2]، وأنّه {لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ}[3]. ولكنَّ السّؤال كان منطلقاً من حال التمرّد العنيف، ومن رغبتكم في الانتقال اللاعب العابث من اقتراح إلى اقتراح، لأنَّكم لم تكونوا تريدون الوقوف عند الجواب المعرفي الّذي يصل بكم إلى النّتيجة الإيجابيَّة في معرفة الحقيقة، ولذلك، أرسل الله عليكم الصَّاعقة المدمِّرة، فأماتكم، لتعرفوا الله وتؤمنوا به من خلال سيطرته عليكم، لأنّه مالك الحياة والموت، ولكن لم يكن هذا الموت أبديّاً في امتداده إلى نهاية وجودكم، بل كان موتاً مؤقَّتاً، {ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}[4]، فقد بعثهم الله من بعد ذلك ليعرفوا حقيقة الموت والبعث، وليدركوا عظمة هذه النّعمة في الحياة الجديدة التي أنعم الله بها عليهم في وجودهم الحاضر.

وقد نستوحي من قوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}، أنَّ المقصود هو الشّكر العقيديّ الّذي يعيدهم إلى الإيمان بالله واليوم الآخر، وتصديق نبيِّهم الّذي عرّفهم أسس الإيمان من خلال أصول المعرفة الحقَّة في حركته التبليغيّة الثقافيّة الّتي أغلقوا آذانهم عنها، وأبعدوا عقولهم عن فهمها، فلم يفكِّروا في مضمونها مما يقتنع به صاحب العقل الواسع العميق الّذي يحمل مسؤوليَّة الوصول إلى الحقيقة النَّاصعة.

وقد تحدَّث الله عن هذه المقولة الإسرائيليَّة الواردة في موقع المواجهة للنّبيّ موسى ورفضهم الإيمان به إلا بشرطٍ مستحيل، وذلك في قوله تعالى: {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِّنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُواْ مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذَلِكَ فَقَالُواْ أَرِنَا الله جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَن ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَاناً مُّبِيناً}[5].

وربما نستفيد من هذه الآية، أنَّ هذا التّحدّي بالرّبط بين الإيمان بموسى ورؤية الله عياناً بأبصارهم في عالم الحسّ، كان قبل عبادتهم العجل الّتي أصرّوا عليها من بعد ما جاءتهم البيِّنات، ولكنَّ الله أخذهم بالصَّاعقة، فماتوا على أثرها، ثم عفا عنهم، وانتصر موسى بإقامة الحجَّة عليهم وردّ على تحدّيهم العدواني، وهذا ما يدلّ على ذهنيَّتهم القلقة التي كانت لا تستقرّ على قاعدة ولا تسير إلى هدف معقول، لأنهم كانوا ينتقلون من حالٍ منحرفةٍ إلى حال مماثلة، الأمر الّذي جعل موسى يعيش التَّعب الحركيّ في حياته معهم وعلاقته بهم ومواجهته لأوضاعهم المختلفة.

الإعراض عن الميثاق

الثّانية: لقد أخذ الله ميثاقهم بعد إنزال التَّوراة، وطلب منهم أن يتحمَّلوا مسؤوليَّة الوحي الذي أنزله عليهم مما أوحى به إلى موسى، وأن يأخذوه بقوّة في الالتزام به والدّعوة إليه، وأن يتذكَّروا ما فيه فلا ينسوه مهما كانت الأوضاع، لأنَّ ذلك هو السّبيل للحصول على ملكة التّقوى الّتي تتيح لهم الانضباط أمام الله فيما يأمرهم به أو ينهاهم عنه، ولكنَّهم أعرضوا عن ذلك، فلم يلتزموا بالميثاق، وربما كان هذا الخطّ المنحرف معرَّضاً للامتداد في حياتهم، فيؤدِّي بهم إلى الخسران في الدّنيا والآخرة، ولكنّ فضل الله عليهم ورحمته بهم، أنقذهم في آخر لحظة، فرجعوا إلى الله وتابوا إليه.

الثّالثة: أنّه يذكِّرهم من جديد بالقوم الّذين اعتدوا في قصّة السّبت التي ابتلاهم الله بها كأسلوبٍ من أساليب الاختبار لطاعتهم، فحاولوا أن يتلاعبوا بذلك، بأن يحبسوا السّمك يوم السّبت ليجتمع في محلٍّ واحد، حتى يصطادوه في يومٍ آخر، ليحقّقوا بذلك حرفيَّة الطاعة مع نتائج روحيّة المعصية، فكان من نتيجة ذلك أن مسخهم الله قردةً صاغرين، ليكون ذلك عقوبةً وعبرةً لبقيّة المجتمعات المعاصرة لهم، الّتي تنظر إليهم فترتدع عن السّير فيما ساروا فيه، ولمن خلفها من الأمم الّتي تأتي بعدهم، وموعظةً للمتّقين الّذين يأخذون الدّرس والعبرة من ذلك كلّه، وقد جاء في الحديث عن الإمام محمَّد الباقر(ع) وولده الإمام جعفر الصّادق(ع)، أنهما قالا في قوله تعالى: {فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ}[6]، قال: "لما معها ينظر إليها من أهل القرى، ولما خلفها قال: نحن، ولنا فيها موعظة"[7].

وروى العياشي في تفسيره، أنَّ الإمام جعفر الصّادق(ع) سُئِل عن قول الله عزَّ وجلَّ: {خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ}[8]، أقوَّة في الأبدان أم قوَّة في القلوب؟ فقال: "فيهما جميعاً"[9]. أمّا طبيعة هذه القوّة، فهي العزيمة والجدّ واليقين الّذي لا شكَّ فيه. أمّا الطّور، فهو الجبل الّذي رفعه الله فوقهم لإرهابهم بعظمة القدرة، كما ورد في تفسير الميزان.

وهذا ما جاء في قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ} في توحيد الله، والإحسان إلى الوالدين والأقربين واليتامى والمساكين، والقول الصَّالح، وإقامة الصَّلاة، وإيتاء الزكاة، واجتناب سفك الدّماء، والانفتاح على الأنبياء جميعاً واتّباعهم والالتزام بكتبهم وبرسالاتهم، والابتعاد عن إخراج النّاس من ديارهم، والعمل في سبيل الله، وغير ذلك من الأمور الّتي جاءت بها التّوراة في خطّ العقيدة والشّريعة، وانطلقت بها كتب الله في الماضي والحاضر والمستقبل.

{وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ}[10]، أي الجبل الَّذي انتصب فوقكم، حتى خُيِّل إليكم أنّه سوف يقع فوق رؤوسكم، تخويفاً من الله وإرهاباً لكم، لتبتعدوا عن التمرّد الذي تحركتم فيه في أجواء العناد بعد قيام الحجّة عليكم، ما جعل الموقف بحاجةٍ إلى معجزةٍ خارقةٍ تقف بكم في خطِّ الاستقامة لتؤمنوا بالتّوراة وتلتزموا بها ولا تنقضوا الميثاق بعد أن كنتم سائرين في هذا الاتجاه.

أسلوب التّهديد بالقوّة

وفي ضوء ذلك، نعرف أنَّ المسألة لم تكن إكراهاً على العقيدة ـ كما أثاره البعض ـ لتكون قضيَّة الإيمان بعيدةً عن دائرة الحريَّة الفكريَّة والاختيار الإنسانيّ الإراديّ، مما أكَّده القرآن وجعله في مستوى القاعدة في حركة الدّعوة، وذلك قوله تعالى: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}[11]، وقوله تعالى: {أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ}[12]. والوجه في ذلك، أنَّ العقيدة كانت ثابتةً بأدلَّتها وبراهينها التي قدَّمها موسى إليهم منذ بداية صراعه مع فرعون، إلى نهاية تلك المرحلة وبداية مرحلة الدّخول في تفاصيل العقيدة والشّريعة والميثاق الّذي يمثّل القاعدة الفكريّة للعلاقة الإيمانيّة التّوحيديّة بالله، التي يتمثّل فيها الالتزام النفسي والحركي للإنسان المؤمن مما كان موسى يحدّثهم عنه ويدعوهم إليه، لأنَّ مسيرته معهم وقيادته لهم لم تكن حالاً فارغةً من التّثقيف والتّوعية والتّوجيه، باعتبار أنَّ مسؤوليَّته الرّساليَّة والإرشاد في الهداية، كانت إزاء هذا المجتمع الَّذي يملك التّجربة الواقعيَّة في الدّخول إلى عقله، لأنّه لم ينفتح في رسالته على مجتمعٍ آخر.

ولذلك، فإنَّه قد يكون من الطّبيعيّ أن يستوعبوا تعاليمه ويتفهَّموها بعقولهم، الأمر الّذي أدّى إلى قيام الحجَّة عليهم، مما لم يكونوا يملكون معه تبرير انحرافهم عن خطِّ الإيمان بالحاجة إلى المعرفة التفصيليَّة أو الحوار حوله لحلِّ الإشكالات المحيطة به. ولعلَّ هذا هو الذي جعل الحاجة ماسّةً إلى صدمةٍ قويَّة تعيدهم إلى وعي النَّتائج السَّلبيَّة المتمثّلة بموقفهم، وتبعدهم عن حال التمرّد الّتي توحي بالتحدّي العدواني الّذي يشبه السلوك الطّفولي في مواجهة موسى(ع) في دعوته الرساليّة، تماماً كما هم الأطفال الّذين يرشدهم آباؤهم إلى ما فيه صلاحهم، فيدركون ذلك، ولكنَّهم يتهرَّبون من الالتزام به انطلاقاً من عبث الطّفولة الّذي يحرّك فيهم نزعة اللّعب اللاهي والفوضى الحركيّة، فينطلق الأسلوب القاسي لإشعارهم بأنّ هناك خطراً يتهدّدهم إذا أصرّوا على موقف العناد والهروب من المسؤوليّة بما لا يملكون مواجهته ويحاذرون الوقوع فيه، وربما كان هذا هو إيحاء هذه الفقرة من هذه الآية ومن الآية الواردة في سورة الأعراف في قوله تعالى: {وَإِذ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّواْ أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ}[13]، بحيث خُيِّل إليهم بأنّ هناك خطراً مميتاً ساحقاً من وقوع الجبل عليهم، انتقاماً من هروبهم من الالتزام بما كلَّفهم الله به وحمَّلهم مسؤوليّة الوقوف عنده.

وفي ضوء ذلك، فإنَّ التّهديد لم يكن لإجبارهم على الإيمان وإكراههم على السَّير في نهجه التّوحيديّ، بحيث كان يُراد لهم أن يؤمنوا من خلال قوّة الضَّغط التّهديديّ، بل كان من أجل إعادتهم إلى خطِّ التَّوازن مع الأفكار الَّتي أدخلها موسى في عقولهم وزرعها في قلوبهم، ليكون ذلك وسيلةً من وسائل مساعدتهم على الانضباط والعودة إلى التّفكير الواعي فيما يأخذون به ويلتزمونه ويتحمَّلون مهمَّة الدّعوة إليه، باعتبار أنَّهم الفئة الّتي تمثِّل المجتمع الأوّل للرَّسول الحامل للرّسالة، على هدى ما دعاهم الله إليه في قوله تعالى: {خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ}، من خلال الالتزام القويّ الّذي تتحركون به في امتثالكم لتعاليمه، والإرادة النَّفسيَّة التي تنفتحون من خلالها على مسؤوليَّاتكم الرساليَّة التي حمَّلكم الله أمانتها الّتي تؤدّونها للنَّاس، لتكون عقلاً في عقولكم، ورحمةً في مشاعركم، ونبضة حبٍّ في قلوبكم، وحركة خير في حياتكم، وحكماً بالعدل في أحكامكم، لتنتقل من الجيل الَّذي تعاصرونه إلى الأجيال الأخرى، كقاعدةٍ للتّفكير، وخطٍّ للحركة، ومنطلقٍ للسّير، من أجل بناء المستقبل الإنسانيّ عليها، في حركةٍ تصاعديّة للنّموّ والتطوّر.

وهذا هو الَّذي يفرض عليكم تنمية قوَّتكم من الدّاخل، في عزيمة الإرادة وصلابتها، ومن الخارج، في عناصر الحركة في خطِّ الصِّراع مع التيّارات الأخرى المضادَّة للرِّسالة، الأمر الّذي قد يحتاج إلى المزيد من الطّاقات المتحركة في صعيد الواقع الّذي تخضعون لعناصره فيما يحيط بكم من تهاويله وتحدّياته وأوضاعه الصَّعبة.

{وَاذْكُرُواْ مَا فِيهِ}، ليكون أساساً لثقافتكم الذّاتيّة، من المفاهيم العقيديّة والأخلاقيّة، والشّرائع القانونيّة في التزاماتكم الدينيَّة الحركيَّة، واحفظوا ذلك كلّه في وعيكم المعرفيّ والروحيّ، ولا تنسوه من خلال الاستغراق في حالات الغفلة، وتدبَّروا معانيه بتأمّل العمق الَّذي يختزنه في داخله، ليكون ذلك كلّه حضوراً رساليّاً لكم في القاعدة الّتي تنطلق منها تفاصيل أفكاركم، فتردّكم إلى الصَّواب عند الوقوع في الخطأ، وإلى الاستقامة عند الانحراف، {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}[14]، فهذا ما يفتح لكم أبواب المعرفة لله، ومواقع القرب منه، ويعرّفكم النتائج السلبيّة للأخذ بأسباب المعصية، ويقودكم إلى النّتائج الإيجابيَّة في السَّير في خطِّ الطّاعة، من خلال الالتزام العميق بتوحيد الله في العقيدة والطّاعة والعبادة، فلا شريك له في الألوهيّة، ولا طاعة لغيره ولا معبود سواه.

وهذا هو سرّ التّقوى في خطِّ الاستقامة التي تبدأ من الله وتنتهي إليه، خوفاً من عقابه، ورجاءً لثوابه، وهذا هو الّذي أراده الله منكم من أجل صلاحكم ونجاحكم في قضيَّة المصير في الدّنيا والآخرة، ولكنَّكم ابتعدتم عن الأخذ به، {ثُمَّ تَوَلَّيْتُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ}، ونبذتم العهد وراء ظهوركم، وأعرضتم عن كلِّ التزاماته الخيِّرة ومعطياته الصّالحة، ولم تؤمنوا بالكتاب كلِّه، طمعاً في العاجل، وغفلةً عن الآجل، {فَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ}، بالتّوفيق للتّوبة، من خلال تهيئة الظّروف الملائمة للوعي الرّوحيّ الّذي جعلكم تعيشون النّدم العميق على ما أسلفتموه من الانحراف في الخطايا، فواجهتم الإحساس بالمسؤوليَّة من جديد، من خلال التذكّر لما ينتظركم من الخسران في النَّتائج السيِّئة لأعمالكم، فرجعتم إلى الله وانفتحتم على خطِّ الاستقامة، فتاب عليكم وعفا عنكم، رحمةً منه للخاطئين المذنبين، ولولا ذلك {لَكُنتُم مِّنَ الْخَاسِرِينَ}[15]، الَّذين يخسرون أنفسهم وأهليهم يوم القيامة، وذلك هو الخسران المبين. والحمد لله ربِّ العالمين.

*ندوة الشّام الأسبوعيّة، فكر وثقافة


[1]  [البقرة: 55].

[2]  [الشّورى: 11].

[3]  [الأنعام: 103].

[4]  [البقرة: 56].

[5]  [النّساء: 153].

[6]  [البقرة: 66].

[7]  بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج 14، ص 55.

[8]  [البقرة: 63].

[9]  بحار الأنوار، ج 13، ص 226.

[10]  [البقرة: 63].

[11]  [البقرة: 256].

[12]  [يونس: 99].

[13]  [الأعراف: 171].

[14]  [الأعراف: 171].

[15]  [البقرة: 64].

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية